الأرض التي نعيش عليها

كيف نشأت الكرة الأرضية؟ وكيف تطوَّرت حتى وصلت إلى حالتها اليوم؟ هل يستطيع العلم الحديث أن يجيب على هذين السؤالين؟ أما إن كان المقصود بالإجابة أن يكون ذلك بصفة قاطعة فكلا! وأما إذا أُريد أن نستعين بنتائج الأبحاث العلمية على الإجابة إجابةً تتفق وهذه النتائج فهذا دائمًا ميسور لكل ذي عقل راجح.

وما هي نواحي البحث العلمي التي تتصل بمسألتنا؟ من المعلوم أن الأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس. فالأبحاث الفلكية عن طبائع هذه الكواكب وعلاقة ذلك بنشأتها وتطوُّرها ستدخل إذن في حسابنا، ثم إن طبقات القشرة الأرضية لها علم خاص بها هو علم الجيولوجيا يدخل فيه ما يدخل من علوم الحيوان والنبات؛ إذ من المعلوم أننا نجد بقايا الكائنات الحية محفوظة في الصخور الأرضية مما يساعدنا على تنظيم دراسة العصور الجيولوجية المختلفة، وأخيرًا توجد طائفة من الدراسات تُعرف بالجيوفيزيقا أو الطبيعيات الأرضية تتناول البحث في القوى الطبيعية التي تعمل في مادة الأرض؛ قشرتها وباطنها وجوها. وإذا راعينا أن العلوم الرياضية تستخدم في سائر هذه الأبحاث ويستعان بها على تنظيمها، تكوَّنت لدينا فكرة من نوع المسألة التي نحن بصددها.

ومن العبث أن أقحم القارئ في تفاصيل فنية هو في غنًى عنها. لذلك سأكتفي بسرد تاريخ نشأة الكرة الأرضية وتطوُّرها بصفة إجمالية مكتفيًا بالإشارة إلى أهم مراحل هذا التطوُّر وشرح ما يتيسر شرحه من الآراء العلمية التي ترتبط بها.

وليتصوَّر القارئ أنه يشاهد شريطًا سينمائيًّا ناطقًا دُوِّنت فيه سيرة كرتنا الأرضية منذ نشأتها. هذا الشريط كسائر الأشرطة التاريخية يعتمد في تحضيره على الوثائق التي بين أيدينا، ويسمح في الوقت ذاته للمخيلة بأن تُظهِر ما كان خافيًا فيه وتُوضِّح ما كان مُبهَمًا. فإذا وصلت درجة الخفاء أو درجة الإبهام إلى حد كبير استُغني عن هذا الجزء من القصة، ووُصِلَت أجزاء الشريط على قدر ما تسمح به الظروف. ولما كانت الأمانة العلمية تقتضي الصراحة التامة في مثل هذه الظروف، فسأشير في عرض حديثي إلى مواضع الضعف في القصة كلما سنحت فرصة لذلك.

(١) عمر الأرض

ولا بد من إدراك أن الحوادث التي يدوِّنها الشريط استغرقت ملايين السنين، فعرض الشريط في زمن يسير كالذي يتَّسع له مثل هذا المقال يقتضي تغييرًا عظيمًا في مقياس الزمن. ثم إن معرفة الزمن الحقيقي الذي استغرقته هذه الحوادث، هذه المعرفة محوطة بكثير من الشك، فلذا يجب أن نتلقاها بشيء من التحفظ. ويحسن بهذه المناسبة أن أشير إلى مصادر علمنا عن مقادير هذه الأزمنة الطويلة. فلدينا أولًا الطريقة الطبيعية وتنحصر في حساب الزمن الذي لزم لكي تبرد الأرض من حالتها الأولى كقطعة من الغازات الحارة التي انفصلت عن الشمس إلى درجة حرارتها الحالية. هذه الطريقة أدت بعلماء القرن التاسع عشر إلى تقدير عمر الأرض تقديرًا نعتقد الآن أنه خاطئ؛ إذ إنهم أغفلوا مصدرًا هامًّا من مصادر حرارة الأرض وهو مصدر النشاط الإشعاعي لبعض عناصرها كاليورانيوم والراديوم وما إليها. وقد أعاد علماء القرن العشرين حساب عمر الأرض مراعين في ذلك أثر هذا المصدر.

ثم إن لدينا وسائل أخرى مستقلة عن الأولى وهي الوسائل التي يستخدمها علماء الجيولوجيا، وأهمها تقدير كمية الأملاح الذائبة في مياه المحيطات وحساب الزمن اللازم لنقل هذه الأملاح بوساطة الأنهار إلى المحيطات. وسأعتمد على أقوال العلماء الذين تيسَّر لهم تمحيص النتائج التي تؤدي إليها سائر الوسائل الطبيعية والجيولوجية والأخذ بأقربها إلى الاحتمال.

منذ نحو ألفي مليون سنة كانت الشمس تسبح في فضاء العالم المجرِّيِّ شأنها شأن غيرها من نجوم هذا العالم١ ولم يكن لها في ذلك الوقت كواكب تدور حولها كما هو الحال في عصرنا الحاضر. والمظنون أن نجمًا آخر أكبر من الشمس قُدِّر له أن يقترب منها بحيث يكاد يدانيها. والنتيجة الطبيعية لهذا الاقتراب أن يندلع لسان من مادة الشمس بقوة الجاذبية بين النجمين فيخرج في الفضاء مبتعدًا عن الشمس ثم ينفصل عنها. هذا اللسان أو هذا الذراع الذي امتد من الشمس في الفضاء الذي هو جزء من مادتها الغازية الحارة هو أصل المجموعة الشمسية، فقد تكاثفت أجزاؤه وتراكمت فكوَّنت كواكب منفصلة هي كواكب هذه المجموعة. وهكذا ولدت الأرض؛ كوكب من هذه الكواكب، ودارت حول الشمس كما دارت سائر الكواكب. وعلى هذا الزعم تكون الأرض بنتًا للشمس، وتكون الكواكب أخوة وأخوات للأرض ولدت معها في «بطن» واحدة. وبديهي إذا أخذنا بهذا الرأي أن الأرض بدأت حياتها ككتلة من الغاز الحار. هذه الكتلة الغازية الحارة جعلت تفقد من حرارتها عن طريق الإشعاع فتحوَّلت بمرور الزمن إلى سائل، ولعلها استغرقت خمسة آلاف سنة أو أقل في هذا التحول، وبعد ذلك استمرت درجة الحرارة في الانخفاض حتى تجمَّدت مادة الأرض أو معظم مادتها. وبطبيعة الحال استغرقت عملية التجمد أطول من عملية التحول إلى سائل، وذلك لسببين رئيسيين: أولهما أن درجة حرارة الأرض قد هبطت فقل إشعاعها، وثانيهما أن الأرض قد انكمشت فقل سطحها المشع. ولعل التجمد حدث في نحو عشرة آلاف سنة، وعلى ذلك تكون الأرض قد تجمَّدت في نحو خمسة عشر ألف سنة من وقت ولادتها. وهي مدة ضئيلة إذا قيست بعمر الأرض الذي سبق أن ذكرنا أنه ٢٠٠٠ مليون سنة.

(٢) انفصال القمر

والمظنون أن القمر انفصل عن الأرض حوالي الوقت الذي بدأت فيه تتجمد، فالقمر إذن هو ابن الأرض كما أن الأرض بنت الشمس. وليس القمر بالحفيد الوحيد للشمس فإن للكواكب الأخرى أقمارًا أو توابع انفصلت عنها كما انفصل القمر عن الأرض. ويزعم البعض أن حوض المحيط الهادي هو الحفرة التي نشأت عن انفصال القمر عن الأرض. فمن المعلوم أن حوض المحيط الهادي يشغل نحو نصف سطح الأرض، وأن القارات اليابسة متجمعة في النصف الآخر. كما أنه من المعلوم أيضًا أن الصخور التي يتكوَّن منها هذا الحوض ترجع إلى عصور جيولوجية عظيمة القِدَم. ومع هذا كله فلا أميل إلى الرأي الذي ذكرته من أن حوض المحيط الهادي هو الحفرة التي نشأت عن انفصال القمر عن الأرض؛ لأن الأرض في الغالب كانت في حالة سيولة عندما انفصل القمر عنها.

(٣) الأرض في طفولتها

ولنرجع إلى شريطنا السينمائي لنشاهد حالة الأرض في طفولتها الأولى فماذا نرى؟ أن كرة تدور حول نفسها يحتدم داخلها كالمرجل لا ماء بها ولا زرع. صحراء يعلوها الدخان لو وطئتها القدم لشُوِيت شيًّا. رمال قاسية قاحلة. وبين آنٍ وآخر نسمع صوت انفجار يخرج منه صخر منصهر كأنه القطران الكثيف ينبعث من الشقوق ويتجمَّد بشكل قبيح مزعج لا شمس بالنهار ولا قمر بالليل بل غشاء كثيف من السحب يحجب وجه السماوات، وتحت هذا الغشاء هواء كثيف خانق شُبِّعَ بالغبار يكثر فيه غاز الكربونيك وبخار الماء. منظر لا ترى العين فيه أثرًا للحياة، ولا تسمع الأذن فيه إلا أصوات تكسُّر الحجارة وزفير المواد المنصهرة يتخلُّلها انفجار الصخور.

لا شك في أن من أهم حوادث شريطنا السينمائي نزول مطر على صخور الأرض الحارة وصحاريها الجافة، المطر بعد القحط والماء بعد الجدب! كيف حدث ذلك؟ إن الصورة هنا مبهمة وناقصة هل تكاثف الماء في جو الأرض قبل أن يوجد على سطحها؟ لا ندري. فلعل الماء قد تراكم تحت سطح الأرض قبل أن يهبط من سمائها، بل لعل السطح غمره محيط أو أوقيانوس واحد قبل أن يهطل أول مطر. وأيًّا كانت الظروف فقد انتقلت الأرض إلى مرحلة أخرى من مراحل تطورها. فالسطح قد صار صخريًّا ويابسًا وانخفضت درجة حرارته نسبيًّا. وتكوَّنت جبال وهضاب ووديان، والرياح تثير السحاب والعواصف تهب والمياه تسيل في أنهار سريعة مضطربة وفوق شلالات عالية وقد تكوَّنت البحيرات والبحور القليلة الغور كما حملت المياه الجارية رواسب من الطين الكثيف، وفي أثناء ذلك كله كانت الأرض تنكمش تدريجيًّا. هذا الانكماش الناشئ عن استمرار البرودة وإن كان ضئيلًا نسبيًّا من حيث أثره في حجم الكرة الأرضية إلا أن له أثرًا بليغًا في شكل سطحها.

فكما أن البرتقالة إذا نقص حجمها (بسبب تبخر الماء منها) تكرمش سطحها وتكوَّنت عليه تعاريج وتضاريس. كذلك الأرض عندما نقص حجمها (بسبب برودتها) تكوَّنت عليها سلاسل الجبال تباعًا. وقد اقترن ذلك بفعل العوامل الجوية في تفتيت الصخور ونقل الرمال والرواسب فأصبح سطح الأرض أكثر تنوُّعًا.

(٤) ظهور الحياة

إلى هذه النقطة في تاريخ تطوُّر الأرض يكون قد مضى على ابتداء حياتها نحو ألف مليون سنة أو نصف عمرها الذي قضته حتى اليوم. ألف مليون سنة قُضِيَت في إعداد المسرح لتمثيل رواية الحياة! ألف مليون سنة لا نرى خلالها في شريطنا السينمائي أثرًا لوجود الحياة، ولا نسمع صوتًا لكائن حي بين صفير الزوابع وتلاطم الأمواج وقصف الرعد وخرير المياه.

إذا دقَّقنا النظر في الصورة فإننا لن نرى الأميبات (أو الحيوانات ذات الخلية الواحدة) تنتقل في مياه البرك والبحيرات الهادئة، فإن هذه الكائنات أصغر من أن تدركها العين العارية، ولكننا نرى آثار حركات الحيوانات الصغيرة الأولية في هذه المياه، كما نشاهد النباتات تنمو وتنتشر على ضفافها. ولكن كيف بدأت الحياة في هذا العهد البعيد؟ لا ندري. إننا نظن أنها بدأت على صورة حيوانات ونباتات ابتدائية بسيطة التركيب تعيش في المياه الراكدة. أما التفاصيل فنجهلها تمامًا.

(٥) بدء العصور الجيولوجية

ولنترك هذا العصر الهام المملوء بالأسرار عصر بدء الحياة على سطح الأرض وراءنا، وننتقل بضعة ملايين السنين إلى بدء العصور الجيولوجية، وإذا قلنا العصور الجيولوجية فإنما نقصد بذلك العصور التي أمكن لعلماء الجيولوجيا أن يعثروا على آثار حيواناتها ونباتاتها محفوظة بين الصخور الأرضية. وأول هذه العصور ما يسميه الجيولوجيون العصر الباليوزوي أو عصر الحياة القديمة. وفي هذا العصر نرى في صورتنا النباتات القديمة، وقد انتشرت على سطح الأرض إلا أنها كلها نباتات ابتدائية عديمة الأزهار وقد اندثر معظمها الآن. نرى غابات كثيفة من هذه النباتات الغريبة على الأرض اليابسة، كما نرى المحيطات، وقد امتلأت حياة بأسماك متعددة الأشكال تليها في الظهور حيوانات مائية برية تخرج من البحر فتعيش على الطين ثم تعود إلى البحر ثانية. هذه الحيوانات المخضرمة هي أولى الحيوانات التي أحدثت صوتًا مسموعًا لكائن حي على سطح الأرض، ولا إخال أصواتها كانت موسيقية إلى درجة عظيمة إلا أنها كانت ولا شك أصوات انتصار الحياة على الطبيعة الميتة. بعد ذلك نرى الحيوانات البرية الحقيقية تحتل الأرض اليابسة وتتخذها مأوًى لها.

(٦) ظهور الحيوانات الثديية

ولنقفز بضعة ملايين السنين إلى العصور المتوسطة. ففي هذا العصر نرى النباتات وقد ارتقت فاتَّخذت أشكالًا تقرب من أشكال النباتات التي نعرفها، ولو أن أزهارها تعوزها بهجة أزهارنا وجمال ألوانها. أما الأشجار في ذلك العهد فلم تكن تتلوَّن بألوان الخريف قبل سقوط أوراقها؛ إذ أن أوراقها لم تكن تسقط، وفي المملكة الحيوانية تظهر الحيوانات الثديية لأول مرة كما تظهر بعض الحشرات والطيور، ولكن لعل أهم ما يسترعي نظر الرائي هو هذه الزحافات العظيمة الهيكل التي تُسمَّى الدينوصورات. هذه الدينوصورات كانت ولا شك أقوى الحيوانات وأعظمها سلطة في ذلك العصر السحيق. فعِظَم جثتها وقوتها جعل لها مركزًا ممتازًا بين الكائنات الحية في زمانها، ويصح أن يقال إنها كانت متسلطة على كائنات الأرض كما يتسلط الإنسان اليوم على غيره من الكائنات الحية.

(٧) تغلُّب الذكاء

فإذا انتقلنا إلى العصر الحديث بدأت الأرض تزدان بالنباتات المزدهرة، وظهرت الحبوب والفواكه والغابات ذات الأخشاب الجامدة، وتعطَّر الجو بشذا الرياحين، وتعدَّدت أنواع الحشرات، وانتشرت بين الزهور الجميلة الألوان، وانقضى عهد الدينوصورات الهائلة ودالت دولتها. ولكن لماذا؟ لماذا دالت دولة هذه الحيوانات العظيمة القوة والبطش؟ إن العصر الكينوزوى أو الحديث يمتاز بظاهرة غريبة بين حيواناته هذه الظاهرة هي الذكاء. ففي العصر الميزوزوى أو الأوسط كانت الغلبة للقوة الجثمانية. فما كان من الحيوانات أعظم جثة وأقوى عضلًا تغلَّب على غيره. أما في العصر الحديث فقد ظهر سلاح آخر أمضى وأفتك من سلاح القوة الغشوم ذلك السلاح هو سلاح الذكاء.

وقد تجلَّى الذكاء في جميع الحيوانات الثديية تقريبًا، لا سيما في نوع خاص منها وهو النوع المسمَّى بالرجل-القرد أو القرد-الرجل. فقد تمكَّن هذا الكائن بذكائه من التغلُّب على حيوانات أعظم منه جسمًا وقوة حتى صارت له العزة عليهم جميعًا.

وهكذا نترك قاعة السينما دون أن نرى أول كائن حي يصح أن يطلق عليه اسم الإنسان. فالقصة التي أردت أن أحكيها لم تكن قصة الإنسان بل قصة الأرض التي نعيش عليها. أما الخوض في نظريات النشوء والارتقاء فأتركه لغيري ممن لهم إلمام بهذه المباحث.

ولعل بعض القراء قد خرج من قاعة السينما قبل الآن إما لملل وسآمة أو هربًا من أصوات فرقعة البراكين التي تخلَّلت عرض الشريط، إلى هؤلاء لا داعي إلى أن أُقدِّم أي اعتذار.

١  انظر شرح هذا العالم [فصل: التصميم المعماري للكون].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤