الفصل الأول

أنثروبولوجيا السحر

شكَّلت النماذج التطورية أساس الفكر العلمي الاجتماعي المبكر في القرن التاسع عشر؛ فإبَّان تحول أوروبا إلى التصنيع في عصر التنوير، كان النقاش يركز على المكانة التاريخية للدين في تطور المجتمع. وقد رسم الفيلسوف الألماني جي دبليو إف هيجل (١٧٧٠–١٨٣١) مسارًا جديدًا لفهم التجربة الدينية العالمية في سلسلة من المحاضرات التي تناولت فلسفة الدين، نُشرت بعد وفاته عام ١٨٣٢. وكان من بين النقاط ذات الصلة بموضوعنا أنه نسب القدْر نفسه من الأهمية لفهم كيف شكَّلت الثقافة الفكر اللاهوتي، ولفهم كيف شكَّل الدين العقل. لم يكن هيجل مهتمًّا بالسحر في حد ذاته، لكنه خصص له موقعًا في المرحلة الأولى من مراحل الدين الثلاث التي ابتكرها. وقد كانت تلك المراحل الثلاث كما يلي: الأديان التي كانت فيها الطبيعة مشبعة بالأرواح، وأديان الآلهة الممجدة الفردية فوق الدنيوية، وأخيرًا المسيحية التي اعتبرها مزيجًا «بارعًا» من المرحلتين الأخريين؛ ومن ثم، كان السحر «أقدم أشكال الدين، وأكثرها بدائية وبساطة»، والذي قال هيجل عنه إنه لا يزال موجودًا بين شعوب معينة، مثل شعب الإسكيمو.

قد يبدو من غير المحتمل أن يرد ذكر عالم السياسة الثوري كارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣) في دراسة عن السحر. وهو لم يدرس قضية السحر على وجه التحديد، لكنَّ آراءه المعروفة عن الدين ذات صلة بهذا السياق، ويمكن إيجازها في عبارتيه الشهيرتين: «الإنسان هو الذي يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان.» و«الدين أفيون الشعوب.» ورغم أن ماركس الملحد كان على دراية كبيرة بفكر هيجل وناقدًا له في الوقت نفسه، إلا أنه كان متفقًا مع فكرة أن أقدم أشكال الدين ارتبطت بعبادة الطبيعة، أو ما سيطلق عليه لاحقًا المذهب «الإحيائي». مرة أخرى، كان هذا هو المنبع الذي يضرب فيه السحر بجذوره. على الجانب الآخر من التطور المجتمعي تقع الشيوعية، وهي الحد الذي يختفي عنده الدين، وقطعًا لن يكون للسحر مكان.

كان التنظير في النصف الأول من القرن معنيًّا ﺑ «مراحل» تطور تشبه المفهوم الجيولوجي المتمثل في تقسيم طبقات الأرض. ثم شهد النقاش تحوُّلًا بعد نشر تشارلز داروين كتابه «أصل الأنواع» عام ١٨٥٩؛ فقد بات نموذج التطور البيولوجي ومصطلحاته يطبقان على التطورين الاجتماعي والثقافي. وإبان ذلك، احتلت فئة السحر مكانًا أكثر أهمية، ودخل «العلم» الخطة باعتباره نموذج التطور البشري. لم يكن هذا يعني أن تعريفات السحر ستصبح أكثر وضوحًا، بل على العكس، ازداد فهم السحر تشوشًا.

كان العلَّامة والمُنظِّر الاجتماعي البريطاني هربرت سبنسر (١٨٢٠–١٩٠٣) أول من نشر نموذجًا تطوريًّا اجتماعيًّا صور فيه السحر على أنه يحدد نموذجًا بدائيًّا للدين يقوم على العلاقات المتجانسة وعبادة الأسلاف، ولكنه — كممارسة — قابِل للتكيف مع تطور الدين، بحيث يستطيع الدين والسحر التعايش معًا. لكن منافسه إدوارد بيرنت تايلور (١٨٣٢–١٩١٧) هو الذي أثار مخيلة الدارسين — بصفته أول أستاذ في علم الأنثروبولوجيا في جامعة أكسفورد — وأكد كون السحر موضوعًا رئيسيًّا في بحوث الأنثروبولوجيا؛ فقد وضع في كتابه المنشور في مجلدَين «الثقافة البدائية» (١٨٧١)، نموذجًا يذهب إلى أن الحالة الإنسانية كانت عالمية، لكنها تطورت بمعدلات مختلفة. وعلى حد قوله، فإن «الفكر الهمجي» يمكنه أن يتواجد في المجتمع المتحضر الحديث، بل وتواجد بالفعل.

ويرى تايلور أن السحر كان موجودًا في بادئ الأمر باعتباره تعبيرًا عن فكرة «الإحيائية»، التي ترى أن الأشياء — وكذلك البشر — لها أرواح أو جوهر روحاني. وكان الفكر الإحيائي والسحر سمة للشعوب «التي تحتل مراتب دنيا على مقياس الإنسانية»، ثم تطور الدين كفئة مستقلة من مفهوم الروح البشرية، ثم كانت الخطوة التطورية التالية هي التحول من الشرك إلى التوحيد؛ وهذا النموذج يضاهي نموذج هيجل. وقد صاغ تايلور مصطلح «الباقيات» للتعبير عن عناصر الثقافة البدائية التي استطاعت البقاء على قيد الحياة في العالم المعاصر، والتي أتاحت دراستها رصد التطور التبايني للمجتمعات. بعبارة أخرى، لم يكن الأمر مسألة إعادة بناء متطلعة نحو الماضي. والأدلة على حدوث عملية التطور منتشرة من حولنا في عادات «القبائل البدائية» والفلاحين الأوروبيين، تمامًا مثلما عثر داروين على أدلة لها في عالم الحيوان.

صك تايلور أيضًا مصطلح «العلم الزائف» لوصف السحر. وكان يعني بهذا أن السحر — على غرار العلم — يفسر العلاقة السببية بين الأشياء ويستغلها. لكنه علم فاسد؛ لأن افتراضاته وتفسيراته البدائية حول السبب والنتيجة كانت دائمًا خاطئة. لم تكن أجندة تايلور مجرد أجندة باحث علمي متجرد؛ لأنه كان يؤمن أن الأنثروبولوجيا ينبغي أن تكون لها أجندة إصلاحية واضحة. وفي حين أنه لم يكن مدافعًا عن الدين المنظم، فإنه وجَّه هجومه في المقام الأول إلى السحر، الذي وصفه بأنه «توليفة وحشية»، و«أحد أخبث الأوهام التي حيرت الجنس البشري.» وقد شبَّه الثقافات البدائية بالأطفال لأنها تحتاج مثلهم إلى توجيه كي ترتقيَ إلى مرحلة أعلى من الفكر.

أحدثت وجهات نظر تايلور تأثيرًا هائلًا، لكن أستاذ علم الأنثروبولوجيا بجامعة كامبريدج جيمس فريزر (١٨٥٤–١٩٤١) هو الذي قدم النموذج التطوري لنطاق أوسع من الجمهور؛ فقد ترك فريزر — الذي صرح بأنه استلهم عمله من أعمال تايلور — بصمته الخاصة على النظرية؛ فقد وضع في مرجعه الكلاسيكي المؤلف من ثلاثة عشر مجلدًا «الغصن الذهبي» (١٨٩٠–١٩١٥) نموذجًا واضحًا من ثلاث مراحل للتطور الفكري الإنساني: من السحر إلى الدين إلى العلم. وجميع المجتمعات تحقق التقدم في نهاية المطاف عبر هذه المراحل الثلاث. وكان فريزر أيضًا أكثر وضوحًا من تايلور في التمييز بين السحر والدين، وقال بأن السحر جاء قبل الدين، وأن الدين — الذي عرَّفه بأنه «إيمان بقوًى أعلى من قدرة البشر، ومحاولة لاسترضائها أو استعطافها» — يتعارض عمومًا مع السحر الذي يفترض أن السيطرة للبشر. لكن الدين نشأ عن إدراك أن السحر قد فشل. وبقوله هذا نفهم أنه تقبل أن «ممارسات» السحر لا تتعارض مع «الأفكار» الدينية. وقد وسع فريزر نطاق المقارنة بين السحر والعلم؛ فالسحر بمنزلة «أخت غير شرعية للعلم»، قائم على قانونين مغلوطين: أولهما قانون العدوى؛ أي إن الأشياء التي كانت في وقتٍ ما على اتصال مع بعضها تظل تربطها علاقة حتى لو فصلت بينها المسافات. أما الثاني فهو قانون التشابه، الذي يذهب إلى أن النتائج تشبه مسبباتها. لكن إذا ما ثبت يومًا أن السحر صحيح وفعال، «فهو ليس سحرًا إذنْ، وإنما علم».

النقاد

ربما شكَّل النموذج التطوري الثقافي حجر الأساس بالنسبة لبدايات علم الأنثروبولوجيا، لكن الوزن الهائل لمواد المقارنة التي راكمها تايلور وفريزر لم يتمكن من إخفاء الطبيعة التبسيطية السطحية للنظرية الأساسية؛ فكان من السهل تقويض التعريفات التي استندت إليها. ففي مقال عن «السحر والدين» سفَّه أندرو لانج — وهو ناقد حاد الملاحظة وشرس للنظريات المتعلقة بالقوى الخارقة للطبيعة — رؤية فريزر بأن الدين تطور من فشل السحر. وقد فعل ذلك عن طريق هدم تفسير فريزر للتقارير الإثنوغرافية، والذي افترض غياب الدين بين سكان أستراليا الأصليين.

تدفق نقد آخر أكثر قوة من قلم عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (١٨٥٨–١٩١٧) الذي رفض في كتابه «أشكال أولية للحياة الدينية» (١٩١٢) وفي غيره من أعماله فكرة تعريف الدين من منظور ينحصر في نطاق الآلهة والكيانات الروحية؛ وبهذا أطاح في وقت واحد بتعريفَي تايلور وفريزر للسحر. وبدلًا من ذلك، رأى دوركايم أن الدين «نظام موحد من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأمور مقدسة.» لكنه لم يتكبد عناء تقديم تعريف واضح يحدد ما يقصده بصفة «مقدسة»، عدا أنه قال إنها «عكس مدنسة»، الأمر الذي أتاح مجالًا واسعًا للجدل حول رأيه فيما بعد. ومن منظور دوركايم، كان الدين يتسم بالاندماج الاجتماعي وتشارك القيم والخبرات، وأن الكنائس تعبير عن المجتمع. ومن ناحية أخرى، يهتم السحر بالمعاملات بين الأفراد. وبصفته نموذجًا من نماذج الاعتقاد، فإن السحر لا يلعب أي وظيفة في التلاحم الاجتماعي، وبصفته ممارسة، فإنه كان يهتم بتقديم خدمة لزبائن؛ فيقول دوركايم: «السحر لا كنيسة له.» صحيح أن السحر والدين تجمعهما معتقدات وطقوس وعقائد متشابهة، لكن اختلاف وظيفة كلٍّ منهما الاجتماعية هو الذي فرَّق بينهما.

وبينما تعامل دوركايم مع السحر على اعتبار أنه جزء ملحق برؤيته الاجتماعية للدين، تعامل ابن أخته مارسيل موس (١٨٧٢–١٩٥٠) مع السحر تعاملًا مباشرًا؛ ففي كتابه «نظرية عامة عن السحر» (١٩٠٢-١٩٠٣) اتخذ موس من تعريف خاله للسحر بأنه نشاط خاص، وللدين بأنه نشاط جماعي نقطةَ انطلاق، ثم تناول بالفحص جوانب من الطقوس المقدسة التي تمارسها مجتمعات مختلفة وخلص إلى أن «الطقس السحري هو ذلك الذي لا يلعب أي دور في طائفة منظمة، لأنه شخصي وسري وغامض.» حتى هذا الحد لا فرق بين رؤيتَي موس ودوركايم، لكن الأول لم يرَ اختلافًا جوهريًّا بين الدين والسحر، وكان شخصيًّا يفضل الحقائق على النظريات، وذهب إلى أن الطقوس السحرية والدينية قد تؤدَّى من قِبل شخصيات مختلفة في ثقافات عديدة، لكنْ كلاهما غالبًا ما يكون قائمًا على المفاهيم نفسها؛ فهناك أنواع من السحر ارتبطت بالابتهال إلى الآلهة وبالدين، وهناك طقوس مثل طقس استنزال المطر مثلًا تؤدَّى جماعيًّا وفي مساحات مفتوحة. ويمكن استخدام النصوص الدينية والصلوات في أغراض سحرية. وكانت بعض جوانب الدين قائمة على التعاطف من منظور فريزر، وهذا على عكس السحر الذي لم يكن قائمًا على التعاطف أو على العدوى؛ ومن ثَمَّ، فضَّل موس أن يستخدم مصطلح «السحر الديني» في كثير من الحالات. وقد انتشر المصطلح على نطاق واسع منذ ذلك الحين، وذلك — جزئيًّا — بغرض تجنب أي جدال، الأمر الذي كان خيارًا حكيمًا في أغلب الأحيان.

ذهب موس إلى أن الدافع الديني تطور قبل السحر؛ فقد كان الدين أحد أشكال التعبير عن المجتمع، ثم نشأ السحر عندما قرر الأفراد اتخاذ الطقوس والمفاهيم المرتبطة بالقدسية وملاءمتها لأنفسهم. وقد خلص العالم الإثنولوجي الألماني اليسوعي فيلهلم شميدت (١٨٦٨–١٩٥٤) إلى استنتاج مماثل، لكن من اتجاه فكري مختلف. فقد ذهب شميدت إلى أن أكثر أشكال الدين بدائية كان في حقيقة الأمر توحيديًّا، وهو ما يعني قلب مفهومَي سبنسر وتايلور عن التطور من الإحيائية إلى التوحيد رأسًا على عقب. وقال بأن العبادة الأولى لإله أعلى — والتي قال إنها لا تزال ظاهرة بين سلالة الأقزام «البيجمي» في الكونغو — قد تدهورت إلى السحر والشرك والإحيائية قبل أن تتخذ شكلًا حضاريًّا حديثًا؛ ومن ثَمَّ فإن السحر شكل منحط من الدين. ومع ذلك أبقى نموذج شميدت على الفكرة القائلة بأن السحر والتوحيد لم يتحركا على نفس المستوى التطوري.

ثَمَّةَ نهج فكري آخر له أصول في هذه النقاشات الأولى، لكنه صار كامل التحديد من الناحية النظرية بعد مرور عقود، تمثل في فكرة تقول بأن السحر والدين يمكن فهمهما باعتبارهما بنيتين رمزيتين فضلًا عن كونهما أداتين ثقافيتين أو مرحلتين فكريتين. وقد ركز خبير الفولكلور الفرنسي الألماني أرنولد فان جينيب (١٨٧٣–١٩٥٧) الذي تأثر بنظرية فريزر، على رمزية الطقوس المرتبطة بمراحل حياة الفرد البيولوجية — كطقوس الولادة والوفاة — عبر الثقافات والزمن باعتبارها مدخلًا لاستكشاف العلاقات بين السحر والدين. وخلص في كتابه «الطقوس الانتقالية» (١٩٠٨) إلى أن الدين والسحر تعايشا جنبًا إلى جنب، معرِّفًا السحر بأنه عمل شعائري؛ أي تقنيات ممارسة الدين. وعندما فحص بمزيد من العمق في بنية مجموعة متنوعة من الطقوس من جميع أنحاء العالم، حدد أهمية ما تنطوي عليه من معنًى رمزي. فالطقوس قائمة على «نقاط التحول في الحياة» أو العتبات الاجتماعية، بمعنى انتقال الفرد من حالة اجتماعية إلى أخرى؛ ومن ثَمَّ، فإن ممارسة الختان مثلًا لدى سن البلوغ ترمز للانفصال عن مرحلة الطفولة. كان جينيب هو الذي صك مصطلح «العتبية» المستخدم الآن على نطاق واسع لوصف هذه العتبات المقدسة في المكان والزمان، والتي كانت ترمز إلى الحدود الروحية والاجتماعية وإلى عبور هذه الحدود.

وقد شجع النهج الرمزي الذي انتهجه جينيب وغيره — إلى جانب المناهج السيكولوجية التي سنناقشها في الفصل التالي — الدارسين على استكشاف المعنى الرمزي من السحر من حيث بنيته، وتمثيله الاجتماعي، وما يرتبط به من طقوس. وهذا بدوره أدخل إلى المعادلة عامل النوع أو الجنس.

وكما استكشفت ماري دوجلاس في كتابها «الطهارة والخطر» (١٩٦٦)، فإن مفاهيم الدنس الجسدي ثرية بالرمزية، وغالبًا ما ترتبط بجنس بعينه. وإن فتحات الجسم تشكل حدودًا ذات أهمية «عتبية» اجتماعية؛ فهي تؤدي إلى حدوث تسربات وتلوث. فهناك العديد من الممارسات السحرية في جميع أنحاء العالم معنية بدم الحيض مثلًا. وثَمَّةَ إفرازات أخرى مثل: حليب الثدي واللعاب والبول لها أهمية سحرية. ويلجأ الناس لطقوس التطهير لاستعادة الطهارة الجسدية وإحداث التواؤم في العلاقات الاجتماعية.

ويجد التفسير الرمزي أيضًا تعبيرًا له في اللغة؛ ففي عام ١٩٣٠، حدث أن استمع لودفيج فيتجنشتاين (١٨٨٩–١٩٥١) — أستاذ الفلسفة بجامعة كامبريدج — إلى قراءة أجزاء من «الغصن الذهبي» لفريزر. وفي العام التالي، كتب بعض الملاحظات على أفكار فريزر. لم تظهر هذه الملاحظات مطبوعة إلا في كتابه «تحقيقات فلسفية» الذي نُشر بعد وفاته (١٩٥٣) ولو أن بعض الملاحظات الافتتاحية حُذفت من الطبعة الأولى. وتبدأ كما يلي:

أعتقد أن الصواب هو أن أبدأ كتابي بملاحظات عن الميتافيزيقا (علم ما وراء الطبيعة) باعتبارها لونًا من السحر. لكنني في هذا يجب ألا أدافع عن السحر أو أستهزئ به؛ فما هو غامض بشأن السحر سيظل خافيًا.

وكما يتضح من هذا الاقتباس، كان فيتجنشتاين ينتقد فكرة أن السحر علم زائف ومرحلة بدائية من مراحل التطور. كان السحر مثار اهتمامه لأنه نوع من أنواع «التعبير»، ولغة رمزية «تعطي الأمنية صورة تمثلها، وتعبر عنها». وعلى هذا الأساس، تنهار فئات الفكر الحديث والبدائي.

إن ما تتسم به ملاحظات فيتجنشتاين من إيجاز وغموض تشير إلى أن معنى «الملاحظات على الغصن الذهبي لفريزر» مثار جدل فلسفي لا ينتهي. على صعيد الأنثروبولوجيا، كان أكثر تناول واضح ونافذ البصيرة لتعليقات فيتجنشتاين هو تناول ستانلي تامبيا (المولود عام ١٩٢٩). انطلق تامبيا من أساس أن «الأعمال السحرية هي أعمال شعائرية» وليست علمًا تطبيقيًّا، ثم قادته قراءته للفلسفة اللغوية إلى صياغة السحر على أنه ليس علمًا سيئًا، وإنما فنًّا بلاغيًّا؛ فهو مزيج من الكلام والأداء والذي — بمجرد تأديته — يحدث تغيرًا في الحالة. والسحر يؤتي مفعوله المنشود في الوقت الذي يقول فيه الساحر إنه سيؤتي مفعوله، على الأقل إذا كان الأداء قد تم بصورة صحيحة. وهكذا، فإن الساحر — الذي يمارس أحد الطقوس السحرية بلغة مقاطعة كورنوال لعلاج «القوباء» — حينما يختتم علاجه الطقسي بأن ينطق آمرًا: «اهلكي أيتها القوباء، واذهبي بلا رجعة.» يكون السحر قد حدث؛ أي وقع الفعل؛ ومن ثَمَّ، فإن الكلمات لا تكون مجرد كلمات.

النزول من برج النظرية العاجي

كانت الأنثروبولوجيا أكثر فروع المعرفة تناولًا لمفهوم السحر. في الواقع، كان السحر هو جوهر هذا الفرع الجديد من فروع المعرفة وهو الذي شكل تطوره. في بادئ الأمر، كان علم الأنثروبولوجيا مهتمًّا باستكشاف جذور البشر، لكنه خلال القرن العشرين بدأ يركز أكثر فأكثر على الحاضر. وتفرع إلى عدة مسارات، ترسم بالتفصيل خريطة السلوك الاجتماعي والثقافي والطبي والبيولوجي. وصارت النظريات الكبرى الخاصة بالسحر والدين محل هجوم، أو على الأقل تعديل جذري بمجرد أن راح علماء الأنثروبولوجيا يُخضعونها للفحص والتدقيق من خلال دراسة «الحضارات البدائية» التي أشار كلٌّ من تايلور وفريزر إلى عاداتها كما وصلتهما من المؤرخين الأوائل. في هذه العملية، طرح الباحثون الجوانب العنصرية والازدرائية التي ميزت النظريات التطورية الثقافية. وما عادوا يُسلِّمون دون جدال بحقيقة أن السحر شكل «بدائي»، وأثَر باقٍ مناقض للدين والعلم «الحقيقيين». كما قدم علم الأنثروبولوجيا أيضًا مفردات ومصطلحات جديدة مثل: «الخير المحدود» و«الرؤية الكونية السحرية» في محاولة لتفسير السبب في «نجاح» السحر مع الناس.

عندما ارتحل علماء الأنثروبولوجيا الأوائل في جميع أنحاء العالم لدراسة النظم العقائدية والوظائف الاجتماعية وطقوس الثقافات الأخرى، كانوا يعملون على أساس أنه كلما ابتعدوا عن الحضارة الغربية جغرافيًّا وتقنيًّا، اكتشفوا المزيد عن أصول الإنسان؛ فكلما زادت القبيلة التي يذهبون إليها بعدًا وغرابة، زادت قيمة المعلومات التي يقدمها ذلك المصدر. وهكذا فقد كانوا يختبرون النموذج التطوري في ميدانه الأصلي على أرض الواقع.

كان عالم الأنثروبولوجيا البريطاني الجنسية البولندي المولد برونيسلاف مالينوفسكي (١٨٨٤–١٩٤٢) رائدًا في هذا النوع من الأنثروبولوجيا الميدانية. وكان عمله الميداني في منطقتَي المحيط الهادي وأفريقيا هو الذي شكل أساس المدرسة الوظيفية للأنثروبولوجيا الاجتماعية التي رأت أن الثقافة تطورت لخدمة غرض اجتماعي. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، كان مالينوفسكي في أستراليا في بعثة استكشافية لغينيا الجديدة. ونظرًا لأنه كان من مواطني الامبراطورية النمساوية المجرية؛ فقد تعرض للاعتقال، لكنه نجح — من خلال نفوذه — في أن يشق طريقه إلى جزر «تروبرياند» (جزر كيريوينا اليوم) قبالة الساحل الشرقي لبابوا غينيا الجديدة. وعلى مدار السنوات القليلة التالية، انغمس مالينوفسكي في عالم صيادي ومزارعي تلك الحضارة «البدائية»، وبات يعتقد أن الطقوس السحرية التي يمارسها سكان الجزر معقولة وقابلة للفهم إذا ما شوهدت في سياقَيها البيئي والاجتماعي؛ فقد كانت طقوس السحر تمنح المرء التمكين النفسي في مواجهة الخطر، وتوحي بالحلول حينما لا تكون مصادر المعرفة الأخرى (بما فيها العلم) قادرة على ذلك. باختصار؛ كان السحر يؤدي وظيفة نافعة. وقد استكشف مالينوفسكي — غير متأثر بفيتجنشتاين — أيضًا دور اللغة في السحر، والمعنى الكامن في «استخدام» الكلمات، وقد تحول انتباهه إلى هذا الأمر بينما كان يحاول ترجمة الصيغ السحرية التي يستخدمها سكان جزر تروبرياند؛ فقد كان سكان الجزيرة يؤمنون بقوة الكلمات، لكن كيف يتسنى له ترجمة تلك الميزة؟ فقام بوصف كيف كانت كلمات سكان الجزيرة تمثل «أفعالًا» تؤتي نتائج عملية، مستبقًا بذلك العمل الذي قام به تامبيا.

حدث أمر غريب حينما بدأ علماء الأنثروبولوجيا الميدانية يستكشفون التقاليد السحرية في أفريقيا؛ إذ تراجع الانشغال بمسألة «السحر» وكل الأمور المتعلقة به مع احتلال «العرافة» و«الشعوذة» صدارة المشهد. كان لإدوارد إيفانز بريتشارد (١٩٠٢–١٩٧٣) التأثير الرئيسي في هذا التحول الاصطلاحي. درس إيفانز بريتشارد — الذي تأثر بمالينوفسكي — ونال العلم عن عالم الأنثروبولوجيا ألفرد رادكليف براون (١٨٨١–١٩٥٥)، وخلفه إيفانز كأستاذ للأنثروبولوجيا في جامعة أكسفورد عام ١٩٤٦. كان رادكليف — مثل مالينوفسكي — قد ارتحل هو الآخر إلى أقصى العالم بحثًا عن معلومات. بين عامَي ١٩٠٦ و١٩١٢، قام برحلات رائدة لدراسة شعوب المحيط الهندي في جزر «أندامان» وسكان أستراليا الأصليين. وكان نهجه متأثرًا إلى حدٍّ بعيد ببنيوية دوركايم؛ إذ كان يرى أن السحر والدين ينبغي فهمهما باعتبارهما مَظهرَين شعائريين، ولكنه أحجم عن تناول حجج مالينوفسكي الوظيفية؛ فقد كان السحر قادرًا على إحداث أعراض اختلالات وظيفية كالخوف والقلق.

fig2
شكل ١-١: مالينوفسكي يواجه «مشعوذًا» شهيرًا من سكان جزر تروبرياند، من كتابه «الحياة الجنسية للبدائيين في شمال غربي مالينيزيا» (لندن، ١٩٢٩).1

اتخذ إيفانز بريتشارد نهجًا وسطًا بين النهجين المتنافسين؛ فقد بيَّن عملُه وسط الشعب الأزاندي في أفريقيا الوسطى كيف كانت المعتقدات التي بدت غير عقلانية في نظر الغربيين، منطقية ومعقولة في إطار مفهوم الأزاندي الديني السحري للعالم. وقد كان تأثير إيفانز بريتشارد على المفردات الأنثروبولوجية المستقبلية نابعًا من الحاجة للعثور على ما يرى أنه ترجمات إنجليزية متميزة لمصطلحات الأزاندي عن الأنشطة السحرية المختلفة. وهكذا تُرجمت كلمة «مانجو» الأزاندية إلى «عرافة» من حيث إنها تعبر عن محنة تصيب المرء نتيجة لقوة فطرية لدى أشخاص (شيء مادي من وجهة النظر الأزاندية) ومستوحاة من مشاعر الحسد أو الغضب. في حين كانت لفظة «نجوا» تجمع إلى حدٍّ كبير بين السحر والطب في شكل العمل الطقسي. ثم جعل إيفانز «الشعوذة» صنفًا قائمًا بذاته من السحر الأزاندي «النجوا»، وعرَّفها بأنها استخدام تقنيات سحرية أو علاجات أو طقوس لإلحاق ضرر غير مشروع بالآخرين. وبات هذان التعريفان الواضحان للعرافة والشعوذة — مع بقاء السحر في مكانة البنية العامة الأكثر شمولًا — يغلبان على ما استجد لاحقًا من خطاب أنثروبولوجي بشأن السحر الأفريقي، لكنهما تعريفان إشكاليان؛ فقد كان تعريف بريتشارد للشعوذة مختلفًا عن ذلك الذي استخدمه علماء الأنثروبولوجيا — والذي يمتد عائدًا إلى مالينوفسكي — الذين درسوا المعتقدات في أوقيانوسيا؛ فقد استخدموا مصطلح الشعوذة لوصف السحر المؤذي بوجه عام وليس فقط مظاهره غير المشروعة أخلاقيًّا؛ ومن ثَمَّ فقد أدرجوا السحر المؤذيَ لعقاب اللصوص على سبيل المثال. لكن الأمر الأهم، أن ما أوحى به إيفانز بريتشارد من تركيز على «العرافة» و«الشعوذة»، والذي تأثر بالتعريفات الأوروبية للعرافة، أدى إلى تجاهل نسبي لعوالم التقاليد السحرية الأفريقية المعقدة والأكثر شمولًا وثراءً وغرابة.

fig3
شكل ١-٢: «مشعوذ» من بينسا التي تقع الآن في جمهورية الكونغو الديمقراطية. كان الصحفي الأمريكي إيزاك ماركوسون (١٨٧٧–١٩٦١) قد روى في كتابه «مغامرة أفريقية» (١٩٢١) كيف اشتُهر مشعوذ من منطقة الكونغو العليا بعلاجاته السحرية باستخدام مادة حمراء تَبيَّن لاحقًا أنها لحوم بقر معلبة؛ إذ كان هناك مفهوم شائع بأن الأشياء والمواد لها غرابة سحرية.2

الرؤى العالمية السحرية

في مطلع ستينيات القرن العشرين، كان الشعور بعدم الرِّضَى تجاه «المدرسة القديمة» التي كانت لا تزال سائدة في التنظير عن السحر والدين والعلم؛ سببًا دفع موراي وروزالي واكس لأنْ يقترحا ما يبدو تحولًا جوهريًّا في دراسة السحر. كان الزوجان واكس — اللذان أجريا دراسة ميدانية وسط شعب «أوجلالا سو» في محمية «باين ريدج» الهندية بولاية ساوث داكوتا — قد انتقدا ما ذهب إليه فريزر ودوركايم من التفريق بين السحر والدين استنادًا إلى مفاهيم مسيحية يهودية غربية لا تصلح لفهم مجتمعات أخرى؛ إذ يقولان:

لقد أخفقت المحاولات الأكاديمية السابقة لتفسير السحر لأنها — في خضم تركيزها على الطقوس أو التعاويذ أو تحقق الأمنيات — لم تتمكن من أن تدرك حقًّا كيف كان الأشخاص قيد الدراسة يتصورون العالم، والمكانة التي تحتلها الرغبة أو الرقية أو العاطفة أو الطقوس في ذلك العالم.

ومن ثَمَّ، فإن دراسة أفعال السحر أو رموزه ليست كافية، بل يجب تفسيرها داخل إطار رؤية للعالم تختلف اختلافًا جوهريًّا عن الرؤية الغربية العقلانية. وقد أشار الزوجان واكس إلى أن الرؤية العالمية الغربية المعاصرة اتخذت موقفًا معاديًا من «الرؤية العالمية السحرية» التي تنسب لآخرين؛ فقد أدى غياب الفهم إلى أن يصف المراقبون الغربيون الأنشطة والمعتقدات التي تبدو منطقية للغاية من منظور «الرؤية العالمية السحرية» بأنها «بدائية» و«جاهلة» و«ساذجة». وحتى عندما طور علماء الأنثروبولوجيا فهمًا أكثر تعاطفًا (كفهم مالينوفسكي مثلًا) لم يتمكنوا من منع أنفسهم من التفكير بعقلانية في الأفكار السحرية من منظور تعريفات المعرفة العلمية الغربية.

اقتُبس مصطلح «الرؤية العالمية السحرية» من عمل أدبي للمؤرخ اللاهوتي النرويجي سيجموند موفينكل (١٨٨٤–١٩٦٥)؛ فقد قال في كتابه «الدين والثقافة» (١٩٥٣) — منطلقًا من قراءته العهد القديم — بأن السحر ليس شكلًا من أشكال الدين وإنما هو «رؤية للعالم»، و«طريقة معينة لفهم الأشياء وترابطها المتبادل.» لكن تلك «الطريقة المعينة» قائمة على مفاهيم علاقات سببية وارتباطات متبادلة تختلف اختلافًا جوهريًّا عن المفاهيم التي وضعها الغرب الحديث. كان هذا المفهوم مستوحًى أيضًا من ورقة بحثية لروبرت ريدفيلد بشأن «الرؤية العالمية البدائية» نُشرت عام ١٩٥٢. كان ريدفيلد (١٨٩٧–١٩٥٨) رائدًا لنظرية «الرؤية العالمية»، وكان يراها وسيلة قيِّمة لمقارنة أساليب حياة مختلِف المجتمعات؛ فقد قضى علماء الأنثروبولوجيا وقتًا طويلًا في «دراسة» المجتمعات، حينما كانوا يحتاجون لأن يفهموا كيف كانت تلك المجتمعات «تنظر» للعالم من حولها وتدركه في مجمله.

لم يستقبل علماء أنثروبولوجيا آخرون مفهوم «الرؤية العالمية السحرية» بحماس كبير؛ فقد كان هذا المفهوم هدفًا لوابل من الهجوم في سلسلة من المقالات التي كُتبت للرد على مقالات كتبها الزوجان واكس. ومن بين الانتقادات التي وجهت لهذا المفهوم هو أنه يبني مقابلات ثنائية مغلوطة كتلك التي اقترحها دوركايم وفريزر. فهل يمكن حقًّا تجميع كل المجتمعات غير الغربية في سلة واحدة على اعتبار أنها تتشارك جميعها رؤية عالمية سحرية واحدة تتحدد باختلافها عن الرؤية التي ولَّدها التاريخ المسيحي اليهودي؟ وثَمَّةَ موطن ضعف كبير أيضًا في التعريف الذي قدمه الزوجان واكس للرؤية العالمية السحرية تمثَّل في تبادل القوى — أو ما يطلق عليه «مانا»، (وهو مفهوم سكان جزر المحيط الهادي الذي يرى أن هناك قوة روحية كامنة في كل شيء) — بين البشر والكيانات غير البشرية. فهل كان هذا حقًّا هو أساس كل الرؤى غير الغربية للعالم؟ ماذا عن رؤية الفلاح الأوروبي؟ هل كان يعتنق كلا الرؤيتين العالميتين معًا؟ وقد خلص أحد النقاد إلى أن الرؤية العالمية السحرية التي اقترحها الزوجان واكس «في الأساس، ليست سوى مفهوم العالم الإحيائي الذي تحدث عنه تايلور.» لكن فروعًا معرفية أخرى رأت قيمة في مفهوم «الرؤية العالمية السحرية» وظل هذا المصطلح يُستخدم على نطاق واسع من جانب المؤرخين والفلاسفة ودارسي الفولكلور، ومنظِّري الثقافات، وعلماء النفس.

تضمنت نظرية «الخير المحدود» التي وضعها عالم الأنثروبولوجيا جورج فوستر (١٩١٣– ٢٠٠٦) في ستينيات القرن العشرين نوعًا آخر من أنواع الرؤية العالمية. كان فوستر قد استلهم هذه النظرية من دراسته لمجتمعات الفلاحين المكسيكيين، وكانت محل جدل واسع النطاق في الأدب الأنثروبولوجي على مدى عدة سنوات قبل أن تتحول عنها الأضواء. حدد فوستر نمطًا سلوكيًّا من الفكر والعمل يشكله التصور بأن هناك خيرًا محدودًا في العالم؛ إذ يكوِّن المجتمع والاقتصاد والبيئة الطبيعية نظامًا مغلقًا يكون «الخير» — بمعنى الموارد — فيه محدودًا وثابتًا. وهكذا إذا زاد ثراء شخص ما، فلا يمكن أن يكون ذلك قد تأتَّى إلا على حساب شخص آخر. في نموذج المجتمع الريفي «الكلاسيكي»، يعيش الناس أسرى اقتصاد أخلاقي لا يشجع النمو الاقتصادي؛ ومن ثَمَّ كان تجميع الثروة منافيًا للطبيعة، وهدفًا للحسد والقيل والقال. فالعامل يتساءل في نفسه: «أنا أعمل بجد مثل جاري بالضبط، لكنه صار أكثر مني ثراءً، فكيف كان هذا؟» كان من الممكن تبرير هذا على أساس أن الجار ربما اكتشف موردًا من الموارد — ككنز مدفون مثلًا — وهي الرؤية التي تميز نظرية الاقتصاد الصفري. ولكن كان من الممكن أيضًا تبرير ثراء الجار بأنه استعان بالأعمال السحرية.

كان فوستر يدرك دور السحر والعرافة والتشخيص الطبي الشعبي في تفسير المحن في مجتمع الخير المحدود. وضرب غيره من علماء الأنثروبولوجيا والفولكلور والمؤرخين أمثلة في الماضي والحاضر من جميع أرجاء العالم. كانت أساطير الكنوز من بيرو إلى السويد تبدو مناسبة لهذا النموذج، لا سيما مع احتوائها على عنصر امتلاك المعرفة السحرية بوصفه إحدى وسائل العثور على الكنوز وتأمينها. وقد شرحت تفسيرات الخير المحدود أساس الكثير من الاتهامات بممارسة السحر، على رأسها كونه سببًا للمحن. ويعد المفهوم الفنلندي لما يُعرف باسم «أوني» (بمعنى الحظ أو النجاح) مثالًا جيدًا على هذا؛ فإذا ما حدث لسبب غامض أن انقطع اللبن في ضرع بقرةٍ ما، فهذا يعني أن «أوني» (حظ) مالكها قد قلَّ. وفي هذه الحالة، لا بد أن مالك بقرة أخرى قد زاد حظه من خلال اللجوء للسحر. وهذا قد يبعث على الحسد ويسفر عن اتهامات بممارسة السحر من أجل استعادة توازن «الحظ». وحتى إذا لم يصل الأمر إلى هذا الحد، فقد يأمل صاحب البقرة المنحوسة في أن ينقطع اللبن في ضرع بقرة أحد الجيران بحيث ترجح كفة «الحظ» لصالحه مجددًا. وبالمثل، كان عثور الفتاة على زوج جيد يتوقف على قلة «حظها» أو زيادته.

في بعض مجتمعات الخير المحدود، يظهر الحسد في صورة «العين الحاسدة». وبحسب هذا المفهوم، يستطيع أشخاص بعينهم بث النحس أو الأذى بمجرد النظر إلى أشخاص آخرين أو إلى أملاكهم، لكن هذا المفهوم ليس شائعًا كما كان يُعتقد في بعض الأحيان. لا شك أن له حضورًا قويًّا في مجتمعات حوض البحر المتوسط والشرق الأدنى، لكن حضوره أقل قوة في سجلات مجتمعات أوروبا الغربية عن السحر. ورغم أن القدرة على بث السحر بنظرة العين تنسب للساحرات عادة، فإنها ليست بالضرورة حكرًا على أولئك المعروف عنهن ممارسة السحر. فمن يفعلون ذلك يفعلونه بدافع من الحسد والغَيرة، فلا يحققون فائدة مادية من ورائه، ولكن — كما تشير دراسة عن المجتمعات القروية في الجنوب الإيطالي — فإن خشية «العين الحاسدة» «جعلت الأشخاص والأسر يُحجمون عن التباهي بحسن الحظ أو الممتلكات المادية»؛ ومن ثَمَّ، ربما كان هذا سببًا في تقاعس الناس عن توليد الثروة.

وكما يحدث مع جميع النظريات الشاملة كهذه، لاقى مفهوم الخير المحدود من بعض الدارسين انتقادًا لاذعًا كما لقي إطراءً. لكن كما أوضح فوستر فإنه لم يدَّعِ أن نظريته تنطبق على جميع المجتمعات الريفية، وأشار إلى أن أمثلة على سلوكيات مجتمع «الخير المحدود» يمكن العثور عليها في «جميع» المجتمعات. ورغم أن النظرية لم تعد من النظريات السائدة كنموذج للتنمية الاقتصادية (أو عدمها)، فإنها لا تزال ذات قيمة باعتبارها أداة مفاهيمية لفهم بعض المعتقدات والممارسات السحرية لدى طائفة واسعة من الثقافات.

اقتراب عوالم السحر من أرض الوطن

كان دارسو الفولكلور في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يدركون جيدًا استمرار الإيمان بالسحر وممارسته بين الشعوب الأوروبية. وقد مشطوا المناطق الريفية كي يسجلوا البقايا التي تحدث عنها تايلور. وهكذا صنعوا سجلًّا قيِّمًا لمن سيأتي بعد ذلك من المؤرخين الاجتماعيين من أمثالي. هذه البقايا المفترضة للفكر البدائي كانت تلائم هواة دراسة الفولكلور والآثار، لكن علماء الأنثروبولوجيا نادرًا ما اعتبروها جديرة بالتحقيق الأنثروبولوجي الجاد على أرض الواقع. ولم تبدأ جذوة الهمة الأوروبية المتأصلة للسفر عبر البحار واستكشاف ثقافات السحر في الخفوت، إلا منذ خمسينيات القرن العشرين وما بعدها. لكن عددًا قليلًا من علماء الأنثروبولوجيا بدءوا يحولون أنظارهم مرة أخرى إلى مجتمعات مجاورة، مدركين أن الإيمان «التقليدي» بالسحر وممارسته ليس مقتصرًا على الماضي أو على الثقافات الأخرى الأجنبية.

في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وبعد إجراء دراسات ميدانية في شرق أفريقيا، أجرى عالم الأنثروبولوجيا الاجتماعية جوليان بيت ريفرز (١٩١٩–٢٠٠١) — الذي كان تلميذًا لإيفانز بريتشارد — دراسة مفصلة عن الحياة في إحدى قرى منطقة أندلوسيا. تضمَّن الكتاب الذي تمخضت عنه هذه الدراسة فصلًا عن «الأمور الخارقة للطبيعة» المتعلقة بدور ما يطلق عليه «سابياس» أو المرأة الحكيمة. وعلى المنوال نفسه، لم يكن السحر المحور الرئيسي لعمل ريتشارد وإيفا بلوم عندما أجريا دراسة ميدانية عن مفاهيم الصحة والحياة والموت في الريف اليوناني أوائل ستينيات القرن العشرين. لكن النهج الأنثروبولوجي الذي سلكاه بيَّن مدى ترسخ مفاهيم «السحر الطيب»، و«السحر الأسود»، و«الشعوذة» في الخبرة الدينية والطبية للفلاحين اليونانيين الذين خضعوا للدراسة؛ إذ كانت الإصابة بالأمراض تعزى إلى السحر والشياطين والجنيات وعفاريت الأموات والأشباح وأرواح الطبيعة. وكان الفلاحون يكافحون هذه البلايا بالاستعانة بطائفة متنوعة من المعالجين والنساء الحكيمات والسَّحَرة. وعلى غرار ماري دوجلاس، استكشف الزوجان محورية الدنس والطهارة للعلاج الشعائري. ولاحظا أيضًا كيف كان الكهنة جزءًا أصيلًا من هذه الثقافة السحرية للوقاية والتداوي، وهو ما يشير إلى أن الدين والسحر يعملان جنبًا إلى جنب.

طبَّق إرنستو دي مارتينو (١٩٠٨–١٩٦٥) في كتابه «الجنوب والسحر» (١٩٥٩) نُهُجًا أنثروبولوجية وسياسية وتحليلية نفسية على معنى السحر وسط الفلاحين الفقراء في منطقة الجنوب الإيطالي، التي يعتبرها مثقفو شمال إيطاليا منطقة بدائية وبعيدة عن الشمال على المستوى الثقافي. وقد حاول عملُه أن ينقذ ثقافة الجنوب من هذا التعالي والامتهان. فكان أحد المفاهيم الأساسية التي استخدمها لفهم السحر مفهوم «أزمة الوجود»؛ إذ أوضح أن في الحياة لحظات حاسمة يواجه فيها الأشخاص المستبعَدون من «الثقافة الرفيعة» العقلانية أزمة وجودية حول عدم وجود وفقدان أرواحهم، ومحو وجودهم من التاريخ. والسحر — باعتباره من الطقوس — دفع هذه الحالة إلى الصدارة ومكَّن الفقراء من التغلب على هذه الأزمات، وكذلك مواجهة مشاعر فقدان الشخصية والاغتراب؛ وبهذا المعنى، يعمل السحر بمثابة صمام للضغط النفسي.

كانت منطقة البحر الأبيض المتوسط — بما فيها من مجتمعات ريفية متناثرة ونائية ومؤمنة بتأثير العين الحاسدة — وجهةً مباشرة بالنسبة لعلماء الأنثروبولوجيا الأوروبيين لإجراء الدراسات الميدانية؛ فقد كانت تمنحهم ما يرغبونه من بُعد عن العالم الصناعي الحضري الغربي. واليوم لا تزال إسبانيا وجنوب إيطاليا واليونان بؤرة تركيز الأبحاث حول الطب الشعبي. لكن الخطوة الكبرى تمثلت في استكشاف انتشار السحر التقليدي في أوساط المجتمعات الريفية في غرب أوروبا ووسطها؛ حيث يعيش الناس بثبات في عصر العلوم الذي أشار إليه فريزر. وقد كان خبراء الفولكلور والتربية ورجال الدين على دراية ﺑ «الرؤية العالمية السحرية» في الريف الدنماركي والألماني والسويسري والفرنسي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن علماء الأنثروبولوجيا تأخروا في ملاحظة ذلك. وحينما انتبهت قلة منهم إلى ذلك في ستينيات القرن العشرين، ساعدوا على رأب الفجوة القديمة الثقافية والجغرافية بين المجتمعات «البدائية» والمجتمعات «الحديثة». وعندئذٍ صار الأوروبيون يخضعون لنفس التحليل المفاهيمي، الذي كان يخضع له سكان جزر المحيط الهادي أو قبائل أفريقيا وأمريكا الجنوبية.

كانت الأكاديمية الفرنسية جين فافري سادا (مواليد ١٩٣٤) إحدى أوائل علماء الأنثروبولوجيا الذين ركزوا على تقليد السحر الباقي في أوروبا، على الأقل بمفهومه من حيث ممارسته والتحرر منه؛ ففي أواخر ستينيات القرن العشرين، ظلت قابعة لفترة في قرية في نورماندي السفلى في فرنسا، وانغمست في العالم الخاص باتهامات ممارسة السحر والتعاويذ وسط القرويين. ويستطيع المرء أن يجد بعض الموضوعات الأنثروبولوجية المألوفة في التحليل الذي قدَّمته سادا؛ فقد اعتبرت الاتهام بممارسة السحر وممارسة السحر المضاد سياقًا رمزيًّا يرتبط بامتلاك قوة فردية: «فالسحر عبارة عن كلمات منطوقة، لكن هذه الكلمات المنطوقة تشكل القوة، وليس المعرفة ولا المعلومات.» وقد صنفت القوة إلى نوعين: «القوة الحيوية» التي يملكها أي شخص (وتشمل الممتلكات والمنزل والأرض)، و«القوة السحرية» التي تستخدمها الساحرات للاستحواذ على «القوة الحيوية». لكن الأمر غير المألوف هو أن سادا صارت جزءًا من هذا السياق، ووقعت ضحية لسحرٍ وتحوَّلت إلى زبونةٍ تطلب التحرر من السحر؛ ومن ثَمَّ خرجت عن إطار الدور المعتاد الذي يؤديه عالم الأنثروبولوجيا كمراقب محايد. لكنها في التحليل الذي أعدته لاحقًا، عادت إلى دورها الحقيقي وتبنَّت النظرة الأكاديمية القائمة على فهم تجربتها من منظور إطار أنثروبولوجي خارجي.

حطمت فافري سادا القالب الجامد؛ فتوجه العديد من طلاب الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الفرنسيين الآخرين صوب الريف الفرنسي خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وكان يَبث في أنفسهم الطمأنينة أن المسافة التي تفصلهم عن منازلهم لا تتخطى مسير بضع ساعات بالسيارة. وقد ثبت أن النتائج التي توصلوا إليها ذات قيمة كبيرة بالنسبة للمؤرخين الذين كانوا يحاولون تجميع أدلة حول استمرار وجود السحر في أوروبا ما بعد عصر التنوير. في نفس الوقت تقريبًا، كشفت دارسة الفولكلور إنجا شوك أن السحر لا يزال حيًّا، بل ونشطًا في جنوب غرب ألمانيا، وقال عالم الاجتماع هانز سيبالد بأن السحر في المجتمعات الزراعية لسويسرا الفرانكونية (منطقة تقع وسط ألمانيا) — حيث ترعرع هو — لا يزال يخدم غرضًا وظيفيًّا بارزًا في تنظيم الصراعات الجماعية، لكنه يرى أن وظيفته آخذة في التآكل بفعل التغير الاجتماعي وانتشار «الموضوعية العلمية».

هوامش

(1) © Mary Evans Picture Library.
(2) © Wellcome Library, London.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤