الفصل الثاني

وجهات نظر تاريخية

كما تبيَّن لنا من المقدمة والفصل السابق، لا سبيل لفهم السحر — باعتباره معتقدًا وممارسة — دون أن نعرف كيف شكَّل تعريفه وعمله التاريخ. لكننا بذلك بحاجة أيضًا لأن نعرف كيف كُتِب التاريخ. إن علماء الاجتماع الأوائل لم يتجاهلوا عمل المؤرخين، لكن التاريخ الذي كان عليهم أن يتعاملوا معه كان يشوبه التحيز الديني والثقافي، ويستند عمومًا إلى مصادر محدودة، فضلًا عن أنه منتفخ بنبرة التفوق الغربي. وحينما بدأ المؤرخون ينبشون السجلات ويتجردون من نظرة الاستعلاء المتفشية تجاه الماضي، انهارت الجُدُر النظرية التي كان علماء الاجتماع الأوائل قد بنَوْها للفصل بين الدين والسحر والعلم؛ انهيارًا مذهلًا.

تاريخ السحر

من أين أتى السحر؟ قبل ظهور علم الأنثروبولوجيا بوقتٍ طويل، ظل المثقفون يفكرون مليًّا في إجابة هذا السؤال. وغالبًا ما كانت الإجابة أنه أتى من الشرق، لكن ما مدى بُعد هذا الشرق الذي أتى منه السحر؟ يقدم لنا المفكر الروماني المناصر لمذهب الطبيعة بلينيوس الأكبر (٢٣–٧٩م) أول محاولة مدروسة لتصور تاريخ السحر؛ فقد ورد في كتابه «التاريخ الطبيعي» أنه كان هناك «إجماع عالمي على أن السحر بدأ في بلاد فارس بظهور زرادشت.» وبناءً على حسابات القرن الرابع قبل الميلاد التي أجراها عالم الرياضيات الإغريقي يودوكسوس والفيلسوف أرسطو، قدَّر بلينيوس أن زرادشت قد عاش قبل ستة آلاف عام من زمن أفلاطون الذي وُلد في القرن الخامس قبل الميلاد. لكن السحر لم يجد طريقه إلى الغرب إلا خلال الحملة الحربية الفاشلة التي شنها الملك الفارسي خشایارشا على الإغريق، وقد كان هذا عام ٤٨٠ قبل الميلاد. وكان هناك ساحر يُدعى أوستانا — والذي اعتقد بلينيوس أنه أول من دوَّن السحر — يرافق خشايارشا «ونشر الوباء في العالم أينما حل خلال رحلتهما». وهكذا أصيب الإغريق — كما يذهب بلينيوس متحسرًا — باشتهاء السحر والجنون به. وذكر أن فيثاغورس وأفلاطون وإيمبيدوكليس وديموقريطوس ارتحلوا جميعًا إلى الشرق ليعرفوا المزيد عن السحر الذي نشره أوستانا ورفيقه المجوسي، اللذان اعتبرهما بلينيوس محتالَين وأحمقَين.

تميزت أعمال ديموقريطوس (٤٦٠–٣٧٠ق.م) بأنها الأكثر تأثيرًا في نشر منهج السحر الفارسي. ويُعزَى تركيز بلينيوس على ديموقريطوس — الذي اعتبره البعض «أبو العلم» — إلى أنه كان مقتنعًا بما نُسب زورًا لهذا الرجل من ممارسة أعمال السحر والخيمياء (السيمياء). وكان من بين أبرز النصوص «كيروميكتا» الذي شرح الخصائص السحرية للنباتات والأحجار والحيوانات. كان المؤلف الفعلي لهذا النص — على ما يبدو — مصريًّا نال تعليمه في اليونان ويدعى بولس الميندسي. عرَّف بلينيوس فيما كتبه عن تاريخ السحر فروعًا أكثر حداثة من السحر، أحدها تفرع من «موسى وينيس ويمبريس واليهود، لكنه كان حيًّا بعد زمن زرادشت بآلاف السنين». وظهر فرع آخر في قبرص.

حذا بعض الكُتَّاب المسيحيين الأوائل حذو الإغريق والرومان في رد أصول السحر إلى عالم البشر، وتحديدًا إلى زرادشت وأوستانا، لكنَّ ثَمَّةَ أسماءً أخرى كانت بارزة، منها ملكان مصريان ساحران اسمهما نخت أنبو وبختانيس. لكن لما كان تاريخ السحر مغمورًا بالكامل في «رؤية عالمية» مسيحية، كان لا بد أن يحتويَ العهد القديم نسبة السحر إلى أصول ومواقع جغرافية. ظهر السرد الرئيسي في أدب مؤثر وملفق، مثل الرسالة الإكليمندية الزائفة التي تنسب للأب كليمنت أسقف روما، والتي انتشرت خلال القرن الرابع الميلادي. تقول الرسالة إن شياطينَ هي التي علَّمت البشر السحر، ويتوافق هذا مع تراث يهودي ورد في جزء من «سفر أخنوخ» يحمل اسم «الملائكة الساهرون» الذي ربما يعود تاريخه إلى القرن الثالث قبل الميلاد؛ إذ يذكر هذا الكتاب أن شياطين هبطت من عند الرب مدفوعة بدوافع الفسق التي جعلتها تتمرد وتهبط إلى الأرض لتتزوج من بنات البشر، وأنجبت عمالقة، وقد لقنت تلك الشياطين رفيقاتها الإناث السحر وعلم الأعشاب بينما كانت تستمع بحريتها.

كان تركيز المسيحية منصبًّا بشدة على انتقال السحر عبر سلسلة من الذكور؛ إذ ورد في «إقرارات» الرسالة الإكليمندية الزائفة أن حام بن نوح كان أول من مارس هذا الفن الشيطاني الفاسق الجديد، وقد ظل علمه بالسحر باقيًا بعد «الطوفان العظيم» ووصل إلى مصرايم ابنه، ومن ابنه إلى ذريته من المصريين والفرس والبابليين. وهكذا شُبِّه مصرايم بزرادشت (وإن كانت مصادر أخرى تذكر أن حام هو نفسه زرادشت). لكن إبيفانيوس — أحد آباء الكنيسة في القرن الرابع — كان يعتقد أن السحر ظهر قبل حام واختار أن ينسبه لجاريد ابن الجيل الخامس من ذرية آدم. يعد النمرود أيضًا شخصية بارزة في هذه الحكايات التاريخية الأولى عن السحر؛ إذ يقول العهد القديم إنه حفيد حام، وإنه عاش بالقرب من المراكز الحضرية الهامة في بابل وأوروك (الوركاء). وقد اكتسب شهرة أسطورية كصياد بارع وثائر في وجه الرب. يقول إبيفانيوس إن النمرود وضع أسس علم السحر، وتروي «الإقرارات» كيف تلقى علمه بالسحر في لمح البصر من أعلى، من السماء. وكان بعض الكُتَّاب الأوائل أيضًا يعتبرون أن النمرود هو نفسه زرادشت. وبصرف النظر عن السلالة التي انحدر منها، كانت الرؤية المسيحية اليهودية تذهب إلى أن السحر أنتجه البابليون أو الفرس أو المصريون، الذين تعلم موسى منهم حيلة أو اثنتين.

أضاف العهد الجديد شخصيات جديدة إلى قصة بداية انتقال السحر؛ إذ يظهر سيمون المجوسي أولًا في العهد الجديد في سفر أعمال الرسل، الذي يصفه بأنه رجل سامري «كان قد مارس السحر في المدينة من قبل». ويروي لنا السفر قصة تعميده، وعتاب بيتر إياه لأنه عرض المال مقابل الحصول على سر الشفاء من خلال الروح القدس بحيث يشفي من يضع يده عليه. ليست هناك تفاصيل أخرى أكثر من ذلك، لكن تحوُّل سيمون إلى مجوسي وساحر بارع وأب لكل البدع أوردتْه نصوص كُتبَت في القرنين الثاني والثالث الميلاديين. وتزعم إحدى مخطوطات القرن الرابع الميلادي — على سبيل المثال — أن سيمون تُوُفِّيَ بعد محاولته الطيران. ظلت الأسطورة تخضع للإضافة والمبالغة والتحريف على مر القرون الثمانية عشر اللاحقة.

خلال العصور الوسطى، برز سليمان المذكور في الكتاب المقدس — والذي طالما استُخدم اسمه في ممارسة السحر — في الصدارة على افتراض أنه أصل السحر أو الحكمة، اعتمادًا على وجهات النظر المعاصرة المختلفة في هذا الصدد؛ فقد صيغت كتب السحر التي تدَّعي أنها تحوي تفاصيل بشأن طقوسه والسحر الذي استخدمه لإخضاع الجان وتحقيق التنوير الروحي. ثَمَّةَ رمز أسطوري آخر من رموز السحر هو هرمس طريسميجيسطيس — الاسم الذي ظل حيًّا في هذا المجال لعدة قرون — الذي قيل عنه إنه ألَّف آلاف الكتب في العلم والغيبيات أو «الفنون الغامضة». فلما كان هرمس شخصية متعددة الهويات باعتباره إلهًا وبشرًا، ومزيجًا توفيقيًّا من الإله المصري تحوت والإله اليوناني هرمس، أصبح شخصية بارزة في تراث السحر إبَّان عصر النهضة في القرن الخامس عشر، لا سيما عقب العثور على مخطوطات عن الفلسفة الغيبية زُعم أنه مؤلفها وتُرجمت إلى اللاتينية.

في محاضرة أُلقيت بإحدى الجامعات في عام ١٦٣٦، طرح شخص يُدعى سايمون رافنزبرج السؤال البلاغي التالي: «هل يمكن تقديم معلومات حاسمة بشأن أول مصدر للسحر، أعني أين نشأ ومتى كان ذلك … إلخ؟» ثم أجاب: «لا، لا يمكن.» وأردف أنه ثَمَّةَ أمر واحد فقط يقينيٌّ، وهو أن السحر «وُلد مع الوثنية، وكأنهما خرجا من نفس الرحم.» باختصار؛ لقد كان السحر اختراع الشياطين. لكن هذه الآراء اليقينية تعرضت للتشكيك في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حينما بات السحر نفسه يحظى بالدفاع أو — على الأقل — بات تاريخه يخضع للمراجعة.

في عام ١٦٢٥، ألَّف أمين المكتبة والطبيب الفرنسي جابرييل نودي (١٦٠٠–١٦٥٣) كتابًا بعنوان «اعتذار لكل الحكماء الذين اتُّهموا زورًا بممارسة السحر» تُرجم إلى الإنجليزية عام ١٦٥٧ تحت عنوان «تاريخ السحر». وكان نودي يهدف لتبرئة شخصيات مثل: زرادشت، وسقراط، وفيثاغورس، وفيرجيل، وعالم القرون الوسطى روجر بيكون، مما وصموا به من شائعات كاذبة واتهامات على مدار قرون. وإبَّان ذلك، أضفى تألقًا إيجابيًّا على السحر نفسه. وقال إن هؤلاء الرجال العظام في مجالَي الفنون والعلم — وغيرهم — طالتهم الشبهات بسبب «انخراطهم في السياسة وتعلُّم العلوم الجديدة والرياضيات، وبسبب معلومات من كتب ملفقة وملاحظات خرافية، وهرطقة وحقد ومنافسة، وجهل وسرعة تصديق من جانب القراء، وافتقار الحصافة ومَلَكة التمييز من جانب الكُتَّاب». ميَّز نودي بين السحر المشروع وغير المشروع، وقال إن السحر المشروع يشمل السحر الإلهي؛ أي: النبوءات والمعجزات والتكلم بالألسنة. ثم هناك السحر «العلوي» الذي يتحقق أثره بالتواصل مع الملائكة، وهذه الأنواع من السحر فاقت القوى البشرية ومصدرها هو الرب. وكان يتقبل السحر الطبيعي — أو قدرة الفيلسوف على فهم الخصائص الغامضة — الذي «صار رائجًا» على يدَي زرادشت وسالموكسيس، الذي هو بشر إله من تراقيا مثل: طريسميجيسطيس. أما نوع السحر الوحيد الذي أدانه نودي فهو سحر «الشعوذة» أو السحر الشيطاني؛ إذ يقول: «لا ينبغي للمرء أن يتصور أن هذا السحر المؤذيَ والمحرم كُتب بيد أي كائن إلا إبليس.»

تبنَّى الخيميائي الويلزي توماس فون (١٦٢١–١٦٦٦) موقفًا مشابهًا في كتابه الذي نُشر تحت اسم مستعار بعنوان «العصور القديمة للسحر» (١٦٥٠). وقد فصَل فون بين أصول المشروع والمحرم، وقال: «ليس السحر سوى حكمة الخالق التي تودَع في المخلوق وتتكشف من خلاله»، و«ما من كلمة يمكن أن تكون فاعلة في السحر، ما لم تستمد فعاليتها من كلمة الله.» لطالما كان العالم في الماضي والحاضر حافلًا بالسحرة الدجالين والمشعوذين، لكنَّ السحرة القدماء الحقيقيين كانوا ملوكًا وأنبياء؛ ومن ثَمَّ — كما يذهب فون — بما أن الله هو أصل السحر، فليس للسحر نقطة بدء، وإنما نقطة كشف الله عندها السحر للبشر. وكما يشير عنوان كتاب فون — وكما اقترح آخرون قبله — فإنه يعتقد أن السحر كُشف لآدم وهو في الجنة قبل أن يهبط إلى الأرض. وهو يرى أن «السحر الملعون الشيطاني» ظهر بعد ذلك، وحدد — كما يليق ببروتستانتي ملتزم — فرعًا شيطانيًّا منه تمثل في طقوس التكريس وطرد الأرواح الشريرة التي تمارسها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.

خلال القرن الثامن عشر، عملت ثلاثة مؤثرات أخرى على تشكيل مفهوم أصل السحر. أحد هذه المؤثرات تمثل في الماسونية، وهي عبارة عن مظلة تشمل مجموعة متنوعة من الأخويَّات العلمانية والسرية. وظهر الاهتمام بالممارسة السحرية واضحًا في جوانب الماسونية، لكن الافتتان بالرمزية القديمة كان قابعًا في قلبها. وقد تركز الجانب السري الغامض للماسونية في هندسة هيكل سليمان، وفي الأساطير التي نُسجت حول قصته. ازداد إلقاء الضوء على هذا الغموض بحلول نهاية القرن نتيجةً لتزايد الاهتمام بالآثار المصرية. وكذلك زاد مذهب «الكابالا» اليهودي — أو بتعبير أدق، الصيغ المسيحية منه التي نشأت في عصر النهضة — الاهتمام بالطقوس والرموز التي يمكن أن تكشف أسرار الحكمة القديمة. وهكذا، شكَّلت الماسونية — في بعض الأوساط المثقفة — دافعًا جديدًا لاستكشاف تاريخ السحر.

شهد القرن الثامن عشر تطورًا آخر وجَّه قصة السحر نحو اتجاه مختلف؛ إذ ازدهر الاهتمام الأوروبي بثقافة الهند وتاريخها على خلفية نجاح شركة «الهند الشرقية» وزيادة قوة السيطرة البريطانية على القارة. وقد نال هذا التوجه تشجيع وارن هاستينجز (١٧٣٢–١٨١٨)، أول حاكم بريطاني عام للهند، وشرع الباحثون لأول مرة في ترجمة النصوص الهندية السنسكريتية القديمة إلى الإنجليزية؛ وبذلك فتحوا عالمًا جديدًا من عوالم المعرفة الدينية والسحرية أمام جمهور المثقفين في بريطانيا. ثم حذا حذوهم علماء فقه اللغة والمستشرقون الألمان والفرنسيون.

شهد أواخر القرن الثامن عشر أيضًا ما بدا أنه طفرة علمية عظيمة بشَّرت بإجابة السؤال عن أصل السحر باعتباره «تأثيرًا»؛ فقد افترض الطبيب فرانز أنطوان ميسمر (١٧٣٤–١٨١٥) — من فيينا — أنه يوجد داخل جسم الإنسان سائل مغناطيسي غير مرئي يمكن توجيهه للتأثير على أجسام أخرى. واستخدم هو وأتباعه ما يُعرف باسم «المغناطيسية الحيوانية» لعلاج المرضى عن طريق إزالة العوائق من مجرى السائل، إما من خلال قوة الإرادة أو الاتصال الجسدي. ثم اعتمد آخرون المفهوم الرئيسي لهذه العملية فعدلوه وطوروا فيه بعدة طرق. والتنويم المغناطيسي له أصله العلمي في المغناطيسية الحيوانية على سبيل المثال. وفي ألمانيا كان لطلبة المغناطيسية الحيوانية طابع غامض قوي. وقد قدمت الطبيعة الشاملة المفترضة لهذا السائل المغناطيسي تفسيرًا لحالات النشوة التي تميز الانجذاب الديني والاتصالات بعالم الأرواح، وبعض القوى غير الاحتيالية التي نُسبت للسحرة على مر التاريخ.

fig4
شكل ٢-١: منوِّم مغناطيسي يوجه قواه المغناطيسية نحو امرأة تستجيب بتشنجات.1

كان أستاذ الفيسيولوجيا جوزيف إنموزر (١٧٨٧–١٨٥٤) أحد المحققين الألمان الذين تأثروا بكل التطورات التي ذكرناها سابقًا. وقد نشر كتابه «تاريخ المغناطيسية الحيوانية» (١٨٤٤) باللغة الإنجليزية عام ١٨٥٤ تحت عنوان «تاريخ السحر». كان هذا العمل المكون من مجلدين قد ترجمه العالم الروحاني ويليام هويت وابنه أثناء رحلة إلى أستراليا عام ١٨٥٢؛ «عندما لم تكن إنجلترا قد سمعت شيئًا يُذكر عن وجود الروحانية الأمريكية، ولم نكن نحن نحلم بأن يكون لها وجود». توصل إنموزر — خلال استقصائه للأدب الكلاسيكي، وأدب عصر النهضة عن تاريخ السحر — إلى استنتاج جديد اعتمادًا على درايته بالديانات والأساطير الآسيوية؛ إذ خلص إلى أن أصل السحر لم يكن في بلاد فارس أو مصر أو وسط اليهود، وإنما أبعد من ذلك في أقصى الشرق، وأن السحر «بمعناه الحقيقي والأصلي» باعتباره اتصالًا بعالم الأرواح ودراسة للطبيعة، وباعتباره «هبة استثنائية وفطرية في النفس البشرية»؛ قد نشأ في آسيا.

كان إنموزر قد استمد أدلته من ترجمات النصوص الدينية السنسكريتية الهندية القديمة مثل: «قانون مانو» — الذي يعود تاريخه إلى نحو ألفَي عام أو يزيد — وكتاب «الفيدا»، فضلًا عن مجلدات أخرى مقدسة ذات صلة، مثل: نصوص «الزندافيستا» الزرادشتية، ونصوص أخرى صينية. ووفقًا لإنموزر، فإن السحر بحلول زمن زرادشت كان قد أصابه الفساد وأُسيء استخدامه، وتفرع إلى نوعيه الأبيض والأسود. وذهب إلى أن «تعاليم سحرة مصر والإسكندرية والعصور الوسطى التي ظهرت لاحقًا تأسست على رؤى العصور القديمة الشرقية واليهودية والإغريقية، ولم تتغير وتتنوع إلا لكي تناسب عصرها.» لكن دورية «وستمنستر ريفيو» رفضت كتاب إنموزر رفضًا حمل طابعًا هجوميًّا شرسًا:

إننا نشعر أنه من قبيل التساهل والتمادي أن نمنح أي مكانة في الحقل العلمي — ولو كانت على هامشه — لكتاب إنموزر «تاريخ السحر». فهكذا موضوع — تناوله مفكر علمي كُفُؤ تناولًا مناسبًا — ربما يكون مثارًا خصبًا للتعليقات، لكننا لا يسعنا إلا أن نأسف لأن تخمينات الدكتور إنموزر الساذجة والجنونية لم تعد قابعة في عتمة اللغة البدائية.

لكن هذا الكتاب كان — في نظر الكثيرين — مصدرًا لقدر كبير من الإلهام والمعرفة، وظل مرجعًا لعلماء نفس ومؤرخين وعلماء أنثروبولوجيا ومشعوذين، ومثيرًا لفضول شخصيات بارزة في مجال الأدب مثل: تشارلز ديكنز، وإليزابيث جاسكل.

وبينما نال كتاب إنموزر تقديرًا ثقافيًّا واسع النطاق، تحوَّل كتاب آخر صدر في القرن التاسع عشر يحمل أيضًا عنوان «تاريخ السحر» من تأليف الساحر الفرنسي ألفونس لويس كونستان (١٨١٠–١٨٧٥) — والمشهور باسم إليفاس ليفي — إلى أحد أحجار الأساس التي أسست لعلم دراسة القوى الخارقة المعاصر. وقد كرر ليفي في كتابه «تاريخ السحر» الذي نُشر عام ١٨٦٠ الروايةَ التقليدية المألوفة عن أصل السحر التي وردت في الكتاب المقدس، لكن مع إجراء تعديلات طفيفة؛ فالسحر بحسب هذا الكتاب هو «العلم الغيبي الخارق، والعلم المطلق» الذي تمتع به إبراهيم وكونفوشيوس وزرادشت، والذي نقشه على الحجر أخنوخ وهرمس طريسميجيسطيس. لكن ليفي لم يستطِعْ تجاهل النصوص الدينية السحرية السنسكريتية القديمة التي باتت في المتناول. ولما كان ليفي مقتنعًا بأن من أنشأ الهند هم ذرية قابيل الذي وردت رواية نفيه في الكتاب المقدس، اعتقد بأن هذا البلد هو موطن السحر الأسود «الشعوذة» وممارسي الدجل المؤذِين. والهند موطن لكل المذاهب الوثنية، وأصل السحر الزائف الموصوف ﺑ «ألف عاهة، والذي يرهب العقول الحصيفة، والباعث على اللعنة من أي كنيسة واعية».

يمثل ليفي — الذي استلهم رؤيته من مذهب الكابالا والمذهب الكاثوليكي الذي يعتنقه هو شخصيًّا — رافدًا رئيسيًّا من روافد علم دراسة القوى الخارقة المعاصر الذي جعل من التبصر السحري تراثًا مسيحيًّا يهوديًّا غربيًّا. وثَمَّةَ رافد آخر في الشرق، وقد نال التأييد الأكبر من الحركة الثيوصوفية التي أسستها الوسيطة الروحانية هيلينا بيتروفنا بلافاتسكي (١٨٣١–١٨٩١). كانت بلافاتسكي قد جابت العالم سعيًا وراء المعرفة الروحانية، وتلمَّست سبيلها عبر مختلِف فروع التراث الصوفي؛ فتوصلت إلى أن أصل كل الحكمة القديمة يكمن في الهند والتبت. تجسد هذا من خلال الحكماء أو القديسين «المهاتما» الغامضين، باعتبارهم بشرًا ارتقَوْا إلى مرتبة روحانية أسمى، وهؤلاء ادَّعت بلافاتسكي بأنها تستمد منهم قوًى روحانية. وكانت تعتقد بأن الهند هي مهد العرق المصري. ولم يكن من المستغرب أن نجد أن بلافاتسكي قد اعتمدت في فهمها لتاريخ السحر اعتمادًا كبيرًا على الترجمة الإنجليزية لكتاب إنموزر، وهو الأمر الذي لا شك في أنه صاغ مفهومها عن المعرفة الغيبية الممتدة من الشرق إلى الغرب. وقد حررت إحدى أتباعها الأوائل — واسمها إيما هاردينج بريتن (١٨٢٣–١٨٩٩) الوسيطة الروحانية الأمريكية بريطانية المولد — كتابًا عنوانه «فن السحر: أو الروحانية الدنيوية ودون الدنيوية وفوق الدنيوية»، تناول موضوع التوجه إلى أقصى الشرق بحثًا عن أصل السحر، وجاء فيه: «لا يوجد كثير من أمم الشرق تفُوق في اهتمامها بالسحر الأمة الصينية؛ الشعب الذي يشكل تراثه لغزًا تاريخيًّا، وينازع حتى الهند في عراقة الأصل.»

مع أن جميع محاولات التأريخ المنشورة عن السحر تهتم تقريبًا بأوروبا والعالم القديم، ثَمَّةَ حضارات أخرى كثيرة في جميع أنحاء العالم لها تاريخها السحري أيضًا، وإن كان لم يَنَلْ سوى نصيب قليل من المؤلفات التي كُتبت عنه. في الكثير من المجتمعات، يجري التعبير عن هذا التاريخ شفويًّا من خلال الأسطورة والخرافة؛ فسكان جزر تروبرياند — مثلًا — الذين درسهم مالينوفسكي كان لديهم تفسيران أسطوريان، أحدهما أن أول من أوجد السحر هي أرواح الأسلاف التي تستقر في عالم سفلي تنبع منه الحياة كلها. وثَمَّةَ أسطورة أخرى تفسر كيف قُدم السحر للناس أولًا من خلال الشخصية البطولية «تودافا»، الذي خلق بعض الجزر بأن ألقى الحجارة في البحر، والذي وهب البشر نعمة الزراعة. وقد ورد في دراسة قديمة — كان عالم الأنثروبولوجيا الهاوي لويس فوري قد أجراها عن البوشمن الذين يعيشون في صحراء كالهاري — أن هؤلاء الناس آمنوا بأن السحر مستمَد من روح شريرة تُدعى «جاوا»، التي تستقبل أرواح أولئك الذين يموتون «ميتة شنيعة». ساوى لويس فوري بين «جاوا» وإبليس، الأمر الذي يثير مجددًا مسألة الوعي بأن الرغبة في إيجاد أوجه تشابه بين تلك الحضارات وتاريخ المسيحية الغربي، قد تؤدي إلى تشويه معتقدات الثقافات الأخرى أو سوء تمثيلها.

بين العلم والهرطقة

كانت الأشكال المختلفة من «السحر» تصحبها سمعة سيئة في أوساط المجتمع اليوناني الروماني القديم، وكانت غالبًا ما تندرج تحت عنوان «الخرافة» الفضفاض. وهكذا كان السحر يُعرَف باحتوائه طقوسًا غريبة، وغالبًا ما تكون النية من ورائه إلحاق الأذى، وبارتباطه بالتسميم والإفساد، وبأنه يُمارَس من أجل التربُّح المشين. لم يكن السحر منفصلًا عن الدين، وإنما يمكن القول بأن السحر كان تعبيرًا بغيضًا ومرفوضًا عن الدين، والمقصود بالدين هنا هو دين الآخر كما ناقشنا في الفصل الأول. وحينما شرعت الكنيسة في سعيها لتحويل سكان العالم المعروف إلى المسيحية، استولت على لغة القدماء وتعريفاتهم كي ترسم حدودًا واضحة تفصل بين الدين الطيب والدين الخبيث. وإبَّان ذلك، رُسمت أبرز الخطوط لتفصل بين الدين والسحر في السجلات التاريخية.

كانت الكنيسة حاسمة في اعتبارها السحر مرادفًا للوثنية، التي يقصد بها أي دين آخر غير المسيحية واليهودية. وقد أعاد أمثال القديس أغسطينوس (٣٥٤–٤٣٠) أسقف هيبو تعريف السحر بأنه شيطاني؛ ومن ثَمَّ، لم تكن الآلهة والأرواح التي عبدها غير المسيحيين في الماضي والحاضر سوى عفاريت وشياطين. ووفقًا لهذا المنظور، فإن الجحيم هو موطن السحر. فالبشر ما كانوا ليفلحوا في السحر من دون عون الشياطين، وحتى في حال نجاحهم فإن آثار هذا السحر لن تزيد عن كونها أوهامًا لا أساس لها، وادِّعاءات تنطق بلسان الخرافة. وكانت مهمة المسيحية أن تمحوَ وجود السحر من العالم، أما السحر في حد ذاته فلم يكن يشكل لها تهديدًا جوهريًّا. لكن هذا الموقف شهد تغيرًا منذ القرن الثاني عشر تقريبًا.

كان الازدهار الذي شهدته الحركة العلمية والصوفية على يد اليهود والمسلمين في إسبانيا وجنوب شرق أوروبا أحد أسباب الاهتمام الثقافي بالسحر في أوروبا المسيحية في العصور الوسطى؛ فإن الثقافتَين الإسلامية واليهودية قد حافظتا على المؤلفات الفلسفية والطبية القديمة التي أضاعتها أوروبا، وطورتا نظرياتهما الإبداعية الخاصة بشأن نظام الكون. وفي تلك المرحلة، تَشارك المسيحيون واليهود والمسلمون مزيج حكمتهم في واحد من فصول الاستكشاف المشترك البالغ الندرة على مر التاريخ. في نظرهم، لم يكن السحر الشعبي الشائع يعدو كونه هراءً خرافيًّا، لكن أرشيف مؤلفات السحر ربما يحوي معرفة تكشف عن القوى الغيبية أو الخفية التي شكلت الوجود. كان الهدف هو الفصل بين نوعَي السحر الطبيعي والشيطاني، والمقدس والدنس، والنافع والضار، ومعرفة نوعه الذي يؤتي تأثيرًا وتحديد السبب في ذلك؛ ففي مجال السحر «الطبيعي» مثلًا، رأَوْا أن فائدة الخيمياء والتنجيم جديرة بالدراسة والتحقيق الدقيق، وقد امتد هذا الفضول المعرفي إلى الطب في شكل البحث في القوى الخفية لدى النباتات والحيوانات والأحجار الكريمة.

وتوضح آراء روجر بيكون — العالم واللاهوتي الذي ظهر في القرن الثالث عشر — الصعوبات التي كان علماء العصور الوسطى يواجهونها في فصل السحر عن العلم والدين؛ فقد كان بيكون يرى العلم سلاحًا في وجه زيف السحر و«بطلانه»، لكنه لم يتمكن في نهاية المطاف من وضع حدٍّ فاصل بينهما. وكان يتقبل أن هناك أنواعًا محددة من الأعشاب والأحجار والمعادن لها قوًى «تكاد تكون إعجازية»، وأن بعض التعاويذ اللفظية ربما تؤتي مفعولًا من خلال قوتَي الفكر والروح، وأن النجوم قد تؤثر في عقول الناس وأجسامهم. باختصار؛ كان يتقبل — دون أن يصرِّح بذلك مباشرة — فكرة أن السحر الطبيعي يعمل بوصفه قوةً غيبية.

وقد تولى المؤرخ الأمريكي لين ثورندايك (١٨٨٢–١٩٦٥) ريادة عملية إعادة تقييم سحر القرون الوسطى؛ إذ كتب في الجزء الأول من المجلدات الثمانية لكتابه «تاريخ السحر والعلم التجريبي» يقول:

أرى أن السحر والعلم التجريبي ارتبطا ببعضهما في تطورهما، وأن السحرة ربما كانوا أول من أجرى التجارب، وأن تاريخَي السحر والعلم التجريبي يمكن فهمهما على نحو أفضل بدراستهما معًا.

وفي حين أنه أقرَّ بأن هذه العلاقة تمتد لتضرب بجذورها في زمن الحضارات القديمة، كان تركيزه منصبًّا بدرجة كبيرة على القرنين الثاني عشر والثالث عشر باعتبارهما فترة تكوينية في تطور العلم الحديث. ورغم تأثره بعلماء الأنثروبولوجيا الأوائل، فإن ما أثبته ثورندايك ساعد على تقويض نموذج فريزر التطوري من خلال توضيحه كيف كان السحر والدين والعلم متشابكات في التطور الفكري، كما يتجسد ذلك في باحثي القرون الوسطى وعصر النهضة. أو كما قال مؤرخ بارز آخر لسحر العصور الوسطى وهو ريتشارد كياكيفر: «إن السحر هو نقطة تقاطع يلتقي عندها الدين بالعلم.»

من نتائج هذه الفترة في العصور الوسطى وعصر النهضة التي اتسمت بالاستكشاف الغيبي؛ زيادة القوة التي ينسبها رجال الدين للشياطين. وهذا بدوره غذى مخاوف متزايدة إزاء التهديد الذي يشكله إبليس بالنسبة للمسيحية. فإذا كان السحر الطبيعي علمًا غيبيًّا، فإن السحر الشيطاني هرطقة؛ وهكذا، لم يَعُد السحر تعبيرًا عن الوثنية، وإنما انحراف عن المسيحية؛ فبدأت الكنيسة تحقق في أنشطة من يمارسون — حقيقةً أو زعمًا — السحر الشيطاني، أو مستحضري الأرواح كما كان يطلق عليهم عادة. كان هذا هو سحر استحضار الأرواح والمناشدات القائم على الطقوس المسيحية، والذي انتشر في أوساط النخبة المتعلمة في أديرة أوروبا وجامعاتها عن طريق الكتب وكتب السحر. ومع ازدياد السحرة الذين تكشفهم الكنيسة، وازدياد عدد كتب السحر التي يعثر عليها محققوها ويحرقونها، ازداد اقتناعهم بأن السحر الشيطاني — وربما كل أنواع السحر — جزء من مؤامرة شيطانية مستفحلة. خلال القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، اتسع نطاق التخوف من الطبيعة الشيطانية للسحر ليشمل أيضًا «خرافات» عامة الشعب، الأمر الذي مهَّد الطريق لعصر محاكمات الساحرات في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

كانت القوانين التي تحارب العرافة والشعوذة التي وُضعت في جميع أنحاء أوروبا خلال النصف الأول من القرن السادس عشر؛ تحارب أيضًا السحر بوجه عام، وهذه حقيقة غالبًا ما تضيع نتيجة لانشغال المؤرخين بمحاكمات الساحرات؛ فقد حدد قانون إنجليزي صدر عام ١٥٤٢ عقوبات لطائفة من أنشطة السحر، التي كان من بينها البحث عن الكنوز وكشف مرتكبي السرقات، في حين حظر القانون الاسكتلندي لعام ١٥٦٣ «استخدام العرافين والمشعوذين ومستحضري الأرواح». في اسكتلندا، كانت عقوبة الإعدام تتهدد كل من يمارس السحر، لكن القوانين في أماكن أخرى — كقانون كارولينا لعام ١٥٣٢ للإمبراطورية الرومانية المقدسة، والقانون الدنماركي لعام ١٦١٧ — حددت عقوبات أخف على ممارسة السحر «النافع». بعبارة أخرى، كان السحر يُعَدُّ نافعًا بالنسبة لعامة الناس المضلَّلين، لكن يجب قمعه باعتباره شيطانيًّا مطلقًا. وفي حين كانت السلطتان العلمانية والإكليريكية تضعان حدًّا فاصلًا بين السحر والدين، وتشنان حملة لإبادة الأول من أجل الحفاظ على الثاني، ظل بعض الأشخاص — مثل توماس فون — يسوقون أسبابًا لتوضيح الدور المقدس للسحر.

لم يَنْءَ الوسط العلمي برُمته عن عالم السحر رغم وصمه بالشيطنة من جانب اللاهوتيين، وظلت الفلسفة الغيبية التي تأسست على الأفلاطونية المحدثة — رؤية للعالم نشأت في أواخر العصر الروماني كانت تعتقد بوجود ترابط روحي بين كل شيء في الكون — قوة فكرية مؤثرة. كان هذا في جزء منه يرجع إلى أن السحر ظل يقدم ميادين جديدة في التحقيق العلمي، وفي جزء آخر يرجع إلى أن الكفر بالسحر — أو بشكله الشيطاني على الأقل — كان من شأنه أن يبعث على الاتهام بالإلحاد. وقد كان إسهام السحر في «الثورة العلمية» في القرن السابع عشر محل جدال كبير؛ فبينما رأى معسكر من المؤرخين أن الثورة العلمية حدثت نتيجة لإنكار السحر، قال آخرون بأن التجريب السحري جزء لا يتجزأ من عملية إنتاج جيل جديد من المبادئ العلمية الجديدة غير السحرية في نهاية المطاف. وهذا المسار الأخير يربط خيوط المساعي الفكرية لسحرة عصر النهضة الذين أعادوا فحص ما أورثه القدماء من حكمة، مثل مارسيليو فيتشينو (١٤٣٣–١٤٩٩) — فيلسوف الأفلاطونية المحدثة واسع الاتصال بالمفكرين العاملين في ميادين مشابهة — وكورنيليوس أجريبا (١٤٨٦–١٥٣٥) فيلسوف الغيبية الألماني، مرورًا بكتابات شخصيات القرن السادس عشر المؤثرة مثل عالم الرياضيات والفلكي جوردانو برونو (١٥٤٨–١٦٠٠) الذي أُعدم حرقًا، وبأنشطة الساحر الإليزابيثي جون دي (١٥٢٧–١٦٠٨)، ووصولًا إلى عمالقة العلم الحديث مثل إسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧). وقد ألهم السعي في مجال السحر الطبيعي — لا سيما الكيمياء القديمة، التي أفرد لها نيوتن وقتًا ليس بالقليل — التحقيق التجريبي للعالم، وهو الأمر الذي تمخض عن قفزات نظرية نقلت البشر للعصر الجديد للعلم.

على المستوى الشعبي، ظلت المعرفة العلمية تعادل المقدرة السحرية، وقد ظهر هذا في أوضح صوره في علم الرياضيات؛ فقد وضع عالم الرياضيات جون ويلكنز (١٦١٤–١٦٧٢) — أحد مؤسسي «الجمعية الملكية» — لكتابه عن «الفنون الميكانيكية» عنوان «السحر الرياضي»، «في إشارة للرؤية الشعبية، التي عادة ما تنسب كل العمليات الغريبة لقوى السحر».

إن السرد التاريخي الذي تشوبه نبرة الانتصار للعرافة — والذي كُتب في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، مصورًا محاكمات الساحرات على أنها نتاج فكر العصور الوسطى غير العقلاني وغير العلمي، ونهاية هذه المحاكمات على أنها نتاج اندلاع ثورة علمية حديثة — كان مضللًا في فهمه لتلك الفترة وساذجًا في مناصرته للنماذج التطورية للتقدم. وكما أشار المؤرخ ستيوارت كلارك، فإن نظريات الإيمان بالشياطين — والتي دعمت اضطهاد الساحرات — كانت تتمتع بمكانة علمية إلى جانب مكانتها اللاهوتية. بالإضافة إلى ذلك، من الصعوبة بمكان التوصل إلى علاقات سببية مباشرة بين التطورات في ميدان المادية العلمية والشكوكية الشعبية أو القضائية في السحر. صحيح أن السحر بحلول القرن الثامن عشر كان قد انفصل إلى حدٍّ كبير عن المساعي العلمية، لكن تطور العلم لم يؤدِّ إلى اختفاء السحر. والتشكك حيال السحر لم يكن يستند إلى أن العلم بات يقدم إجابات شافية عن كيفية عمل الكون؛ ومن ثَمَّ، لم ينتفِ وجود السحر — باعتباره ممارسة وفكرًا وقوة خلاقة — على الإطلاق من المجتمع الغربي الحديث.

هل زال الوهم؟

صك عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (١٨٦٤–١٩٢٠) في محاضرة ألقاها عام ١٩١٧ مصطلح «تحرر [العالم] من الوهم» أو «زوال السحر عن العالم». المصطلح الثاني قد يبدو غريبًا لكنه ترجمة أكثر دقة للكلمة الألمانية الأصلية Entzauberung التي استخدمها فيبر، لكن بما أن تعبير «التحرر من الوهم» بات قاعدة أدبية في الخطاب الأكاديمي، فسوف ألتزم باستخدام هذا المصطلح الذي عبر بإيجاز عن سرد فيبر التاريخي لعملية الانتقال إلى الحداثة من خلال تخليص الدين من السحر. كان فيبر يعتبر السحر فنًّا عقيمًا، يَعِدُ البشر بنَيل السيطرة على العالم الطبيعي الذي تحكمه الأرواح، لكنه محكوم عليه بالفشل الدائم. ووضح فوارق بين الدين والسحر، لكنه كان يعي جيدًا أن هذه الفوارق ليست صُلبة ولا ثابتة، ولا تتماشى بالضرورة مع الأدلة التاريخية. وكان يعتقد أن أقدم أشكال الدين كانت سحرية بالأساس، وأن هناك جوانب من «الدين السحري» ظلت باقية عبر المراحل اللاحقة للفكر الإنساني، كما هو واضح مثلًا في حالة المذهب الكاثوليكي الروماني. حتى هذا الحد، لم يُضِفْ فيبر شيئًا جديدًا؛ فهو رغم كل شيء كان متأثرًا بنظريات علمَي الاجتماع والأنثروبولوجيا التي تحدثنا عنها في الفصل السابق. لكننا نعرض هنا أفكار فيبر لأنه كان يرى أن «مذهب البروتستانتية الزاهدة هو الوحيد الذي تخلص من السحر.»

فقد افترض فيبر في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» (١٩٠٤) — الذي نُشر قبل سنوات من صكه مصطلح «التحرر من الوهم» — أن البروتستانتية شكَّلت نقطة تحوُّل في تطور المجتمع الغربي الحديث، وأن تأثيرها الذي يؤدي إلى التحرر من الوهم على نفسية الفرد والتنظيم المجتمعي يدعم العقلانية العلمية وأخلاقيات الرأسمالية. وكما أوضح لاحقًا، فإن العالم المتحرر من الوهم يعني أن «المرء يستطيع — من حيث المبدأ — أن يسيطر على كل الأمور بالحسابات … وأنه لم يعد بحاجة للجوء إلى وسائل سحرية.» وهذا لم يكن يعني انتهاء الدين وإنكار المبدأ الإلهي، وإنما تحررًا غامضًا من عبودية الحياة المهمومة بالحفاظ على علاقتها بالقوى الخارقة.

وقد أثرت نظرية فيبر — التي ذهبت إلى أن «حركة الإصلاح الديني» حررت الدين من السحر وألهمت ظهور «العقلانية التقنية» — تأثيرًا كبيرًا على الطريقة التي فسَّر بها المؤرخون ارتقاء العلم وتوسع التجارة والتوجه نحو عصر التنوير في أوائل العصر الحديث. وقد عكس عنوان دراسة كيث توماس الكلاسيكية «الدين وتراجع السحر» (١٩٧١) وموضوعها الرئيسي — والتي تغطي التاريخ الإنجليزي في الفترة من العصور الوسطى وحتى القرن الثامن عشر — مفهوم فيبر عن «تحرر العالم من الوهم»، لكن توماس أقر بأن «حركة الإصلاح الديني» روجت مخاوف بشأن السحر لم تقِل حدتها إلا بعد مرور قرنَين من الزمان خلال عصر التنوير؛ حيث كانت البروتستانتية مرحلة أساسية لكنها «انتقالية» على الطريق نحو مجتمع عقلاني حديث في إنجلترا.

ابتعد المؤرخون على مدار السنوات العشرين الماضية تقريبًا أكثر فأكثر عن أطروحة التحرر من الوهم، وفضحوا أساساتها بالغة الإشكالية، وقوضوا أيضًا أطروحة توماس في هذا الصدد إلى حدٍّ ما؛ فأولًا: عناصر التحرر من الوهم يمكن العثور عليها في فترة ما قبل الإصلاح الديني، وثانيًا: إخفاقات الإصلاح الديني باتت الآن واضحة بقدر اتضاح نجاحاته، وهذا يُعزَى — جزئيًّا — إلى العمل الأرشيفي المفصل لسجلات محكمة الكنيسة؛ فقد بات واضحًا الآن أن السلطات البروتستانتية جاهدت لحمل الناس على التفكير باعتبارهم بروتستانتيين صالحين، ولإخماد التزام البعض بالنشاط الشعائري الكاثوليكي. وهذا ما يصفه بعض المؤرخين الآن بأنه «الإصلاح الطويل». يضاف إلى ذلك أن البروتستانتية، ربما اعتنقت عقيدة عقلانية ومستنيرة، لكنها في الوقت الذي كانت تحاول فيه أن تتخلص من العقيدة السحرية للكاثوليكية، كانت عقيدتها تعزز وتروج جوانب معينة من السحر. وهكذا، على سبيل المثال، فإن التركيز على امتلاك الفرد للكتاب المقدس، وتشجيع الحصول عليه، مهَّد الطريق لانتشار استخدامه استخدامات سحرية على نطاق واسع في بعض الثقافات الشعبية، وهذا ما سنعرض له في فصل لاحق. والمؤرخون الآن أكثر وعيًا أيضًا باستمرار «الرؤى العالمية السحرية» في المجتمعات الصناعية الحديثة في جميع أنحاء العالم، وعلى جميع المستويات الاجتماعية، وباتوا أقل استعدادًا لأنْ يقبلوا بصحة المفاهيم التطورية القديمة بشأن التقدم الاجتماعي والفكري تقبُّلًا تامًّا دون أي نقد.

هوامش

(1) © Wellcome Library, London.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤