الفصل الأول

حرية الكلام

أكره ما تقول، لكني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله.

تلخص هذه المقولة — المنسوبة إلى فولتير — الفكرة الرئيسية لهذا الكتاب وهي أن حرية الكلام جديرة بالاستماتة في الدفاع عنها، حتى عندما تكون على خلاف مع ما يُقال، يتضمن الالتزام بحرية الكلام حماية الكلام الذي لا تود سماعه، تمامًا مثل حمايتك للكلام الذي تود سماعه، هذا المبدأ هو أساس الديمقراطية، وحق أساسي من حقوق الإنسان، حمايته رمز للمجتمع المتحضر والمتسامح.

أقرت بوضوح كلٌّ من المادة (١٩) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، والتعديل الأول لدستور الولايات المتحدة؛ الحاجة إلى حماية حرية الكلام.

(١) التعديل الأول

لا يصدر الكونجرس أي قانون … يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلميًّا، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف.

التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة

الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

لكل إنسان الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.

المادة (١٩) من الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة ١٩٤٨

تشير كلتا الحالتين إلى الأهمية البالغة لمبدأ حرية الكلام، لكنهما في الوقت نفسه اعتراف بمدى الوهن الذي قد تصل إليه هذه الحرية إن لم تحظ بالحماية، كان الغرض المفترض من «التعديل الأول» منع الحكومة المركزية من التعدي على هذا الجانب؛ فهو حصن ضد استخدام الرقابة كما لو كانت أداة شرعية لمنع انتقاد سياسات الحكومة، تصعب مقاومة الرغبة في استخدام القانون أو القوة لتكميم أفواه الخصوم من أي نوع، ودون وجود حرية تمكِّن من انتقاد من يمثلوننا ومساءلتهم، قد تتحول الأنظمة الديمقراطية إلى أنظمة استبدادية، لكن الحكومات ليست وحدها من يقيد حرية الكلام، وليس الكلام السياسي وحده هو ما يستلزم الحماية.

بالرغم من أني سأناقش عددًا من القضايا القانونية، فإن هذا الكتاب لا يدور حول «قانون حقوق الإنسان» أو تفسير «التعديل الأول»، هدفي هو طرح عرض نقدي للحجج الأساسية المتعلقة بحرية الكلام وقيمته وحدوده، فعندما أناقش قوانين معينة يكون هذا عادةً في سياق شأن فلسفي أشمل حول التفسير الأخلاقي لهذه القوانين، فالأسئلة الرئيسية التي توجِّه هذا الكتاب هي أسئلة أخلاقية، مثل: «ما قيمة حرية الكلام؟» و«ما الحدود التي ينبغي تعيينها لحرية الكلام؟» هناك اهتمام لدى كل البشر بالسماح لهم بالتعبير عن أنفسهم، والحصول على فرصة لرؤية التعبير الحر للآخرين والاستماع إليه وقراءته، ولحرية الكلام أهمية خاصة داخل المجتمعات الديمقراطية.

الإيمان بأهمية حرية الكلام ليس عقيدة موروثة من «عصر التنوير»، بالرغم من تأكيد البعض على أنه كذلك، اعتقد كارل ماركس أن الحقوق الليبرالية تميل إلى الحفاظ على مصالح البرجوازية الفردية بدلًا من المصالح الدائمة للإنسانية، وأنا لا أتفق مع ذلك؛ فإعلان الحق في حرية كلام شاملة ليس مجرد وسيلة لحماية كلام من يشغلون مواقع السلطة؛ اقتصادية كانت أو سياسية.

تحظى حرية الكلام بأهمية خاصة في المجتمعات الديمقراطية، ففي الدول الديمقراطية يرغب الناخبون في الاستماع إلى نطاق واسع من الآراء وتفنيدها، وفي الحصول على حقائق وتفسيرات ووجهات نظر متباينة، حتى عندما يرون أن الآراء المطروحة مستهجَنة على المستوى السياسي أو الأخلاقي أو الشخصي، ربما لا تُنقل هذه الآراء مباشرةً عبر الصحف والإذاعة والتليفزيون، وإنما تُعرض عادةً في الروايات والقصائد والأفلام والرسوم الكاريكاتيرية والأغنيات، كذلك يمكن التعبير عنها رمزيًّا بحرق عَلَم، أو — كما فعل العديد من المتظاهرين المناهضين لحرب فيتنام — حرق بطاقة التجنيد، يهتم أفراد الدولة الديمقراطية أيضًا بالمشاركة الفعالة لعدد كبير من المواطنين في الحوار السياسي بدلًا من التلقي السلبي للسياسة الصادرة من السلطات العليا.

ذهب البعض إلى أبعد من ذلك وقالوا إن الحكومة التي لا تكفل حرية كلام شاملة لن تكون حكومة شرعية على الإطلاق، ولا ينبغي أن توصف بأنها «ديمقراطية»، الديمقراطية من هذه الوجهة تتطلب أكثر من مجرد الالتزام بالانتخابات وممارسة حق الاقتراع العام؛ فالحماية الشاملة لحرية الكلام شرط أساسي لأي دولة ديمقراطية تستحق هذا الوصف؛ إذ دونها لا تكون الحكومة تشاركية فعليًّا، وهذا هو رأي رونالد دوركين:

حرية الكلام شرط للحكومة الشرعية؛ فالقوانين والسياسات لا تكون شرعية إلا إذا طُبقت من خلال عملية ديمقراطية، ولا تكون العملية ديمقراطية إذا منعت الحكومة أي شخص من التعبير عن معتقداته بشأن ما يجب أن تكون عليه هذه القوانين والسياسات.

في الدولة الديمقراطية، إذا كانت لدي آراء بشأن كيفية عمل من يمثلونني سياسيًّا، ينبغي إذن أن يُسمح لي بالتعبير عن هذه الآراء، بما يتعدى مجرد وضع علامة بجوار اسم المرشح في ورقة الاقتراع كل بضع سنوات.

إلا أن الموقف ليس بسيطًا على الإطلاق؛ إذ توجد عواقب خطيرة ومتوقعة للعديد من أنواع التعبير، وهناك حالات تكون فيها عوامل أخرى أكثر أهمية من حرية الكلام، فعندما يتعرض الأمن القومي لتهديد خطير — على سبيل المثال — أو عندما يوجد خطر بتعرض الأطفال لأذى شديد، نجد استعدادًا لدى كثير من الناس لتقييد حرية الكلام إلى حد ما من أجل غايات أخرى، وكما أشار تيم سكانلون، فإن حرية الكلام مكلِّفة:

ما يقوله الناس قد يسبب ضررًا، أو يفشي معلومات شخصية، أو يكشف عن معلومات عامة مضرة، هذه ليست منطقة حرة يمكنك أن تفعل فيها ما تريد لأنه لا شيء يهم؛ فالكلام له أهميته.

تكمن الصعوبة هنا في تحديد الاستثناءات المقبولة لمبدأ حرية الكلام بحيث لا يسمح التطبيق المتسق للمبدأ بوجود رقابة غير مرغوب تمامًا فيها، كذلك ثمة خوف مبرر من أن كل إجراء رقابي يُسمح به سيُسهل فرض مزيد من الرقابة فيما بعد، وهذا الخوف من التآكل التدريجي للحريات هو أحد الأسباب وراء أن القيود التي تُفرض على الحرية والتي تبدو في ظاهرها بسيطة قد تثير ردود أفعال قوية لدى من يقدرون حرية الكلام.

(٢) ما معنى «الكلام»؟

سأستخدم على مدار الكتاب مصطلح «حرية الكلام» بمفهوم واسع لا ليقتصر على الكلام المنطوق (وهو المعنى الدقيق لكلمة «كلام»)، بل ليشمل نطاقًا واسعًا من أشكال التعبير، بما في ذلك الكلمات المكتوبة، والمسرحيات، والأفلام، ومقاطع الفيديو، والصور، والرسوم الكاريكاتيرية، واللوحات، وغيرها، في معظم القضايا الجدلية الخاصة بالأفكار المعبَّر عنها قولًا أو كتابةً، يحدد سياق التعبير معناه، فالتعبير عن الفكرة في مكان محدد وزمان محدد له تأثير متوقَّع، والمستمعون والقراء يفهمون تعبيرًا ما على أنه أُلقي عن عمد في هذا السياق ليكون له تفسير معين متوقع، على النحو نفسه يؤثر سياق عرض أحد الأفلام أو مقاطع الفيديو أو الصور أو الرسومات أو اللوحات مباشرةً في كيفية تلقي الجمهور لها؛ وعليه فإن فهم أي مثال لكلام حر أو تعبير حر يتطلب تقدير وقت توجيه هذا التعبير، وإلى مَن وُجِّه، والتأثير المقصود منه أو على الأقل المتوقع له.

وكما ذكرت آنفًا يمكن التعبير عن الأفكار من خلال الأفعال العامة الرمزية، مثل حرق عَلَم أو حرق بطاقة تجنيد، عندما يُقصد بوضوح من هذه الأفعال توجيه رسالة ما، فإن حقيقة خلوها من الكلمات لا يمنعها من أن تكون أمثلة على الكلام، فإن مُنع الأفراد — بالقانون أو القوة — من توصيل آرائهم بمثل هذا السلوك الرمزي، تكون حرية كلامهم مقيدة. أصدرت المحكمة العليا للولايات المتحدة في عام ١٩٦٩ حكمًا بأن ارتداء شريط أسود حول الذراع في المدارس أمر مكفول بوصفه فعلًا تواصليًّا يشمله التعديل الأول.

عادةً لا تمثل حرية الكلام مشكلة عندما تتعلق بحوار خاص أو مناجاة للنفس أمام المرآة، إلا إذا كانت غرفتك مزروعة بأجهزة تنصت كما حدث مع بعض المنشقِّين المشتبه بهم في ألمانيا الشرقية أثناء الحرب الباردة، تظهر التساؤلات حول حرية الكلام عادةً عندما يتعلق الأمر بالتواصل العام في أي صورة من صوره، مثل نشر كتاب أو قصيدة أو مقال أو صورة، أو بث برنامج إذاعي أو تليفزيوني، أو إبداع عمل فني وعرضه، أو إلقاء خطبة على حشد سياسي، أو ربما نشر نقد لاذع في إحدى المدونات، أو الحديث عبر نشرة صوتية. توجد أهمية خاصة لحرية الكلام لكُتَّاب أدب الخيال والأدب الواقعي على حد سواء؛ إذ يقوم جوهر عملهم على نقل الأفكار علنًا، فيما يتعلق بكُتَّاب الأدب الواقعي، تكون حرية نقل الحقيقة كما يدركونها أمرًا أساسيًّا، أما فيما يتعلق بكُتَّاب أدب الخيال فإن القيود المفروضة على الأفكار التي يستطيعون التعبير عنها — لأسباب أيديولوجية أو دينية أو غيرها — تدمر إبداعهم، وعلى مدار أكثر من ثلاثين عامًا لم تجد مجلة «إندكس أون سينسورشيب» صعوبة في ملء صفحاتها بأمثلة لكُتَّاب حُرموا هذا الحق الأساسي في التواصل، وتضم سجون العالم العديد من الكتَّاب الذي تخطوا — في نظر متهِميهم — الحدود المقبولة المفروضة على ما يعرضونه من أفكار، وكثير من أعظم الكتَّاب في التاريخ تعرضوا للسجن أو التعذيب أو حتى القتل بسبب تعبيرهم عن أفكارهم.

يتميز مصطلح «حرية الكلام» بارتباطه بفكرة تواصل الأفراد عن طريق إحدى أكثر الطرق المباشرة والشخصية المتاحة لنا؛ ألا وهي الصوت، أما مصطلح «حرية التعبير» فيوصف بأنه أكثر دقة، لكنه يحمل أيضًا دلالة أن ما يُعَبَّر عنه أمر ذاتي إلى حد ما، مع أنه في العديد من الحالات الجدلية التي خضع فيها الكُتَّاب وغيرهم للرقابة، لم تكن الحقائق التي يحاولون نقلها إلى الجمهور العريض تحمل أي طابع ذاتي، فالكاتب الصيني الذي يعرض التفاصيل الدقيقة لكيفية مقتل العديد من الطلاب في مذبحة «ميدان تيانانمين» عام ١٩٨٩ — على سبيل المثال — لا «يعبر» عن فكرة بقدر ما يعرض حقائق، وحتى لو منعته الحكومة الصينية من الكلام، فستظل الحقائق باقية.

كثيرًا ما توصف الرقابة مجازًا بأنها قضاء على «صوت» فرد أو جماعة، فعندما أرادت الحكومة البريطانية عام ١٩٨٨ التخفيف من صدى الرسالة التي يوجهها زعماء حزب «شين فين» الأيرلندي، جردتهم فعليًّا من أصواتهم من خلال تكليف ممثلين بإلقاء كلماتهم في النشرات الإخبارية، وكان الظن أن الكلمات في حد ذاتها ستكون أقل تأثيرًا عندما يلقيها بنبرة محايدة ممثل — يُفترض أنه لا يؤمن بها — بدلًا من أن يلقيها جيري آدمز أو مارتن ماجينيس؛ زعيما حزب «شين فين». أسفرت هذه السياسة الغريبة عن نتيجة عكسية، فكانت كل نشرة إخبارية بمنزلة تذكير غير شفهي بأن زعماء حزب «شين فين» حُرموا شيئًا من حرية الكلام.

يوجد جانب آخر لموضوع حرية الكلام نادرًا ما يُذكر، وهو أنه في مناخ لا يشعر فيه الناس بقدرتهم على التعبير عن آرائهم، أو يُمنعون بقوة من ذلك، ربما لا يمكنهم ببساطة استيعاب الرأي المحظور، فمعظمنا لا يدرك تحديدًا ما نفكر فيه إلا عندما نحاول التعبير عن أنفسنا أمام جمهور أو على الأقل أمام جمهور محتمل، ومعظم المفكرين يطورون أفكارهم من خلال التفاعل مع آخرين يتفقون أو يختلفون مع ما يفكرون فيه، صحيح أن بعض المعتقلين السياسيين يستطيعون نظم الشعر في أذهانهم، لكن كاتبًا استثنائيًّا هو وحده من يستطيع الاحتفاظ برواية كاملة أو عمل بحجم كتاب أو عمل واقعي في ذاكرته، إضافةً إلى ذلك، تتطلب بعض أنواع الكتابة بحثًا على نطاق واسع، وحينما تحظر الدولة التعبير عن أنواع معينة من الأفكار، يكون الوصول أيضًا للمواد المطلوبة من أجل التعبير عن هذه الأفكار بأسلوب مقنع ممنوعًا عادةً. الحبس الانفرادي أحد الأساليب الفعالة لفرض الرقابة ويُطَبَّق على نطاق واسع ضد الكُتَّاب والمفكرين المعارضين، بإمكان التهديد بالسجن أو التعذيب أو الموت قمع أنواع المناقشات التي تحفز التعبير، إلا أن التاريخ يعلمنا أن الكثير من الناس لا يهابون هذه التهديدات، ويتحلون بالشجاعة الكافية ليتكلموا حتى إن كان هذا يعني موتًا أكيدًا ومؤلمًا.

(٣) ما معنى «حرية»؟

ميَّز الفيلسوف إشعيا برلين بين مفهومين للحرية: السلبية والإيجابية، تعني الحرية السلبية غياب القيود، فأنت حر في فعل أي شيء في هذا المنظور السلبي إذا لم يمنعك أي شخص من القيام به، لديك حرية الوقوف الآن إن لم يكن أحد يمنعك من ذلك، في المقابل، تعني الحرية الإيجابية حرية تحقيق ما تريده فعليًّا، فربما تعاني — مثلًا — قيودًا نفسية داخلية تمنعك من التعبير عن نفسك كما تريد، مع أن أحدًا لا يمنعك من الكلام، يرى برلين أنك حر بالمنظور السلبي، وليس الإيجابي.

أركز في هذا الكتاب على المفهوم السلبي للحرية، فتاريخ حرية الكلام هو تاريخ من المحاولات لمنع الأشخاص من التعبير عن آرائهم، سواء بالرقابة أو الاعتقال أو القوانين المقيِّدة أو التهديدات الفعلية والضمنية باستخدام العنف، أو حرق الكتب، أو اعتراض آليات البحث، أو الإعدام في أكثر الحالات تطرفًا، إلا أنه جدير بالذكر أن بعض الفلاسفة الماركسيين — مثل هربرت ماركوز في مقاله «التسامح القمعي» — أشاروا إلى أن غياب الرقابة لا يضمن ممارسة الحرية على نحو يستحق التقدير؛ ففي مجتمع يلقِّن فيه المسيطرون على وسائل الإعلام عامة الناس ويتحكمون فيهم، قد تخدم حرية الكلام مصالح ذوي النفوذ فحسب، ويكون شبيهًا في تأثيره بالرقابة القمعية في مجتمع استبدادي، وسواء كان ماركوز محقًّا بشأن سهولة انقياد عامة الناس أم لا، فإن الحل الذي قدَّمه — فرض رقابة على «التحركات الرجعية» خاصةً ما يتعلق بالحق السياسي — هو شكل متناقض من أشكال التعصب تحت مسمى التسامح.

(٤) حرية لا إجازة

يقر أنصار حرية الكلام دون استثناء تقريبًا بالحاجة إلى وجود «بعض» القيود على الحرية التي ينادون بها، بعبارة أخرى، ينبغي عدم الخلط بين الحرية والإجازة، فالحرية الكاملة في الكلام ربما تسمح بحرية التشهير، وحرية الاشتراك في دعاية زائفة ومضللة للغاية، وحرية نشر مواد جنسية عن الأطفال، وحرية كشف أسرار الدولة، وما إلى ذلك. أوضح ألكساندر ميكلجون — وهو مفكر مهتم على وجه الخصوص بتنمية أنواع الحوار المفيدة للدول الديمقراطية — هذه النقطة بقوله:

عندما يطالب الأفراد المستقلون بحرية الكلام، فإنهم لا يعنون أن يتمتع كل إنسان بحق ثابت في التحدث وقتما وأينما وكيفما يشاء، فهم لا يقولون إن أي إنسان يستطيع التحدث كيفما ووقتما وعمَّا وعمَّن يحلو له.

هذه نقطة مهمة؛ فحرية الكلام التي نريدها هي حرية التعبير عن آرائك في الأوقات والأماكن المناسبة، لا حرية الحديث في أي وقت تريد، كذلك لا ينبغي أن تكون حريةً للتعبير عن أي آراء كانت، بل لا بد من قيود تضبطها.

عيَّن جون ستيوارت مِل — أشهر المساهمين في المناقشات حول حدود الحرية الشخصية ومحور الفصل الثاني من هذا الكتاب — حد هذه الحرية بالنقطة التي يكون عندها الكلام أو الكتابة محرضين على العنف، بالرغم من أنه نادى بقدر من حرية التعبير الفردية أكثر بكثير مما كان يروق لمعظم معاصريه، وأوضح أيضًا أن حججه المؤيدة للحرية تنطبق فقط على «البشر في مرحلة النضج»؛ فهو يرى أن مذهب الأبوية — بمعنى إجبار شخص على شيء ما لمصلحته — مناسب مع الأطفال، وعلى نحو أكثر إثارة للجدل، مع «تلك المجتمعات المتخلفة التي ربما تُعتبر أعراقها كلها غير ناضجة». بيد أن تطبيق هذا المذهب غير مناسب تجاه الأفراد البالغين في المجتمعات المتحضرة؛ إذ ينبغي أن يتمتعوا بحرية تقرير أسلوب حياتهم، وبحرية ارتكاب الأخطاء أيضًا.

التعليق الشهير للقاضي أوليفر وندل هولمز الابن عن أن حرية الكلام لا ينبغي أن تتضمن حرية الصياح بكلمة «حريق!» في مسرح مزدحم، يلفت الانتباه إلى نقطة مهمة يسهل إغفالها عندما تطغى اللغة الخطابية عند الحديث عن الحرية؛ فأنصار حرية الكلام عليهم وضع حدود في مكان ما، يجب ألا تشغلنا الدلالات المثيرة للعاطفة لكلمة «حرية» بحيث تنسينا هذا الأمر، فالسماح لشخص بأن يصيح بكلمة «حريق» في مسرح مزدحم ربما يتسبب في حالة من الفرار الجماعي تنتج عنها إصابات أو حتى وفيات، وربما تتسبب هذه الخدعة أيضًا في تسكين ردود أفعال مرتادي المسارح عند إطلاق صيحة حقيقية بوجود حريق. أدلى هولمز بتعليقه هذا في الحُكم الذي أصدرته المحكمة العليا (قضية سكينك ضد الولايات المتحدة) فيما يتعلق بالتعديل الأول، أصدر هولمز هذا الحكم عام ١٩١٩، لكن التهمة نفسها — طباعة وتوزيع ١٥٠٠٠ نشرة مناهضة للحرب بين الجنود خلال وقت الحرب — وقعت في عام ١٩١٧، أشارت النشرات إلى أن تجنيد الجنود «خطأ فادح ضد الإنسانية لمصلحة قلَّة مختارة في وول ستريت»، رأى هولمز أن سياق أي تعبير يحدد جزئيًّا هل يمكن إخضاعه للرقابة إخضاعًا مبررًا، وفي حين أن التعبير عن مثل هذه الأفكار قد يحظى بحماية «التعديل الأول» في وقت السِّلم، ينبغي أن تعامَل الأفكار المعبَّر عنها نفسها في وقت الحرب على نحو مختلف وألا تستحق هذه الحماية، ففي هذه الحالة يمكن لهذه الأفكار أن تقوِّض كل جهود الحرب على نحو خطير، لذا صرح هولمز بأن هذه الظروف الاستثنائية تبرر فرض قيد استثنائي على الحرية:

السؤال في كل حالة هو هل الكلمات المستخدمة تستخدم عادةً في مثل هذه الظروف، وهل من شأنها أن تتسبب في خطر واضح وحاليٍّ، بحيث تنتج عنها شرور خطيرة يحق للكونجرس منعها، إنها مسألة متفاوتة، فعندما تكون الدولة في حالة حرب، تمثل العديد من الأشياء التي يُسمح بقولها في وقت السلم عائقًا لمجهوداتها، فلا يُقبل التحدث بها ما دامت حالة القتال قائمة، ولا تعتبرها أي محكمة محمية بموجب أي حق دستوري.

كرس هولمز نفسه — تمامًا مثل مِل — للدفاع عن حرية الكلام في معظم الحالات، ودافع بوضوح عن قيمة «التبادل الحر للأفكار» بوصفها جزءًا من البحث عن الحقيقة، مع أنه — بعكس مِل — قدم وصفًا عمليًّا للحقيقة، فقال: «أفضل اختبار للحقيقة هو قدرة الفكرة على أن تفرض قبولها وسط المنافسة التي يشهدها السوق.» أُولِع هولمز بالكتابة عمَّا أسماه «التجربة» المضمنة داخل دستور الولايات المتحدة، مشيرًا إلى أنه ينبغي أن «نحترس دومًا» من أي محاولة لإسكات الآراء التي نمقتها، إلا إذا مثلت تهديدًا شديدًا للدولة؛ وعليه جاء اختبار «الخطر الواضح والحالي» الموضح في الاقتباس أعلاه. اهتم هولمز — بوصفه قاضيًا — على وجه التحديد بكيفية تفسير «التعديل الأول»، فكان اهتمامه منصبًّا على تطبيق القانون، على العكس من ذلك، لم يكتب مِل قط عن الحقوق القانونية، بل كتب عن السؤال الأخلاقي بشأن مدى صحة تقييد حرية الكلام بالقانون، أو بما وصفه باستبداد رأي الأغلبية؛ حيث يمكن تهميش آراء الأقلية أو حتى إسكاتها عن طريق استنكار المجتمع لها.
fig1
شكل ١-١: أوليفر وندل هولمز الابن، أحد أنصار حرية الكلام، وإن كان مشهورًا بمقولته إنها لا تتضمن حرية الصياح بكلمة «حريق!» في مسرح مزدحم.1

من ثم رأى كل من مِل وهولمز ضرورة وجود حدود لحرية الكلام، وأن اعتبارات أخرى يمكن أن تحبط أحيانًا أي افتراض بوجود حق مطلق (قانوني أو أخلاقي) لحرية الكلام، وبعيدًا عن الاعتبارات الاستثنائية التي تنشأ في أوقات الحرب، ما زالت معظم النظم القانونية التي تصون حرية الكلام بوجه عام تقيد حرية التعبير عندما يتضمن — على سبيل المثال — قذفًا أو تشهيرًا، أو عندما ينتج عنه كشف أسرار الدولة، أو عندما يهدد عدالة القضاء، أو عندما يمثل تطفلًا كبيرًا على الحياة الخاصة لشخص ما دون مبرر مقبول، أو عندما ينتج عنه خرق لحقوق التأليف (مثلًا، باستخدام كلمات واردة عن شخص ما دون إذنه)، وأيضًا في حالات الدعاية المضللة، كذلك تضع العديد من الدول قيودًا صارمة على أنواع المواد الإباحية التي تُنشر أو تُستخدم، هذه مجرد مختارات من أنواع القيود الشائعة على الكلام وأنواع التعبير الأخرى في الدول التي تقر أحد أشكال مبدأ حرية الكلام، والتي ينظر مواطنوها إلى أنفسهم على أنهم أحرار.

(٥) أين نضع الحدود؟

إذا كنت لا تزال تؤمن — بعد قراءة ما سبق — بأن حرية الكلام لا ينبغي أن تخضع أبدًا لقيود تحت أي ظروف، فتأمل مثالًا تخيليًّا طرحه الفيلسوف توماس سكانلون: ماذا تقول في مخترع كاره للبشر اكتشف طريقة سهلة لإعداد غاز أعصاب ذي فعالية عالية من منتجات محلية يسهل العثور عليها؟ بالتأكيد في هذا الموقف سيكون من الصائب منعه من إعطاء الوصفة لأحد أو نشرها بأي طريقة أخرى، قليل جدًّا من الناس هم من قد يود الدفاع عن حقه في حرية الكلام فيما يتعلق باختراعه الخطير؛ اختراع ليس له أي فائدة واضحة للبشرية وله العديد من الأخطار المحتملة، حتى إن كان المخترع لا يقصد استخدام اختراعه بما يضر الآخرين، فسيظل من الصواب منع هذه المعلومات الخطيرة من الانتشار على نطاق واسع، فإذا كنت تؤمن بأن حرية الكلام ينبغي الدفاع عنها في كل الأحوال، فعليك إذن أن تؤمن بضرورة الدفاع عنها حتى في حالة كهذه.

إذا بدا لك مثال مخترع غاز الأعصاب خياليًّا، فإليك مثال حقيقي لكتاب بعنوان «القاتل المأجور: دليل فني للقتلة المأجورين المستقلين.» يقدم هذا الكتاب — الذي يقال إنه أدب خيالي — إرشادات مفصلة لكيفية القتل بحذر والتخلص من الجثث، نُشر هذا الكتاب عام ١٩٨٣ في الولايات المتحدة، وزادت شهرة الكتاب عندما استأجر لورنس هورن قاتلًا مأجورًا لقتل ابنه وزوجته السابقة وممرضة ابنه من أجل الحصول على أموال التأمين، اتبع القاتل حرفيًّا التعليمات الواردة بالكتاب عن كيفية جعل المسدس صعب التعقب، واستخدام كاتم صوت منزلي الصنع، وإطلاق النار من مسافة قريبة، وما إلى ذلك. حُكم على القاتل بالإعدام، وعلى هورن بالسجن مدى الحياة، ورُفعت دعوى قضائية ضد ناشري الكتاب، وأعد الناشرون دفاعًا معتمدًا على التعديل الأول، انتهت القضية أخيرًا بتسوية مالية من جانب الناشرين، واعتبر البعض أن محاولة مقاضاة ناشري هذا الكتاب هجوم على حرية الكلام، في حين اعتبرها آخرون رد فعل أخلاقي مناسبًا لمنع التداول الواسع لعمل أوحى بارتكاب جريمة قتل وقدم دليل تعليمات لها، وربما يتكرر الأمر مرة أخرى. اعتبر معظم من يرون أن الرقابة في هذه الحالة تمثل قيدًا غير مقبول على حرية الكلام — هذا الكتاب غير مسئول وخطيرًا، إلا أنهم كانوا قلقين من خطر تقييد حرية الكلام، لا سيما أن أغلب المعلومات الواردة بالكتاب كانت متاحة بالفعل على نطاق واسع في أفلام العصابات وكتب الجرائم الواقعية، إذا أمكن إثبات أن الكتاب يحرض مباشرةً على العنف، فعندها توجد أسباب واضحة لفرض الرقابة، أما إن لم يمكن ذلك، فإن هذا يبدو تعديًا على الحرية الفردية.

عندما تقول: «أؤيد حرية الكلام.» فإن العبارة تكون ناقصة المعنى نسبيًّا دون توضيح حدود هذه الحرية، ولا تعني هذه العبارة عند أغلب الناس: «أنا أؤيد حرية الكلام في كل الظروف على الإطلاق.» إلا أن تعيين هذه الحدود ليس بالأمر السهل، فهذا يعني تحديد الوقت الذي تحظى فيه قيمة مناقضة بالأولوية على هذه الحرية، في قضية سكينك، اعتبر الأمن القومي خلال فترة الحرب (بأثر رجعي) أعلى قيمة، أما في قضية كتاب القاتل المأجور، كان يوجد قلق حقيقي من أن نشر هذا الكتاب يحمل مجازفة كبيرة بوقوع عواقب وخيمة، وربما أوحى بالفعل بارتكاب جرائم قتل متعددة.

(٦) حجة المنحدر الزلق

مع ذلك ربما يجب الاعتراض على جميع القيود المفروضة على حرية الكلام تقريبًا، على أساس أن السماح للحكومة بتقييد مثل هذه الحرية الأساسية يعني التوجه نحو منحدر زلق ينتهي حتمًا بالوصول إلى الاستبدادية، ودون «وثيقة الحقوق» ربما تكون المملكة المتحدة أكثر عرضة لهذا مقارنة بالولايات المتحدة. الواقع أن عدم الثقة في الحكومات وقدرتها على الرقابة على أسس عقلانية تشكل حافزًا مهمًّا للدفاع عن مبدأ حرية الكلام، إلا أن وجود مبدأ مثل «التعديل الأول» له مشكلاته المصاحبة؛ فهو مثل أي مبدأ يتسع لمدى عريض من التفسيرات — تمامًا كما أوضح فقه قانون «التعديل الأول» — في ظل وجود نقاشات محتدمة حول تطبيق مبدأ حرية التعبير الذي تحميه هذه المادة الدستورية، وحول القيود المفروضة عليه.

تشتمل فوائد الحفاظ على حرية الكلام — وفقًا لحجة المنحدر الزلق — على الحماية من الانزلاق إلى نظام استبدادي أو على الأقل نظام شبيه به، يقترح هذا الأسلوب ضرورة حفاظنا على حرية الكلام بسبب التبعات الحميدة التي تنتج عن ذلك، غير أنه يسهل تفنيد الصور المبالغة في التبسيط لهذه الحجة، ربما تكون المنحدرات الزلقة زلقة نوعًا ما، وفي بعض الحالات يحتمل أن يتشبث أحد برأيه ويقول «هنا وكفى.» بعبارة أخرى، حقيقة اتخاذ حكومة ما قرارًا بإعطاء أهمية للأمن القومي تفوق أهمية حرية الكلام في بعض الحالات، لا تعني أن هذه الحكومة الديمقراطية ستتحول حتمًا إلى نظام استبدادي، فالمسألة هنا تجريبية وتدور حول مدى الانحدار في مثل هذه الظروف، فحقيقة أنه يمكننا الانتقال من دولة ديمقراطية مفتوحة إلى دولة استبدادية من خلال سلسلة من الأفعال الصغيرة، لا تعني بالضرورة أننا إذا اتخذنا خطوة واحدة بعيدًا عن الديمقراطية المفتوحة فسينتهي بنا الحال إلى الاستبدادية. ولصياغة الأمر بطريقة أخرى، واستكمالًا للصورة البلاغية، يمكننا القول إن هذه المنحدرات ربما تكون زلقة نوعًا ما أو حادة الانحدار أو قليلة الارتفاع، لا بد من وجود مزيد من الأدلة التجريبية لتأييد زعم الانحدار الحتمي نحو الاستبدادية، أما النقد الآخر فيتمثل في أننا بعيدون بالفعل إلى حد ما عن المجتمع الذي يكفل حرية الكلام تمامًا، ومع ذلك لا يبدو أننا نندفع في اتجاه الاستبدادية.

بالرغم من ذلك، لا تزال لحجة المنحدر الزلق ثقلها، ففي المملكة المتحدة، فُرض قانون جديد عام ٢٠٠٥ (قانون الجرائم الخطيرة المنظَّمة والشرطة) يحظر التظاهر العام على بعد مسافة كيلومتر من مبنى البرلمان، كانت مايا إيفانز من أوائل من تعرضوا للمقاضاة بموجب هذا القانون؛ حيث أدينت لإلقائها علنيًّا أسماء من قُتلوا في العراق منذ الغزو الأخير دون تصريح من الشرطة، كان يمكن لوثيقة الحقوق أن تجعل من الصعب بل حتى من المستحيل على الحكومة فرض مثل هذا التشريع، ربما يُشار منطقيًّا إلى أن مجرد تحديد منطقة إقصاء قدرها كيلومتر واحد — كما حدث — يمكن أن يتبعه بسهولة زيادة نطاقها لتصل إلى اثنين أو ثلاثة كيلومترات، أو ربما يؤدي إلى وضع قوانين مماثلة قرب أهداف محتملة للإرهاب، ففي هذه الحالة ربما لا يؤدي المنحدر الزلق بالضرورة إلى الاستبداد، لكنه قد ينزع حريات مهمة ممن يعيشون في المملكة المتحدة؛ حريات قد تعيق أو على الأقل تضعف التظاهر السياسي، في هذا النوع من الحجج تكمن القيمة الكبرى للدستور في وجود صعوبة كبيرة في تفعيل مثل هذه القوانين الإضافية وتوسيع نطاقها.

(٧) الحجج النفعية والأخلاقية لحرية الكلام

إجمالًا، يوجد نوعان من الحجج المستخدمة للدفاع عن حرية الكلام، تقوم الحجج النفعية على زعم أن الحفاظ على حرية الكلام ينتج عنه نوع من الفوائد الملموسة، سواء من حيث زيادة السعادة الشخصية، أو ازدهار المجتمع، أو حتى فوائد اقتصادية، فعلى سبيل المثال، أشار ألكساندر ميكلجون إلى أن القيمة الرئيسية لحرية الكلام هي تشجيعها لنوعية الحوار الضروري لعمل الديمقراطية بفعالية، فلكي يستطيع المواطنون اتخاذ قرارات صائبة، يحتاجون إلى التعرض لكم كبير من الأفكار، وتسمح حرية الكلام للمواطنين بالتعرف على أفكار متنوعة من أشخاص يؤمنون بها حقًّا، هذه النقطة الأخيرة مهمة؛ إذ إن الممارسين لدور محامي الشيطان نادرًا ما يتخيلون أنفسهم في موقف المؤمن الحقيقي والمتحمس للرأي الذي يتبناه، فالهدف المثالي هو الاستماع لآراء معارضة من معارضين فعليين، لا ممن يحاكون هذا الدور.

تتوقف مثل هذه الحجج على العواقب، وعليه فإن الإجابة عن السؤال المتعلق بما إذا كانت حرية الكلام تنفع المجتمع أو الأفراد على نحو ما أم لا؛ هي إجابة تخضع للتجربة، هناك إجابة صحيحة — سواء أكنا نعلمها أم لا — ويمكن اكتشافها من حيث المبدأ من خلال بحث النتائج المحتملة والفعلية، والجانب السلبي لهذا المنهج هو أنه إذا تبين أن النتائج المفيدة المفترضة لحرية الكلام لا تتحقق في الواقع، فسيختفي مبرر الحفاظ على حرية الكلام.

تنتقل الحجج الأخلاقية لحرية الكلام عادةً من إدراك معنى آدمية الإنسان إلى فكرة أن تقييد الكلام هو انتهاك لاستقلالية الإنسان وكرامته، سواء أكان متحدثًا أم مستمعًا أم كليهما معًا، فمن الخطأ أن تمنعني من الإدلاء بآرائي (أو الاستماع لآراء الآخرين)، سواء أكان هناك خير من وراء ما أقول أم لا؛ لأن هذا يعني عدم احترامي كفرد قادر على التفكير واتخاذ القرار بنفسي، تقوم مثل هذه الحجج على فكرة القيمة الجوهرية لحرية الكلام، وعلاقتها بمفهوم استقلالية الإنسان، بدلًا من الاعتماد على أي عواقب قابلة للقياس يحتمل أن تنتج من الحفاظ عليها.

(٨) حرية الكلام في العصر الحالي

العلاقة واضحة بين المناقشات الدائرة حول حرية الكلام والحياة المعاصرة، فمنذ اختراع الكُتب، لجأ أصحاب السلطة إلى حرقها في أفعال رمزية تدل على التدمير، جاءت حادثة «حرق الباطل» الشهيرة بقيادة جيرولامو سافونارولا في فلورنسا عام ١٤٩٧ على غرار عادة متَّبَعة من زمن طويل، وكان الهدف من هذا الحريق تدمير أشياء — من ضمنها كتب غير أخلاقية — ربما تحث أصحابها على الخطيئة، ولا تزال توجد أشكال مختلفة من هذه الفكرة في عصرنا الحالي.

نحن نعيش في عصر يتزايد فيه حرق الكتب وفرض الرقابة، وحيث ينتج عن بعض أشكال التعبير ردود فعل عالمية تضم ملايين المحتجين، توجد دعوات دائمة لحظر المواد الإباحية، وخطاب الكراهية، وإنكار الهولوكوست، في بعض الدول تكون الرقابة الشاملة للدولة هي النمط السائد، وتكون هناك مخاطر حقيقية مرتبطة بمحاولة التعبير عن أي آراء بخلاف الآراء التقليدية، وقد صدرت أكثر مظاهر التعصب وضوحًا ضد آراء الآخرين، وأعلى الدعوات المنادية بفرض الرقابة صوتًا في السنوات الأخيرة ممن يشعرون أن دينهم تعرض للإهانة بصورة ما.

(٩) «الآيات الشيطانية» والرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية

شهدت المملكة المتحدة لحظة محورية تزامنت مع رد الفعل على نشر رواية «الآيات الشيطانية» لسلمان رشدي في عام ١٩٨٨، مُنعت الرواية في كل من الهند وجنوب أفريقيا بعد نشرها مباشرةً في المملكة المتحدة، تحتوي الرواية على العديد من الأجزاء التي اعتبرها كثير من المسلمين بالغة الإساءة للإسلام، وفي يناير من عام ١٩٨٩، حرق مسلمون في مدينة «برادفورد» نسخًا من الكتاب في احتجاج رمزي في أحد التجمعات، رأى كثير منهم أن رواية رشدي تهدف عمدًا إلى الإساءة، واستشاطوا غضبًا من الافتراء الواضح على دينهم ونبيهم، نتج عن ذلك احتشاد الجموع للتظاهر إما هجومًا على الكتاب أو دفاعًا عنه، وفي عام ١٩٨٩ أصدر آية الله الخميني فتوى بإهدار دم رشدي، كان للناشرين وبائعي الكتب والمترجمين مواقف شجاعة وسط تهديدات العنف التي أقرتها السلطة الدينية، وتعرض المترجم الياباني للكتاب للقتل، ووجبت حماية الشرطة لرشدي وكان لزامًا عليه الاختباء للحفاظ على حياته، بالرغم من ذلك، ما زالت طباعة الكتاب مستمرة ويباع دون قيود في المكتبات في المملكة المتحدة وغيرها.

مع أن أوروبا لديها تاريخ طويل من حرق الكتب، فقد رأى كثيرون هذا الأمر على أنه تعبير بغيض عن التعصب ضد الأفكار المكتوبة المعبَّر عنها في شكل عمل أدبي، مما كاد يغيِّر بين عشية وضحاها الأسلوب الذي تناقَش من خلاله حرية الكلام، فما اعتاد أن يكون خلافًا مجردًا بعيدًا عن الواقع صار نقاشًا ذا قطبين متعارضين حول الحدود المقبول فرضها على حرية الكلام في دولة ديمقراطية تصبو لأن تكون متعددة الثقافات.

احتدم النقاش من جديد بسبب الأحداث التي شهدها عام ٢٠٠٥ عندما نشرت الصحيفة الدنماركية «جيلاندز بوستن» اثنتي عشرة صورة كاريكاتيرية للنبي محمَّد، كمساهمة في النقاش حول الرقابة الذاتية، صوَّرت إحدى أكثر هذه الصور إثارة للجدل النبي محمَّدًا وعلى رأسه قنبلة في شكل عمامة، أكدت مقالة افتتاحية لرئيس التحرير في الصحيفة على أن مطالبة مجموعات دينية بأن يكون هناك احترام خاص لمشاعرهم الدينية أمر لا يتناسب مع الديمقراطية المعاصرة، اعتبر كثير من الأشخاص — خاصةً المسلمين — هذه الرسوم الكاريكاتيرية مسيئة، وتجديفية (تتطاول على الرموز الدينية والذات الإلهية)، وتتعمد الاستفزاز، ناهيك عن كونها عنصرية. طُبعت هذه الرسوم الكاريكاتيرية في الصحف في العديد من الدول الأوروبية، بالرغم من أن رؤساء التحرير في بريطانيا رفضوا طباعتها، وأدت الاحتجاجات في كل أنحاء العالم إلى وقوع أعمال عنف، وحرق للسفارات الدنماركية، وعدد كبير من الوفيات ربما يصل إلى مائة شخص، بل إن بعض الزعماء المسلمين أصدروا تهديدات بقتل أصحاب هذه الرسومات.
fig2
شكل ١-٢: المتظاهرون المسلمون الغاضبون خارج السفارة الدنماركية في لندن في فبراير عام ٢٠٠٦، يردُّون على نشر الرسوم الكاريكاتيرية للنبي محمد في مجلة دنماركية بمهاجمة حرية التعبير في حد ذاتها.2
في لندن أدت مظاهرة ضد الرسوم الكاريكاتيرية خارج السفارة الدنماركية في ٣ فبراير عام ٢٠٠٦ — رفع فيها المتظاهرون شعارات وتحذيرات مثل «فلتذهب الليبرالية إلى الجحيم»، و«اذبحوا المستهزئين بالإسلام»، و«اقطعوا رأس من أهانوا الإسلام»، وحتى «فلتذهب حرية التعبير إلى الجحيم»، وتغنوا بشعارات ضد الدنمارك وأمريكا — إلى اعتقالات وتهم بالتحريض على القتل وإثارة الكراهية العنصرية، وفي تلخيص سو هيمينج من «جهاز الادعاء الملكي» للتهم الموجهة لأُمرام جافيد — الذي ثبتت إدانته — اعترفت بحقوق المتظاهرين في حرية الكلام، لكنها أضافت:

… عندما فحصنا مضمون خطاب السيد جافيد كان من الواضح وجود تشجيع مباشر للحاضرين والمشاهدين عبر وسائل الإعلام على ارتكاب أعمال قتل ضد الدنماركيين والأمريكيين.

برزت حرية الكلام في هذا الجدل في عدد من الصور، كان الدافع الأصلي وراء نشر هذه الرسوم هو ترسيخ حرية الكلام، والتأكيد على أنه من غير الملائم في الديمقراطية الحديثة أن تحظى مجموعات معينة بحماية ضد الإساءة، ظهرت ردود الفعل ضد هذه الرسومات في بعض الأماكن على أنها هجوم على الليبرالية وقيمة حرية الكلام، ثم عندما تعرض المتظاهرون للمقاضاة، أشار بعض المعلقين إلى أن الدعاوى بتهم التحريض على القتل والكراهية العنصرية هي قيد على حرية الكلام وتسيء فهم طبيعة الآراء المعبر عنها؛ فلم تكن تلك أعمالًا تحريضية بل مجرد تعبيرات عامة عن الغضب العارم، ويُفهم ضمنًا من هذه المسألة برمتها أن هناك شعورًا بوجود رقابة ذاتية منتشرة على نطاق واسع لدى من ينتقدون الإسلام بسبب الخوف من الانتقام منهم.

غير أن هناك بعض الظن في أن نشر هذه الرسوم الكاريكاتيرية تعمَّد استفزاز مشاعر المسلمين، شعر الكثيرون أنها إساءة غير أخلاقية ذات عواقب متوقعة، والسؤال المهم هنا هو هل ينبغي أن يحظى هذا النوع من الاستفزاز بحماية القانون، بدلًا من تقييده بالفطرة السليمة؟ هل القانون الحالي الذي يحميه غير أخلاقي بصورة ما؟ سنجيب عن هذا السؤال في الفصل الثالث.

لا يقتصر التعصب الديني ضد الأفكار التي يعتبرها البعض تدنيسية على الإسلام فحسب، لكن ضراوة المعارضة الموجهة لرواية «الآيات الشيطانية» وللرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية سلطت الضوء على تساؤلات عن حرية الكلام، ومن قضايا حرية الكلام الملحَّة في عصرنا الحالي السؤال: هل يجب على المجتمع الديمقراطي الإذعان لقمع التعبير الذي يُعتقد أنه يسيء لأصحاب الديانات؟ وهو تساؤل يعاود الظهور بأشكال شتى على مدار الجزء الأكبر من هذا الكتاب، لكن قبل دراسة هذا السؤال، علينا وضعه أولًا في سياق أكثر الحجج تأثيرًا عن قيمة حرية الكلام، التي عرضها جون ستيوارت مِل في كتابه القصير الصادر بعنوان «عن الحرية» عام ١٨٥٩، وهو كتاب لا يتناسب مقدار تأثيره مع حجمه على الإطلاق.

هوامش

(1) Courtesy of the Library of Congress.
(2) © Rex Features.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤