الفصل الخامس

حرية الكلام في عصر الإنترنت

(١) هل غيَّرت شبكة الإنترنت كل شيء؟

كان جون ستيوارت مِل يكتب في الخمسينيات من القرن التاسع عشر، إلا أن كتاباته عن حرية الكلام لا تزال نقطة البداية لمعظم المناقشات التي تدور حول هذا الموضوع في العصر الحالي، وقد حدثت تغيرات تكنولوجية هائلة في مجال الاتصالات منذ ذلك الوقت، غيَّرت شبكة الإنترنت عالمنا، فأضْفت طابعًا ديمقراطيًّا على عملية التعليق، ووسعت للغاية مدى انتشار أي رسالة، وأطلعت الناس على أفكار جديدة وطرق جديدة للتفاعل معًا؛ سواء عن طريق البريد الإلكتروني أو المدونات أو النشرات الصوتية أو النشرات المرئية أو غرف المحادثة أو عن طريق شخصيات افتراضية في «حياة ثانية».

بينما كان الناشرون ورؤساء تحرير الصحف يتحكمون في وقت من الأوقات في سبُل الوصول إلى جمهور أكبر، فإن ظهور مفهوم صحافة المواطن في الوقت الحاضر أوضح أن أي شخص على اتصال بشبكة الإنترنت ولديه معرفة أساسية باستخدام الكمبيوتر يستطيع الوصول لجمهور عريض، دون تحكم وسطاء فيما يقوله، يرتبط مستقبل حرية الكلام بالتأكيد بالطرق التي تسمح بها الحكومات للأفراد باستخدام الإنترنت (وبالحدود العملية التي تطبقها الحكومات عند ممارستها للتحكم في كيفية قيام المواطنين بذلك)، هناك سؤال مهم عما إذا كانت الحكومات أو غيرها تستطيع تقييد حرية التعبير على أرض الواقع في عصر الإنترنت، لكن حتى وإن كانت الحكومة لا تستطيع إحداث فارق واضح في هذا الشأن، تظل القضية الأخلاقية مطروحة عما إذا كان هذا الكم الهائل من الأفكار المعبَّر عنها مفيدًا للبشرية، وهل توجد مخاطر معينة مرتبطة بالإنترنت؟

(٢) بعض مخاطر الإنترنت

حدد ريتشارد بوسنر أربع سمات لهذه الوسيلة الجديدة لنشر المعلومات يُعتقد أنها ربما تزيد من مخاطر الكلام غير المسئول، ومن ثم ينبغي أن تؤثر في طريقة تفكيرنا في حرية التعبير:
  • أولًا: الجهل بالهوية: فالإنترنت تتيح لمستخدمي الرسائل ومنشئيها التستر خلف هوية مجهولة، وهذا يُسهِّل كثيرًا من إنتاج واستهلاك مواد زائفة وغير قانونية وخطيرة، مثل المواد الإباحية للأطفال وخطاب الكراهية.
  • ثانيًا: غياب مراقبة الجودة: فبإمكان أي شخص تقريبًا نشر أي شيء على الإنترنت، يختلف هذا كثيرًا عن النشر التقليدي، حيث تغربِل منظومة النشر الكثير من المعلومات غير الدقيقة والمضللة، أو تحذفها بناء على طلب المحامين قبل طباعة كتاب أو مجلة أو جريدة، أما على الإنترنت فتُنشر الادعاءات الواهية بنفس الدرجة من السهولة التي تنشر بها المقالات التي نالت حظًّا وافرًا من البحث، في الواقع، تطور نوع جديد من المواقع يطلق عليه «مواقع الشكوى» هدفها الوحيد هو التعبير عن الشحناء، عادةً بصورة تشهيرية، وتنتشر الشائعات — التي تكون عادةً غير أكيدة أو زائفة تمامًا — عن المشاهير انتشارًا هائلًا عبر المدونات، ولو ظهرت مثل هذه الآراء في صحف منشورة، لتعرض كثير منها للحظر بسبب الضغط القانوني.
  • ثالثًا: الجمهور المحتمل الضخم: فالإنترنت توفر الوصول إلى ملايين القراء والمشاهدين المحتملين في جميع أنحاء العالم، ويمكن لهذا الأمر أن يزيد من حجم أي ضرر ناجم عن الكلام.
  • رابعًا: عثور المعادين للمجتمع على أصدقاء لهم: فبوسع ذوي الآراء الغريبة وغير المعتادة والهدامة والخطيرة أن يعثر بعضهم على بعض بسهولة أكبر عبر الإنترنت، ففي حين كان يتعرض صاحب الآراء الغريبة في الماضي إلى العزلة الاجتماعية، في الوقت الحالي — وبفضل الاتصال عبر غرف المحادثة والمواقع الإلكترونية — أصبح لدى هؤلاء الأشخاص «الشجاعة ليس للتعبير فحسب عن آرائهم، بل للتصرف على أساسها، فتعززت ثقتهم بأنفسهم من خلال عضويتهم في مجتمع يؤمن بأفكار معينة».

يشير بوسنر إلى أن الجهل بالهوية لا يمثل جانبًا دائمًا لهذه الوسيلة، فربما تكون سمة عابرة، مع ذلك فإنها سمة للعصر الحالي، وهناك تأثير ضمني عملي لهذا الأمر، إذ يصعب للغاية تقييد بعض أنواع التعبير على الإنترنت، والأصعب من ذلك تعقب مصنعي المواد ومستخدميها، وفيما يتعلق بالأفراد الذين لديهم استعداد لاستخدام أساليب غير أخلاقية، زادت شبكة الإنترنت كثيرًا من حرية تواصلهم عبر جميع أنحاء العالم؛ لأن أخطار التعرض للتعقب تكون أقل من الموجودة في الأساليب التقليدية لنشر الأفكار، وحتى عندما نرى أن بعض الآراء مليئة بالكراهية أو ربما تحرض على العنف، وأنها ينبغي أن تخضع للرقابة في الوضع المثالي، فإننا نواجه صعوبات عملية شديدة في تطبيق هذه الرقابة، يجب علينا — من وجهة النظر الأخلاقية — إدانة أشكال التحريض على العنف، لكن عمليًّا ربما لا نتمكن من منع التعبير عنها على الإنترنت، وإذا كان فرض الرقابة عمليًّا مستحيلًا، فإننا سنحتاج إلى تطوير أساليب أخرى لتقليل الضرر الذي يسببه هذا النوع من التعبير.

أما النقطة الثانية — وهي غياب مراقبة الجودة — فإنها تتغير بسرعة، فكثير من المواقع الإلكترونية تراقب الجودة، ويكون هذا أساس سمعتها وتهافت القراء عليها، كذلك تأتي مراقبة الجودة دائمًا بعد النشر في صورة مصدق عليها من جانب المواقع ذات السمعة الجيدة، لانتمائها عادةً إلى إحدى الجامعات أو إحدى المؤسسات الموثوق بها، مثل هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» أو صحيفة «ذي نيويورك تايمز»، أو إحدى الهيئات العامة، تُجمِّع بعض المواقع الإلكترونية — مثل موقع «آرتس آند ليترز ديلي» (www.aldaily.com) — روابط لمواد عالية الجودة، ومن ثم تفحص جيدًا ما تقدمه للقارئ، وعليه تُنتج ما يعادل مجلة أدبية، يشير بوسنر مرة أخرى إلى أن غياب مراقبة الجودة للحد الموجود حاليًّا ربما يكون أحد الجوانب المؤقتة للإنترنت، مع ذلك، تكون عواقب ذلك وجود كثير من الادعاءات ذات التأثير الضار المحتمل متداولة على نطاق واسع، في حين أن وسائل الإعلام المنشورة التقليدية ما كانت لتسمح بتداولها، يرى من يؤمن بالسوق الحر للأفكار أن التنوع وأشكال التعبير المختلفة نتيجة حميدة لهذه الوسيلة، إلا أنه في نظر آخرين نتيجة مقلقة للتكنولوجيا الحديثة، فالوسيلة نفسها التي تسمح بالنشر السريع لمعلومات عن قضايا إنسانية، يمكن استخدامها للترويج لتفجيرات انتحارية، أو نشر ِشائعات زائفة ومدمرة عن الحياة الخاصة لنجوم السينما، مع عدم وجود فرصة لتصحيح الخطأ.

يؤدي الجمهور المحتمل الهائل للأفكار والصور بالتأكيد إلى زيادة الآثار المحتملة للنشر، فباستطاعتي نشر رسالة دون أي تكلفة تقريبًا على مدونتي من منزلي، ويمكن العثور عليها وقراءتها والإجابة عنها في خلال ثوانٍ من أشخاص في الجانب الآخر من العالم، بالطبع يمثل هذا جانبًا مقلقًا للإنترنت، تمامًا كما يشكل إحدى فوائده الرئيسية، إن تكلفة هذه السرعة وهذا المدى ربما تكون بالغة، كما يشير بوسنر في قوله: «يستطيع شخص مختل لم يتمكن من نشر كلامه في أي صحيفة أن يصل إلى آلاف أو حتى ملايين من الأشخاص عبر الإنترنت بتكلفة لا تذكر.»

يعني هذا أن أي تعبير هدَّام ربما يكون أكثر خطورة من أي وقت في التاريخ، لا يمكن إنكار هذا، لكن إمكانية نشر ردود بسرعة هائلة وبكم هائل من القراء يتصدى لهذا الأمر إلى حد ما، فيمكن مقابلة الكلام بكلام مضاد، ويُستثنى عدد قليل للغاية من المشاركين المحتملين في أي نقاش، أيضًا يمكن التعبير عن كم أكبر من الآراء، مقارنة بما يمكن القيام به في وسائل الإعلام التقليدية السائدة.

أما النقطة الرابعة التي أشار إليها بوسنر — وهي أن الأفراد الخطرين المعادين للمجتمع يستطيعون الاتصال بمن يشاركونهم الآراء نفسها ويدعم بعضهم أفكار بعض — فهي صحيحة بالتأكيد، توجد احتمالات كبيرة أيضًا في أن يتسبب هذا في ضرر حقيقي، إذ يتجمع ذوو الميول الجنسية نحو الأطفال معًا بهذه الطريقة، وكذا الإرهابيون، وعادةً ما يكون نشاط مثل هؤلاء الأشخاص نشاطًا غير قانوني، فوسائل الاتصال السهلة والشبكات التي تسمح للأشخاص المتشابهين بالعثور بعضهم على بعض يسرت العلاقات التي أدت إلى العنف مباشرة، والأقل خطورة من ذلك — لكن يظل له عواقب خطيرة للغاية وعادةً مهلكة — النشاط الهائل للمراهقين المصابين بالقَهَم (فقدان الشهية) في تبادل الأفكار حول فقدان الوزن والتغلب على نوبات الجوع، وتدعيمهم أفكارًا خطيرة عن النحافة وشرور تناول الطعام، تتمثل خطورة الحالة الأخيرة في انجذاب الأفراد سريعي التأثر إلى المواقع المؤيدة للقَهَم، صحيح أن التكنولوجيا التي تسمح للمعادين للمجتمع بتوحيد قواهم، هي نفسها التي تسمح لأصحاب النوايا الحسنة بالمناقشة والتعاون لمحاربة الشر، إلا أنه ينبغي لأي شخص يدافع بالكامل عن عدم تقييد الاتصال أن تكون لديه رؤية واضحة عن مدى خطورة عواقب هذا المنهج في العصر الحالي، في ضوء هذا النوع من المخاطر، أشار البعض إلى ضرورة اعتبار مزودي خدمة الإنترنت مسئولين قانونيًّا عن المحتوى الذي يعرضونه، إلا أنه في حال تبني هذا المنهج، فإننا سنفقد الكثير من فوائد السرعة والانفتاح في الاتصالات، وأخيرًا ينبغي أن يعتمد القرار الصائب في هذا الموقف على تحليل معقد للغاية ودائم التغير للتكاليف والفوائد، يأخذ في اعتباره كيفية استخدام الإنترنت فعليًّا، والاحتمالات المتاحة في ظل التكنولوجيا المتطورة، والعواقب الفعلية المحتملة للإجراءات المختلفة.

(٣) هل هي «صحف يومية شخصية»؟

أشار كاس سنشتاين إلى مصدر مختلف للقلق من تأثير الإنترنت والأساليب التكنولوجية ذات الصلة على حرية الكلام، تأتي فوائد ديمقراطية حرية الكلام جزئيًّا من وصول عامة الناس إلى عدد كبير من المتحدثين والآراء، فالافتراض الأساسي هنا أنه من خلال تعرض أفراد المجتمع لآراء يختلفون معها، سيركزون معتقداتهم ويطورون تعاملهم النقدي مع القضايا التي تهمهم، فدون التعرض لكمٍّ متفاوت من الآراء، ربما يصبح الأفراد راضين عن آراء ضعيفة، وربما حتى لا يدركون أن آراءهم مثيرة للجدل أو مكروهة على نطاق واسع.

يشير سنشتاين إلى فكرة أنه لكي يعمل مجتمع غير متجانس بكفاءة عالية، ينبغي أن يتعرض الأفراد فيه لمواد لم يكونوا ليختاروا قراءتها أو الاستماع إليها:

التعرض غير المتوقع لموضوعات ووجهات نظر لا يسعى الأفراد لمعرفتها، وربما يعتبرونها مزعجة، أمر محوري للديمقراطية، وللحرية نفسها.

يرتبط هذا بفكرة أنه لكي يعمل نظام ديمقراطي قائم على التشاور، يجب أن يصبح المواطنون قادرين على التفكير في القضايا التي تهمهم وعلى مناقشتها، وأن يكونوا قادرين أيضًا على محاسبة ممثليهم المنتخبين، كذلك لكي يعمل أسلوب مقابلة الكلام بكلام مضاد، يجب الاستماع إلى الكلام المضاد، لا سيما من الأفراد الذين يجيبهم المتحدثون.

تتيح شبكة الإنترنت وجود أسلوب انتقائي للغاية للمعلومات التي نتلقاها، فباستطاعتنا التخلص من الأشياء التي لا نرغب في معرفتها، بالإضافة إلى ذلك، بإمكاننا القيام بهذا أوتوماتيكيًّا بواسطة برنامج يتعرف على اهتماماتنا وما نحبه وما نبغضه، من حيث المبدأ يستطيع كل شخص ملاءمة الأخبار والمواد الترفيهية وكل أنواع المواد الأخرى التي يتلقاها من الإنترنت مع أذواقه الخاصة؛ ليس من حيث الفكرة المتضمنة فحسب، بل أيضًا من حيث موقف كاتبها أو مقدمها، فالشخص الليبرالي يستطيع الاستماع فحسب للأخبار ذات الطابع الليبرالي، والشخص العنصري لا يرغب مطلقًا في أن تُعارَض آراؤه بواسطة أي شيء يعرض على الإنترنت. يحصل مستخدم الإنترنت يوميًّا على صحيفة يومية شخصية، وهي مختارات ملائمة للأذواق الشخصية، يقول سنشتاين إنه إذا طبق عدد هائل من الأفراد مثل هذا الوصول الانتقائي الشخصي لأفكار الآخرين، فإن شروط الديمقراطية الصحية لن تتحقق، وهذا الرأي لا يؤيد إجبار الأفراد على استخدام الإنترنت على نحو معين، لأن هذا سيكون مثالًا غير مقبول على الأبوية، غير أن شبكة الإنترنت تزيد من أخطار الاستماع فحسب إلى ما تريد الاستماع إليه.

ردًّا على سنشتاين يمكننا الإشارة إلى أننا جميعًا نغربل الأفكار التي نتعرض لها في الوقت الحاضر، فأنا لا أشترك في مجلات عنصرية ولا أقرأ كتبًا عن العلاج المثلي، فأنا أقرأ الصحف التي أرى موقف رؤساء تحريرها مناسبًا، وأختلط بأشخاص يشاركونني الكثير من آرائي، في قراءاتي عبر الإنترنت — إلى حد ما بسبب وجود كثير من المحتوى المجاني، والسهولة الكبيرة في الوصول إليه، وحيادية محركات البحث في عرضها للأشياء المتعلقة بموضوع معين — تمكنت في الواقع من قراءة كم أكبر من الآراء يفوق ما كنت سأقرأ حال عدم وجود الإنترنت، ولأن الإنترنت تشجع على الحوار بدلًا من مجرد التلقي السلبي للأفكار — من خلال خواص التعليق في المدونات والمناقشات في غرف المحادثة وما إلى ذلك — فمتى أنشر أي شيء جدلي على مدونة أتلقى تعليقات تصنف في فئة الكلام المضاد؛ أيْ ردودًا ممن لديهم مجموعة مختلفة تمامًا من المعتقدات، هذا الرد مستند على ملاحظات عارضة، لكنه يشير إلى أن مخاوف سنشتاين بشأن إمكانية تسبب الإنترنت في تضييق العقول، تحتاج إلى دراسة تجريبية لإثبات هل يميل الأفراد بالفعل لاستخدام الإنترنت على هذا النحو أم لا.

(٤) الأبوية تجاه الأطفال

أحد الأمور الأخرى المقلقة بشأن شبكة الإنترنت هو أنها تصعب كثيرًا من التحكم في وصول الأطفال — مثلًا — إلى المواد الإباحية، وإلى سبل للتواصل مع الغرباء، وكل ما يصاحب ذلك من أخطار، ومرة أخرى، ربما يكون هذا جانبًا مؤقتًا لهذا الوسط، وربما تقلل برامج حماية ومراقبة الأطفال الأكثر تطورًا هذه المخاطر في المستقبل القريب، مع ذلك، في الوقت الحاضر هناك أسباب تدعو إلى حظر أنواع معينة من المواقع كنوع من الحماية للأطفال، حتى وإن كان هذا يقيد حرية الكلام لدى بعض البالغين، على سبيل المثال — كما ذكرنا آنفًا — هناك الكثير من المواقع وغرف المحادثة المؤيدة لفقدان الشهية وإلحاق الأذى بالنفس، التي تسمح للشباب بتبادل الأفكار حول فقدان الوزن، وتعيد التأكيد على آراء هؤلاء الأشخاص الخاطئة بشأن أجسامهم على نحو ربما يتسبب في نهاية الأمر في وفاتهم، أيضًا يسهل وصول الأطفال إلى كثير من المواقع الإباحية، وفي حين أن هناك من الحجج ما قد يؤيد التساهل مع هذا النوع من المواقع إذا اقتصر استخدامها على البالغين، فإن ممارسة الأبوية تجاه الأطفال صائب تمامًا في هذا الصدد، إذا وجدنا طريقة سهلة لمنع الأطفال والمراهقين من الوصول إلى مثل هذه المواقع، فسيكون هذا حلًّا مناسبًا، إلا أنه في غياب وسيلة موثوق فيها تضمن استثناء الأطفال، يفترض أن يكون أقل الاختيارات ضررًا هو حظر مثل هذه المواقع واتخاذ إجراء قوي للتأكد من عدم إتاحتها، على أساس أنها تمثل أخطارًا كبيرة للغاية على الأطفال.

(٥) استخدام أقوال الآخرين وصورهم

أثار ظهور الإنترنت أيضًا مخاوف بشأن القيود التي يفرضها قانون حقوق النشر على حرية الكلام، على مدار مئات السنين كانت هناك قوانين تمنع استخدام أقوال الآخرين دون تصريح (أو دفع مبالغ مالية في كثير من الحالات)، حق النشر هو حل وسط بين حاجة الكُتَّاب إلى الحصول على تقدير مالي نظير كتاباتهم، واحتياجات مستخدمي هذه الكتابات، ونتيجة لقانون حقوق النشر — الذي يختلف من دولة لأخرى — توجد كثير من الأقوال التي يكون نشرها أو الحديث بها أو تمثيلها غير قانوني، ربما يمثل هذا قيدًا على حرية الكلام، لا سيما إذا كنت كاتبًا يرغب في تجميع كتابات الآخرين، أو يريد إلقاء حديث مقتبس من عمل لكاتب مسرحي معاصر في مكان عام دون تصريح.

في السنوات الأخيرة، طرحت السهولة التي من خلالها تتيح التكنولوجيا الرقمية إعادة استخدام كتابات الآخرين وإعادة اقتباسها، قضايا جديدة حول الحرية، وأدت إلى حملات تنادي بإجراء تعديلات على قوانين حقوق النشر للسماح بمساحة أكبر من الحرية في استخدام أقوال الآخرين.

تشتهر قصيدة «الأرض الخراب» للشاعر تي إس إليوت بجمعها بين أبيات أصلية وأخرى «مسروقة»، فالسياق الجديد يعطي هذه الأبيات معاني جديدة ويربط المكان والقصيدة بالماضي، عادةً في صورة ساخرة، من وجهة نظر إليوت كان من الواضح أن الأدب العظيم يرتكز على أدب الماضي ويستفيد منه، فمعنى أي عمل مكتوب يأتي جزئيًّا من علاقته بالأعمال المكتوبة الأخرى — خاصةً كتابات من قضوا نحبهم — ممن شكلوا تقليدًا معينًا، ذهب إليوت في شعره إلى أبعد من ذلك ووضع أجزاء صغيرة من هذا التقليد داخل شعره، وأضاف هوامش لتوضيح مصادر هذه الأجزاء.

استخدم ويليام شكسبير حبكات درامية من مصادر تاريخية أو اعتمد على أفكار معاصريه، كذلك يقتبس الموسيقيون كثيرًا من ألحان مؤلفين آخرين، وعادةً ما يكون فن التجميع البصري إعادة لاستخدام الأعمال الإبداعية للسابقين، لكن النتيجة تكون دائمًا عملًا جديدًا، ففي كل شكل من أشكال الفن تقريبًا يعتمد أعظم المبدعين على أعمال سابقيهم ويعيدون استخدامها؛ في بعض الأحيان بأسلوب مستتر، وفي كثير منها بأسلوب سافر، والواقع أن هذا الاقتباس الانتقائي سمة رئيسية في عصر ما بعد الحداثة؛ إذ هكذا يتطور الفن حسب اعتقاد الكثيرين، ينتُج الإبداع من الارتباط بفنون الماضي، بالإضافة إلى ذلك، فإن الفن مجال يتطلب حرية؛ فهو المجال الذي يتجاوز فيه الأفراد حدود الامتثالية، وكل قيد يفرَض يقضي على فرع محتمل من التطور الفني، يوصَف كثير من حالات إعادة استخدام إبداعات الماضي بأنها مناسبة، لكن بعضها جدير باللوم من الناحية الأخلاقية؛ لأن مبدعي العمل الجديد يتعمدون إعطاء انطباع بأنهم أصحاب هذه الأقوال، لا أسلافهم.

تتسم الممارسة الفنية في عصر ما بعد الحداثة على الأقل بالطابع الانتقائي والتجميعي نفسه الموجود في قصيدة «الأرض الخراب» لتي إس إليوت، ففي حالة استثنائية أعادت الفنانة شيري ليفين تصوير صور شهيرة للمصور ووكر إيفانز من كتالوج أحد معارضه، عرضت ليفين صورها المطبوعة التي هي في الأساس إعادة إنتاج لصور إيفانز الفوتوغرافية، ويمكن القول إن استخدامها لهذه الصور كان مختلفًا تمامًا عن استخدام إيفانز، وإنه أسهم في العمل بكم من الأفكار، والواقع أن معظم المعلِّقين يشيرون إلى أنه ينبغي النظر إلى هذا النوع من الاستيلاء الصريح على أنه تعليق ما بعد الحداثة على أفكار الابتكار والتأليف والأصالة في التصوير الفوتوغرافي، وعلى هذا تكون ليفين فنانة إدراكية في الأساس، مع ذلك من الواضح أن عملها — الذي للمفارقة تجمعه حاليًّا صالات العرض الفنية الكبرى — تطفلي للغاية على الصور الأصلية التي التقطها ووكر إيفانز؛ الواقع أن طبيعته التطفلية هي أساس ماهيته.

(٦) حرية الكلام مقابل حقوق النشر

غير أنه ربما توجد قيود قانونية (وأخلاقية) على إعادة استخدام أقوال الآخرين وصورهم، لكن ذلك لا يسري على كل الأقوال، فكثير من الأقوال التي استولى عليها إليوت في قصديته «الأرض الخراب» — مثل أقوال شكسبير — كان قد سقط عنه حقوق النشر منذ وقت طويل، نحن لا نعلم كثيرًا عن شكسبير الإنسان، لكننا نعلم أنه توفي منذ أكثر من سبعين عامًا، لذا أصبحت أعماله كلها ملكية عامة؛ أيْ أنها متاحة مجانًا ليستخدمها الجميع، أعطى إليوت معنى جديدًا للأقوال عندما وضعها في سياق مختلف، لكن كان مقصودًا أن يقدِّر القرَّاء المصدر الأصلي، فلم تكن هناك أي محاولة لادعاء أن هذا كلامه، وإلا كان هذا نوعًا من السرقة الأدبية حتى مع سقوط حقوق النشر عن الكلام.

لكن عندما تكون الأعمال محمية بموجب حقوق النشر، تكون هناك قيود قانونية واسعة النطاق على حرية الكلام، فحقوق النشر تحمي التعبير عن الأفكار والكلمات (أو الصور) المحددة المستخدمة، لكنها لا تحمي الأفكار نفسها، وهذا فارق مهم، فهذا يعني أنك لا تملك حرية التحدث بكلام الآخرين أو كتابته، لكن لديك الحرية في كثير من الأحيان في إعادة صياغته، يمكنك التعبير عن الأفكار بكلمات أخرى، لكنك لا تستطيع الإسهاب في الاقتباس علنًا دون إذن مالك حقوق النشر.

في المملكة المتحدة عند الانتهاء من تأليف أحد الأعمال، يخضع العمل تلقائيًّا لحماية حقوق النشر، لذا إذا انتهيت أنا من تأليف رواية في شقتي المستأجرة، ثم وضعتها في أحد الأدراج ونسيتها تمامًا، وبعدها وجدتها أنت ونشرتها دون إذن مني، فهذا يعني أنك انتهكت حقي، فمع أني لم أسجلها ولم أعرضها على أي شخص آخر، فإنها تظل تحت الحماية القانونية بوصفها ملكية فكرية لي.

غير أن حقوقي في روايتي لا تقتصر فحسب على التحكم في السماح لك بنشرها، فإذا قرأتَها على آخرين دون إذن مني، فأنت تنتهك أيضًا حقوق النشر، وبالمثل، يحدث هذا إذا اقتبست العمل بأسلوب ما، أو حتى إذا قررت إقراض النسخة نظير مبلغ مالي.

أتمتع أيضًا بما يطلق عليه — في تسمية مضللة — «الحقوق المعنوية» فيما يتعلق بعملي، فمع أنها تسمى «معنوية» هي في الواقع حقوق قانونية أتمتع بها لأنني مبدع العمل، وهي:
  • حق نسب العمل: وهو حق التعريف بالشخص على أنه مؤلف العمل.
  • حق سلامة العمل: وهو حق عدم اقتباس العمل أو التعامل معه على نحو يشوبه التشهير به أو يحط من قدره.

إذا أردت التعبير عن نفسي باستخدام أقوال الآخرين (أو صورهم) — ربما من خلال تجميعها، أو تمثيلها، أو قصها ولصقها على أحد المواقع الإلكترونية — فلن أستطيع ذلك، أو على الأقل دون التعرض لخطر المقاضاة بسبب انتهاكي حقوق النشر، وهو جانب من جوانب حرية الكلام يقل التعرض له بالمناقشة، لكن أهميته تزداد شيئًا فشيئًا في عصر الإنترنت ووسائل الإعلام الرقمية، توجد خيارات القص واللصق في حِزَم معالجة النصوص، ويتميز الأطفال الصغار بالكفاءة في التعامل معها، أيضًا آلات النسخ الرقمية المحمولة والكاميرات الرقمية وأجهزة المسح الضوئي وغيرها سهلت للغاية عملية إعادة استخدام أعمال المبدعين الآخرين، غير أن القانون في معظم دول العالم يمنع بعض أشكال إعادة استخدام الأعمال الفكرية والفنية للآخرين، بصرف النظر عن مدى إبداع المنتَج النهائي.

توجد استثناءات في هذا السياق، على سبيل المثال، تسمح فكرة «التعامل العادل» في المملكة المتحدة بالاقتباس الانتقائي لأغراض النقد أو المراجعة، وفي الولايات المتحدة توجد فكرة أكثر اتساعًا، وهي فكرة «الاستخدام العادل»، إلا أن هذه الاستثناءات عادةً لن تسمح بالاستخدام واسع النطاق لعمل شخص آخر — حتى مع الاعتراف بالمصدر — وفي مجال الشعر وكلمات الأغاني يمكن أن يمثل اقتباس بيت واحد انتهاكًا، ومنذ عام ٢٠٠٣ لم يعد «التعامل العادل» في المملكة المتحدة يشمل أغراض البحث والدراسة من أجل أي نشاط تجاري؛ بعبارة أخرى، ليس باستطاعتك المطالبة بالاستثناء من قانون حقوق النشر بموجب فكرة التعامل العادل في حال حصولك على ربح تجاري من استخدام العمل على هذا النحو، يعني هذا على أرض الواقع — على سبيل المثال — حظر محاولات كتَّاب السير الذاتية لنشر محتويات خطابات خاصة بشخص متوفى منذ وقت طويل، فإذا كانت هذه الخطابات لا تزال محمية بموجب حقوق النشر، تحدِّد ملكية الكاتب ما إذا كان يمكن استخدام هذه الخطابات في عمل منشور أم لا، لن يكون كاتب السيرة حرًّا في استخدام كلمات معينة استخدمها فعلًا صاحب السيرة؛ فحقوق النشر تمنع ذلك، ويمكن لهذا القيد أن يستمر مدة سبعين عامًا بعد وفاة الشخص المعني.

(٧) تحركات لتعديل قانون حقوق النشر

قدم لورنس ليسيج — أستاذ قانون له اهتمام خاص بالملكية الفكرية في عصر الإنترنت — حجة قوية لإعادة النظر في قانون حقوق النشر، فهو يشير إلى أننا في موقف جديد تمامًا، في الوقت الذي أصبح فيه النسخ والتجميع أكثر سهولة من أي وقت مضى، وأصبح متوافرًا لكل من له اتصال بالإنترنت كم هائل من الأعمال التي يمكن إعادة استخدامها، أطال قانون حقوق النشر — في المقابل عن عمد — مدة حماية مصالح أصحاب الحقوق، انزعج ليسيج وغيره من المدافعين عن حقوق المستخدمين على وجه الخصوص مما يُطلق عليه قانون «سوني بونو» في الولايات المتحدة، الذي أطال الفترة الزمنية التي تظل فيها الأعمال خاضعة لحقوق النشر بعد وفاة أصحابها، يرغب ليسيج في إيجاد عالم تكون فيه الملكية الفكرية متاحة للاستخدام العام.

مبرر استعمال قوانين حقوق النشر من الأساس هو أنها تحمي مصالح المبدعين والناشرين، وتشجع المبدعين على الإبداع من خلال إتاحتها إمكانية جني الأموال من وراء النشاط الإبداعي، وهذا حل وسط عملي بين مصالح المجموعتين، فمن دون حقوق النشر يجد الكُتَّاب والفنانون صعوبة بالغة في كسب قوتهم، وستختفي الكثير من محفزات الإبداع.

مع ذلك لا ينبغي أن تكون قوانين حقوق النشر متحيزة بالكامل للمبدعين، يهدف المشرعون إلى تحقيق توازن بين مصالح المبدعين وغيرهم من أصحاب الحقوق (مثل الناشرين)، ومصالح المستخدمين، فالمستخدمون يريدون أن يتمكنوا من الوصول إلى الأفكار والأعمال الفنية الخاصة بعصرهم، ويرغب الكثير منهم في التمتع بالقدرة على إعادة استخدام هذه الأعمال جزئيًّا أو كليًّا، في المملكة المتحدة وباقي أنحاء أوروبا يظل حق التأليف الأدبي في ملكية المؤلف مدة سبعين سنة بعد وفاته، قبل دخول العمل فيما بعد ضمن الملكية العامة، وهذه الفترة طويلة بكل المقاييس، وهي إلى حد بعيد نتيجة اتخاذ قانون الاتحاد الأوروبي لأطول قانون لحقوق النشر بعد الوفاة (وهو قانون ألمانيا) كأساس لتشريع يشمل كل أنحاء أوروبا، بعبارة أخرى، كان هذا حلًّا وسطًا عمليًّا آخر كجزء من التوفيق بين النظم القانونية المختلفة، أكثر من كونه رقمًا يمكن تبريره بسهولة على أي أسس أخلاقية، أو على أساس تقديمه أي حوافز على الإبداع.

هل يجب على المدافعين عن حرية الكلام أن ينضموا للورنس ليسيج وغيره فيما يسمى بحركة «الحقوق المتروكة»، من أجل تقليل حماية الأعمال الأدبية والإبداعية الأخرى وزيادة احتمال استخدامها؟ يتطلب هذا الأمر تعديلًا جذريًّا لتشريعات حقوق النشر القائمة، وربما يؤذي المصالح الاقتصادية للكتَّاب والناشرين على حد سواء.

يرى المؤمنون بمذهب العواقب أن السؤال الأساسي في هذا النقاش يدور حول ما إذا كانت زيادة حرية استخدام أقوال الآخرين ينتج عنها فوائد أكبر مما ينتج عن حقوق النشر الحالية أو عن شيء من إعادة النظر فيها، ويقوم الرأي المعتدل على إدخال تغييرات طفيفة على قوانين حقوق النشر الحالية من أجل إحداث توازن أكثر عدلًا يسمح بحرية أكبر في استخدام أقوال الآخرين وصورهم من المسموح به حاليًّا، لكن مع الإبقاء على الحافز المادي للكتَّاب والفنانين الذي يكون مهمًّا للغاية للكثيرين منهم، ربما يقتضي هذا وجود عدد من الاستثناءات المتعلقة بإعادة الاستخدام الإبداعي لأقوال الآخرين، ربما يصعب تطبيق مثل هذا التغيير ومراقبة تنفيذه، أما الرأي المتطرف فيشير إلى رفع كل القيود القانونية على إعادة الاستخدام، وتغيير طبيعة الملكية الفكرية، بحيث يؤدي التعبير عن فكرة ما إلى إتاحتها على الفور بوصفها ملكية عامة.

من وجهة نظر المستخدم — وأي شخص آخر ملتزم بأقصى درجات حرية الكلام الممكنة — يبدو الرأي المتطرف جذابًا، بالطبع سيكون من الأفضل للبشرية أن تصبح كل الأفكار متداولة بحرية ويسهل الوصول إليها بواسطة الإنترنت، فيمكن لهذا الأمر أن يطلق العنان للإبداع، تخيل حرية الكاتب في استخدام أعمال الكُتاب العظام من الماضي القريب أساسًا لأعماله، وتجميعها وإعادة طباعتها كما يشاء، مؤكد أن الأفكار والتعبير عنها هما الإرث المشترك المهم الذي نملكه، وكلما زاد عدد من يصلون إلى هذه الأفكار وزادت حرية استخدامهم لها، كان هذا أفضل.

بالرغم من ذلك توجد مشاكل أساسية ترتبط بتطبيق هذا الأمر على أرض الواقع، فيرى كثيرون أن تبنِّي المنهج المتطرف يعني المخاطرة بالتقويض الكامل للأساس الاقتصادي لإنتاج النصوص المكتوبة وتوزيعها، ينطبق الأمر نفسه على كثير من أنواع الصور، مثل الصور الفوتوغرافية، فالكثير من الكُتَّاب يشرعون في الكتابة من أجل نوع من المكافأة، بالمثل يكسب كثير من المصورين رزقهم من التصريح بإعادة استخدام صورهم، فإذا لم تتح لهم فرصة الحصول على المال مباشرةً من إعادة استخدام الآخرين لأعمالهم، فإن مصدرًا محتملًا كبيرًا للدخل سيختفي، ودون وجود هذا النوع من الحافز المادي، سيتوقف كثير من الكُتَّاب أيضًا عن الكتابة أو سيُجبرون على تقليل إنتاجهم. إن مهنة الكاتب مهنة غير مستقرة من الناحية الاقتصادية؛ حيث يحصل كثير من الكتَّاب فعليًّا على أقل من الدخل المتوسط.

توجد حجة أخرى في هذا السياق تقوم على مبدأ «العدالة الطبيعية»، فلماذا يستفيد من يعتمد على التجميع كثيرًا من الجهد الفكري لآخرين؟ في مجال الملكية المادية لا يُجبر أصحاب الملكية دائمًا (باستثناء حالات خاصة مثلما يحدث عندما يمر طريق عام داخل أراضيهم) على السماح بالاستخدام الحر العام لما يملكونه، لماذا إذن يكون الوضع مختلفًا مع الملكية الفكرية التي عادةً ما يكون إنتاجها عملًا مضنيًا؟ هل توجد حجة قوية لمعاملة الملكية الفكرية على نحو مختلف عن الملكية المادية؟ أحد الفروق الرئيسية هي أنه يمكن استخدام عمل فكري استخدامات متعددة ومتزامنة، في حين لا يستطيع كل شخص — على سبيل المثال — احتلال منزل، فلا توجد حدود واضحة على عدد الأشخاص الذين يستطيعون قراءة هذا الكتاب في وقت واحد، لا سيما إذا وُزِّع في صورة إلكترونية، فضلًا عن أن استخدام أحد الأشخاص له لا يعيق استخدام الآخرين.

تختلف قضية حرية الكلام فيما يتعلق بحقوق النشر عن أي موضوعات أخرى ناقشناها في هذا الكتاب، ففي كل الحالات الأخرى هناك افتراض بوجود حرية كلام موسعة، وأي قيد يُفرَض على تلك الحرية لا بد له من مبرر، أما في حالة حقوق النشر، فهناك حل عملي تطور عبر التاريخ لمشكلة الموازنة بين مصالح المبدعين والمستخدمين يبدو أنه تغلب على المشكلات المرتبطة بحرية الكلام، الافتراض هنا يصب في مصلحة حقوق النشر ويقف ضد حرية الكلام لمن يريدون استخدام أقوال الآخرين أو صورهم.

مع ذلك تشهد شبكة الإنترنت تطورًا، ونحن نعيش في أوقات مميزة لحرية الكلام، قد لا يصلح الحل الوسط القديم — الذي ظهر في عصر الطباعة — للاستمرار بعد الآن، فهناك تقنيات حديثة تسمح بالفعل بوجود فرص لم يكن أحد ليتخيلها من قبل لتواصل الأفراد عالميًّا، تزداد صعوبة تطبيق الرقابة وفرض القيود على الكلام في ظل وجود طرق عديدة لتجاوز الرقابة المركزية، ومثلما يقول جيوسيبي لامبيدوزا: «إذا أردنا أن تبقى الأشياء على حالها، فلا بد للأشياء أن تتغير.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤