تصدير

بقلم  محمد عبد الغفور

لا أعرف لذةً روحيةً أشهى لديَّ من كتابة هذا التصدير للطبعة الثانية من ديوان (أنداء الفجر) — أول دواوين أبي شادي — فقد تجاوبت روحي مع عواطف هذا الشاعر العبقري وأخيلته العلوية تجاوبًا هو سر سعادتي النفسية كلما اصطحبتُ روائعه الساحرة وتمثلت شخصيته الآسرة.

لقد مضى ربع قرن على هذا الشعر الفتيِّ، وأعلم أن أبا شادي هو أول ناقد له، فهو دائم التطلع إلى الكمال ولا يرضى عن آثاره الحاضرة فما بالك بآثاره القديمة، ومع ذلك فآثار الصبا لها جمالها ولها ذكرياتها العذبة وإن اقترنت بالألم الدفين، وإن لم تخلُ من ضعف … وإذن فقد أحسن شعراء أبولو الذين ألحوا بإعادة طبع هذا الديوان الصغير، فإن فيه ذكريات عزيزة لا يستطيع أبو شادي نفسه أن يتجاهلها؛ فهو ما يزال يقتات منها، وإن فيها لبذرة من بذور الإصلاح التي كونت مدرسة الشعر المصري الحديث، وإن فيها لدلائل كافية على الشمائل الأدبية والمواهب الفنية التي طُبع عليها شاعرنا وضمنت له ما نال من تفوق.

لا أريد أن أسهب في هذا التصدير فآرائي في شعر أبي شادي معروفةٌ،١ وسأكتفي بالتنبيه إلى المواضع النقدية البارزة:
  • (١)

    يُلَاحَظُ بسهولةٍ أَنَّ أبا شادي الفتى هو أبو شادي الكهل: شاعر الحب والجمال، ومن الطبيعي أن يكون ذلك من روح الصبا ولكنه روحٌ قويٌّ متصلُ الأسباب والنَّوَازِعِ حتى الآن. وأبو شادي الفتى يتآمر عليه الحياء (وهو يصرح بذلك في أكثر من موضع في شعره)، ولا يزال هكذا أبو شادي الكهل، ولا ترى شذوذه عن ذلك في شعر كهولته إلا نادرًا، وربما لم يكن له شخصيًّا فضلٌ في مصارعةِ ذلك الحياء الذي أفسد عليه حياته العاطفية، وهو دائمُ التسامي في حبه، ولو حاول عكس ذلك فسرعان ما يلتجئ بفطرته ثانيةً إلى ذلك التسامي. وهذا الديوان الصغير لا يمثل نكبته الغرامية فيما بعد، ولكنه يمثل قلقه أصدق تمثيل في تلك الفترة من حياته.

  • (٢)

    نرى أن الألم الممضَّ يلجُّ بالشاعر منذ حداثته: وآية ذلك أنه نشأ نشأة حزينة قاسية مبعثها الفرقة بين الوالدين، فذاق ألوانًا من الحرمان والهموم واقتات بالكآبة والألم منذ طفولته، وزاده اعتلال صحته في صغره. بيد أنه مثال مجسم للشمم وعزة النفس منذ نشأته، معتدًّا دائمًا بها ولكن في غير غرور، شأن الفنان الموهوب الكماليِّ النزعة. وقضى الشاعر صباه في عهد من القلق السياسي الذي ثارت فيه نفوس الشبان، فنرى آلام الوطنية متوثِّبة متأججة من بيوت شعره، ونسمع صيحته:

    قَلِيلٌ عَلَى الْأَحْزَانِ مَا انْهَدَّ مِنْ جِسْمِي
    إِذَا كَانَ عَيْشُ الْحُرِّ أَشْبَهَ بِالْإِثْمِ!
  • (٣)

    نرى أن ولوع أبي شادي بالمعنويات هو هو منذ حداثته (انظر قصيدته «المعنى الأقدس»)، كما نرى افتتانه منذ نعومة أظفاره بحياة الطبيعة ورموزها — ولا أقول بمشاهدها فقط — متغلبًا عليه، ونلمح حبه للاطلاع (انظر قصيدة «موسيقى الوجود»)، وجراءته في التخيل والتعبير (انظر قصيدة «الخالق الفنان»)، وإنسانيته العميقة وتأملاته الفلسفية (انظر «فؤادي» و«مسرح الليل» و«أنداء الفجر» وأمثالها من شعره). وإن كانت نماذج ذلك الشعر بعيدة بطبيعة الحال عن أن تمثل نضوجه الفني الحاضر، ولكنها جميعًا لها طابع شخصيته الطليقة القوية.

  • (٤)

    لا يمكننا أن نحدِّد شعر أبي شادي فنضعه في قسم معين؛ لأن نفسه طموحة متعددة الجوانب عالمية النظرات، وشواهد ذلك لا تخفى على الناقد حتى في شعر صباه الذي يسبق سنه بمراحل بعيدة.

    ولكن لنا أن نقول: إن أبا شادي في شعره لا يخاطب جيله وحده بل يخاطب أجيالًا لم توجد بعد ويخاطب الغيب والمجهول، وله شرَهٌ فِكْرِيٌّ وروحيٌّ فلا يقنع بشيء مما يراه أو مما ينظمه. وهو برغم قوته أمين كل الأمانة للطبيعة، فلا ترى فيه الخيال الفاسد ولا الأوصاف الميكانيكية ولا المغالطات المنطقية ولا المحاكاة التي يلجأ إليها الضعفاء وأهل الصناعة، وإنما تجد روحًا جبارة شاملة، عظيمة الشره، قوية الطاقة إحساسًا وتفكيرًا، طَموحة إلى الكمال الفني، تستلهم الوجود بأسره كما تستلهم ملكاتها الذاتية، لا تقنع أبدًا بإبداعها وإن عظم ذلك الإبداع، وتشعر دائمًا بحسرة على ما عجزت عن تبيانه، متناسية ما أنجبته كأنه لا شيء، فتعيش دائمًا في قلق وظمأ ولهفة.

  • (٥)

    نلمح السخط على البيئة في شعر أبي شادي منذ صباه، ونلمح هذا السخط مضاعف الشعلةِ في دواوين شعره الحديث بعد غيابه الطويل في إنجلترا. ولا عجب في ذلك فقد نشأ شاعرنا من الوجهة الثقافية والنفسية نشأة عالية لم تفسدها المتاعب والهموم العائلية في طفولته وصباه وإن صبغتها بلون قاتم، واتخذ خلقه الإنساني صورًا عملية شتى من البر والوطنية والتضحية لازمتْه منذ نشأته، فكان رجلًا ناضجًا وهو في سن الشباب. ولبث يعمل ويضحي بينما يقنع كثيرون بالثرثرة والدعابات إلى وقتنا هذا، فيلاقي الوفاء مرة ويلاقي الجحود مرات، وقد صدق عليه قول الأحوص في لاميته المشهورة:

    متحملٌ ثقلَ الْأُمُورِ حوى له
    سبقَ المكارمِ سابقٌ مُتَمَهِّلُ
    وتكون معقلهم إِذَا لَمْ ينجهم
    من شرِّ مَا يَخْشَوْنَ إلَّا المعقلُ
    وَأَرَاكَ تَفْعَلُ مَا تَقُولُ، وَبَعْضُهُمْ
    مَذِقُ الْحَدِيثِ يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ

وما زال على هذا الخلق الفذِّ النبيل والنشاط العجيب إلى وقتنا الحاضر الذي يحمل فيه على كتفيه من الأعباء العامة ومن خدمة الثقافة العالية ما تنوء دونه الجماعات … والرجل يبذل دم قلبه وعصارة روحه ونور عينيه ورزقه ورزق أولاده فيما كُلف به من مُثُل عليا، فلا يلاقي في معظم الأحوال غير الإساءات والجحود، بل والمنِّ أيضًا من كثيرين مِمَّنْ غمرتهم ديمقراطيته الأدبية بحبه وإحسانه ومؤازرته الجمة، فلم يَعنهم من كل هذا إلا أن يترعرعوا بفضل رعايته، وإلا أن يصعدوا على أكتافه ثم يَعَضُّوا اليد الكريمة التي خلقتهم من لا شيء، أو التي أخرجتهم من الظلمات إلى النور … ولا أتردد في أن أقول غير مدافِع: إن أبا شادي الرجل الإنسانيَّ والمثاليَّ الشاعر، هو رجل التضحية المنقطع النظير في هذا البلد الذي كثيرًا ما اعتزَّ فيه المهرِّجون وأدباء المقاهي. ولم يحاربه ولن يحاربه إلا المخدوعون وأهل الأراجيف والأدعياء، وحيويته العملية هي حيوية شعره الخالد، وشكواه من البيئة هي شكوى الطعين الغبين الذي مهما شكا فلن يعرف الحقدُ سبيلًا إلى قلبه الطاهر، ولن تنال الأحداثُ مثقالَ ذرة من عزمه الفولاذيِّ ولا من نفسه الوديعة القاهرة.

•••

هذه هي الصفات النفسية البارزة التي تألف وما يزال يتألف منها شعر أبي شادي، والتي نحييها في شعر صباه كما نحييها في شعر شبابه وكهولته.

وشاعرُنا واسع الاطلاع والتجاريب، بعيدُ الجراءة، كارهٌ للتقاليد الجامدة وإن لم يكن هو من المتجرِّدين، وكلُّ هذا ملموحٌ في غاياته الشعرية وفي أساليبه. وإذا استثنينا زفراته وصرخاته المتكررة في وجه البيئة الجاحدة العاقة، فإننا لا نجد أبا شادي مَنْ يعبأ بعد ذلك بالناس إلَّا من ناحيتين: الناحية المِثالية التي يتطلع إليها تطلعَ الأنبياء للتسامي بالإنسانية، والناحية الفنية المحضة من اتخاذهم مادةً كبقية موادِّ الطبيعة لشعره الحيِّ.

١  راجع كتاب (أبو شادي في الميزان).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤