شعر الديوان

(١) أَنْدَاءُ الْفَجْرِ

مِنْ دُمُوعِ النُّجُومِ، مِنْ سَهَرِ الْعَا
شِقِ صِيغَتْ وَمِنْ رَجَاءِ الْحَيَاةِ
فِي حَنَانٍ وَرِقَّةٍ وَهْيَ لَا تَمـ
ـلِكُ مِنْ عُمرِهَا سِوَى لَحَظَاتِ
فِي ثُغُورِ الْأَزْهَارِ، فِي ألَقِ الْعُشـ
ـبِ، وَفَوْقَ الْغُصُونِ تَحْيَا وَتَفْنَى
وَهَبَتْ حُسْنَهَا الضَّحِيَّةَ لِلشَّمـ
ـسِ كَأَن الفناءَ لِلشَّمْسِ أَغْنَى
وَيَعُودُ الْفَجْرُ الْوَفِيُّ بِهَا بَعـ
ـثًا وَلَكنْ تَعُودُ تَمْضِي الضَّحِيَّهْ
هِيَ مِلْكٌ لَنَا حَيَاةً وَمَوْتًا
وَهْيَ بِالرُّوحِ صُورَةُ الْأَبَدِيَّهْ

(٢) الحب والأمل (نظمها الشاعر وهو عليل)

وَفَى الرَّبِيعُ فحيِّ الحبَّ والأَمَلا
وسائلْ الذكرَ إن كان الفؤادُ سَلَا
وَاحْفَظْ حَدِيثَ الْغَوَانِي فِي أَزَاهِرِهِ
وَاحْرِصْ عَلَى النَّفْسِ أَنْ يُدنى لَهَا الْأَجَلَا
مِنْ كُلِّ هَيْفَاءَ إِنْ مَاست وَإِنْ نَظَرَتْ
لَمْ تَتَركْ القلب إلَّا حَائِرًا وَجِلَا
رنتْ إِليَّ بلحظٍ نَاطِقٍ لَعِبٍ
والسِّحْرُ إِنْ عزَّ لا أبغي له بَدَلَا
يا رائقَ الشِّعْرِ هَلْ بلَّغْتَنَا نبأً
عَنْ حَالِ مَنْ كَانَ لَوْلَا الْعَهْدُ مُرْتَحِلَا١
يَخْطُو إِلَى الْمَوْتِ وَالآلامُ تلفتُه
إِلَى الْعُهُودِ فَيُثْنَى جَازِعًا خَجِلَا
لَيْتَ الوفيَّ الذي تُنْسَى مُرُوءَتُهُ
مَا عاهدَ البدرَ أن يرعاه ممتثلَا
إِنْ عَاشَ كانت على التسهيدِ نضرتُه
أو مات أزجى المُنَى مِنْ قَبْرِهِ رُسُلَا
لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ رَأْيٌ عَلَى سَبَبٍ
وَرُبَّ صَوْتٍ ثَنَى٢ مِنْ هَمِّهِ وَجَلَا
سَهْلٌ لَدَيْهِ التَّأَسِّي عَنْ مَدَامِعِهِ
يَوْمَ اللِّقَاءِ، فَأَمَّا فِي الْوَدَاعِ فَلَا!
رَأَى النَّعِيمَ هُمُومًا فِي صَبَابَتِهِ
وَقَرَّبَ الْحُسْنُ مَثْوَاهُ له فَحَلَا
مَا أَجْزَعَ الصَّبَّ يُبْكِيهِ مُتَيَّمُهُ
مِنَ الْجَمَالِ، وَمَا أَهْنَاهُ لَوْ وَصَلَا

•••

وَدَّعْتُ هَمِّي، وَهَمِّي كُلُّهُ أَمَلٌ
يَا رُبَّ لَحْظٍ وَلَفْظٍ فِي الْهَوَى قَتَلَا
مَرَّتْ كَحُلْمٍ يُجَارِيهِ الدَّلَالُ فَلَا
نَمَّتْ عَلَيْهِ، وَلَا أَخْفَتْ لَهُ مَثَلَا
وَدَاعَبَتْنِي بِصَوْتٍ خَافِتٍ وَبَكَتْ
وَقَرَّبَتْنِي وَقَالَتْ حَسْبُنَا جَدَلَا!
الدَّهْرُ فَرَّقَنَا، وَالدَّهْرُ أَلَّفَنَا
فَانْسَ الذُّنُوبَ، وَلَا تَعْتِبْ لِمَا فَعَلَا
الْكَوْنُ زَاهٍ قَشِيبٌ، وَالظَّلَامُ سَنًا
وَالنُّورُ كَنْزُ مَعَانٍ تُبْهِجُ الْمُقَلَا
فَاجلُ الْقَرِيضَ وَحَدِّثْ طَائِرًا غَرِدًا
وَادْعُ النَّسِيمَ وَلَحِّنْ بَعْدَهُ زجَلَا
فَسِرْتُ فِي الرَّوْضِ مِنْ فَرْطِ الْهَوَى ثَمِلًا
مِثْلِي النَّسِيمُ بَدَا مِنْ رِقَّةٍ ثَمِلَا
وَالطَّيْرُ دَانٍ فَلَمَّا جِئته خطرتْ
فِيهِ الظُّنُونُ فَخلَّى إلْفَهُ وَعَلَا
وَاللهِ لَسْتُ الَّذِي يَرْضَى السُّهَادَ لَهُ
حَتَّى يَخَافَ، وَلَكِنْ لَسْتُ مَنْ عَذَلَا
يَا طيرُ آلمتَ نَفْسِي — كُلُّنا دَنِفٌ
مَا كنتَ باعدتَني لَوْ كنت مَنْ عَدَلَا
وَيَا زُهُورًا كَسَاهَا مِنْ مَدَامِعِهِ
هَذَا الغمامُ عقودًا نضرةً وحُلى
وَيَا شُعَاعًا سُحِرْنَا مِنْ تَأَلِّقه
يَبْكِي وَيَلْعَبُ بَسَّامًا وَمُقْتَتلَا
وَيَا نُجُومًا تُوافِينَا وَمَا برحتْ
تُفشِي حَدِيثَ الدُّجَى، لا تعرف الخجَلَا!
وَيَا أَدِيمًا جَلَسْنَا فِي بَدَائِعِهِ
يَأْبَى عَلَيْنَا الْهَوَى أَنْ نَتْرُكَ الْغَزَلَا
وَيَا مَلَاكًا يُحَيِّينا وَمَا فتئتْ
مِنْهُ اللحاظ سِهَامًا … لَيْتَهُ غَفَلَا
وَيَا زَمَانًا نَعِمْنَا مِنْ نَضَارَتِهِ
وَالْأُنْسُ وَقْفٌ عَلَيْهِ دَامَ أَمْ أَفَلَا
وَيَا ربوعًا وَقَفْنَا فِي مَعَابِدِهَا
أَسْرَى الجمالُ، نزفُّ الْحُبَّ وَالْأَمَلَا
لَا قُلْتُ مَعْنًى يَرُوقُ الشِّعْرَ جَوْهَرُهُ
لَوْ أَنَّ بَعْضَ نَعِيمِي مِنْ هَوَاكِ خَلَا!

(٣) حياتان

أُمِّي (الطَّبِيعَة)! فِي نَجْوَاكِ إِسْعَادِي
وَفِي ابْتِعَادِي أُعَانِي دَهْريَ الْعَادِي
وَفِي حِمَى إِخْوَتِي مِنْ كُلِّ طَائِرَةٍ
وَكلِّ نَبْتٍ نَبِيلٍ وَحيُكِ الْهَادِي
مَا بَالُهَا هِيَ صَفْوِي وَحْدَها فَإِذَا
رَجَعْتُ لِلنَّاسِ لَمْ أَظْفَرْ بِإِسْعَادِ
كَأَنَّمَا النَّاسُ أَعْدَاءٌ: فَبَعْضُهُمُو
حَرْبٌ لِبَعْضٍ وَحُسَّادٌ لِحُسَّادِ!

(٤) حظ الناقمين

فُؤَادِي بِرَغْمِ الْحَادِثَاتِ كَبِيرُ
وَطَرْفِي وَإِنْ عَزَّ الْعَفَافُ كَسِيرُ
تَلِينُ لِي الْأَيَّامُ فِي كلِّ شِدَّةٍ
وَلَوْ أَنَّ جُلَّ الْفَاتِحِينَ أَسِيرُ
سَلَخْتُ مِنَ الْأَعْوَامِ بِضْعًا وَعَشْرَةً
أُقِيم عَلَى دِينِ الْعُلَى وَأَسِيرُ
وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَفِي الْقَلْبِ لَوْعَةٌ
على أنَّ كُلِّي هِمَّةٌ وَمَرِيرُ٣
وَمَا انْقَطَعَتْ أَسْبَابُ أُنْسٍ وَنِعْمَةٍ
وَلَكِنَّ حَظَّ النَّاقِمِينَ عَسِيرُ!

(٥) التبرم

يَا رَبِّ! كَيْفَ خَلَقْتَنِي مُتَبَرِّمًا
بِالنَّاسِ حِينَ وددتُ هَذَا النَّاسَ
أَترَاكَ أَنْتَ مُعَلِّمي، وَكَأَنَّمَا
قَدْ عِشْتَ فِي نَدَمٍ وَعِشْتَ تُوَاسَى!

(٦) الألوهية

مَلَكْتَ قَلْبًا عَلِيلًا
جَنَى الْغَرَامُ عَلَيْهِ
فَرَاقِبِ اللهَ فِيمَنْ
فُؤَادُهُ فِي يَدَيْهِ٤
وَسَائِلِ اللحظَ عَمَّنْ
يَذُوبُ شَوْقًا إِلَيْهِ
وَسَامِحِ الْعَبْدَ يَوْمًا
فَأَنْتَ رَبٌّ لَدَيْهِ

(٧) الشاعر المصور

(أصلح الشاعر ببراعته صورة حبيبته التي لم يحسن المصوِّر إخراجها)

كذبَ الضِّيَاءُ عَلَى المصوِّرِ مَرَّةً
أَخْفَى بِهَا الْمَشْهُودَ مِنْ آيَاتِهَا
فَوَضَعْتُ فِي كَفِّي يراعةَ عَاشِقٍ
كَانَ الْبَيَانُ يَجُولُ فِي لفتاتِهَا
وَنَقَشْتُ تَأْثِيرَ الْعُيُونِ لِأَنَّنِي
أَدْرَى بِوَقْعِ السِّحْرِ مِنْ نَظَرَاتِهَا

(٨) قوس قزح

مَلْهى السماء يرشُّنا بنثيرهِ
والماءُ ذوبُ أشعَّةٍ وَأَغَانِي
والسُّحْبُ تَلْعَبُ فيه لعبةَ صاعدٍ
أو هَابِطٍ دَرَجًا مِنَ الْأَلْوَانِ!

(٩) على صفحة الماء

يَشُقُّ الْقَاربُ الْمَزْهُوُّ مثلي
طَرِيقًا فِي المياهِ مَعَ ابْتِهَاجِي
فَيَكْسِرُ صَفْحَةً لِلْمَاءِ رَاقَتْ
وَنَسْمَعُ صَوْتَ تَكْسِيرِ الزُّجَاجِ!

(١٠) إلى سجين القلم (محمد فريد بك)

مَنْ كَانَ يُدْرِكُ فِي الْوُجُودِ هَوَاكَا
أسفًا عَلَيْهِ إِذَا بَكَى وَلَحَاكَا
لَسْتَ الَّذِي يَجِدُ الْحَيَاةَ بِغَفْلَةٍ
وَيَعَافُ فِي بَثِّ الْيَقِينِ حِرَاكَا
نَفْسٌ لَدَيْهَا الْمَجْدُ خِدْمَةُ قَوْمِهَا
تَسْتَعْذِبُ الْآلَامَ وَالْإِنْهَاكَا
تَشْقَى وَتَضْرَعُ أَنْ تَمُوتَ عَلَى هُدًى
لَا تَرْهَبُ الْأَغْلَالَ وَالْأَشْرَاكَا
حَجَبُوا سَنَاكَ عَنِ الْعُيُونِ وَمَا دَرَوْا
أَنَّ الْقُلُوبَ خِلَالَهُنَّ سنَاكَا
أَكْرَمْتَ نَفْسَكَ هَادِيًا وَمفَادِيًا
شَعْبًا يُقِيمُ عَلَى الدَّوَامِ فِدَاكَا
وَالْحُرُّ أَوْلَى أَنْ يَجُودَ بِنَفْسِهِ
مِنْ أَنْ يَرُومَ عَنِ الصَّوَابِ فِكَاكَا
سِيَانِ كُنْتَ بِنِعْمَةٍ أَوْ نِقْمَةٍ
مَا دُمْتَ تُرْضِي بِالْجِهَادِ حِجَاكَا
سِيَانِ كُنْتَ مُقَرَّبًا أَوْ مُبْعَدًا
مَا دَامَ حَرْبُ الْعَابِثِينَ مُنَاكَا
وَكَفَاكَ فَخْرًا أَنْ تُنَاضِلَ دَوْلَةً
كَمْ أَرْهَقَتْ مِنْ مُصْلِحِينَ سِوَاكَا
وَالْعمرُ سَاعَاتٌ يَطِيبُ أَمَرُّهَا
لَوْ أَنَّ فِي حَسْمِ الضَّلَالِ هَلَاكَا

(١١) عَهْدُ الصَّبَابَةِ

خطَرتْ فمكَّنت الْهَوَى تَمْكِينًا
وشدتْ فرجَّعتِ الْقُلُوبُ رَنِينَا
نَزَعَتْ بِرِقَّتِهَا الشُّعُورَ فَأَشْفَقَتْ
وَبَكَتْ فَكَانَ أَنِينُهَا التَّأْبِينَا!
تَخْشَى الْمَلَامَةَ فِي الْغَرَامِ إِذَا عفتْ
فجفتْ وكنتُ عَلَى الشَّقَاءِ أَمِينَا
عُوِّدْتُ مُرَّ الْعَيْشِ حَتَّى لم أبتْ
إِلَّا بصيرًا بِالْهُمُومِ رَزِينَا
مَا يَنْفَعُ الصَّبَّ الْكَئِيبَ مِنَ الْجَوَى
حَتَّى يحنَّ إِلَى الْبُكَاءِ حَنِينَا!
أَسَفِي عَلَى عَهْدِ الصَّبَابَةِ لَمْ يَكُنْ
إِلَّا شُعَاعًا كَاذِبًا مَظْنُونًا!
أَسَفِي عَلَيْهِ وَقَدْ فَقَدْتُ شَبَابَهُ
وَوَهَبْتُ فِيهِ فُؤَادِي الْمَغْبُونَا
وَظَلَلْتُ مَحْزُونًا أُكَفْكِفُ أَدْمُعِي
أَمَلًا، وَعِشْتُ مُتَيَّمًا مَفْتُونَا
مُتَصَدِّعًا مِنْ لَوْعَةٍ، مُتَرَاجِعًا
مِنْ هَيْبَةٍ، مُسْتَغْفِرًا، مَسْجُونَا
يَا حَسْرَةَ الْقَلْبِ الضَّعِيفِ إِذَا رَجَا
مَنْ لَا يَزَالُ عَلَى الْوَفِيِّ ضَنِينَا!

(١٢) غدر الجمال

بسمتْ فما فتكتْ وما عبثتْ
إلَّا بمهجةِ صَبِّها العاني
ورنَتْ فما أحيتْ وما قتلتْ
إلَّا المشوقَ لطَرْفها الرَّاني
اللهَ في حُسنٍ يحيِّرنا
مِن لحظها المتخشِّع الجاني!

(١٣) بعد الفراق

وَيَوْمَ أَثَارَ الْبَيْنُ كَامِنَ لَوْعَتِي
وأغرقتُ فِي شَكْوى تُخَفِّفُ مِنْ هَمِّي٥
نَفَضْتُ الْكَرَى وَارْتَحْتُ لِلْبَثِّ بَعْدَ مَا
تَهَالَكْتُ مَا بَيْنَ الصَّبَابَةِ وَالسّقْمِ
يَكَادُ يَكُونُ الْحُبُّ دينًا أعزُّه
وَهَذا الشَّقَاءُ الْعَذْبُ مِنْ مُنْتَهَى هَمِّي٦
وَلَكِنْ يَهُونُ الْبُؤْسُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ
إِذَا زَادَ حِفْظُ الْعَهْدِ غَمًّا عَلَى غَمِّي
نزحتُ عيوفًا عَنْ بِلَادٍ أُحِبُّهَا
تُسَاقُ بِهَا الْأَحْرَارُ لِلْخَسْفِ وَالضَّيْمِ
أَقَمْتُ بِهَا عُمرًا عَلَى الْوَجْدِ صَابِرًا
وَخَلَّفْتُهَا بَيْنَ التَّلَفُّتِ وَالْأَمِّ
ذَكَرْتُ بِهَا بَدْرًا ضَلَلْنَا لِبُعْدِهِ
فأرسلت تَوْدِيعَ الْفُؤَادِ عَلَى الْيَمِّ
سَلَامٌ عَلَى حُسْنٍ دَفَنَّا سِهَامَهُ
بِأَضْلُعِنَا بَيْنَ التَّكَتُّمِ وَالنَّمِّ
سَلَامٌ وَفِي نَفْسِي شُجُونٌ كَثِيرَةٌ
تفِيضُ لَدَى التَّذْكَارِ فِي مَدْمعِي الْجَمِّ
تَحَمَّلْتُ قَلْبًا دَامَ رَهْنَ وِدَادِهِمْ
وَمَا زَالَ مَمْلُوكًا عَلَى الطَّوْعِ وَالرغْمِ!

(١٤) الطِّبُّ الْحَائِرُ

نَظَر الطَّبِيبُ إِلَيَّ نَظْرَةَ نَاقِدٍ
أَعْيَاهُ مَكْمَنُ عِلَّتِي وَدَوَائِي
وَالطِّبُّ يقصرُ عَنْ شِفَاءِ مُسَهَّدٍ
أَلِفَ الْأَسَى لِتسفُّلِ الْأَهْوَاءِ
مَا كُلُّ بَأْسٍ فِي الْجُسُومِ بِصِحَّةٍ
أَوْ كُلُّ وَهنٍ لِلْجُسُومِ بِدَاءِ
وَالْعَيْشُ عَيْشُ حَقَائِقٍ وَدَقَائِقٍ
وَالْمَوْتُ مَوْتُ سَلَامَةِ الْآرَاءِ
نَفْسِي تُحَرِّكُهَا الْهُمُومُ إِذَا بَدَتْ
مَكْنُونَةً فِي أَنْفُسِ الضُّعَفَاءِ
وَالنَّاسُ فِي هَذِي الْحَيَاةِ غَنِيُّهُمْ
قَدْ يَسْتَطِيبُ تَحَرُّقَ التُّمسَاءِ
أَيْنَ الْعُقُولُ وَأَيْنَ أَرْبَابُ النُّهَى؟
أَيْنَ الشُّعُورُ وَحِكْمَةُ الرُّحَمَاءِ؟
فِي الْقَلْبِ هَمٌّ لَا أجلُّ بِغَيْرِهِ
وَالْمَرْءُ صُورَةُ حِسِّهِ الْمُتَرَائِي

(١٥) دمعة على قبر

(قيلت في حسناء انتحرت يأسًا لفقد عزيز لديها)

مُوَدِّعَةَ الْأَيَّامِ وَالعمر شقوَةٌ
عَلَيْكِ سَلامُ الْحُبِّ فِي الْقُرْبِ وَالْهَجْرِ
فزعتِ مِنَ الدَّارِ الَّتِي طَالَ هَمُّهَا
وَبِنْتِ، وَهَذَا الْبَيْنُ أَقْرَبُ لِلْغَدْرِ
نفوسٌ عَلَى الْوَجْدِ الَّذِي فِيكِ كُلُّهُ
تقَلَّبُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْيَأْسِ وَالصَّبْرِ
تلَمَّسُ فِي الْأَحْزَانِ سَلْوى، وَهَكَذَا
يَعِيشُ شَقِيُّ الْعُمرِ فِي السُّقْمِ وَالْمُرِّ
أَمِيطِي لِثَامًا أَسْدَلَ الْمَوْتُ تُشْرِقِي
حَنَانًا … عَسَاهُ الْآنَ يُطْفِئُ مِنْ جَمْرِي
حَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ عَرَفْنَا كَمَالَهُ
يَرُدُّ رَجَاءَ الْحَيِّ لِلتَّربِ وَالْقَبْرِ
حَرَامٌ عَلَى شَمْسٍ أَضَاءَتْ بِطُهْرِهَا
تَغِيبُ وَنَحْنُ الْيَوْمَ أَحْوَجُ لِلطُّهْرِ
حَرَامٌ عَلَى رَوْضٍ نَمَوْنَا بِمَائِهِ
يَجِفُّ بِلَا ذَنْبٍ جَنَيْنَا وَلا عُذْرِ
أَكَانَ الرَّدَى حُلْوًا لِفَقْدٍ فَقَدْتِهِ
فَأَحْبَبْتِهِ حُبًّا وَإِنْ كُنْتِ لَمْ تَدْرِي
وَخَلَّفْتِ آمَالًا عَلَى الْعُسْرِ لَمْ تَحُلْ
وَكُنْتُ أَظُنُّ الْعُسْرَ يُخْلَفُ بِالْيُسْرِ؟!
فَيَا دَهْرُ مَا أَقْسَاكَ! لِلْبَأْسِ غَايَةٌ
وَأَنْتَ تَخَالُ اللّينَ يُعْقَبُ بِالْخُسْرِ
حَنَانًا وَرِفْقًا بِالْأُلَى غَابَ أُنْسُهُمْ
وَشَتَّتَهُ فَقْدُ الْملاحَةِ وَالْبِرِّ
دُمُوعِي وَإِنْ قَلَّتْ — وَفِي الدَّمْعِ رَاحَةٌ —
نِدَاءُ شُجُونٍ يَزْدَحِمْنَ عَلَى صَدْرِي!

•••

وَأَنْتِ أَيَا سِرًّا مِنَ اللهِ لَمْ نَكُنْ
لِنَذْكُرَهُ إِلَّا عَلَى الطُّهْرِ وَالْبِشْرِ
ذَكَرْتُكِ مَبْكِيًّا شَبَابٌ خَذَلْتِهِ
وَحُسْنٌ حَوَاهُ النَّعْشُ فِي غَيْبَةِ الْبَدْرِ
بَخِلْتِ عَلَى الْوَافِينَ بِالْعَيْشِ وَالرَّدَى
وَلَا بُدَّ هَذَا الْجَمْعُ يُتْبَعُ فِي الْإِثْرِ
فَلَا تَهْزَئِي مِنْ عَبْرَةٍ هَاجَهَا الْأَسَى
فَمَا كُلُّ دَمْعٍ سَالَ عَنْ ذِلَّةٍ يَجْرِي
وَلَا تَضْحَكِي مِنْ دَارِ جَهْلٍ وَنِقْمَةٍ
وَأَوْحِي إِلَى الْأَحْيَاءِ عَنْ مَخْبَأ الْفَجْرِ
فَمَا الْبُؤْسُ كُلُّ الْبُؤْسِ فِي الْفَضْلِ وَالْهُدَى
وَمَا الْحَظُّ كُلُّ الْحَظِّ فِي الشَّرِّ وَالْمَكْرِ
وَلَيْسَ جَزَاءُ الْمَيتِ بِالْحَيِّ يُرْتَجَى
وَكَيْفَ وَكُلُّ النَّاسِ فِي حِيرَةِ السَّفْرِ
فخَارُكِ فِي الدُّنْيَا عَفَافٌ عبدْتِهِ
وَنُبْلٌ رَوَاهُ النُّبْلُ فِي ذِكْرِكِ الْعَطِرِ
إِذَا قُلْتُ لَمْ أَنْطِقْ عَنِ الزَّيْغِ وَالْهَوَى
وَحَسْبُكِ أَنِّي لَا أُرَخِّصُ مِنْ شِعْرِي
جَمَالُكِ فِي نَفْسِي، وَذِكْرُكِ فِي فَمِي
وَشَخْصُكِ فِي عَيْنِي مُقِيمٌ وَفِي فِكْرِي

(١٦) الدنيا

لَمَسْتُ قَلْبِي بِكَفٍّ مَسَّهَا وجَلٌ
مِنَ الْخُفُوقِ فَلَمْ أَعْرِفْ لَهُ سَبَبَا
إِنْ كَانَ هَمِّي مِنَ الدُّنْيَا وَفِتْنَتِهَا
عَمَّ الْهَوَانُ فَمَا بَاتَ الشَّقَا عَجَبَا

(١٧) الرَّاحِلُ الْمُقِيمُ

(قيلت في جنازة المرحوم محمود عبد الغفار بك النائب الوطني الكبير والعضو بمجلس المعارف الأعلى)

مَاذَا تُؤَمِّلُ مِنْ رَحِيمٍ صَامِتٍ
وَالْمَوْتُ حَقٌّ وَالْمُؤَمَّلُ رَاحِلُ؟
يَبْكِي عَلَيْهِ النَّاشِئُونَ وَمَا بَكَوْا
جَسَدًا يُشَيِّعُهُ الْجَبَانُ الْغَافِلُ
وَالذِّكْرُ يَفْقِدُهُ الْخَؤُونُ لِقَوْمِهِ
وَالْحُرُّ يَرْفَعُهُ الشُّعُورُ الْكَافِلُ
وَالْعَقْلُ أَسْخَفُ مَا يَكُونُ مُؤَلِّهًا
بَأْسًا يعزُّ بِهِ الذَّلِيلُ السَّافِلُ
غُضُّوا الْعُيُونَ فَمَا الرِّجَالُ بِكَثْرَةٍ
وَابْكُوا فَقَدْ ذَهَبَ الْحَكِيمُ الْعَامِلُ
وَاصْغُوا إِلَى صَوْتٍ تَرَدَّدَ دَاوِيًا:
إِنَّ الْحَيَاةَ مَآثِرٌ وَجَلائِلُ
فَالْمَوْتُ أَصْدَقُ نَاطِقٍ عَنْ عِبْرَةٍ
وَالْفَضْلُ يَعْرِفُهُ الْأَبِيُّ الْفَاضِلُ
وَالْخُلْدُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ لَو انَّمَا
تُعْزَى إِلَيْهِ رَوَاتِبٌ وَمَنَازِلُ!

(١٨) شَفِيعِي

شَفِيعِي لَدَى الْحُسْنِ الَّذِي لَاحَ سِرُّهُ
بَعِيدًا وَمَا أَدْرِيهِ فِي لَحْظَةِ الْقُرْبِ
خَيَالٌ أَطَالَ الْحُبُّ مَثْوَاهُ آمِنًا
بِنَفْسِي، وَصَفْوُ الْعَيْشِ فِي سَكْرَةِ الْحُبِّ
إِذَا كَانَ لَا يَرْثي لِضَعْفِي وَشِقْوَتِي
فَإِنِّي بِرَغْمِ «الْعَهْدِ» أَشْكُو إِلَى رَبِّي
أَرُومُ النَّوَى — وَالْبُعْدُ فِي ذِكْرِهِ جَوى —
وَهَيْهَات بَعْدَ الْبَيْنِ يُسْعِدُنِي قَلْبِي
وَمَنْ كَانَ لَا يُحْيِيهِ سخطٌ وَلَا رِضًى
فَكَيْفَ يُقَضِّي الْعَيْشَ فِي حيرَةِ اللُّبِّ؟

(١٩) عيش الحر

قَلِيلٌ عَلَى الْأَحْزَانِ مَا انْهَدَّ مِنْ جِسْمِي
إِذَا كَانَ عَيْشُ الْحُرِّ أَشْبَهَ بِالْإِثْمِ
بَكَيْتُ وَمَا أَبْكِي عَلَى سَالِفِ الْهَوَى
وَحَوْلِي الْأُلَى يَبْكُونَ مِنْ خَشْيَةِ الْفَهْمِ!
يَصِيحُونَ مِنْ خَوْفٍ عَلَى سِرِّ عَيْشِهِمْ
إِذَا غَابَ نُورُ الْحِسِّ بِالْحَالِكِ الْجَمِّ
جُسُومٌ عَلَى الْإِفْسَادِ تُفْنِي رَجَاءَنَا
وَتَدْفَعُهَا الْأَطْمَاعُ لِلْخَسْفِ وَالضَّيْمِ
جُسُومٌ بِرَغْمِ الزَّجْرِ أَسْرَى لِعُصْبَةٍ
تُحَرِّكُهَا الْغَايَاتُ فِي الْقَيْدِ وَالْكَمِّ
وَمَنْ كَانَ لَا يُرْضِيهِ إِسْعَادُ قَوْمِهِ
أَحَقُّ بِفَقْدِ الذِّكرِ لَا الْقَدحِ وَالذَّمِّ!
تُرِيدُونَ إِعْزَازَ النُّفُوسِ الَّتِي هَوَتْ
وَمَا يَصْنَعُ الْمَغْلُوبُ بِالسَّيْفِ وَالسَّهْمِ؟
تُرِيدُونَ تَسْخِيرَ الْعُقُولِ الَّتِي سمتْ
وَتَخْشَوْنَ مِنْ بَأْسِ الْحَقِيقَةِ وَالْعِلْمِ
أَفِيقُوا فَإِنَّا أُمَّةُ الدَّهْرِ لَمْ نَزَلْ
نهشُّ إِلَى الذِّكْرَى فَكُونُوا عَلَى وَجْمِ!
أَفِيقُوا فَلَسْنَا الْيَوْمَ نُغضي عَلَى الْقَذَى
وَرُدُّوا الرَّزَايَا مِنْ غُرُورٍ وَمِنْ وَهْمِ
فَهَيْهَات تَسْتَعْلِي عَلَى الْحَقِّ قُوَّةٌ
وَهَيْهَات أَنْ يَبْقَى بِنَاءٌ عَلَى ظُلْمِ
وَأُقْسِمُ أَنَّ الشَّعْبَ لَا بُدَّ يَعْتَلِي
وَكُلُّ فَسَادٍ أَوْ ضَلَالٍ إِلَى هَدْمِ
وَلَوْ شَاءَ رَبُّ الْمُلْكِ إِسْقَاطَ أُمَّةٍ
تُقَدِّسُهُ لَارْتَدَّ بِالْخِزْيِ وَالْغُرْمِ
فَيَا مَجْدَ مَنْ يَسْعَى بِنَفْسٍ أَبِيَّةٍ
وَيَا ذُلَّ مَنْ يَرْضَى عَنِ الذُّلِّ وَالْهَمَّ!
إِذَا صَحَّ أَنَّ الْأَمْسَ وَلَّى بِخَيْبَةٍ
فَلَا بُدَّ مِنْ فَوْزِ الْمُجَاهِدِ فِي الْيَوْمِ!

(٢٠) إلى الصديق الشاعر الرقيق عبد الحليم حلمي المصري

يَا نَاشِرَ السِّحْرِ فِي يَوْمٍ بَكَيْتُ بِهِ
عَذَّبْتَ خِلًّا بِحُكْمِ الْحُبِّ لَمْ يَنَمِ
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ أَمْهَلْتَنَا زَمَنًا
فَرِقَّةُ الشِّعْرِ تُحْيِي مَيتَ الْأَلَمِ؟
مِنَ الْبَيَانِ شِفَاءُ النَّفْسِ سَالِيَةً
وَمَا عرفتُ شِفَاءَ الصَّبِّ فِي الْقَلَمِ
يَهْفُو الْجَمَالُ لِشَعْرٍ قُلْتَ أَعْذَبَهُ
وَيَبْسُمُ الزَّهْرُ فِي سُكْرٍ وَفِي حُلُمِ
وَرُبَّ قَلْبٍ — لِمَعْنًى روحهُ فِتَنٌ
يَحْيَا الْجَمَالُ بِهَا — نَاجٍ مِنَ الْعَدَمِ
أَحْنُو عَلَيْهِ وَأَتْلُوهُ كَأَنَّ بِهِ
وَعْدَ الْحَبِيبِ، وَأُدْنِي لَفْظَهُ لِفَمِي!
فَمَا عبستُ قَلِيلًا فِي بِدَايَتِهِ
إِلَّا طَربتُ وَوَلَّى بَعْدَها نَدَمِي
وَأقدرُ النَّاسِ يُبْكِيهمْ وَيُفْرِحُهُمْ
مِنْ رُوحِهِ الْحيِّ فِي شِعْرٍ وَفِي نَغَمِ

(٢١) المعنى الأقدس

حَبِيبَتِي! أَنْتِ لِي مَعْنًى أُبَجِّلُهُ
فَوْقَ الْمَعَانِي الَّتِي تُحْكَى بِتَعْبِيرِي
مَعْنًى تَقَدَّسَ فِي طُهْرٍ وَفِي أَلَقٍ
كَالنُّورِ، لَكِنْ تَسَامَى عَنْ سنى النُّورِ
مَعْنًى أَظَلُّ سِنِينَ الْعُمْرِ أَنْشُدُهُ
وَلَسْتُ أَعْرِفُ مِنْهُ غَيْرَ تَقْصِيرِي
وَكُلُّ مَغْزَاهُ أَنْ أَلْقَاكِ فِي شَغَفِي
كِلَاهُمَا فِي مَدَاهُ غَيْرُ مَحْصُورِ!

•••

رَضِيتُ هَذَا الصِّبَا قربَانَ آوِنَةٍ
يُجِيبُ فِكْرُكِ فِيهَا كُلَّ تَفْكِيرِي
مَا دُمْتِ نَائِيَةً عَنِّي فَفِي طربِي
هَمٌّ، وَفِي مَرَحِي شَتَّى الْأَعَاصِيرِ!

(٢٢) بحر الأماني

حَمَدْتُ مِنَ الصِّبَا بَحْرَ الْأَمَانِي
فَفِيهِ سَفِينَتِي وَبِهِ أَمَانِي
وَلَوْلَاهُ ارْتَطَمْتُ بِكُلِّ صَخْرٍ
فَكَمْ فِي الْعَيْشِ مِنْ نُوَبِ الزَّمَانِ
نَشَأْتُ عَلَى الدُّمُوعِ غِذَاءَ رُوحِي
فدَانَ إِلَى بَوَاعِثِهَا كِيَانِي
فَصِرْتُ إِذَا ابْتَسَمْتُ رَأَيْتُ دَمْعِي
هُوَ الْبَسْمَاتُ فِي صُوَرِ الْمَعَانِي

•••

أَزَيْنَبُ! إِنْ حَييتُ فَمَا حَيَاتِي
سِوَاكِ، وَمَا عَدَاهَا الْآنَ فَانِي
تُرَى هَلْ بَعْضُ أَشْوَاقِي يُرَجَّى
لَدَيْكِ، أَمِ الطُّفُولَةُ لَا تُعَانِي؟!
كِلَانَا فِي الْهَوَى طِفْلٌ، وَلَكِنْ
أَنَا الطِّفْلُ الْغَبِينُ، أَنَا الْمُعَانِي
وَيَا بَحْرَ الْأَمَانِي أَنْتَ عَوْنِي
وَلَوْ غَرقَ الْهَوَى بَيْنَ الْأَمَانِي!

(٢٣) فُؤَادِي

تَشَجَّعْ فِي الْمَصَائِبِ يَا فُؤَادِي
وَكُنْ بِصَلَابَةِ الْحَجرِ الْكَرِيمِ
أَلَسْتَ كَجَوْهَرٍ فِي طَيِّ جِسْمِي
خَبِيءٍ لَا يُعَرَّفُ لِلَّئِيمِ؟
إِذَا الْأَحْدَاثُ عَضَّتْ فِيكَ فَاكسرْ
نُيُوبًا لَنْ تَنَالَ مِنَ الْعَظِيمِ
وَلَا تَكُ فِي الْأَسَى لَحمًا وَرَخْوًا
فَتدْمَى بِالْكلُومِ وَبِالْكلُومِ
فُؤَادِي مَا عَدَدْتُكَ بَعْضَ جِسْمِي
فَمَا أَصْلُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجُسُومِ
وَلَكِنْ نَفْحَةٌ طَافَتْ وَوَافَتْ
عَلَى خَفْقِ الشُّعَاعِ مِنَ النُّجُومِ
فَفِيكَ مِنَ النُّجُومِ شَوَاظُ نَارٍ
وَفِيكَ تَدَفُّقُ النُّورِ الْعَمِيمِ
تَلُوذُ بِكَ الْحَيَاةُ وَأَنْتَ مِنْهَا
بِمَنْزِلَةِ الْيَتِيمِ مِنَ الْيَتِيمِ
فَصَاحِبْهَا مُصَاحَبَةَ الْمُفَدِّي
وَلَازِمْهَا مُلَازَمَةَ الْحَكِيمِ
وَلَا تَجْزعْ عَلَى دُنْيَا تُسَاوِي
نُفُوسَ الْبُهْمِ بِالْحُرِّ الصَّمِيمِ
فَفِيمَا تَشْتَكِيهِ نَعِيمُ يَأْسٍ
وَبَعْضُ الْيَأْسِ مِنْ صُوَرِ النَّعِيمِ!

(٢٤) أول الشهداء

لَا تَنْدُبُوا هَذَا الشَّهِيدَ فَإِنَّهُ
لَتُرَاثُ أَجْيَالٍ وَفَخْرُ قُرُونِ
ذهب الضَّحيةَ لِلْحَيَاةِ بِشَعْبِهِ
مُتَنَزِّهًا عَنْ مُشْبِهٍ وَقَرِينِ!

(٢٥) إِلَى صَدِيقِي الشَّاعِرِ الْمَجِيدِ عَلِي الْغَايَاتِي٧

رَدَّدْتُ شِعْرَكَ مُطْرَبًا وَعَلِيلَا
وَلَكمْ أُرَدُّ مِنَ الْجَمَالِ قَتِيلَا
صَحَّ الشُّعُورُ بِهِ فَشَاقَ تَهَافُتِي
وَحلا الأَنِينُ بِهِ فَكَانَ قَلِيلَا
قَبَّلْتُهُ وَوَعَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ
عَذْبًا بِآمَالِ الْأَبِيِّ كَفِيلَا
وَإِذَا الْمهِيبُ تَرَقْرَقَتْ آيَاتُهُ
وَجَدَ النِّدَاءُ إِلَى الْقُلُوبِ سَبِيلَا
قَلَمٌ إِذَا أَجْرَى الْوَفَاءُ دُمُوعَهُ
أَجْرَى الْبَيَانَ مُهَذَّبًا وَصَقِيلَا
أَنَا مِنْ مَعَانٍ نَضرَةٍ مُتَمَايِلٌ
جَذَلًا، وَأَعْشَقُ ذَلِكَ التَّمْثِيلَا
وَإِذَا الْبَيَانُ سَمَتْ بِهِ حَسَنَاتُهُ
طُبِعَ الْجَلَالُ بِهِ فَعَاشَ جَلِيلَا
فَارْبَأْ بِشِعْرِكَ أَنْ يُذَالَ، وَلَا تَقُلْ
إِلَّا لِتُنَظِّمَ لِلْهُدَى إِكْلِيلَا
إِنَّ الْيَرَاعَ وَإِنْ تَدَفَّقَ سِحْرُهُ
يَبْدُو بِأَيْدِي الْعَابِثِينَ ضَئِيلَا
فَاذْكُرْ لَنَا قِيَمَ الرِّجَالِ وَقُلْ لَنَا
حُرَّ الْمَقَالِ وَأَنْتَ تُرْضِي (النّيلَا)
حَسْبُ الْعَظِيمِ جَلَالَةً وَسَعَادَةً
أَن لا يَرُومَ عَنِ الصَّوَابِ بَدِيلَا

(٢٦) أَوْهَامٌ …

غَرَامُكَ لَا عَذْلٌ عَلَيْهِ وَلَا رَدُّ
فَمَا لِلسَّنَى حَدٌّ، وَمَا لِلْهَوَى حَدُّ
بَيَانُكَ غَلَّابٌ، وَعُذْرُكَ مُفْحِمٌ
وَلَحْظُكَ بَسَّامٌ، وَقَلْبُكَ منقدُّ
يَبِيتُ عَلِيلًا خَافِتَ النَّبْضِ مُتْعَبًا
يَئِنُّ، فَلَوْ أَصْغَى الْمُغَرِّدُ لَمْ يَشْدُ
إِلَى الْعَيْنِ مَا يُحْيِيكَ مِنْ خَطْرَةٍ حلتْ
وَلِلْقَلْبِ دَاءٌ فِيكَ يَسْرِي وَيَشْتَدُّ
وَلَوْلَا اللُّقَا مَا كُنْتَ جَذْلَانَ عَابِسًا
وَلَوْلَا الْجَفَا مَا كُنْتَ تَبْكِي وَتَحْتَدُّ
حَيَاتُكَ لُغْزٌ، وَالْهَوَى كُلُّهُ جَوًى
يَهُونُ، فَلَا غَمٌّ لَدَيْكَ وَلَا سَعْدُ
فَيَا لِشَبَابٍ فِيكَ لَمْ تُبْقِهِ النَّوَى
وَيَا لِجَلَالٍ مِنْكَ مَا فَاتَهُ الصَّدُّ
تَرَكْتَ لِحُكْمِ الْحُسْنِ نَفْسًا عَزِيزَةً
وَأَيُّ عَظِيمِ النَّفْسِ فِي شَرْعِهِ عَبْدُ
وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ دَفْعِكَ السُّقمَ وَالْأَسَى
فَأَنْتَ عَلَى الْحَالَيْنِ تَفْنَى وَتَنْهَدُّ
وَرُبَّ صَفَاءٍ عَزَّ فِي مَذْهَبِي عَنًا
وَرُبَّ شَقَاءٍ دَامَ فِي مَذْهَبِي رَغَدُ
نَعِيمُ الْفَتَى فِيمَا يَرَى الْأُنْسَ حَوْلَهُ
وَهَمُّ الْفَتَى فِيمَا يُخَالُ بِهِ الْوَجْدُ

(٢٧) حول تمثال مصطفى كامل

وَدِّعِ الْقَلْبَ بَيْنَ مُضْنًى وَخَالِ
وَتَناسَ الْأَسَى وَهَمَّ اللَّيَالِي
وَانْظُرِ الْعَقْلَ نَاطِقًا مِنْ جَمَادٍ
وَارْقبِ الْمَجْدَ صَادِقًا فِي خَيَال
نَظَرَاتٌ عَلَى الْهَوَى بَاقِيَاتٌ
تَدَعُ الْحُرَّ فِي إِسَارِ الْمَعَالِي
وَشَبَابٌ مَا زَالَ تَصْوِيرُهُ الْحَقـ
ـقُ مَنَارَ الشُّعُورِ وَالْإِجْلَالِ
وَحَيَاةٌ مَا زَالَ تَذْكَارُهَا الْعَذْ
بُ مَقَرَّ الْحَيَاةِ وَالْآمَالِ
يَا أَمِيرَ النُّفُوسِ هَلْ يَنْقَضِي الْعُمـ
رُ وركنُ الْهُدَى حَلِيفُ الزَّوَالِ؟!
نَحْنُ أَسْرَى عَلَى الْحَيَاةِ وَإِنْ جَلـ
ـتْ، وَأَنْتَ الْعَظِيمُ فِي كُلِّ حَالِ

•••

لَكَ غَالٍ مِنَ الْهَوَى غَيْرُ بَالٍ
لِوَفَاءٍ عَلَى الْمَدَى غَيْرِ بَالِ
صَمْتُكَ الْيَوْمَ مِثْلُ سَعْيِكَ بِالْأَمـ
ـسِ مَهِيبٌ لِمخْلَدِ الْأَعْمَالِ
ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةُ السُّهْدِ وَالْوَجـ
ـدِ لِقَلْبٍ عَلَى الرَّدَى غَيْرِ خَالِ
دُمْ حَلِيفَ الْجَلَالِ فِي حُفْرَةِ الْقَبـ
ـرِ كَمَا كُنْتَ يَا حَلِيَفَ الْجَلَالِ
وَادَّكِرْ مِصْرَ وَارْفَعِ الصَّوْتَ وَالذِّكـ
ـرَ، كَمَا شِئْتَ يَا فَقِيدَ الْمَعَالِي
تَخْطُبُ الدَّهْرَ مِنْ مَبِيتِكَ فِي الْخَلـ
ـقِ وَتَأْتِي بِأَصْدَقِ الْأَمْثَالِ
وَتَهزُّ الْعُقُولَ لِلْحَزْمِ وَالْعَزْ
مِ إِذَا أَخْفَقَتْ فُحُولُ الْمَقَالِ
وَقْفَةُ الشَّعْبِ عِنْدَ تِمْثَالِكَ الْيَوْ
مَ فخَارٌ لَهُ وَلِلتِّمْثَالِ
آهِ! كَمْ يُخْطِئُ الْمُضَلّلُ فِي الْخُلـ
ـدِ وَكَمْ يُزْدَرَى بِحُسْنِ الْفِعَالِ
إِنَّ مَجْدَ الْإِنْسَانِ فِي خِدْمَةِ الْإِنْسَانِ
لَا فَرْقَ بَيْنَ دَانٍ وَعَالِ
خَافِقَاتٌ لَكَ الْقُلُوبُ مِنَ الْحُبـ
ـبِ وَإِنْ لَمْ تثبْ لِبَأْسٍ وَمالِ
وَاهِبَاتٌ لَكَ الْحَيَاةَ عَلَى الْمَوْ
تِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَ الزَّوَالِ
يَا كَبِيرَ الْيَقِينِ فِي قُوَّةِ الْحَقـ
ـقِ وَيَا بَانِيًا قُلُوبَ الرِّجَالِ
يَا كَثِيرَ الْإِبَاءِ فِي دَوْلَةِ الْبَغـ
ـيِ، وَيَا نَاسِفًا صُرُوحَ الضَّلَالِ
أُمَّةٌ تَحْفَلُ الزَّمَانَ بِمَاضِيـ
ـكَ وَتَعْزُو إِلَيْكَ حُسْنَ الْمَآلِ
وَتُحَيِّي خَيَالَكَ اللَّيْلَ وَالْفَجـ
ـرَ بِدَمْعٍ عَلَى الْهَوَى فِيكَ غَالِ

•••

أَيُّهَا الصَّانِعُ الْمُصَوِّرُ إِجْلَالَ أُمَّةٍ
— تَعْبُدُ الْهُدَى — فِي جَلَالِ
كَيْفَ وَفَّقْتَ بَيْنَ عَهْدٍ وَمَجْدَيـ
ـنِ وَمَا بَيْنَ وَصْفِ تِلْكَ الْخِلَالِ؟
صَنْعَةٌ تخجلُ الْبَيَانَ مِنَ الْحُسـ
ـنِ وَتُزْهَى عَنْ كُلِّ سِحْرٍ حَلَالِ
صُورَةٌ تَفْتنُ الْمُفَكِّرَ مَبْهُو
تًا وَعَبْدًا لِصَمْتِ هَذَا الْجَمَالِ
ثِقْ بِشُكْرِ الْقُلُوبِ وَالْفَضْلِ وَالْجُو
دِ، وَتِهْ فَاخِرًا بِذَاكَ الْكَمَالِ
لَيْسَ بِدعًا إِذَا حلفتَ بِمَا أَتـ
ـقَنْتَ صِدْقًا وَاخْتَلْتَ أَيَّ اخْتِيَالِ
وَلَكَ اسْمٌ يَصُونُهُ أَثَرُ الْعِلـ
ـمِ وَرَسْمٌ بِنَضْرَةِ الْمَجْدِ حَالِي

(٢٨) أنفاس الخزامى

أَيُّ عِطْرٍ فَاقَ أَنْفَاسَ الْخُزَامَى
فِي حَنَانٍ يَمْلَأُ الرُّوحَ سَلَامَا
بِنْتُ مِصْرَ فِي حَيَاءٍ زَهْرَةً
وَخُشُوعًا وَسَلامًا وَابْتِسَامَا
لَا يَرَاهَا غَيْرُ مَنْ كَانَتْ لَهُ
رُوحُهَا أَوْ مَنْ يُحَاكِيهَا غَرَامَا
تَجْذبُ النَّحْلَ إِلَى أَكْوَابِهَا
وَهْيَ سَكْرَى تَرْشفُ الشَّهْدَ الْمُدَامَا
تَتَوَارَى عَنْ عُيُونٍ لَا تَرَى
دِقَّةَ الْحُسْنِ وَأُخْرَى تَتَعَامَى
أَيُّهَا الْأَنْفَاسُ طِيبِي وَانْشُرِي
خَطَرَاتِ الْحُبِّ حَتَّى يَتَسَامَى
كَمْ وَقَفْنَا فِي مَجَالِي نَشْوَةٍ
عِنْدَ مَرْآكِ فُتُونًا وَاحْتِشَامَا
لَمْ نُقَبِّلْ غَيْرَ مَعْنًى حَائِمٍ
حَوْلَنَا مِنْكِ عَشِقْنَاهُ دَوَامَا!

(٢٩) هجر الكريم (إلى أستاذي خليل مطران)

سَلِ النَّجْمَ كَمْ أَوْدَعْتُهُ الْحُبَّ مِنْ فَنِّي
فَإِنَّ لَهُ مِنْ صِحَّةِ الْقَوْلِ مَا يُغْنِي!
وَرُبَّ جَمَادٍ صَادِقِ الذِّكْرِ مُفْصِحٍ
وَأَيُّ حَيَاةٍ لَا تَحُومُ عَلَى أفْنِ؟
أُرَاقِبُهُ فِي كُلِّ لَيْلٍ وَعِنْدَهَا
أَبُثُّ لَهُ مَا يَشْتَكِي السُّهْدُ مِنْ جَفْنِي
وَأَسْأَلُهُ تَبْلِيغَ عُتْبِي لِهَاجِرِي
لِعِلْمِي أَنَّ الْحُسْنَ أَطْوَعُ لِلْحُسْنِ
وَأَحْسَبُهُ أَشْجَاكَ فِي وَصْفِ حَالَتِي
وَهَلْ كَانَ هَذَا مَا يُخَفِّفُ مِنْ حُزْنِي؟
أَمِيرَ الْقَوَافِي! أَنْتَ فِي اللُّبِّ مَاثِلٌ
وَلَيْسَ بَيَانِي عَنْ سَنَاكَ بِمُسْتَغْنِ
تَوَخَّيْتُ دَارًا شِئْتَ أَنْ نَلْتَقِي بِهَا
لِقَاءَ الْوَفَا بِالْمَجْدِ وَالْخدْنِ بِالْخدْنِ
فَلَمَّا رَأَيْتُ الْوَعْدَ آمَالَ حَالِمٍ
وَأَسْلَمَنِي طُولُ التَّرَقُّبِ لِلْوَهنِ
نَثَرْتُ بِهَا مِنْ أَدْمُعِي كُلَّ درَّةٍ
وَكَلَّفْتُهَا تَبْلِيغَ صِدْقَ الْهَوَى عَنِّي!

(٣٠) عالمٌ وعالمٌ

أرسل الأستاذ الجليل حامل لواء النهضة الأدبية خليل مطران إلى صاحب هذا الديوان قصيدة ودية رائعة مطلعها:

يَا ابْنَ أَخِي بَشَّرْتَنِي مَرَّةً
بِمُلْتَقَى السَّبْتِ وَلَمْ تَحْضرِ
مَا دُمْتَ فِي خَيْرٍ وَفِي صِحَّةٍ
فَانْسَ الَّذِي تَنْسَاهُ أَوْ فَاذْكُرِ

وَمِنْهَا:

تَحْكِي سهيلًا قَطْرَةٌ مِنْ دَمٍ
وَتَكْفُؤُ الذَّرةُ لِلْمُشْتَرِي
كِلَاهُمَا فِي نَوْعِهِ عَالَمٌ
أَدَقُّهُ يُدْهِشُ كَالْأَكْبَرِ!

فأرسل إليه صاحب الديوان الرد الآتي:

يَا سَيِّدِي الْعَمَّ وَيَا مَنْ لَهُ
أَدِينُ بِالْحُلْوِ وَبِالْمُزْهِرِ
مَا كُنْتُ إِلَّا بِضْعَةً مِنْ هُدًى
أَهْدَيْتَهُ أَنْتَ إِلَى مَعْشَرِي
هَيْهَات أَنْ أَنْسَى مَوَاعِيدَنَا
لَكِن تَخَالَفْنَا فَلَمْ نَحْضُرِ!٨
وَكَيْفَ أَنْسَاهَا وَأَنْتَ الَّذِي
لَوْلَاهُ لَمْ أُزْهِرْ وَلَمْ أُثْمِرِ؟
مَقَالَةُ الصِّدْقِ، وَحَسْبِي غِنًى
مَقَالَةُ الصِّدْقِ وَحُبِّي السَّرِي

•••

يَا شَاعِرَ الْعَصْرِ وَيَا مُرْشِدِي
وَرَافِعَ الْخُلْقِ وَيَا مُظْهِرِي
نَصَائِحُ الْوُدِّ الَّتِي سُطِّرَتْ
فِي شِعْرِكَ الْحَيِّ جَنَى أَسْطُرِي
تَفْتَرُّ بِالْإِلْهَامِ وَضَّاءَةً
كَعَهْدِكَ الدَّائِمِ بِالْمُبْهِرِ
حَبَّبْتَ لِي الطبَّ كَأَنِّي بِهِ
كَفَرْتُ بِالدُّنْيَا وَلَمْ أَكْفُرِ
أَسْتَصْغِرُ الْعَالَمَ مِنْ عِزَّةٍ
بِالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَبِالْمُنْكَرِ!
كَأَنَّمَا الْعُرْفُ وَإنِكْارُهُ
سِيَانٌ فِي الرُّوحِ وَفِي الْجَوْهَرِ
مَا زِلْتُ بِالْبَابِ وَلَكِنَّنِي
كَالْهَارِبِ التَّائِهِ فِي عَسْكَرِ!
وَالْمِجْهَرُ٩ الْكَاشِفُ لَا يَنْثَنِي
يُشَوِّقُنِي وَهْمًا وَلَا يَمْتَرِي
أَسْتَنْبِطُ الْأَحْيَاءَ فِي نُورِهِ
كَأَنَّنِي مُسْتَنْبِطٌ عُنْصُرِي!
كَأَنَّنِي الْخَلَّاقُ فِي دِقَّةٍ
وَالْعَالِمُ الْأَكْبَرُ فِي مُجْهِرِي١٠
كَأَنَّمَا الْإِنْسَانُ فِي قَبْضَتِي
مُسْتَحْدَثًا حَيًّا لَدَى مَخْبَرِي!١١
أَوْ أَنَّمَا تَشْرِيحُهُ نَفْحَةٌ
تُحْيِيهِ بِالْعِلْمِ وَإِنْ يُقْبَرِ!

•••

مَا أَعْجَبَ الطِّبَّ وَإِلْهَامَهُ
لِلشَّاعِرِ النَّاثِرِ وَالْمُجْتَرِي
أَقْصَى الْخَيَالَاتِ لِأَشْعَارِهِ
لَا شَيْءُ جَنْبَ الْعِلْمِ فِي الْمخْبَرِ!

(٣١) لوعة الخريف

إلى أستاذي خليل مطران

شِعْرِي لَدَى الْعَمِّ الْخَلِيـ
ـلِ صِف الْهَوَى فِي مَدْمَعِي
صِفْ لَوْعَتِي حِينَ الْخَرِيـ
فُ يَئِنُّ فِي أَلَمٍ مَعِي
حِينَ الصِّبَا رَهْنُ الذُّبُو
لِ وَحِينَ قَلْبِي لَا يَعِي
مُتَقَطِّعًا مُتَوَجِّعًا
فِي حُلمِهِ الْمُتَقَطِّعِ
حُلْمٌ يروِّيهِ الصِّبَا
فَيَجفُّ عِنْدَ الْمَنْبَعِ
لهفِي عَلَى الْحُلْمِ الْجَمِيـ
ـلِ مُضَيَّعًا وَمُضَيِّعي!
وَعَلَى الْهَوَى بَيْنَ الْمُعَا
نِدِ وَالْمُكَابِرِ وَالدَّعِي!
وَعَلَى الصِّبَا يذوي عقا
بًا لِلْغَرَامِ الْمُبْدِعِ!

•••

شِعْرِي لَدَى الْعَمِّ الْخَلِيـ
ـلِ عَزَاءُ قَلْبِي الْمُوجَعِ
عَبِّرْ لَهُ عَنْ كُلِّ آ
لَامِي وَوَجْدِي وَاسْمَعِ
وعُدْ الطيوفَ مِن المحـ
ـبةِ هامسًا في مسْمَعِي
عُدْ بَيْنَ آمَالِ الرَّبيـ
ـعِ مِن الْحَنَانِ الْممْرِعِ
فهو الْكفيلُ بِحُبِّهِ
طبًّا لِحُرْقَةِ أَضْلُعِي
أَدَبِي يَدِينُ إِلَيـ
ـهِ بَلْ قَلْبِي وَغَايَةُ مَطْمَعِي
وَقوَامُ تَفْكِيرِي الْجَدِيـ
ـدِ وَوَثْبَتِي وَتَدفُّعِي
وَلَدَيْهِ أَغْتَنِمُ الرَّبِيـ
ـعَ بِوَحْشَتِي وَتَفَجُّعِي
يَطْوِي الْفُصُولَ بِسِحْرِهِ
فَإِذَا الْخَرِيفُ مُوَدِّعِي
وَإِذَا الرَّبِيعُ أَضُمُّهُ
فِي نَشْوَةِ الْمُسْتَمْتِعِ
وَإِذَا الْحَبِيبُ كَأَنَّهُ
مَا غَابَ أَوْ هُوَ مُبْدِعِي
سِحْرٌ مِنَ الْعَهْدِ الْقَدِيـ
ـمِ بِفَنِّهِ الْمُتَرَفِّعِ
يُحْيِي الْمَوَاتَ مِنَ الْقُلُو
بِ بِلَذَّةِ الْمُتَبَرِّعِ

•••

شَتَّانَ بَيْنَ هَوًى يَجُو
دُ وَبَيْنَ حُبٍّ يَدَّعِي
شَتَّانَ بَيْنَ هَوًى بِهِ
مَجْدِي وَآخَر مَصْرَعِي!

رد أستاذي مطران

أَزْكَى تَحِيَّاتِ الْفُؤَا
دِ إِلَى الزَّكِيِّ الْأَرْوَعِ
أَهْدَى إِلَيَّ قَصِيدَةً
كَخَرِيدَةٍ لَمْ تُفْرَعِ
عمرتْ مَكَانَ الْأُنْسِ
عِنْدِي مِنْ فُؤَادٍ بَلْقَعِ
حَسْنَاءُ بَارِعَةُ الْمَعَا
نِي فِي نِظَامٍ أَبْرَعِ
تَجْلَى فَتَحْلَى أَوْ تَغِيـ
ـبُ فَحَلْيُهَا فِي الْمَسْمَعِ
مَنْ لِي بِمُنْصَرمِ الشَّبَا
بِ وَفِكْرِيَ الْمُتَوَزِّعِ
فَأجِيدُ فِي رَدِّ الثَّنَا
ءِ عَلَى الْأَخِ الْمُتَبَرِّعِ
قَصَّرْتُ فِي شَأْوِ الْبَلَا
غَةِ عَنْ تَمَادِي مَطْمَعِي
أَهْلًا بِحَامِلَةِ الْكِتَا
بِ أَمِينَةَ الْمُسْتَوْدَعِ
أَهْلًا بِنَاقِلَةِ الْبَدِيـ
ـعِ مِنَ الطِّرَازِ الْأَبْدَعِ
أَهْلًا بِصَادِحَةٍ شَجتْ
قَلْبِي وَأَجْرَتْ مَدْمَعِي
بَثَّتْ حِكَايَةَ وَجْدِهِ
بِأَنِينِهَا الْمُتَقَطِّعِ
وَشدتْ عَلَى تَوْقِيعِ سِرْ
بٍ مِنْ حَمَامٍ سجَّعِ
نَغَمُ الْمَلَائِكِ بَيْنَ مَبْدُو
ءٍ وَبَيْنَ مرجَّعِ
أَحْسَنْتِ تَأْدِيَةَ الْبَلَا
غِ عَنِ الصَّفِيِّ الْأَلْمَعِي
كَوَفَائِهِ لِيَكُنْ وَفَا
ءُ الْخِدْنِ غَيْرَ مُصَنَّعِ
وَكودِّهِ فليشرعِ الـ
ـوُدَّ النَّقِيَّ الْمَشْرَعِ
وَكَعَزْمِهِ فِي الْمَجْدِ فَلـ
يَكُ عَزْمُ كُلِّ سميذعِ
لَا خُلْقَ أَنزعُ لِلْعُلَى
بِجَمَالِ هَذَا الْمنزعِ

(٣٢) المتصرف

(كُتِبَتْ عَلَى صُورَةٍ أَهْدَاهَا الشَّاعِرُ إِلَى أَحَدِ أَوْفِيَائِهِ)

الْقَلْبُ لَا يَرْجُو دُنُوَّ مَآلِهِ
مَا دُمْتَ أَنْتَ مصرَّفًا فِي حَالِهِ
كُنْ كَيْفَ شِئْتَ مقدِّرًا لِجَلَالِهِ
وَنَعِيمِ مُهْجَتِهِ وَحَظِّ «خَيَالِهِ»
لَوْ رُمْتَ أَسْعَدْتَ الْأَسِيرَ بِأَسْرِهِ
أَوْ شِئْتَ أَذْلَلْتَ الْعَزِيزَ بِآلِهِ

(٣٣) الاستشفاء

دَعِ الرَّحِيلَ لِدَارِ الْحُبِّ وَالْغيدِ
وَاصْبِرْ عَلَى الْقيظِ فِي قَاسٍ مِنَ الْبِيدِ
فَمَدْمَعُ الْعَيْنِ مِنْ حُسْنٍ تَقَرُّ بِهِ
وَلَذَّةُ السَّمْعِ فِي أَسْرِ الْأَغَارِيدِ
يَحْلُو الْهَجِيرُ إِذَا صَحَّ الْفُؤَادُ بِهِ
عَنِ النَّسِيمِ بِتَعْذِيبٍ وَتَسْهِيدِ

(٣٤) على قبر الشهيد

وَدِدْتُكَ مَشْنُوقًا وَزُرْتُكَ مقبَرًا
وَلَسْتُ عَلَى الْحَالَيْنِ أبخسُ مِنْ قَدْرِي
وَقَفْتُ عَلَيْكَ الْيَوْمَ وَقْفَةَ عَابِدٍ
يَحُجُّ لِآيِ اللهِ يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ
وَطَأْطَأْتُ رَأْسًا لَمْ تَشَأْ خفضَةً لَهُ
يَخِرُّ لَدَى ذِكْرَى مَمَاتِكَ لَوْ تَدْرِي
إِذَا متُّ مَحْرُومًا مَدَى النُّطْقِ بِالْهُدَى
فَيَا حَسْرَةَ الْفَانِي وَآهًا عَلَى عُمْرِي
إِذَا مَسَّنِي مِنْ خَشْيَةِ الظُّلْمِ هِزَّةٌ
فَإِنِّي عَلَى الْإِحْجَامِ أَقْرَبُ لِلْكُفْرِ!

(٣٥) وَطَنِي! وَطَنِي!

وَطَنِي! وَطَنِي!
يَا ابْنَ الزَّمَنِ!
أَوَلَمْ تَدْرِ
سِرَّ الدَّهْرِ؟
هَيْهَات يَسودْ
باغٍ وَحَسُودْ
فِيمَ الْأَحْزَابْ
وَالْخلفُ خرَابْ؟
حُبٌّ وَوِئَامْ
سِرُّ الْأَيَّامْ
فَإِذَا ذَهَبَا
تَرَكا الْعطبَا!

(٣٦) الطائر الجديد

(لمناسبة اجتياز بليريو خليج المانش بنجاح باهر وانتعاش حركة الطيران)

أَيُّهَا الْإِنْسَانُ يَا ابْنَ الْأَرْضِ فِيمَا
تَشْتَهِي أَنْ تَعْتَلِي هَذَا السديمَا
لَكَ أَنْ تَسْمُوَ مَا شِئْتَ وَلَكِنْ
أَصْلِحِ الْأَرْضَ تَجِدْ فِيهَا الْمَفَاتِنْ
قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ لَهْوًا وَتَطِيرْ
عَمِّرِ الْأَرْضَ وَلَا تَنْسَ الْمَسِيرْ
كَمْ خَرَابٍ شَامِلٍ فِيهَا نَرَاهْ
أَنْتَ تُبْقِيهِ عَلَى غَيْرِ انْتِبَاهْ
عَمِّرِ الْأَرْضَ تَكُنْ فِيهَا آلهْ
إِنَّ هَذَا وَحْدَهُ مَجْدٌ وَجَاهْ
عَمِّرِ الْأَرْضَ وَعِشْ عَيْشَ أَخِيكْ
لَيْسَ فِي الْإِنْسَانِ عَبْدٌ وَمَلِيكْ
ثُمَّ طِرْ مَا شِئْتَ وَلْتَغْزُ الْجَوَاءْ
لَيْسَ لِلْأَحْلَامِ حَدٌّ وَانْتِهَاءْ!

(٣٧) مسرح الليل

مَسْرَحَ اللَّيْلِ! أَيُّ مَلْهًى عَجِيبٍ
أَنْتَ تَبْدُو لِلشَّاعِرِ الْفَنَّانِ؟
كَمْ مَرَاءٍ خَلَقْتَهَا وَهْيَ شَتَّى
مِنْ مَدِيدِ التَّنَاقُضِ الْفَتَّانِ
أَنْتَ مَلْقَى الْعُبَّادِ وَالطُّهْرِ بينا
أَنْتَ مَجْلَى التَّهَتُّكِ الْمُتَفَانِي
كُلُّ رَاءٍ يَرَى الَّذِي يَشْتَهِيهِ
وَيَذُوقُ الَّذِي يَرَى مِنْ مَعَانِي
وَالنُّجُومُ الَّتِي تُطِلُّ عَلَيْنَا
فِي حَنَانٍ وَرَعْشَةٍ وَافْتِتَانِ
بَيْنَ حُبٍّ لَنَا كَأُمٍّ رَعَتْنَا
وَالْتِيَاعٍ كَخفقِ قَلْبِ الْجَبَانِ
حَبَسَتْ دَمْعَهَا فَإِنْ بَذَلَتْهُ
فَشَآبِيبُ دَمْعِهَا النُّورَانِي
شُهُبٌ تَسْتَحِيلُ مِنْ دَمْعِهَا الصَّا
فِي إِلَى حُرْقَةٍ إِلَى صَوَّانِ
فَكَأَنَّ الْأَجْوَاءَ لِلْأَرْضِ آذَتـ
ـهَا فَحَاكَتْ طَبِيعَةَ الْإِنْسَانِ!

(٣٨) نبع الصبابة

هَذِي الْأَنَامِلُ مَنْ أَبَاحَ لِوَقْعِهَا
قَلْبِي سِوَى عَيْنَيْكِ يَا حَسْنَائِي؟
لَوْلَاهُمَا مَا كُنْتُ أَفْهَمُ وَقْعَهَا
سِحْرًا يُمِيتُ كَمَا يُعِيدُ رَجَائِي
جُودِي بِأَنْغَامِ الْحَيَاةِ وَجَدِّدِي
مَا شِئْتِ إِلْهَامًا عَلَى إِلْهَامِ
لُغَةُ الْعَوَاطِفِ تُسْتَسَاغُ كَأَنَّهَا
نَبْعُ الصَّبَابَةِ فَاضَ بِالْأَنْغَامِ
أَصْغَيْتُ كَالطِّفْلِ الرَّضِيعِ لِأُمِّهِ
وَرَشَفْتُ مِنْكِ بِمَسْمَعِيّ حَيَاتِي
ونعمتُ قُرْبَكِ فِي صَلاةٍ حرةٍ
للْفَنِّ لَمْ تُقْرَنْ بِأيّ صَلَاةِ!

(٣٩) لِمَ يَحْجُبُونَكِ؟

يَا «زَيْنَ» دُنْيَايَ الَّتِي مَا نَالَنِي
مِنْهَا سِوَى قَلَقِي عَلَى حِرْمَانِي؟
لِمَ يَحْجُبُونَكِ؟ هَلْ أَثِمْتُ بِكُلِّ مَا
أَعْطَيْتُ حُسْنَكِ مِنْ جَمَالِ بَيَانِي
هَلْ لِي سِوَى دِينِ الطَّهَارَةِ مِلَّةٌ
أَوْ لِي سِوَاكِ حمَايَ أَوْ دَيَّانِي؟
فَإِذَا حُجِبْتِ فَمَنْ أَخُصُّ بِمُهْجَتِي؟
وَلِمَنْ أَعِيشُ؟ وَمَنْ لَهُ وِجْدَانِي؟

(٤٠) عبادات

مَا لِعَيْنِي كُلَّمَا أَلْقَاكِ بِالْفَرْحَةِ تَدْمَعْ؟
أَهِيَ لِي الْفَرْحَةُ أَمْ خَشْيَةُ حُلْمٍ يَتَصَدَّعْ؟
بِي رَجَاءٌ لَيْسَ يَخْبُو وَرَجَاءٌ لَيْسَ يَلْمَعْ
وَأَنَا كَالتَّائِهِ الْعَانِي إِلَى الْأَوْهَامِ أَفْزَعْ
هَاكَ قَلْبِي يَا حَيَاتِي! نَبِّئِيهِ كَيْفَ يَصْنَعْ!
هُوَ فِي الْقُرْبِ بَعِيدٌ عَنْكِ يَهْفُو ثُمَّ يَجْزَعْ
آهِ كَمْ يَجْنِي حَيَائِي! آهِ مِنْ شَوْقٍ مُضَيَّعْ!
كَمْ تَلَاشَتْ قُبُلَاتِي فِي غَرَامٍ يَتَوَرَّعْ!
قُبُلَاتِي فِي امْتِنَاعٍ هُوَ بَعْثٌ لِي وَمَصْرَعْ
وَحَيَاءٌ هُوَ تَسْلِيمِي بِعَقْلٍ لَيْسَ يَخْضَعْ
وَعِبَادَاتٌ تَنَاهَتْ وَأَبَتْ لِي كُلَّ مَطْمَعْ!

(٤١) موسيقى الوجود

(نظمها صاحب الديوان متأثرًا بقصيدة للشاعر جبرائيل سيتون)

حَدَّثُونِي عَنِ الْوُجُودِ الْمغنِّي:
كُلُّ مَا فِيهِ صَادِحٌ يَتَغَنَّى
مِنْ جَمَادٍ وَمِنْ نَبَاتٍ وَأَحْيَا
ءَ، فَلَيْسَ الْغنَاءُ مِنْهُنَّ يَفْنَى
وَعَجِيبٌ إِذَا تَنَاءَيْتِ عَنِّي
لَمْ أَجِدْ لِلْغنَاءِ فِيهِنَّ مَعْنَى
وَإِذَا مَا ظفرْتُ مِنْكِ بِأُنْسِي
صَارَ هَذَا الْوُجُودُ لَحْنًا وَفَنَّا!

(٤٢) بَاقَةُ أَنْغَامٍ

إِذَا اسْتَمَعْتُ إِلَيْكِ
فُتِنْتُ مِنْ تَوْقِيعِكْ
كَأَنَّ سَمْعِي لَدَيْكِ
عَيْنِي بِمَجْلى رَبِيعِكْ
أُصْغِي إِلَى هَذِهِ الْأَلْحَانِ زَاهِيَةً
كَأَنَّهَا نُخَبُ الْأَزْهَارِ لِلْعَيْنِ
فَكُلُّ لَحْنٍ لَهُ لَوْنٌ يُضِيءُ بِهِ
وَجَمْعُهَا بَاقَةٌ مِنْ زَهْرِكَ الْفَنِّي
وَكُلُّ لَحْنٍ لَهُ عِطْرٌ يَفُوحُ بِهِ
وَإِنْ تَخَيَّلَهُ غَيْرِي مِنَ الظَّنِّ
وَأَنْتِ كَوْنِي، وَكَوْنِي فِي حَقِيقَتِهِ
جَمُّ الْمَعَانِي الَّتِي غَابَتْ عَنِ الْكَوْنِ
إِذَا اسْتَمَعْتُ إِلَيْكِ
فُتِنْتُ مِنْ تَوْقِيعِكْ
كَأَنَّ سَمْعِي لَدَيْكِ
عَيْنِي بِمَجْلَى رَبِيعِكْ

(٤٣) الإكسير

هُوَ سَاعَةٌ الدَّهْرُ يَأْبَى مَنْحَهَا
إِلَّا بِتَوْقِيتٍ لَهُ وَقُيُودِ
قَدْ عُدْتُ يَا أَمَلِي إِلَيْكِ فَجَدِّدِي
عُمرِي بِنَفْحَةِ رُوحِكِ الْمَعْبُودِ
أَلْقَاكِ لُقْيَا خَاشِعٍ مُتَعَبِّدٍ
وَالْقَلْبُ يَخْفقُ لِلْعنَاقِ سَؤُولَا
فَيَصدُّنِي هَذَا الْخُشُوعُ كَأَنَّنِي
أَجِدُ الْعِبَادَةَ أَنْ أَعِيشَ خَجُولَا!
ضَيَّعْتُ أَحْلَامِي وَسِنِّي هَكَذَا
فِي الشَّوْقِ وَالتَّعْذِيبِ وَالْحِرْمَانِ
أَنَا لَا أَلُومُكِ يَا حَيَاتِي بَلْ أَرَى
حَظِّي كَحَظِّ الْحَارِسِ الْبُسْتَانِي
فَأَنَا الْأَمِينُ عَلَيْكِ غَيْرُ مُحَاسَبٍ
إِلَّا مُحَاسَبَةَ الضَّمِيرِ الْقَاسِي
فَإِذَا لَحظْتُكِ كَالْغَرِيبِ فَإِنَّمَا
أَنَا وَحْدِيَ الْقُرْبَانُ دُونَ النَّاسِ
هَذَا هُوَ الْأُسْبُوعُ مَرَّ وَهَا أَنَا
قَدْ عُدْتُ فَرْحَانًا إِلَى إِكْسِيرِي
مُتَنَاوِلًا فِي الْوَهْمِ كَأْسَ رَحِيقِهِ
مِنْ صَمْتِنَا الْمُغْنِي عَنِ التَّعْبِيرِ!

(٤٤) الخالق الفنان

تَبَارَكَ رَبِّي مُبْدِعًا وَمُصَوِّرًا
لَقَدْ خَلَقَ الْآيَاتِ كَالسِّحْرِ لِلْوَرَى
يَرَاهَا الْفَتَى لَكنْ كَأَنَّ الَّذِي يَرَى
خَيَالٌ وَخَلْفَ الْكَوْنِ كَوْنٌ تَسَتَّرَا
وَمَا عَظَّمَ الْخَلاقَ إِلَّا احْتِجَابُهُ
فَسُبْحَانَهُ يَبْدُو وَيَخْفَى مكرَّرَا
وَمَا شَاقَنِي فِي الْكَوْنِ إِلَّا خَفِيُّهُ
فَإِنَّ وَرَاءَ الْكَوْنِ عَقْلًا مُدَبِّرَا
يَعَافُ نُهَى الْفَنَّانِ إِعْلَانَ ذَاتِهِ
وَيُعْلِنُ عَنْهُ الْفَنُّ أَضْعَافَ مَا يُرَى
كَذَلِكَ خَلَّاقُ الْوُجُودِ فَإِنَّهُ
تَحَجَّبَ وَاسْتَهْوَى بِهِ عَقْلَ مَنْ دَرَى
فَهَذَا هُوَ الْفَنُّ الْإِلَهِيُّ لِلَّذِي
يَرَى الْفَنَّ وَالْفَنَّانَ فِي النَّجْمِ وَالثَّرَى
وَهَذَا هُوَ الْمَجْلَى الْعَجِيبُ لِمُبْصِرٍ
يَرَى الْخَالِقَ الْفَنَّانَ عَيْنًا وَمُضْمَرَا

•••

وَكَوَّنتِ أَنْتِ الْحُبَّ لِي عَالَمًا كَمَا
تَحَجَّبْتِ كَالْخَلَّاقِ إِذْ بَاعَدَ الْوَرَى!

(٤٥) بنات الخريف

هَلُمِّي! هَلُمِّي! بَنَاتِ الْخَرِيفْ
وَطُوفِي وَطُوفِي بِهَذَا الْحَفِيفْ!
نَرَاكِ بِأَوْهَامِنَا جَائِلَهْ
كَبَاحِثَةٍ عَنْ تُرَاثٍ فَقِيدْ
وَقَدْ حُرِمَتْ مِنْهُ فِي يَوْمِ عِيدْ
فَتَمْضِي بِلَهْفَتِهَا سَائِلَهْ!

•••

نَرَاكِ تَطُوفِينَ وَلْهَى شَرِيدَهْ
تَهزِّينَ حَتَّى الْغُصُونَ الْوَحِيدَهْ
وَتذْرِينَ حَتَّى الرِّيَاحَ الَّتِي
تَظُنِّينَ فِيهَا خَفَايَا الْجَمَالْ
وَقَدْ حَجَبَتْهَا أَيَادِي اللَّيَالْ
فَهَلْ تَنْتَهِينَ إِلَى غَايَةِ؟

(٤٦) الساعة

نِمْنَا جَمِيعًا وَأَنْتِ يَقْظَانَهْ
وَقَدْ غَفَلْنَا وَلَسْتِ غَفْلَانَهْ
بَلْ كُلُّنَا فِيهِ روحُ غَفْلَتِهِ
كَفَيْلَسُوفٍ يَعَافُ إِنْسَانَهْ
كَمْ دَقَّةٍ مِنْكِ جَدُّ مُنْذِرَةٍ
فَمَا انْتَفَعْنَا وَدُمْتِ لَهْفَانَهْ!

(٤٧) الوساوس

هَلْ فِي الْهَوَاءِ مِنَ الْحَدِيثِ مُحَجَّبٌ
إِلَّا عَنِ الْفَنَّانِ بَيْنَ النَّاسِ؟
مَا لِي أحسُّ بِهَاتِفٍ وَبِهَاتِفٍ
وَبِعَوَالِمٍ شَتَّى مِنَ الْإِحْسَاسِ؟
مُلِئَ الْفَضَاءُ بِهَا وَكَمْ فِي طَيِّهَا
صُوَرٌ مِنَ الْمَاضِي الْعَزِيزِ الْفَانِي
فَكَأَنَّهَا كُلُّ الَّذِي ظفرَ الْوَرَى
بِالْخُلْدِ بَيْنَ مَشَاعِرِ الْإِنْسَانِ!

(٤٨) الطائر الرقيب

رَقِيبٌ وَلَكِنْ يُغَنِّي لَنَا
وَيُعْطِي الْحَدِيقَةَ مَعْنَى الْغِنَى
لَعَلَّ الرَّبِيعَ وَقَدْ فَاتَنَا
أَهَابَ بِهِ لِيُرِيَهُ لَنَا!
نُتَابِعُهُ فِي حُبُورِ الصِّبَا
وَنُصْغِي إِلَى الشَّدْوِ مُسْتَعْذَبَا
فَيَا مَرْحَبًا ثُمَّ يَا مَرْحَبَا
بِهَذَا الرَّقِيبِ وَمَا حَبَّبَا!
وَيَا طَائِرِي أَنْتَ يَا طَائِرِي
بسمتَ إِلَى روحِيَ الشَّاعِرِ
وَأَصْغَيْتَ لِلشَّاعِرِ الطَّائِرِ
فَهَلَّا أصختَ إِلَى خَاطِرِي؟
إِذَنْ لَعَرَفْتَ غَرَامِي الدَّفِينْ
وَمَا لجَّ بِي مِنْ جَوًى أَوْ حَنِينْ
وَحُبِّي الَّذِي مثلَ حَيِّ الْغُصُونْ
تَفَرَّعَ، بَلْ مثلَ حَيِّ الْفُنُونْ!

(٤٩) وحي المطر

أَنَا ظَامِئٌ وَالْكُلُّ حَوْلِي ظَامِئٌ
فتقطَّرِي يَا سُحْبُ كَيْفَ حننتِ
هَذِي الْغُصُونُ تَنَاوَلَتْ مَا خصَّهَا
وَلَبثتُ فِي ظَمَئِي لِوَحْيِكِ أَنْتِ
تَتَسَاقَطُ الْقطرَاتُ مِنْ يَدِ زَهْرَةٍ
لِيَدٍ، لِأُخْرَى، وَالْجَمِيعُ سكَارَى
وَأَنَا الْوَحِيدُ فَأَيْنَ أَيْنَ حَبِيبَتِي
حَتَّى تَرُدَّ جَوًى وَتُطْفِئُ نَارَا؟
هَلَّا بعثتِ إِلى دفين شُعُورِهَا
بِرِسَالَةِ الْحُبِّ الْوَفِيِّ الْبَاكِي
فَلَعَلَّهَا تَأْتِي وَتَنْثُرُ عَطْفَهَا
كَالْقطرِ فَوْقَ الزَّهْرِ وَالْأَشْوَاكِ!

(٥٠) القطة اليتيمة

جَلَسْتِ قُرْبِي كَأَنَّ قُرْبِي
عَزَاءُ إِحْسَاسِكِ الْيَتِيمْ
وَكَمْ تَأَلَّمْتُ فِي حُنُوِّي
عَلَيْكِ فِي صَمْتِكِ الْأَلِيمْ
فَقَدْتِ أُمًّا وَمَا فَقَدْنَا
لَكِنَّ فِي عُزْلَتِي افْتِقَادْ!
كَأَنَّنِي ثَاكِلٌ شَبَابِي
وَسَائِدُ الصَّمْتِ مِنْ حدَادْ
أَحْبَبْتُ فِي وَحْدَتِي عَزَاءً
مُذْ لَمْ أَنَلْهُ مِنَ الْجَمَالْ
قَدْ أَسْرَفَ الْحُسْنُ كِبْرِيَاءً
أَوْ برُّهُ يُشْبِهُ الْمُحَالْ
فَلْتَغْنَمِي أَنْتِ مِنْ حَنَانِي
مَا شِئْتِ يَا طِفْلَةَ الْغَرَامْ
فَالْحُبُّ جَانٍ وَأَيُّ جَانِ
وَالْحُبُّ كَمْ يَتَّمَ الْأَنَامْ
١  راحلًا من هذا العالم. يشير إلى مرض سابق.
٢  ثنى: طوى.
٣  المرير: العزم.
٤  أي يقدمه إليك.
٥  حزني.
٦  اهتمامي.
٧  أرسلت إليه لمناسبة ظهور ديوانه (وطنيتي)، وقد صودر فيما بعد.
٨  يريد أخطأ كلانا في تعيين الموعد فلم نتلاقَ.
٩  مرادف الميكرسكوب.
١٠  مجهري: ميكرسكوبي.
١١  المخبر: المعمل العلمي الاختباري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤