الفصل السابع

إعادة بناء شخص الإسكندر

قدَّمنا في الفصل الأول من محاولتنا التعرُّف أكثر على الإسكندر الثالث المقدوني صورةً أولية لمسيرته، برزت لنا من التمحيص المتأنِّي للمصادر الإشكالية والتوفيق فيما بينها. تفادت هذه الصورة الأولية كثيرًا من التفاصيل غير اليقينية والمسائل الجدلية، كتاريخِ تدميرِ تخت جمشيد ودافِعِ الإسكندر إلى حرقها. بل الأكثرُ جدليةً شخصيةُ ذلك الشخص الذي أثَّرَ على حياة الملايين من البشر في معظم أرجاء العالم المعروف آنذاك، وفي النهاية امتدَّ تأثيره إلى ما وارء حدود ذلك العالَم بكثير. نقلنا في المقدمة ردَّ ويل كابي — وهو رد مدهش لكنْ منطقي — على الجهود المبذولة لمعرفة دافع الإسكندر؛ إذ لم يعجز كابي عن تقديم تفسير فحسب، بل اقترح أيضًا أن الإسكندر نفسه كان سيجد صعوبةً في تقديم مثل هذا التفسير. توصَّلَتْ كلود موسِّي، المؤرخة البارزة المتخصِّصة في العالم القديم، إلى استنتاجٍ مماثِلٍ في سيرة الإسكندر التي وضعتها حديثًا بملاحظتها أنه «سيظل دائمًا غريبًا عنَّا» (الصفحة ٢١١)، ونبَّهت تحديدًا إلى ضرورة الكفِّ عن التكهُّن بالبُعْد السيكولوجي في الإسكندر.

مثلما نوَّهْنا في مستهل محاولتنا هذه لدراسة الإسكندر، فإن طبيعة الشواهد التي وصلت إلينا تتحمَّل جزءًا كبيرًا من المسئولية في ذلك؛ فكَمْ يؤسفنا مثلًا أن ضاعَتِ الكتب الأربعة التي تحوي خطابات أرسطو إلى الإسكندر، أو الكتاب الذي يحوي خطابات هذا الفيلسوف إلى هفایستیون. ولو كان لنا أن نثق في رواية آريانوس في هذا الشأن، فالإسكندر كتب أيضًا خطاباتٍ إلى أمه أثناء وجود المقدونيين في الهند (الكتاب السادس، ١، ٣)، وردًّا على عرض داريوس في أعقاب هزيمة الفرس في إيسوس (الكتاب الثاني، ١٤، ٤ إف إف). فلا شيء يضاهي الأفكارَ الشخصية الثاقبة التي كانت ستجود بها تلك الخطابات. وحتى أفضلُ المصادر التي كُتِب لها البقاء تُظهِر المشكلات التي واجَهَها مؤلِّفوها؛ إذ يتحدَّث آريانوس عن وجودِ العديد من الروايات الكاذبة واحتمالِ تخليد هذه الروايات، ويذكر أن هدفه من وراء التاريخ الذي وضعه هو التصدِّي لها (الكتاب السادس، ١١، ٢). يعترف آريانوس في محاولته تقديمَ رواية صادقة بوجود تفاصيل معينة لا تشغل باله (الكتاب الخامس، ٢٠، ٢)، ويقر بأنه لا يستطيع المساهَمةَ في التوصُّل إلى فهمٍ لما كان يدور ببال الإسكندر، ولا يليق به أن يستنبط ذلك (الكتاب السابع، ١، ٤).

توجد أبواب أخرى مُفضِية إلى طبيعة هذا البطل، تناولنا خمسة منها إيمانًا منَّا بإمكانية معرفة الكثير عن الإسكندر الثالث، من خلال تفاعُل هذا الشخص الآسر والغامض في آنٍ واحدٍ مع عالمه؛ فلا شك أن الإسكندر شكَّلَ مسارَ التاريخ بأفعاله. وفي الوقت نفسه شكَّلَتْه طبيعةُ العالَم الذي وُلِد فيه لكي يمضي في مشوار حياته العاصف. كان لزامًا عليه أن يتعلم التكيُّف مع عالمه، موظِّفًا الاستراتيجيات التي غلب على ظنه نجاحها. إن الأبواب التي تقدِّم أتمَّ الخيوط لفهم الفرد هي مملكته وشعبه، ومنزلته كأحد أبناء السلالة الأرغيَّة ونَسَبه من جهة أبوَيْه، ومَواطِن ضعف مقدونيا في مواجهة جيرانها التي تطلَّبَتْ دائمًا جيشًا لا يلين، والعلاقة بين مقدون واليونان، وطبيعة الإمبراطورية الفارسية في القرن الرابع.

(١) شبابه

كانت سنةُ ٣٥٦ التي ولد فيها الإسكندر، طيبة نسبيًّا مقارَنةً بالعقود الأربعة السابقة من التاريخ المقدوني، والمدهش أن الإليريين المروِّعين لم يكرِّروا غزوتهم التي شنُّوها في ٣٦٠ / ٣٥٩ وأودت بحياة الملك المقدوني ومعه غالبًا ثلثا جنوده. ولعل توقُّع وقوع هجوم آخَر قوَّى في الواقع الأواصر الضعيفة التي كانت تربط قلب المملكة، المطلِّ على الخليج الثيرمي ببحر إيجة، والممالك الداخلية العديدة بتاريخها الحافل بالتذبذُب بين الانضمام إلى مملكة موحدة والاستقلال بذاتها. بل كانت أيضًا هذه الأراضي الغربية أقربَ إلى أرض الإليريين، وكان بوسع أهلها استشعارُ شدةِ أيِّ غزوةٍ يشنُّها الإليريون ضد مقدونيا قبل وصول الغزاة إلى هدفهم. تبرهن على حدوث تلاحمٍ أوثق بين مقدونيا الدنيا والعليا أصولُ الرجال الذين كانوا من أخلص رجالات فيليب، ومن بعده الإسكندر؛ فبارمنيون، الذي ربطته روابط وثيقة بمقدونيا العليا، قاد الجيش المقدوني بنجاح في مواجهة الإليريين سنة ٣٥٦، وظلَّ قائد فيليب الفعلي المخلص طوال حكمه، وتمتع بمنزلة مماثلة في ظل حكم الإسكندر لمدة ست سنوات. ويتضح ولاء أوريستيس من خلال المناصب الرفيعة التي قُلِّدها كراتيروس وبيرديكاس، وولاء إيليميا من خلال القائد كوينوس، وكان ليوناتوس صديقَ الإسكندر من أبناء الأسرة المالكة في لنكستيس. من ناحية أخرى، لم يكن هذا التلاحم قد أُعِيد توطيده إلا حديثًا؛ فلنكستيس مثلًا كان لها تاريخٌ حافل بالعداء تجاه السيطرة المقدونية، وكان لعميد الأسرة اللنكستية المالكة أثناء حكم فيليب ثلاثة أبناء بالِغون. وكان من الخطأ أن يعتقد المرء أن محاولات استعادة الاستقلال لن تحدث أبدًا.

كان الحاكم الأرغيُّ الجديد فيليب الثاني قد أبرم معاهدةً مع الملك الإليري في أعقاب الانتصار الإليري، وتمخضت حملة ناجحة ضد الإليريين سنة ٣٥٨ عن زواج دبلوماسي بين فيليب وابنة الملك الإليري. وفي السنة التالية وسَّعَ تحالُفٌ اقترَنَ أيضًا بالزواج، هذه المرة بابنة ملك إبيروس، مجالَ النفوذ المقدوني غربًا. كانت المفاوضات مع الجيران في الشمال والجنوب والشرق أيضًا في ازديادٍ في السنوات الأولى من حكم فيليب؛ إذ خفَّفَتِ الدبلوماسية والهدايا وطأةَ البيونيين والتراقيِّين، واستحدَثَ الزواجُ بابنة أسرةٍ تيساليةٍ مهمة في لاريسا وجودًا مقدونيًّا في شمال اليونان، ووافقَتْ أثينا مصدر المتاعب في جنوب اليونان على عقد معاهدة، وأما الدول الإغريقية في شمال بحر إيجة فبدأَتْ تشعر بضغط الجيش المقدوني. كان أيُّ ابنٍ يُولَد للملك المقدوني سيشهد توسيع السيطرة المقدونية المتواصِل؛ إذ تضاعفَتْ مساحةُ المملكة مرتين مقارَنةً بما كانت عليه في نهاية القرن الخامس.

وحتى عندما كان قلب المملكة أصغر من هذا بكثير، كانت المنطقة تجود بتشكيلةٍ تُحسَد عليها من الموارد الطبيعية، منها نهران كبيران وروافدهما بما فيها من ثروة سمكية وفيرة، وتساقط كميات معقولة من الأمطار في الشتاء، وتراكمات جليدية توفر المياه في الصيف، وسهول خصبة من ضمنها سهل ساحلي كبير ملائم للزراعة والرعي، وجبال تكسوها أحراجٌ تستوطنها تشكيلةٌ واسعة من الحيوانات، وإمدادات وفيرة من المعادن. ولم يؤدِّ التوسُّع إلى حماية الشعب والموارد الموجودَيْن بالفعل فحسب، بل أضاف إليهما أيضًا.

كذلك فإن فعالية استخدام الموارد الطبيعية والبشرية كانت في ازديادٍ أثناء شباب الإسكندر؛ إذ وسَّعَ فيليب الثاني المستوطنةَ المقامة في بيلا، التي وُسِّعت في عهد أرخيلاوس في السنوات الأخيرة من القرن الخامس، لتشمل ما يلزم من منشآتٍ للسيطرة المركزية على المملكة. ومع أن استمرار سكن بيلا والبناء من جديدٍ على موقعها يحجب صورةَ عاصمةِ المملكة أثناء حكم فيليب، فقد وصلتنا شواهد كافية تبين أنها لم تكن بلدة صغيرة يسكنها شعبٌ بدائي، بل كانت تضم مسكنًا للملك وبيته الكبير، ومسكنًا لغلمان الملك والرسل الزائرين، وما يلزم من منشآت للاعتناء بكل هؤلاء. وعلى مسافة بعيدة نوعًا ما كانت هناك دواوين الإدارة الحكومية، كأمانة السر والسجلات، وإدارة الموارد، ووحدات كالمعنية بتطوير المعدات العسكرية. كان مركز المملكة السابق في آيجي — التي ظلت العاصمةَ المراسمية للمملكة — يضمُّ مسرحًا ومدافن ملكية كبيرة تضم رفات الأرغيِّين السابقين رجالًا ونساء، وقد برهنَتْ أعمالُ التنقيب التي جرت في موقع هذه المدافن على فخامة المشغولات التي كانت تُستخدَم يقينًا في القصر وكُرِّست للموتى. علاوةً على ذلك، يجري حاليًّا اكتشافُ المزيد من المدافن وبسرعةٍ لا تستطيع مواكبتَها أعمالُ التنقيب. كان يُعاد غالبًا تأسيسُ مستوطنات أخرى كمدن مقدونية عندما تُوضَع تحت السيطرة المقدونية، وأُقِيمت مستعمرات جديدة، وأُنشِئت حصون على الحدود المتزايدة الاتساع، وأسفرَتْ جهودُ الربط بين مختلف أرجاء المملكة عن شقِّ الطرق.

وهكذا كان الابن الصغير لأي ملك على درايةٍ بمملكة مركزية ومتنوعة ومتزايدة الاتساع تُدار انطلاقًا من عاصمةٍ يعيش فيها داخلَ القسم المخصَّص للسكنى من القصر. ولو لم يكن هذا الشاب معاقًا بدنيًّا أو عقليًّا، كان يتلقَّى تعليمًا يليق بوريث محتمل للمُلك. وفي قلب هذا التعليم ستكون القدرة على الحكم حكمًا مباشِرًا في كل الأمور الضرورية لإدارة شئون المملكة.

كان طابع مقدونيا المادي قوةً مهمةً في تكوين مَلِك يتعيَّن عليه تجريد حملاتٍ طوال السنة، متحمِّلًا درجات حرارة تصل إلى حد التجمُّد شتاءً، وخصوصًا في الجبال، وقيْظَ الصيف الذي تتجاوز فيه درجةُ الحرارة ٤٠°م (١٠٤°ف). ونظرًا لإمكانية استخدام العدوِّ وديانَ الأنهار والممرات الجبلية كنقاطٍ يغزو منها المملكة، كان من الحيوي أن يعرف هذه الملامح الطبيعية جيدًا. وكان الحفاظ على الأمن في المناطق الجبلية العليا من المملكة يؤدِّي إلى مواجهات خطيرة مع حيوانات وحشية ورعايا ساخطين. تنضم الشواهد المادية من رسوم وفسيفسائيات إلى المصادر المكتوبة لتبيِّن أهميةَ البراعة في الصيد البري بين الأرغيِّين؛ إذ ضلع في «مؤامرة» ضد الإسكندر سنة ٣٣٠ واحدٌ من غلمان الملك سبق أن ضُرِب لتفوُّقه على الإسكندر في قتل خنزير بري أثناء رحلة صيد. كانت الدراية بالأنهار تتطلَّب القدرةَ على عبورها عند اللزوم؛ فالملك المقدوني الناجح لا بد أن يكون لائقًا بدنيًّا عند الميلاد، ولا يتعرَّض للإعاقة في شبابه، ويصقل هذه اللياقة بالتدريب حتى يكون نِدًّا لأبطال هوميروس من حيث كونهم أشبه بالآلهة إذا ما قُورِنوا بعامة الرجال.

مع اكتساب مقدون أبعادًا جديدة ومزيدًا من التعقيد، تطلب الأمر مهارات جديدة لحكمها بنجاح. كان يمكن تفويض مسائل الإدارة إلى آخرين يملكون المهارات المطلوبة، لكن الدواوين كأمانة السر ووحدة تصميم المعدات وديوان سك العملة، كانت تقتضي تزويدها بمَن يليق بها من موظفين ومشرفين أكفاء. ومع التوسُّع الإقليمي جاءت الحاجة إلى تقسيم المسئولية الأساسية عن القيادة العسكرية، فلم يكن بوسع الملك أن يوجد في تراقيا ووسط اليونان في آنٍ واحد، لكن البطء في الاستجابة للانتفاضات أو الاجتياحات كان من الممكن أن تكون له تبعات كارثية.

وفوق ذلك فإن توسيع المملكة بنجاح تمخَّضَ عن الحاجة إلى معاملة الرعايا والحلفاء بطريقة يفهمونها. كان معظم جيران مقدونيا من أصل هندي-أوروبي، لكن حتى هذا الإرث المشترك بات آنذاك ينطوي على اختلافات حقيقية في اللغة وأساليب الحياة، وسيتمكَّن الحاكم من خلال امتلاكه معرفةً أعمق ببعض الاختلافات الثقافية على الأقل من اكتشاف العلاقة السليمة. كان هناك مَن يتقنون لغتين، لكن ليس من المستبعد أن نتصور نمو لغة مشتركة، استنادًا إلى القواسم الهندية-الأوروبية المشتركة. فهل يُعقَل أن فيليب كان يتحدث مع زوجاته الإيليمية والإليرية والإبيروسية والإغريقية والتراقيَّة بواسطة مترجمين؟

fig26
شكل ٧-١: ترميم جدارية الصيد في المدفن الثاني في فيرجينا. بإذنٍ من السيدة أوليمبيا أندرونيكو-كاكوليدو.

كانت اليونان الجار الملاصق الأكثر تقدمًا في الإنجازات الفكرية بحلول منتصف القرن الرابع، وكان التعامل مع عالَم الدول-المدن المتحاربة، فضلًا عن إيجاد مكان في ذلك العالَم، يتطلَّب معرفةً بالأعراف والتاريخ السابق والقيم، ولا غنى عن تحدُّث الإغريقية وقراءتها لكلِّ ما سبق. إن أيَّ رجل في مكان فيليب كان سيثمِّن على الأرجح واقع التعامل مع الإغريق بلغتهم وأساليبهم، وبالإضافة إلى إدراكه هذا على المستوى الشخصي، كان سيدرك حكمة إعداد الوريث المحتمل ليكون لديه الفهم ذاته.

وُجِد في أرسطو — الذي عاش في بيلا في شبابه عندما كان أبوه يشتغل طبيبًا للأرغيِّين — معلم مؤهَّل على أعلى مستوًى للإسكندر الشاب. والواضح أن أرسطو كان يستطيع التواصل مع الإسكندر والشباب الآخَرين الذين تتلمذوا على يديه لأكثر من سنتين، وربما كان هذا التواصُل باللسان المقدوني لكن اليقيني أنه كان أيضًا باللسان الإغريقي. على الرغم من ضياع متنَيِ المؤلَّفَيْن اللذين يُعتقَد أن أرسطو وضعهما لأجل الإسكندر، فإن عنوانيهما مكتوبان بالإغريقية، ويقينًا كانت محتوياتهما كذلك، وهذان هما: «عن المستعمرات» و«عن المَلكية». لم تُسجَّل الموضوعات التي كان يدرسها الشباب، لكن اهتمامات أرسطو الواسعة في العلوم والأدب والخطابة والفلسفة انعكست يقينًا في هذا التعليم. يورد وصف آريانوس للإسكندر افتتانه بصورٍ أخرى للفلسفة، ومن ذلك مثلًا «الجيمنوسوفيستاي» أو الحكماء العراة في الهند (آريانوس، الكتاب السابع، ١، ٤–٢، ١). وكان من ضمن خبراء حملة الإسكندر في آسيا مسَّاحون يتمتعون بمعرفة خاصة بعلمي الحيوان والأحياء. وولعُ الملك بالأدب لا يظهر فحسب من نسخة الإلياذة التي أعَدَّها له أرسطو وحمَلَها معه إلى آسيا، بل يظهر أيضًا من المسابقات الأدبية التي كانت فعاليات منتظمة طوال حملته المديدة (آريانوس، الكتاب الثاني، ٥، ٨، في الأناضول؛ الكتاب السابع، ١٤، ١، لدى العودة إلى إكباتان). ومع أننا لا نستطيع الوثوق في دقة الخطب التي ينسبها آريانوس إلى الإسكندر، تتجلَّى قوةُ منطقه في قدرته على الإقناع لإثارة حماس رجاله للقتال، أو للاستيلاء على حصن حصين، أو عبور نهر مجهول في ظلمات الليل، أو لتحمُّل مسيرةٍ عبر جبال هندوكوش أو صحراء جيدروسيا.

خلاصة القول أن ابن الملك، سليم البدن والعقل، بدأ يتلقَّى أنواعًا مختلفة من التدريب في سن مبكرة، وكان بعض ذلك التدريب غير مباشِر، كالتأقلم مع البيئة المقدونية، ومعايشة الحياة في القصر وفي وسط مدينة بيلا، ومراقبة أبيه وصحابته وكذلك وفود الممالك أو الدول الأخرى. كان معظم التعليم رسميًّا على أيدي معلمين خصوصيين، والأرجح أنه تضمَّنَ نظامَ اللياقة البدنية ذاته الذي يُدرَّب عليه غلمان الملك. وفي عقده الثاني، أُدرِج في تدريبه تنفيذُ المهام الموكلة إليه من الملك؛ إذ صار الإسكندر وصيًّا على العرش وعمره ١٦ سنة، وقاد ميمنة الجيش في خيرونية وعمره ١٨ سنة.

كانت مراقبة فيليب شيئًا مهمًّا لأنه، كما رأينا، أنشأ القاعدة التي سينطلق منها الإسكندر ضد بلاد فارس بعد خلافته أبيه بسنتين فقط. كانت تلك القاعدة عبارة عن مملكة كبيرة تحت حكم ملك قوي واحد، وكانت الأداة التي شكَّلَتْها عبارة عن جيش دائم يستند إلى الفلنكس الإغريقي لكنه خضع لإصلاحات في المعدات والتكتيكات والأفراد. طوَّرَ فيليب جهازَ حُكْمٍ إداريًّا أو وسَّعَه، شأنه شأن تجنيد الضباط المستقبليين من خلال تدريب أبناء الطبقة الأرستقراطية كغلمان للملك. واجتذبت المكافآت، التي مُنِحت للمنخرطين في السلك العسكري، رجالًا لم يقتصروا على مقدونيا بل جاءوا أيضًا من مناطق ضُمَّتْ حديثًا إلى المملكة. وعندما امتدَّ نطاق سيطرة فيليب إلى بحر بروبونتيس، شرع يبني أسطولًا. كان لدى الإسكندر سنة ٣٣٤ أسطولٌ من ١٦٠ سفينة ثلاثية المجاديف، وغيرها الكثير من السفن التجارية لزوم عبوره إلى الأناضول (آريانوس، الكتاب الأول، ١١، ٦).

كان فيليب قد اكتسَبَ معرفةً وثيقة بجيرانه، وكان بمقدوره أن يُقحِم نفسه في الهيكل الوطيد الخاص بمَن هزمهم هو ورجاله. كان حليفًا لبعض هؤلاء الجيران، وبينه وبين العديد من العائلات الحاكمة صهر، ومسئولًا في بعض الدول وخصوصًا اليونان، كتاجوس التيساليين، وكان الداعي إلى إقامة حلف وزعيمه. كان يلي أدوارًا عدة بجانب مُلْكه مقدونيا، ومع ذلك ظل الفاعل النشيط في جميع جوانب الحكم؛ إذ كانت المجالات العسكري منها والديني والإداري كلها تجتمع في الحاكم الأرغيِّ. وكلما تقدَّمَ به العمر وازداد حكمةً، أدرك الابن النابه دورَ أبيه المتعدد الأوجُه.

غير أن دور الملك كقائد الجيش هو الأبرز، وأحد مؤشرات ذلك مقدار ما يقضيه الملك من وقت بعيدًا عن بيلا على رأس حملة عسكرية. لزم في أحوال كثيرة كما نوَّهْنا تقسيمُ الجيش للتعامل مع تهديدات في أماكن نائية بعضها عن بعض. في الوقت نفسه كان دور الجيش المقدوني واضحًا تمامًا للعيان في بيلا؛ حيث كان الشباب أبناء العائلات المهمة يتلقَّوْن تدريبًا ليتبوَّءوا منزلة نخبوية في الجيش، وكان الصحابة الأكبر سنًّا يتشاورون مع فيليب بشأن مراكز القيادة المسندة إليهم، وكان العديد من صحابة الملك يعملون حرسًا له. كانت تُعقَد مجالس مع أهم معاوني الملك في بيلا، وفي غيرها من الأماكن، والجيش في حملة، وكان العتاد العسكري يُصمَّم في بيلا، وفيها خُططت قوة بحرية مع اتساع المصالح المقدونية عبر شمالي بحر إيجة وفي بحر بروبونتيس والبحر الأسود. كانت السفارات تفد على بيلا بوتيرة متزايدة مع تصاعد انتصارات الجيش.

إذا كان لدى ابن الملك الأرغيِّ آمال في خلافة أبيه، فسيعترف بقاعدة المملكة العسكرية، مناضلًا لتحقيق السمات المطلوبة لضمان قوة هذه القاعدة، وسيحتاج إلى إكبار أبيه وإكبار غلمان الملك الذين يدانونه عمرًا، والذين كان دعمهم حاسم الأهمية في المناداة بأي ملك جديد، وسيدرك ضرورة أن يبشِّر بقيادة سليمة لكي ينال رضا الجيش المقدوني بأسره، من مشاة عاديين وصحابة نخبويين على السواء. كان الأمر يتطلَّب ما هو أكثر من البُشْرى؛ إذ لا بد من أن يكون الوريث المحتمل قد برهَنَ على قدرته في الميدان. ولِيَ فيليب المُلْكَ في المقام الأول لأن ابن أخيه الملك السابق الذي قُتِل في الحرب ضد الإليريين كان طفلًا. إن من شأن الملك اللبيب أن يمنح ابنه أو أبناءه الفرصَ لكي يُظهِر قدراتهم في سن مبكرة نسبيًّا، وكان فيليب لبيبًا فمنح الإسكندر الفرصَ ليبرهن على قدراته.

إذن كانت هناك سمات شخصية معينة لا بد منها، لكن كان ضروريًّا بالمثل أن يكون المرء أحد أبناء السلالة الأرغيَّة، التي استحوذت على الزعامة منذ أواخر القرن السادس وفقًا للمصادر الموثوق فيها، وقبل ذلك بكثيرٍ لو كانت الإشارات المقدونية للملوك الأوائل صحيحة على أيِّ حال. وتتضح قوة الحق الأرغيِّ في الحكم من تردُّد خلفاء الإسكندر في الخروج على هذا التقليد؛ إذ على الرغم من وجود مجموعة من الرجال الأقوياء الذين يتوقون إلى الحكم لدى موت الإسكندر، فإنهم نادوا بابن الإسكندر ورُخسانة الذي لم يُولَد بعدُ — إذا ما وُلِد ذكرًا — مَلِكًا على البلاد، وأما جمعية الجيش فنادت بفيليب الثالث أريدايوس، ابن فيليب الآخَر من زوجته التيسالية فيلينا، مَلِكًا على البلاد. وبما أنه لم يكن يُتوقَّع لابن رُخسانة، الإسكندر الرابع، أن يحكم بنفسه قبل سنوات عديدة، وأن فيليب الثالث اعتُبِر ضعيفَ العقل والجسد، استقرَّتِ القيادة الحقيقية في أيدي الآخرين، لكن لم يتسنَّ بسرعةٍ تجاهُل أحقية الأرغيِّين بالحكم.

كان انتماء المرء إلى السلالة الأرغيَّة يشرِّف نسبه؛ بما أن هرقل كان الجد الأعلى للأسرة. كان يصعب العثور على جدٍّ أنسب منه للأرغيِّين في ضوء ما اتَّسَمَ به المُلْك المقدوني من سمة بطولية، وما ترافق مع حكم مقدونيا من مهامَّ تكاد تكون هرقلية. برهَنَ الإسكندر دومًا على هذه الصلة (مثلًا: آريانوس، الكتاب الأول، ١١، ٧-٨، في بداية الحملة؛ الكتاب الثاني، ٢٤، ٦، في صور؛ الكتاب السادس، ٣، ٢، في الهند). زِدْ على ذلك أنه لم يكتفِ بمحاكاة ذلك البطل، لكنه كما سجَّلَ آريانوس: «كان يستشعر حسًّا بالتنافس معه ومع البطل بيرسيوس، الذي كان أيضًا من أسلافه» (الكتاب الثالث، ٣، ٢). أضاف نسبه من جهة أمه جَدًّا آخَر مثارَ فخرٍ، وهو نيوبتوليموس بن آخيل الذي كان أقوى محارب في طروادة. قد نقلِّل من صدق الإيمان بمثل هذا النسب في زمننا هذا، لكن لو فعلنا فسنجحف كثيرًا وجهات نظر المقدونيين القدماء ومثلهم الإغريق.

عزَّزَتْ أواصرُ الأرغيِّين بالآلهة الدورَ الملكي في الديانة المقدونية أكثر ممَّا عزَّزَه النَّسَب البطولي؛ إذ كان الملوك يقدِّمون الأضاحي نيابةً عن المقدونيين، وأسَّسوا مهرجانات وألعابًا تتطلَّب أبنيةً خاصة كالمسارح والمعابد ومواقع ملائمة لاستيعاب المسابقات الرياضية. كان مركز المملكة القديمة في آيجي يضم مسرحًا ومعبدًا ليوكليا، وكانت ديون تضمُّ حرمًا لديميتر يعود تاريخه إلى القرن السادس. لا نستبعد أن الملك الحاكم كان يوفر أيضًا ما تقتضيه مناسبات تقديم الأضحيات من قرابين ومستلزمات. فأي إله أحسن من زيوس، أبي الرجال والآلهة، يدَّعِي المرء الانتساب إليه؟ كانت أصول الإسكندر كما يروي آريانوس تعود إلى زيوس، كحال الملوك المينوسيين الأسطوريين مينوس وأياكوس ورادامانثيس (الكتاب السابع، ٢٩، ٣). وكحالهم ربما كانت تتجلَّى له آياتٌ من زيوس، كالذي حدث عندما رعدت السماء وأمطرت أمارةً للمكان الذي يتخذ فيه معبدًا لإله الأوليمب زيوس في سارديس (الكتاب الأول، ١٧، ٦). وكما آمنا بانتهاء نسبه إلى سلف بطولي، ينبغي أن نكون مستعدين لقبول الرأي الذي كان الملوك الأرغيُّون يؤمنون به، وهو أن الآلهة العظام مَنُّوا عليهم بالتمكين.

كان الانتماء إلى نسب مجيد نعمةً يتنعَّم بها الأرغيُّون، ومن ناحية أخرى كانت المنزلة الأرغيَّة تنطوي على مخاطر حقيقية؛ فعلى مدى مائتَيْ سنة أو نحوها من الحكم الأرغيِّ، انبثقت فروع كثيرة من جذع الشجرة الأصلي، فصار ممكنًا أن ينتمي ورثة العرش إلى عائلات عدة، وكان التنافس بين تلك العائلات في أحوال كثيرة دمويًّا؛ فلدى موت بيرديكاس الثاني، ولِيَ الحكمَ أبناءُ ثلاثة أفرع لفترات وجيزة. كان من الجائز تمامًا أن يفتقر الملك الحاكم إلى الشعور بالأمان، وأنْ يكون لدى الوريث المحتمل ما يبرِّر اعترافه بالأخطار التي تُحدِق بحياته. الزيجاتُ المتعددة سمةٌ أخرى مبكرة تعود إلى زمن الإسكندر الأول؛ إذ اتخذ أمينتاس الثالث أبو فيليب زوجتَيْن، ورُزِق من كلتيهما الأبناء. وكان من أولى مهام فيليب الثاني لدى ولايته العرش التعامُل مع إخوته غير الأشقاء. واتخذ فيليب نفسه سبعَ زوجات، وكان له ابنان بالغان لدى مقتله هما الإسكندر الثالث وفيليب الثالث، لكن عروسه الأخيرة كانت حبلى. وعلى الرغم من المناداة بالإسكندر مَلِكًا على الفور، فقد كان هناك تهديدان محتملان لاحتفاظه بالعرش منبعهما أهله الأقربون، ويتجلَّى إدراك الإسكندر التهديدَ الذي يحيق بفرص خلافته أبيه على العرش في العلاقات المقدونية مع أحد مرازبة كاريا الفارسية وهو بيكسوداروس، الذي عرَضَ سنة ٣٣٦ دخولَه في حلف مقدونيا على أن يُكلَّل هذا الحلف بزواج ابنته بفيليب الثالث أريدايوس ابن الملك فيليب الثاني؛ فبادَرَ الإسكندر لدى بلوغه نبأ هذا العرض بإرسال رسول من تلقاء نفسه إلى المرزبان بيكسوداروس حاضًّا إياه على النظر فيه هو شخصيًّا بدلًا من أريدايوس كزوج مناسب لابنته؛ فحالَ غضبُ فيليب على تدخُّل الإسكندر دونَ إتمامِ هذا الزواج، لكن مضامينه كانت مخيفةً في نظر وريثه المرتقب (بلوتارخُس، الإسكندر، الفصل ١٠، ١–٣).

سيتجلَّى وجود النساء ونفوذهن في السلالة الأرغيَّة لأي طفل يترعرع في الجناح السكني بالقصر. كانت النساء المهمات ضمانًا للمعاهدات من خلال الزواج بأبناء الأسرة الأرغيَّة؛ لأنهن كنَّ ينتمين إلى أُسَر متنفذة في ممالك أو دول أخرى. ومع أن وظيفتهن الرسمية كانت إنجابَ أبناء لوراثة العرش وبنات لتأمين التحالفات، كان نفوذهن يمكن أن يقرِّر مستقبلَ الحكم المقدوني. ومن الجائز أن يتمتع الإسكندر الثالث بحظوظ أوفر لو اتفق أنْ كان فيليب الثالث فاقِدَ الأهلية، وهذا ما آلَ إليه حاله على يد أوليمبياس كما اشتُهِر عنها. وربما كان الإسكندر بدوره هدفًا لأم فيليب الثالث. كان الأمن مشكلةً حقيقية لأي رجل أرغيٍّ، وخصوصًا ابن الملك. وستوازن ردودُ أفعال الوريث المحتمل على الأرجح بين إعجابٍ بقدرات أمه وربما اشمئزاز من أفعالها الأنانية التي يغلب عليها انعدام الرأفة.

ومن ثَمَّ لم تكن أواصر البنوَّة ضرورية لنجاح ابن ملكٍ بعينه فحسب، بل كانت تزيد أهمية نسبه. ظل الجدود الأوائل على أهميتهم، لكن الأواصر العائلية الجديدة من خلال الزواج كان يمكنها إضافة أسلاف عظام آخرين. كان الزواج وسيلةً بديهية يوسِّع بها المرءُ أسرتَه، لكن التبنِّي كان وسيلةً أخرى؛ فعندما استعاد الإسكندر الملكةَ آدا كملكةٍ شرعية على كاريا، كانت العلاقةُ بينهما تجسيدًا للعلاقة بين الأهل؛ إذ كان الإسكندر يخاطب آدا كأمه، وأما هي فاتخذته ابنًا وخليفةً (آريانوس، الكتاب الأول، ٢٣، ٧-٨).

شجعت بيئةُ القصر في الغالب أيَّ ذَكرٍ أرغيٍّ شابٍّ على البحث عن صداقةٍ في مكان آخَر. وأحدُ الخيوط التي تقودنا إلى مصدر أصدقاء الإسكندر المقرَّبين فترةُ التعليم التي قضاها مع أرسطو؛ ففي حرم حوريات الماء بالقرب من ميزا، تلقَّى الإسكندر تعليمه بصحبة العديد من أقرانه ومنهم بطليموس بن لاجوس، وكاساندروس بن أنتيباتروس، ومارسيا البيلي الذي ألَّفَ رسالةً في تعليم الإسكندر لكن ضاعت للأسف، وهفایستیون الذي وصفه آريانوس بأنه أحَبُّ الرجال إلى الإسكندر (الكتاب السابع، ١٤، ٣)، وربما بيرديكاس وليسيماخوس أيضًا. تتجلَّى إمكانية دوام تلك الصداقة في تعيين بطليموس وهفایستیون كعضوين في حرس الإسكندر، عندما اجتاز المقدونيون مسيرتهم الشاقة عبر صحراء جيدروسيا. وتوجد شواهد أخرى على استمرار علاقة الإسكندر مع أصدقائه من أيام شبابه الذين نُفوا بسببه بعد شجاره مع أبيه فيليب الثاني سنة ٣٣٧، وهم: بطليموس، وهاربالوس، وإريجيوس وأخوه لاوميدون وهما من ميتيلين بجزيرة ليسبوس، ونيارخوس بن أندروتيموس الذي وفد من كريت لمعاونة فيليب، فقد وليَ هاربالوس منصبًا ماليًّا مهمًّا في بابل في عهد الإسكندر ومات بعد ملِكه، وارتقى نيارخوس ليتولَّى إمارة الأسطول الذي أبحر من الهند عبر الخليج الفارسي ومات هو الآخَر بعد الإسكندر، وقاد إريجيوس خيَّالة الحلفاء في جاوجاميلا وقاد فيما بعدُ قوةً أُرسِلت للتعامُل مع الزعيم الفارسي في آريا بآسيا الوسطى، وكان بطليموس واحدًا من أنجح مَن خلفوا الإسكندر، وأما هفایستیون فمات قبل ملِكه لكن بسبب المرض لا بأوامر من ملِكه لخيانته.

كان الأصدقاء الثقات ضرورة حيوية، وكانت البسالة تنقل الوافدين الجدد إلى دائرة أقرب الرفاق؛ إذ كان إكليلا البسالة اللذان مُنِحا في شوشان سنة ٣٢٤ من نصيب بوكستاس وليوناتوس، فضلًا عن جوائز أخرى كانت من نصيب الأصدقاء الأقدمين (الكتاب السابع، ٥، ٤–٦). صار كراتيروس بالمثل موضعَ ثقةٍ خاصة لدى الإسكندر بعد أن خدم أبيه، وكان الإسكندر يرفعه إلى مكانةٍ تضاهي مكانته شخصيًّا (الكتاب السابع، ١٢، ٣). وتجلَّى إخلاص هؤلاء الأصدقاء وتفانيهم في أفعالهم التي نمَّتْ عن الشجاعة والفداء نيابةً عن الملك.

في الوقت نفسه يمكن للصداقة أن تنتهي؛ إذ راح كلايتوس الأسود، الذي سبق أن أنقذ حياة الإسكندر في معركة نهر جرانيكوس، ضحيةَ اتهامه الإسكندرَ بادِّعائه لنفسه من المجد أكثر مما ينبغي له. وأدان الإسكندر، بسبب تهديد التآمُر ضد حياته، حارِسَه فيلوتاس بل أباه بارمنيون أيضًا الذي كان فيليب يعتبره أكفأ معاونيه. كانت الصداقات بالغةَ الأهمية لكن هشَّة.

بحلول سنة ٣٣٦ كان الإسكندر الثالث المقدوني قد بلغ عامه العشرين، وقد تلقَّى تدريبًا لائقًا لكي يحكم كقائد للجيش المقدوني، الذي كان أهم أداةٍ للحفاظ على مملكة موحدة قوية. كان قد تفادى أخطارَ الدسائس التي حيكت ضد وراثته العرش، والإعاقةَ بفعل حادث بدني أو بكَيْدٍ من شخصٍ آخَر، والرفضَ من فيليب نفسه كوريث له. كانت أمه قد أمَّنَتْ بقاءَه على قيد الحياة وهو طفل، واختطَّ له أبوه مسارًا تعليميًّا لإعداده كوريث محتمل. كان معظم ذلك التعليم بدنيًّا، وصقلته طبيعةُ مقدونيا القاسية، والموروثاتُ القديمة كالقدرة على قتل خنزير بري دون استخدام شبكة، وتدريبه لكي يصير فارسًا وجنديَّ مشاةٍ لا يُشَقُّ له غبار ولا يبزُّه إلا الملك شخصيًّا. وهكذا يمكننا تصوُّر الإسكندر كشخص مهيب بدنيًّا، ولا يعني هذا بالضرورة أنه كان فارِعَ الطول أو ضخمًا بائنَ الضخامة، بل كان بالأحرى قويًّا مشدودَ البنية وعلى درجة عالية من الرشاقة، وكانت همَّتُه باديةً في أفعاله وأقواله. كان قد اكتسب عصبةً من الأصدقاء الذين صادَقَ بعضهم مصادفةً أثناءَ تلقِّيهم التدريبَ في بيلا كغلمان للملك، وبعضهم الآخر بالألفة. ظل معظم أصدقاء الإسكندر الأوائل معاونين له جديرين بالثقة وأصدقاء طوال حياته. ولنا أن نؤمن أنه كان يعرف قيمة هؤلاء الصحابة، وخصوصًا مع ازدياد إدراكه المخاطر التي تحيق بشخصه ومنصبه. كان ابن عمه أمينتاس يطالب بأحقيته في العرش من خلال أبيه بيرديكاس الثالث الذي حال صِغَر سنه دون أن يخلفه عندما قُتِل في الغزو الإليري في ٣٦٠ / ٣٥٩، لكنه بات آنذاك مكتمِلَ النضج؛ إذ كان يكبر الإسكندر بنحو أربع سنوات، ومتزوِّجًا بإحدى بنات فيليب. وكان أخو الإسكندر غير الشقيق فيليب الثالث أريدايوس منافسًا آخَر. الأكثر من ذلك أن أحدث زوجات فيليب، وهي كليوباترا، كانت حبلى، وبما أنها كانت تنتمي إلى نسب مقدوني مهم، فلو وضعت ذَكَرًا فقد يقع عليه اختيار فيليب كوريثٍ بدلًا من الإسكندر؛ بما أن فيليب لم يكن يتوقَّع بالطبع أن يُقتَل قبلَ مولد هذا الطفل، أو حتى قبل بلوغه العقد الثاني من عمره. ومن الممكن تمامًا أن الإسكندر كان قَلِقًا على مستقبله.

ربما انتقل ذلك القلق إلى أمن مملكة مقدونيا. أُتِيحت للإسكندر فرصٌ متكررة لاكتساب وعيٍ بهذا؛ إذ كان الجيش ناشطًا طوال السنة، وكانت بيلا زاخرةً بالتخطيط للحرب، وكان الرسل يَفِدون دومًا للتفاوض. كان توسيع المملكة قد حدث منذ وقت قريب جدًّا، وكان الإغريق قد هُزِموا قبل ذلك بعامين فقط، ولم تكن مضت غير سنة واحدة على خروج الحلف الكورنثي إلى الوجود. ولم تستتبَّ الأوضاع قطُّ في الأقاليم التي كانت معاديةً من قبلُ، وحتى ممالك مقدونيا العليا كان يمكنها تأكيد استقلالها.

هل لنا أن نقترح وجود أيِّ انفعالات داخلية كانت تنتاب الإسكندر في هذه المرحلة الزمنية المعينة؟ ربما يمكننا الاعتراف مطمئنين بطموحه إلى خلافه فيليب إيمانًا منه بلياقته للاضطلاع بما ينطوي عليه المنصب من مسئوليات. ولا ريب أن علمه أنه من نسل زيوس وهرقل وآخيل، فضلًا عن فيليب، زاده إيمانًا بلياقته. من المحتمل أن هذا التقييم الإيجابي أضعَفَه بعضَ الشيء قَلَقُه على سلامته واعترافه بجسامة المهام التي ستُلقَى على عاتقه إذا كُتِب له البقاء. وتمخَّضَ يونيو ٣٣٦ عن هذه الانفعالات المتضاربة؛ إذ اغتيل فيليب أثناء احتفاله بزيجةٍ أخرى ملوكيةٍ، طرفاها كليوباترا شقيقة الإسكندر وخالها الملك الإسكندر الإبيروسي؛ ففي اليوم الثاني من الاحتفالات افتَتَح موكبٌ مهيب تتصدَّره تماثيلُ الأوليمبيين الاثني عشر، بالإضافة إلى تمثال لفيليب، دورةَ الألعاب التي رُتِّب لإقامتها ذلك اليومَ، ولدى دخولِ فيليب نفسه المسرحَ الكائن في آيجي، طعنه أحد حرَّاسه وسرعان ما لفظ أنفاسه الأخيرة. في أعقاب البلبلة الفورية التي تلت ذلك، قدَّمَ أنتيباتروس — الرجل الثاني بعد فيليب — الإسكندرَ إلى جمعية الجيش، فنادى به أعضاؤها مَلِكًا عليهم.

(٢) توطيد دعائم السلطة الملكية أول الأمر

كانت طبيعةُ المُلْك المقدوني تشكِّل تحدِّيَيْن كبيرَيْن أمام أيِّ ملك جديد، فلم تكن الفترات الانتقالية، وخصوصًا عند مقتل أحد الملوك، تُثِير اضطراباتٍ في المملكة وحدها بل في عموم نطاقها، الذي كان قد اتَّسَع بشدةٍ بحلول سنة ٣٣٦. بادئ الأمر لا بد من أن يثبت الإسكندر أنه الأرغيُّ الأنسب للحكم، وهو ما كان سيسهُل تحقيقه لو غاب المنافسون بالكلية، أو لم يوجد إلا القليل منهم. بعد مقتل فيليب بفترة وجيزة، قُتِلت أحدث زوجات فيليب ورضيعها، ربما بناءً على أوامر أوليمبياس، وقُتِل أمينتاس ابن عمه، الذي ربما كان يداهِن الإغريق للفوز بالمُلْك، وأما فيليب الثالث أريدايوس فتُرِك على قيد الحياة.

ثاني الطرق وأهمها ليثبت لياقتَه للحكم براعتُه الشخصية كقائد عسكري دون مساعدة أبيه. أشعَلَ موتُ فيليب انتفاضاتٍ في المناطق الحدودية القَبَلية وفي اليونان، فقاد الإسكندر جيشه صوب تراقيا إلى أرض تريبالي والإليريين، ثم إلى أرض التراقيِّين المستقلين (آريانوس، الكتاب الأول، ١، ٤–٧) الذين أطلقوا عربات تجرُّها الدواب في وجه المقدونيين أثناء ارتقائهم ممرًّا جبليًّا شديد الانحدار. واحتاج الهجوم على جيتاي عبورَ نهر إستروس (الدانوب)، أكبر الأنهار على الإطلاق (آريانوس، الكتاب الأول، ٣، ٥)، وكانت الدراية بالأنهار والجبال المقدونية بممراتها الضيقة تدريبًا جيدًا تلقَّاه قائد الجيش الذي نُودِي به حديثًا.

استلزم التعامل مع الإغريق أيضًا عملًا عسكريًّا؛ إذ استدعت الثورةُ التي قامت في طيبة أثناءَ انشغال الجيش في الشمال الشرقي عودتَه السريعة إلى بيلا، ومنها إلى وسط اليونان؛ فحُوصِرت طيبة واستُولِي عليها ودُمِّرت أو كادت. من الجدير بالتنويه أن الإسكندر أعفى منزل بندار (آريانوس، الكتاب الأول، ٩، ١٠) بينما محا الكيان المادي الذي كان يشكِّل ذاتَ يومٍ الدولة-المدينة الرائدة في يونان العصر الكلاسيكي. كانت الثقافة الإغريقية ثمينةً وينبغي الحفاظ عليها، وأما الدولة المستقلة فكانت جموحًا ومن ثَمَّ يمكن الاستغناء عنها. صار دور الملك المقدوني في العالم الإغريقي آنذاك يقتضي أيضًا لباقةً إداريةً على اعتبار أن فيليب الثاني كان يشغل منصبَ التاجوس التيسالي وعضويةَ المجلس الأمفكتيوني الدلفي والقائدَ الأعلى للحلف الكورنثي؛ وولِيَ ابنُه هذه المناصبَ بالإضافة إلى الحقوق التي توجبها المعاهدات التي أبرَمَها فيليب. كان استمرار الحلف يقتضي التزامًا — وهو أيضًا من إرث فيليب — بخوْضِ الحرب ضد الفرس.

بعد زيارة معبد دلفي وعرَّافته، عاد الإسكندر إلى بيلا ليعدَّ العدةَ لذلك الالتزام؛ فأُضِيفت إلى تدريبِ جيشه، وتنظيمِ مؤنه وإمداداته، وتجهيزِ سفنه للعبور إلى الأناضول، وتعيينِ وصيٍّ على العرش يسيطر على المملكة بكامل نطاقها؛ مسيرةٌ أخرى شمالًا صوبَ الدانوب في غزوةٍ ستكون ممارسة مفيدة للجنود واختبارًا للعتاد الحربي، ويرجى أن يخفِّف النصرُ فيها مهمةَ الوصيِّ على العرش. وقد تحقَّقَتْ هذه الأهداف كلها.

كان في تحقيق مزيدٍ من استتباب الأوضاع مع الأعداء التقليديين حافزٌ آخَر للاضطلاع بمهمة الحلف الكورنثي. كان إدراك أهمية وجود جيش دائم لوجود المملكة المقدونية ذاته يستلزم إدراكَ ضرورةِ توظيف الجيش في دوره الطبيعي. ولو لم تكن المملكة الموسَّعة تتطلَّب اهتمامًا دائمًا، لَكان بإمكان الجيش ممارسة مهاراته في بقاع بعيدة. الأمرُ الثاني أنَّ استخدامَ وحدات عسكرية خاصة من الأراضي التي ضُمَّتْ حديثًا لن يوسِّع نطاقَ الجيش المقدوني فحسب، بل سيحرم أيضًا أقاليمَ المملكة التي تُحتمَل ثورتها من بعض ما في أيديها من وسائل الثورة ضد السيطرة المقدونية؛ فالخيَّالةُ التيسالية التي قاتلت باقتدارٍ تحت قيادة الإسكندر ضد الفرس (آريانوس، الكتاب الثالث، ١٥، ٣)، لم يكن بوسعها معاوَنة انتفاضة تيسالية ضد الوصي على العرش. وبزحف الإسكندر وجيشه ضد الفرس أُبعِد الجنود الإغريق السبعة آلاف التابعون للحلف الكورنثي عن مصادر النزاع المحتمل في جنوب اليونان. ولم يكن بوسع الرماة الأغريانيين وغيرهم من القوات القَبَلية تقديم العون لزعمائهم الذين كانوا ذات يوم مستقلين.

fig27
شكل ٧-٢: ممر بِترا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.

في ضوء هذا الإرث، وخلافته السَّلِسة نسبيًّا، ونجاحاته الأولية في التعامُل مع الانتفاضات التي قامت في أقاليم المملكة، يجوز لنا أن نعزو إلى الملك ذي الاثنين والعشرين ربيعًا إحساسًا بالثقة بينما كان يعدُّ العدَّةَ لمواصلة هجوم أبيه على بلاد فارس. وازدادت ثقتُه قوةً بفضل معرفته بالأحداث الأخيرة في فارس؛ إذ شهدت سنة ٣٣٨ مقتلَ الملك الأخميني أرتحششتا الثالث على يد مستشار «ثقة» يُدعَى باغواس، الذي أقام ابن الملك القتيل على العرش باسم أرتحششتا الرابع، ومضى في طريقه ليقضي على أبناء الأسرة المالكة الآخرين. وبعد ذلك بسنتين قُتِل أرتحششتا الدمية هو وأولاده على يد المستشار ذاته، فورِث العرشَ أحدُ أبناء عمومة أرتحششتا الثالث، مرةً أخرى بمساعدة باغواس وبفضل قلة المرشَّحين الآخرين لوراثة العرش. نوَّهْنا في الفصل الخامس إلى أن مناسبات الخلافة على العرش كانت تتمخَّض دومًا عن انتفاضاتٍ في بقاع الإمبراطورية المترامية الأطراف، ولا بد أن هذه السنوات الثلاث بما شهدته من عمليات تطهير وعدم استقرارِ السيطرةِ المركزية، كان من شأنها أن تتيح فرصةً ممتازة للثورة أو لنجاح جيشٍ غازٍ في مهمته.

كانت المعلومات المباشرة عن طبيعة الفرس متاحةً للإسكندر بصور عديدة. تضمَّنَتِ المصادر الإغريقية سرودًا مكتوبة؛ إذ كان هيرودوت قد قضى شبابه في مدينة-دولة هاليكارناسوس الإغريقية في آسيا الصغرى، وزار فيما بعدُ بعضَ بقاع الإمبراطورية الفارسية على الأقل في إطار الاستقصاءات اللازمة لمصنَّفه «الحروب الفارسية». وضمَّنَ زينوفون أنباسته المغامراتِ والإخفاقاتِ التي حدثت منه هو شخصيًّا ومن المرتزقة الإغريق الآخرين الذين استُعِين بهم لإطاحة الشاه أرتحششتا الثاني وإقامة أخيه قورش الذي يصغُره مكانَه. ووضع طبيب الأخمينيين الإغريقي ٢٣ كتابًا عن التاريخ الفارسي ضاعت كلها الآن، ولم يتبقَّ منها غير شذرات، وأما خويريلوس الساموسي فعدَّدَ الجماعات القَبَلية التي عبرت الهلسبونت مع المهاجرين الفرس. وكانت في الكلام المتداول معلوماتٌ أخرى؛ إذ هرب أرتبازوس مرزبان المنطقة التي كانت قديمًا المركز الآشوري خوفًا من حاكمه الأخميني في أعقاب انتفاضة فاشلة، وعاش بصحبة أسرته ١٠ سنوات في بيلا. وجديرٌ بالتنويه أن داريوس الثالث أسنَدَ قيادتين بحريتين مهمتين إلى أخوَيْن إغريقيين بينهما وبين أرتبازوس صِهْر. وكان أرسطو معلم الإسكندر قد قضى بضْعَ سنين في مملكة أتارنيوس الصغيرة في شبه جزيرة ترواس. وكان يُشتَبه في تواطُؤ «الملك الفيلسوف» هيرمياس مع أعداء فارس (اقترحنا أن فيليب المقدوني ربما يكون المقصود)، وأُعدِم بأوامر من أرتحششتا الثالث. كان الرسل أيضًا يتنقَّلون بين بيلا والعواصم الفارسية، لكن استطلاع الكشافة كان من مصادر المعلومات الأخرى المهمة، وكانت الكشافة عنصرًا أساسيًّا من عناصر الجيش المقدوني منذ زمن فيليب إنْ لم يكن قبله. أخيرًا توجد أوجه تشابُه عديدة بين المملكتين، فكلتاهما كانت دولة ملكية مركزية الإدارة، وكلتاهما كانت ضخمة من حيث الرقعة الجغرافية وعدد السكان مقارَنةً بالدول-المدن الإغريقية، وكلتاهما كانت تحتوي على ثقافات متعددة جمَّعَها الفتحُ في البداية وحافَظَ على تماسُكها — بإحكامٍ أو بغير إحكام — جيشٌ قويٌّ. تمخَّضَتْ هذه السمات المتشابهة عن الكثير من المشكلات المتطابقة التي واجهَتْ ملوكَ كلتا الدولتين، وسنعود إلى أوجهِ الشبه في تمحيصِ طبيعةِ جهودِ الإسكندر لدمج المملكتين في إمبراطورية واحدة.

(٣) الحملة

لا خلافَ على عبقرية الإسكندر القيادية. يستهل القائد جيه إف سي فولر ملخصَ دراسته التي تحمل عنوان «قيادة الإسكندر الأكبر العسكرية» بمبحثٍ عنوانُه «كعبقري». ولن ننكر هذه العبقرية وإنْ كنَّا سنجادل بأنها كانت متوقَّعة من نواحٍ كثيرة. كان تحت يد الإسكندر إرث ما صنَعَ أبوه، وهو جيش دائم مخلص مشحوذ القدرات، وأركان جيش من الضباط المخضرمين الرفيعي المستوى. كان استقطاب المعاونين المستقبليين من خلال تدريب شباب الطبقة الأرستقراطية في بيلا قد أثمَرَ بالفعل رجالًا في مثل سن الإسكندر، يمكنهم في النهاية أن يحلُّوا محلَّ مَن هم أكبر منهم سنًّا. ومع أن الجيش وقواده كانوا ينتمون إلى خلفيات وتكتيكات عسكرية متنوعة، كانت الوحدات تعمل كوحدة واحدة. وعلى الرغم من اشتمال جيش الإسكندر على مرتزقة، فإنهم لم يشكِّلوا إلا سُبْعه (أو ثُمْنه على حسب عدده الإجمالي). كانت الغالبية العظمى مرتبطة بالإسكندر كمَلِك وكقائد للحلف الكورنثي، ومن خلال التحالفات بموجب المعاهدات المبرمة. علاوةً على ذلك، كان فيليب قد توسَّعَ في إنتاج العتاد العسكري ليشمل آلات الحصار والمجانق القادرة على قذف حجارةٍ يصل وزنها إلى ٥٠ رطلًا (أكثر من ٢٢ كيلوجرامًا).

fig28
شكل ٧-٣: معركة جرانيكوس. المصدر: جيه بي ماهافي، «إمبراطورية الإسكندر»، لندن: تي فيشر أنوين، ١٨٨٧، ١، الصفحة ١٣.

ساهَمَ التعليم الذي تلقَّاه المقدونيون، بمَن فيهم الإسكندر، على أرض مقدونيا، في عبقرية الإسكندر. دارت رحى المعارك التي خاضها المقدونيون وانتصروا فيها تحت قيادة الإسكندر غالبًا عند أنهار؛ ففي اللقاء الأول عند نهر جرانيكوس في شمال غرب الأناضول، قاد الإسكندر، ممتطيًا صهوةَ جواده الأيقوني بوسيفالوس، جيشَه عبر النهر للكَرِّ على الجيش الفارسي الذي اصطفَّ على الضفة الأخرى. واندلعت شرارة معركة إيسوس والجيشان على ضفتَيْ نهر بيناروس، فانقَضَّ المقدونيون من جديدٍ بقيادة الإسكندر على عدوِّهم عبر النهر. ومع أن جاوجاميلا افتقرت إلى عنصر النهر، فإن الجيش اضطرَّ إلى عبور نهر دجلة بتياره السريع (آريانوس، الكتاب الثالث، ٧، ٥). واقتضَتِ الهزيمةُ التي ألحَقَها المقدونيون بالجيش الهندي بقيادة بوروس معرفةً دقيقةً بنهر هايداسبيس المُترَع بمياه الأمطار الموسمية. ثم سار المقدونيون بعد هذا النجاح الأوليِّ جنوبًا بمحاذاة نهر السند حتى مصبِّه في بحر العرب في قوارب أمَرَ الإسكندر ببنائها. يروي آريانوس أن الإسكندر نفسه استكشف مصبَّيْ نهر السند أولًا، ثم قضى بصحبة قسم من خيَّالته ثلاثةَ أيام في استكشاف الساحل قبل الرحلة البحرية التي أقَلَّتْ قسمًا من المقدونيين من الهند إلى رأس الخليج الفارسي. كان ما اكتسبه من معرفة بأهمية الممرات المائية لأغراض الاتصال والتوحيد ناتجًا ثانويًّا ثمينًا لإرثه المقدوني.

fig29
شكل ٧-٤: معركة إيسوس. المصدر: جيه بي ماهافي، «إمبراطورية الإسكندر»، لندن: تي فيشر أنوين، ١٨٨٧، ٣، الصفحة ٢٥.

أحسنت مقدونيا أيضًا تعليمه كيف يتعامل مع الجبال، ممَّا كان ضروريًّا لشنِّ حملة مظفرة في آسيا الوسطى؛ ففي قلعة سوقديانا في باخترا اكتشف الإسكندر أنها شديدة الانحدار من كل جوانبها ومغطاة بالجليد، وأن المدافعين عنها يمتلكون من المؤن ما يكفيهم لحصار طويل، ومع ذلك عقد العزم على مهاجمتها؛ فصاح عدوه قائلًا إن عليه العثور على بعض الجنود المجنَّحين إنْ كان يرجو الفوز، وقد وجد ٣٠٠ رجل من هؤلاء، دقوا أوتادًا حديدية في الجليد، واستعانوا بها في تسلُّق المنحدر ليلًا، ويقال إن ٣٠ فقط منهم لقوا حتفهم. وعندما رأى محتلُّو المرتفعات هؤلاء الجنود المجنَّحين عند الفجر استسلموا (آريانوس، الكتاب الرابع، ١٨، ٥–١٩، ٤). وفيما بعدُ نجَحَ المقدونيون بقيادته في الاستيلاء على صخرة أرونوس، وهي موقع استطاع ذاتَ يومٍ الصمودَ في وجْهِ هرقل الجبَّار (آريانوس، الكتاب الرابع، ٣٠، ١–٤).

fig30
شكل ٧-٥: نهر السند عند ملتقى نهرَي السند وغلغت. وتظهر في الصورة نهاية جبال الهيمالايا شرقًا وجبال قرة قورم شمالًا. صورة بعدسة البرفسور دانيال وا وبإذن منه.

بالإضافة إلى المهارات التي طوَّرتها الخدمة في مقدونيا، كان الجنود المقدونيون قد اكتسبوا مهارةً كبيرة في الحصار؛ فعندما أشارت حساباتُ المهندسين إلى أن تحصينات غزة أعلى من أن تُجدِي معها آلات الحصار نفعًا، لم يوافِقهم الإسكندر الرأْيَ، واستُولِي على غزة بمساعدة تلك الآلات (آريانوس، الكتاب الثاني، ٢٥، ٢). كان الجنود العاديون أيضًا متمرِّسين على الحصار؛ إذ بدأ المقدونيون في مدينة سانغالا في الهند يقوضون السور حتى قبل قصْفِ أيِّ جزءٍ منه بالآلات (آريانوس، الكتاب الخامس، ٢٤، ٤).

كان الزعماء المقدونيون يثمِّنون قيمةَ مَن نادوا بهم ملوكًا. كانت الضغوط على نواة المملكة مستمرة وموجودة على كل الحدود، وكان الجنود المدرَّبون لصدِّ الإليريين والتراقيِّين والإغريق والغارات الأخرى — والمأمول التغلُّب عليهم — مفتاحَ سلامةِ أراضي المملكة. نُشِّئ هؤلاء الجنود الواعدون في ظروفٍ صقلت لياقتهم البدنية، كرعاةٍ يسوقون قطعانهم من مراعي الشتاء الوطيئة إلى المراعي الصيفية في الجبال، وكصيَّادي وحوش برية، ومزارعين؛ ومن شأن أمثال هؤلاء الرجال أن يكونوا محاربين أشاوس، والحاكمُ الحكيم سيقدِّر قيمةَ هؤلاء الجنود. وعندما سعى الإسكندر إلى مواصلة الزحف شرقًا في الهند، وصف رجالُه المقدونيون اشتياقَهم المنهك إلى الأهل والوطن (آريانوس، الكتاب السادس، ٢٧، ٢–٩). كان الإسكندر يعتقد أنهم سيغيِّرون عقلهم الجماعي، لكن لما لم يحدث هذا، أعلَنَ في الجيش بوضوحٍ قرارَه العودة.

كان موقع مقدونيا المتوسط، بقربها من الآخرين وبما تحتوي عليه من عناصر جذب للآخرين، يقدِّم المزيدَ من الأفكار الثاقبة للحملة الفارسية. كان اعتزالُ الآخرين مستحيلًا، ومن ثَمَّ فالتعرُّف على الأعداء المحتملين سيكون ميزة مهمة. سبق أنْ بيَّنَّا أن الإسكندر شاهَدَ توسُّعَ رقعةِ مقدون وتفاعُلها المتزايد مع الشعوب الأخرى. ويروي بلوتارخُس أن حديثًا دار بين الإسكندر الصبي الصغير ورُسُل الملك الفارسي في غياب الملك فيليب، ويُفترَض أن أسئلته عُنيت بشبكات الطرق وشخصية الملك وعدد الجنود الفرس. وحتى إنْ كانت هذه الرواية غير دقيقة، فإن بيلا كانت قد تحوَّلَتْ إلى خليةٍ للنشاط الدولي أثناء طفولة الإسكندر، وكذا امتدَّ عالَمُه إلى ما وراء النطاق المقدوني التقليدي.

لا شك أن هذه معرفةٌ ضرورية لشخصٍ كان يلزمه التعامل مع ثقافات أخرى، بل ربما أيضًا يلزمه ذلك بطرق تفهمها تلك الثقافات. كان فيليب قد عرف طبيعة المؤسسات الإغريقية وقيمتها مع اتساع سيطرته جنوبًا في عمق اليونان؛ إذ لم يَلِ بعضَ المناصب الإغريقية الرسمية فحسب، بل أنشأ أيضًا تنظيمات جديدة على الطراز الإغريقي. ورث الإسكندر هذه المناصب والتنظيمات، ومع نجاحه في الإمبراطورية الفارسية، أقحَمَ نفسَه في الهيكل الفارسي أيضًا. تتجلَّى مؤشراتُ استيعاب الإسكندر هذه المعرفة في حفاظه على المؤسسات القائمة، بمعنى المرزبانات والمرازبة والآلية الضخمة المستخدمة في الخزانة والتسجيل في بابل. وأسنَدَ أيضًا إلى الأهالي مناصبَ السلطة في الأقاليم المفتوحة حديثًا، ونذكر مثلًا أن صداقته مع أرتبازوس، الذي سبق أن لجأ إلى بيلا، أبقت على أرتبازوس وأبنائه في مناصب رفيعة في نظام الحكم الجديد في الإمبراطورية الفارسية (آريانوس، الكتاب الثالث، ٢٣، ٧). وبهذا يكون الإسكندر سار على خطى فيليب؛ إذ احتفظت الدول-المدن الإغريقية بطريقتها في الحياة، وإنْ كانت تحت إشراف مقدونيا، وواصلَتِ العائلة الإبيروسية المالكة حكْمَ المملكة تحت الإشراف ذاته. وربما توقَّعَ الفرس الموالون للإسكندر حظوظًا مماثلة.

من ناحيةٍ أخرى، كانت المبالغة في البُعْد عن «طريقة الحياة المقدونية» تنطوي على خطورة، على نحو ما تبيِّن حالة مشاعر كلايتوس صاحب الإسكندر؛ إذ عندما اتَّهَمَ الرجلُ الذي أنقَذَ حياةَ الإسكندر في معركة جرانيكوس مَلِكَه بادِّعاء فضلٍ أكثر مما ينبغي لنفسه فيما حقَّق من انتصارات، مات على يده. وفيما بعدُ أُجبِر الإسكندر على تغيير خطته للسير شرقًا في الهند، عندما رفض رجاله المقدونيون المواصَلةَ. ويجدر بنا أن نتذكَّر أنه بينما تمَّ تسريح الفرقة الإغريقية في جيش الإسكندر في إكباتان سنة ٣٣٠، لم يتلقَّ الجنود المقدونيون عرضًا مماثلًا.

من جديدٍ نقول إن ميراث الإسكندر لا يفسِّر نجاحه بالكلية؛ فلا شيء في التدريب الذي تلقَّاه هيَّأه للتعامل مع الفِيَلة، وكان الهيكل الإداري في بيلا بسيطًا مقارَنةً بما هو موجود في بابل، ولم يكن في مقدونيا طريقٌ يضاهي الطريق الملكي الفارسي في طوله وملاءمته للسفر السريع. كان تكييف أدواته بقوة وسرعة ضروريًّا، وكان نجاحُه في ذلك مؤشرًا على قدراته التي تثير الإعجاب.

فهل يمكننا الاطِّلاع على عقل الإسكندر بينما كان يتكيَّف مع ظروف الإمبراطورية المترامية الأطراف أثناء الحملة التي دامت ١٠ سنوات؟ وهل استبدَلَ بمُلكه مقدونيا منصبَ شاه فارس؟ تدل الشواهد على أنه لم يفعل. لا شك أنه أضاف وحدات عسكرية فارسية إلى جيشه تضم مرتزقة هنودًا (آريانوس، الكتاب الرابع، ٢٧، ٣)، و٢٠ ألف جندي فارسي وتضم كذلك كيشيين وطربوريين (آريانوس، الكتاب السابع، ٢٣، ١)، وفرسانًا من أبناء الفرس المهمين (آريانوس، الكتاب السابع، ٦، ٤-٥)، و٣٠ ألف شاب فارسي. كان ضمُّ فيلقٍ أجنبي إلى الجيش ممارَسةً اعتيادية عند كلٍّ من فيليب والإسكندر تحضيرًا للحملة. علاوةً على ذلك، دُرِّب المجنَّدون الجدد على الطريقة العسكرية المقدونية ربما باتباع طريقة مماثلة لتدريب أبناء الأسر الأرستقراطية المقدونية في بيلا (آريانوس، الكتاب السابع، ٢٣، ٦، ١ والكتاب السابع، ٢٣، ٣-٤). ولم ينتقص احتفاظ الإسكندر بالمسئولين الفرس من دور معاونيه ذاتهم؛ إذ ظلَّ المعاونون المخلصون، الذين ربطتهم بالإسكندر علاقاتٌ تعود إلى أيام الطفولة، يرتقون إلى مناصب أعظم أهميةً. وفي شوشان سنة ٣٢٤، ازدادت صلة هؤلاء الصحابة بملكهم الأرغيِّ قوةً، بالوسيلة التي وظَّفَها أمينتاس الثالث وفيليب الثاني، وأعني الزواج؛ فبزواج الإسكندر وهفایستیون بشقيقتين، سيكون أولادهما أولاد خالة (آريانوس، الكتاب السابع، ٤، ٥). لكن يجب التأكيد على كلمة «مخلص»؛ إذ سيخضع المعاونون الخائنون مهما كانت أصولهم للعقاب، وغالبًا بالإعدام. كان الإسكندر، كملك مقدوني، على دراية تامة بوضعه المحفوف بالمخاطر قبل زمن طويل من جلوسه على عرش الأخمينيين، الذين كان ينتابهم الخوف ذاته من الخونة والمنافسين.

ينبغي أن ننظر إلى زيجات الإسكندر في ضوء اعتناقِه المحتملِ للثقافةَ الفارسية؛ ففي شوشان اتخذ إحدى بنات داريوس الثالث زوجةً، ومثلها إحدى بنات الملك السابق أرتحششتا الرابع، وكان قد سبق له الزواج برخسانة، ابنة وخش آراد زعيم باخترا. وتجدَّدَتْ في آسيا صداقةٌ دائمة مع بارسين بنت أرتبازوس التي كانت تماثل الإسكندر سنًّا، وقضَتْ نحو عشر سنوات في بيلا مع أبيها المرزبان وسائر أسرتها. وتروي بعض المصادر أن الإسكندر وبارسين أنجبَا ابنًا سُمِّي هرقل. ولم تربط الإسكندر علائقُ زواجٍ بمقدونيا، لكن استحضار زوجات فيليب يضع دورَ الزواج الأرغيِّ في نصابه الصحيح؛ إذ لم تكن من بين زيجات فيليب السبع إلا زيجة واحدة بامرأة مقدونية عُقِدت سنة ٣٣٧، وكانت الست الأخريات ضماناتٍ لتحالفات، حتى إنْ تمخَّضَ بعضها عن غرامٍ حقيقي. ولو عاش الإسكندر حتى بلغ ٤٥ سنة — وهو عمر فيليب سنة ٣٣٧ — فالغالب أنه كان سيتزوَّج مرات أخرى عديدة، بل ربما كان من شأنه أن يتزوج بامرأةٍ من الأُسَر المقدونية النبيلة.

لا شك أن الفاتح الشاب كان سيفخر أعظم الفخر بإنجازه؛ فهل أصابته الأوهام حتى صار يعتقد أنه أكثر من إنسان؟ ولماذا سيرسل في نهاية حملتَه إلى الإغريق يأمرهم بعبادته كإلهٍ كما تروي بعض المصادر؟ ربما يكون هذا نتيجةَ ولايته منصبَ شاه فارس. ومن ناحيةٍ أخرى، كان وجود ارتباط وثيق بالأبطال، بل بالآلهة العظام أيضًا، شيئًا متعارفًا عليه لدى الملوك المقدونيين قبل الإسكندر. وَلْتتأمَّل قضاءَ وقتٍ ثمين لقطع ٣٧٠ ميلًا (٦٠٠ كيلومتر) في الصحراء إلى عرَّافة آمون في غربي مصر لكي «يعرف معلوماتٍ أدقَّ عن نفسه» (آريانوس، الكتاب الثالث، ٣، ٢). لقد عُلِّم الإسكندر منذ الطفولة تثمين نَسَبه، الذي يتصل بالعديد من الأبطال (هرقل وبيرسيوس وآخيل)، بل يتصل فوق ذلك بإله الأوليمب زيوس. كان قد برهَنَ بأفعاله على صلة نسبه بالأبطال، وكشف بأضحياته المنتظمة عن اعتماده على رضا زيوس. في وقت مبكر يعود إلى القرن الخامس، كان هيرودوت يعرف أن عرَّافة آمون من عرَّافات زيوس أيضًا (الكتاب الثاني، ٥٥). وقلنا إن وجهات نظر الأقدمين تستحقُّ الاحترام، حتى إنْ بَدَتْ غريبةً في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد. أفلن يؤدِّي ملك مقدوني الأعمالَ المتعارَف عليها سعيًا لكسب رضا أبي الرجال والآلهة حتى في مصر؟ وبعد أن تمَّ له الاستيلاء على مصر دون قتال، سارع إلى قيادة رجاله عائدًا إلى أرض لم يكن الاستيلاء عليها سهلا في الغالب. لم يكن قد أُعِيد ضمُّ مصر إلى الإمبراطورية الفارسية إلا منذ ١٠ سنوات، بعد نحو ٦٠ سنة من الاستقلال، وأما أقاليم الشام فكانت مشهدًا لانتفاضات متقطعة. كان العمل على نيل رضا زيوس-آمون ضروريًّا. فما العرَّافة المصرية الأخرى التي ارتبطَتْ بزيوس على هذا النحو؟ ظل زيوس يدَ عونٍ للإسكندر طوال الطريق إلى الهند، ثم طرق العودة إلى بابل. وكشف فيليب والإسكندر بنجاحهما المتزايد عن انتمائهما إلى سلف عظيم، وبطريقة لافتة للأنظار، فنحن نتذكر أن فيليب أمَرَ بحمْلِ تمثاله بصحبة تماثيل الأوليمبيين الاثني عشر.

(٤) إمبراطورية الإسكندر

غالبًا ما تَستخدم أنظمةُ تقسيم العصور التاريخية عصرَ الإسكندر كبدايةٍ عصر جديد؛ إذ بدايةً من سنة ٣٣٦ أو ربما سنة ٣٢٣، يفسح العصرُ الهيليني الكلاسيكي المجالَ للحقبة الهلنستية. يبقى الإغريق، والثقافة واللغة الإغريقيتان، بل الدول-المدن الإغريقية أيضًا، لكن يحتويها شيء أكبر وليس هيلينيًّا بالكلية. ولتأكيد صحة هذا النظام، دعونا ننظر في طبيعة الإمبراطورية التي أنشأها الإسكندر وبدأ تنظيمها. إلى أيِّ مدًى انحرَفَ الإسكندر عن تراثه المقدوني؟

من البديهي أن دمج المملكتين المقدونية والفارسية تمخَّضَ عن دولة جديدة، وهو شيء سعى الفرس إلى تحقيقه في عهد الملكين داريوس الأول وأحشويرش الأول في أوائل القرن الخامس لكنهم أخفقوا. لم يغيِّر الإسكندر إلا قليلًا من الهياكل القائمة في أيٍّ من المملكتين، ووظَّفَ أدواتِ كلتيهما. وبصفته قائدَ الجيش المقدوني كان ملتزِمًا تمام الالتزام بالاعتماد على الجيش الذي أثبت نجاحه العظيم، وأضاف الإسكندر إلى القوة المتقدمة المؤلَّفة من نحو ١٠ آلاف جندي مشاة و١٠٠٠ فارس؛ ٣٠ ألفًا آخرين من المشاة و٥ آلاف من الخيَّالة. كان أغلب هؤلاء الجنود مقدونيين أو رعايا مقدونيين أو إغريق، من أعضاء الحلف الكورنثي ومن المرتزقة على السواء. ومع اتساع السيطرة على الأراضي التي كانت ذاتَ يومٍ فارسيةً، ضمَّ إلى جيشه جنودًا من بلاد فارس. بمعنًى آخَر، تواصلَتْ ممارسةُ تعزيز أمنِ الأراضي الواقعة تحت الحكم المقدوني باستخدام جيش دائم مؤلَّف من رجالٍ ينتمون إلى جميع الأقاليم، وكان تدريبهم على الطراز العسكري المقدوني.

كان الإسكندر مُلزَمًا، بولايته مُلْكَ مقدونيا، بمباشرة الأعمال العدائية ضد شاه فارس بسبب إعلان فيليب عن حملته أمام الحلف الكورنثي، والتاريخِ الحافل بالخوف من التوسُّع الفارسي غربًا الذي يجمع المقدونيين والإغريق، والحاجةِ إلى توفير فرصة عمل للأداة الحيوية التي يعتمد عليها الوجود المقدوني. لكن هل كان الإسكندر مضطرًّا إلى الزحف فيما وراء حدود آسيا الصغرى إلى أراضٍ لا يوجد بها إلا قليل من الإغريق كي يحرِّرهم من الهيمنة الفارسية؟ يوجد دافعان يبدوان مرجحين؛ أولًا: يكشف لنا التوسُّع المقدوني بدايةً من القرن الخامس فصاعدًا، وخصوصًا أثناء حكم فيليب الثاني، عن صورة دفينة؛ إذ تمخَّضَ تلاحُم مقدونيا الدنيا والعليا عن تهديداتٍ من شعوب أبعد، كالإليريين والإغريق مثلًا، وأثارَ النشاطُ المقدوني في البحر الأسود عداءَ فارس الأناضولية. وأما الدافع الثاني، فكان يقينًا وجودَ فرصٍ سانحة كما في مصر مثلًا، التي كانت تحنُّ إلى استعادة استقلالها عن السيطرة الفارسية.

استخدَمَ الإسكندر وسائلَ أخرى لتوحيد الأراضي الشاسعة بالإضافة إلى القوة العسكرية، فأنشأ حاميات في الأقاليم التي لم تستتبَّ فيها الأوضاعُ بالكلية وكانت حيويةً للاتصالات، وفي القلاع المحصَّنة من قبلُ أو التي حُصِّنت حديثًا، وفي المستوطنات الكبرى. كان بعض هذه الحاميات مؤقتًا، وكان بعضها الآخر دائمًا؛ وهو في هذا لم ينحرف إلا قليلًا عن ممارسة الملوك الأرغيِّين السابقين. كان الإسكندر متحمسًا لإنشاء مستوطنات جديدة تكون أكثر من مجرد حاميات عسكرية، وتُنسَب إليه سبعون منشأةً من هذا القبيل، لكن لا يُعرَف منها على وجه اليقين إلا خمسة وعشرون أو نحو ذلك. كان بعضها قد أُعِيد تأسيسه، وبعضها الآخَر جديدًا، وبعضها الثالث مقارَّ سكنٍ ملكيةً حُوِّلت إلى مدن. غُرِس الاعتراف بقيمة المنشآت الملكية في الوريث المحتمل للعرش في مرحلةٍ مبكرة من حياته؛ ففي سنة ٣٤٠ على سبيل المثال، قاد الإسكندر جيشًا إلى الشمال للتعامُل مع تمرُّد قبيلة مايدي، ولدى استيلائه على مركز المتمردين، أعاد تأسيسه باسم ألكساندروبوليس، سَيْرًا على خطى فيليب الذي سمَّى عدة مواقع باسم «فيليبوبوليس» وموقعًا واحدًا باسم «فيليبوي»؛ تيمُّنًا به.

في هذه الممارسة دلالة على نظام الإدارة المقدوني؛ إذ تحتاج الملَكيات إلى مراكز إدارية واقتصادية، وإنْ كانت لا تتقبَّل بسهولة دولًا مستقلة ذاتيًّا داخل أراضيها؛ فقد اتُّخِذ قرار بتأسيس مركز آمِن للسيطرة المقدونية في أواخر القرن الخامس، وأكَّدنا على النشاط الذي ازداد غالبًا كثافةً في بيلا بين عامَيْ ٣٥٩ و٣٣٦. تشبه الإسكندرية في مصر بيلا في موقعها المحمي على نهر بعيد عن ساحل البحر، وطبيعتها المخططة، واقتران المسكن الملكي بالجهاز الإداري.

لم يكن فيليب والإسكندر مضطرَّين إلى محو كل المستوطنات السابقة؛ فكانت كورنثة تحتل موقعًا استراتيجيًّا، وكانت مركزًا مهمًّا للإنتاج والتجارة، وهي ملامح تؤيد استمراريتها، لكنْ كمكانِ اجتماعٍ لأعضاء حلف الملك. كانت دواوين المحاسبة المتطورة الموجودة في بابل ضروريةً لإدارة الإمبراطورية، سواء أكانت تحت ملك أخميني أم ملك أرغيٍّ.

صار الإسكندر شاهَ فارس وبازيليوسَ المقدونيِّين (وغيرِهم)، وأضاف أيضًا مناصب رسمية جديدة إلى جعبة مناصبه بوراثته مُلْكَ الفراعنة في مصر وإقامته تحالفاتٍ مع البعض، وبصيرورته ابنًا بالتبنِّي لواحدة من الحكام، وبزواجه ببنات عائلات مهمة في الأراضي المفتوحة حديثًا. لا يوجد ملك أرغيٌّ من قبلُ تولَّى منصب شاه فارس، لكن كان فيليب قد برهَنَ جيدًا على قيمة تكديس مجموعة من المناصب الرسمية في شخصه.

هل يمكن القول إذن بوجود صلة مماثلة بين ثقافة العصر «الجديد» وتقليد مقدوني قديم؟ وهل تتلاشى العناصر المميِّزة لمقدونيا القديمة مع استخدام اللغة والثقافة الإغريقيتين كخيط ناظم يتيح قدرًا ما من الوحدة، في البيئة الشديدة التنوع التي اتسمت بها إمبراطورية الإسكندر؟ لا يمكن إنكار أن نجاح الإسكندر كان الأساس لتطورات أعقبت وفاته المبكرة؛ فالصراع على خلافته أعطانا ممالك العصر الهلنستي، لا إمبراطورية مقدونية ولا فارسية جديدة. لكن تفاعل العناصر الإغريقية والمقدونية لم يكن جديدًا، واستنتجنا من تأمُّلِنا التفاعلَ الأسبق بين اليونان ومقدونيا أنَّ تبنِّيَ اللغة والديانة والعادات والمؤسسات الإغريقية كان مستقرًّا تمامًا قبل حكم الإسكندر. والواقع أن في اعتماد أبيه على المعاونين الإغريق شهادةَ إثباتٍ، وهو اعتماد لم يقتصر على البشر بل امتد إلى الآلهة أيضًا. تلقَّى الإسكندر تعليمه على يد أرسطو، ونال دعم زيوس أيضًا. ولا شك أن هيلينية مقدونيا تشابكت مع العادات والمعتقدات المقدونية القديمة، وهكذا كان الخيط الثقافي الناظم لإمبراطورية الإسكندر الجديدة هو الهيلينية على الطراز المقدوني، بل ازداد أيضًا تقارُب الثقافتين ببلوغ الممالك التي خلفت الإسكندر في مصر وآسيا ومقدونيا ذاتها السنوات الأولى من أعمارها. ويفترض هذا التقارُب ضمنًا وجودَ فترة تفاعُل أطول من عُمْر الإسكندر الثالث الذي عاش ٣٢ سنة.

figure
الخريطة ٥: إمبراطورية الإسكندر.

لا يوجد في وصف الأثر الذي أحدثته أحوال العالَم الذي شهد مولد الإسكندر وشكَّل حياته؛ ما يرمي إلى التقليل من قدرته وإنجازاته؛ فالتفاعلُ بين المجتمع وأفراده الآحاد متبادلٌ، ومن ثم فإن قواعد الثقافة وهياكلها ترسم الحدود، وأما ردودُ الأفعال الفردية تجاه الأوضاع القائمة فيمكنها إحداث تغييرات كبيرة، ولبعض الناس تأثيرٌ أكبر على عوالمهم من بعضهم الآخَر. وينتمي الإسكندر إلى الصِّنْف الأول.

إن تقدير طبيعة عوالم الإسكندر المتعددة يحسِّن فهمنا هذا الشاب النشيط الذي لم يتسنَّ لأحد سَبْر أفكاره وانفعالاته؛ فقد اجتمعت تأثيراتُ البيئة المادية المقدونية، ومنزلتُه كأحد أفراد السلالة الأرغيَّة الحاكمة، وتدريبُه ليكون وريثًا محتملًا لفيليب الثاني، لتُنتِج شابًّا مدفوعًا ليَبُذَّ الجميع. كان لزامًا أن يكون جسمه في تمام لياقته، وقد دُرِّب عقله على جميع مهام القيادة من أجل استجابة حكيمة وسريعة. وكان في أسلافه، ومن بينهم هرقل وآخيل بل زيوس أيضًا، تطمينٌ على أنه سينجح، ومن الجائز تمامًا أن إنجازه هو شخصيًّا أعمالًا بطوليةً تُضاهِي أعمالَ أسلافه في عظمتها أو تفُوقها، اعتمَدَ على إيمانه بأنه ذو منزلة خاصة. كانت المهام التي تنتظره لدى مقتل أبيه محددةً، فلا بد من أن يعلم الأعداء التقليديون على الفور أن الملك الجديد ينتوي الحفاظ على الملك الذي ورثه، لكن عليه أيضًا الاضطلاع بمسئولية الحرب ضد الفرس. وقد ورث بالإضافة إلى هذه المهام الأدوات اللازمة، من جيشٍ ممتاز ومعرفةٍ بحالة العدو الراهنة.

مع تغلغل المقدونيين تغلغلًا أعمق في الأراضي الفارسية، اكتشَفَ الإسكندر سماتٍ مشتركةً عديدة بين مقدون وفارس، وبهذا أمكن أن تصير الدولتان مملكةً واحدة تحت حاكم واحد. كانت كلتا الدولتين تنيط السلطة بالملك، ومع أن جهاز مقدون الإداري لم يكن يضاهي جهازَ فارس، كان تقسيم المسئولية في ازديادٍ في مقدونيا؛ فقد أبرم الملوك الأرغيُّون قبل ذلك معاهداتٍ وتحالفاتٍ بأسمائهم، وولِيَ فيليب مناصب رسميةً في الأقاليم التي ضُمَّت إلى السيطرة المقدونية، وعكَفَ الإسكندر على توسيع الممارسة المقدونية الراسخة. لم يوافق الجميع على المزْجِ، ولم يكن يُتهاوَن مع المعارضين. كان القضاء على التهديدات المتصوَّرة سمةً أصيلةً من سمات أيِّ ملك مقدوني، ونفَعَه هذا الإرثُ كثيرًا فأمكنه الزحف أكثر فأكثر داخل الإمبراطورية الفارسية، ولو استطاع إقناعَ رجاله المقدونيين لَزحَفَ فيما وراء حدودها الشرقية.

تصف المصادر مختلف الخطط التي صاغها الإسكندر بعد عودته إلى بابل سنة ٣٢٤، لكن موته في السنة التالية وضَعَ حدًّا لأي نوايا في نفسه، فلدى موته انتهت القيادة المؤكدة بالمراوغة على السلطة بين ورثته. ومع ذلك يمكن استبانة الشكل العام لخططه المستقبلية؛ فبما أن القدرة العسكرية المقدونية كانت أداةَ إنشاءِ المملكة وتوسيعها، فقد ظل الجيش الأداةَ الأساسية، وسيحتفظ بشكله المقدوني حتى مع إلحاق غير مقدونيين بصفوفه. كانت وحدات من الجيش تتمركز في الحاميات، وأما لبُّ الجيش فكان في حالة حركةٍ، عاملًا على تعزيز تلاحُم المملكة وتوسيع حدودها، وكان يقود هذا الجيشَ الملكُ نفسه أو يقوده صاحبٌ أهلُ ثقةٍ عندما تقتضي الضرورةُ تقسيمَه. كان الإسكندر، الذي نادت به جمعية الجيش مَلِكًا، قد أدرَكَ ضرورةَ أن يكون واحدًا من أفراد الجيش، فقاده قيادةً مباشِرة، وعرف أسماء رفاقه، وعقد المجالس مع كبار معاونيه، وعاقر الخمر واصطاد معهم بانتظام، ومارس الطقوس الدينية. لا شك أن أهورا مزدا ما كان ليحل محل زيوس والآلهة الكبار الآخرين. كان يدرك — وكانوا هم أيضًا يدركون — تفوُّقَ الإسكندر بكل هذه المناصب، وهو ما يتضح من فهمه التكتيكات والاستراتيجية، فضلًا عن تألُّقه في القتال.

بالإضافة إلى القاعدة العسكرية أبقى الإسكندر على المراكز القائمة، وأنشأ منشآت جديدة كما فعل في السنوات الأولى من حكمه، ولبَّت هذه المنشآتُ الحاجاتِ الإداريةَ التي كانت تلبِّيها بيلا في مقدون، وساهمت بها بابل وشوشان وإكباتان في الإمبراطورية الفارسية، وأمكنها فوق ذلك تعزيز المزيج الثقافي المتنوِّع للمملكة الجديدة، وكانت هذه أيضًا من وظائف مراكز الدولة في كلٍّ من مقدون وفارس قبل ضم المملكتين.

خلاصة القول أن الإسكندر الثالث المقدوني يمكن فهمه فهمًا أتمَّ كرجلٍ صاحبِ دوافع قوية طوال حياته بأكملها. كانت حياته معرَّضة للخطر منذ ميلاده كواحد من أبناء الفرع الحاكم من السلالة الأرغيَّة، والواقع أنه كانت تحيق بالصبي تهديداتٌ من داخل هذا الفرع ذاته، منبعها أبناء عمومته وإخوته غير الأشقاء من زوجات أبيه الكثيرات. كابنٍ صحيحٍ عاقلٍ، دفعه أبوه الملك إلى تنمية المهارات المطلوبة من ملك مستقبلي؛ أما أمه، غير المقدونية، فصقلت مهاراته بطرقٍ أخرى، ومنها مثلًا اختيارها قريبها ليونيداس ليكون معلمه في سنوات عمره المبكرة. لقد عرف مِن كِلَا أبويه أن نسبه يبشِّر بأن بإمكانه الطموح إلى إنجازات آخيل وهرقل وديونيسيوس وزيوس.

كانت الدراية بطبيعة مقدونيا والمناطق المجاورة ضروريةً للدفاع عن حدودها، وكانت تلك الطبيعة قاسيةً، وتستدعي لياقةً بدنيةً رفيعة لتسلُّق الجبال وخوْضِ الأنهار والدفاع عن الممرات الضيقة. كان تنافُسُه مع الشباب الآخرين في التدريب في بيلا دافعًا إضافيًّا للتفوُّق عليهم إذا كان يحدوه أيُّ أمل في الفوز باحترامهم كمَلِك. ولأن غلمان الملك كانوا من أصل أرستقراطي، فلا بد من أن آباءهم كانوا مَهَرة في ركوب الخيل، وهكذا فكان لا بد للإسكندر أيضًا من أن يتفوَّق عليهم في ركوب الخيل.

مع النجاح في توسيع المملكة جاءت الحاجات الإدارية، وهذا صنف آخَر من أصناف التعليم الذي تلقَّاه الإسكندر؛ فمن حياته في بيلا تعرَّف على الوحدات الإدارية العديدة، ومن فيليب اكتسب معرفته بالمعاهدات التي يبرمها الملك، والمناصب الرسمية المتعددة التي اكتسبها بفتح دول أخرى. ويوجد بُعْد آخَر أضافه معلِّمه المتأخر أرسطو، الذي تناوَلَ حتمًا جوانبَ الحكم النظرية في كتابه «عن المَلكية»، مع أنه ضاع كما سبق أن نوَّهْنا.

وهكذا خضع الإسكندر لاختبارات مستمرة طوال فترة صباه، وعندما بلغ أول مبالغ الرجال، اتخذت تلك الاختباراتُ صورةَ مناصب رسمية، كوصايته على العرش وقيادته جناح الجيش، وأكسبه إظهارُه أداءً جيدًا فيها احترامَ معاوني الملك الذين يَكبُرونه بمثلَيْ عمره. أَيُدَانِي هذا الصبي فيليب في مهارته؟ أيسعى هذا الصبي للتفوُّق على فيليب؟ لا شك أن غلبة احتمال قدرته على القيادة، بأساليب تضارِع أساليبَ أبيه إنْ لم تَفُقْها، على ظنِّ رجال أبيه؛ دفعتهم إلى تأييد مناداة الجيش به مَلِكًا، وهي مناداة جاءت من كثيرين ممَّن لديهم خبرةٌ بقدرات الإسكندر من واقع تدريبهم المشترك.

هل سمحت الفترة الأولى من حياته، وتناهز ثلثَيْها، بوقتٍ كبير للعلاقات الخاصة الهادئة، كالزواج بامرأةٍ من محض اختياره؟ كلا، كان الزواج عند الأرغيِّين آنذاك أداةً دبلوماسية في المقام الأول، وكان فيليب — حتى موته — العنصرَ الفاعل في مثل هذه الزيجات. ولم تكن السنتان الأوليان من حكمه بحاجةٍ إلى تحالُفاتِ زواجٍ جديدة؛ إذ كانت تراقيا واليونان وإليريا وإبيروس مرتبطةً بالفعل بشبكة معاهدات معزَّزة بالزواج. كذلك يوجد ما يبرِّر ظننا أن مناخ البيت في بيلا لم يكن شديدَ الود. ومن ناحية أخرى، كان بمقدور الإسكندر أن يُكِنَّ حبًّا عظيمًا، وخصوصًا للصحابة الذين خاطروا بحياتهم من أجله، والذين اتبعوا أوامره، واتبعوها باقتدارٍ تامٍّ. وتشبه علاقته ببارسين الإغريقية/الفارسية (في البداية كصديقة في بيلا، وفيما بعدُ كمحظيةٍ في فارس) نوعًا ما علاقاته بأصدقائه الذكور. لكنْ هل استشعر الأمان المطلق حتى باتخاذه هؤلاء الصحابة؟

كان هذا الدافع الأساسي الذي لا يلين أصلَ نجاحه، وسيكون هذا واضحًا في حضوره البدنيِّ. لا يسعنا معرفة ما إذا كانت عيناه زرقاوَيْن زرقةً صارخة، لكن يسعنا اعتقاد أن نظرته كانت تستحوذ على انتباه كلِّ مَن ينظر إلى تلكما العينين. ولا نعرف ما إذا كان قصير القامة أو عريض المنكبين، لكن المؤكد أنه كان لائقًا لأي مهمة بدنية. كان الإسكندر ذا حظ عظيم في ظروفه، وقد استخدم نتاجَ تلك الظروف بعبقريةٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤