العلم والصوفية

قد يظهر لأول وهلة أنه لا يمكن أن تكون هناك صلة بين العلم والصوفية، فالعلم يطلب المعرفة عن طريق الحواس ويستخدم التفكير الصحيح، والصوفية تُنْكِر حقيقة ما يصلنا عن طريق الحواس وتتطلب المعرفة في حالة نفسية لا تتفق مع التفكير الصحيح. العلم لا يقتنع إلا بما تثبته التجارب، والعالِم رجل عملي لا يصدق إلا ما يرى أو ما يستنتجه المنطق مما يرى. والحقيقة في رأيه هي هذا العالم المحسوس الذي يُلْمَس ويُسْمَع ويُنْظَر، أما الفيلسوف الصوفي فيدعي أن كل ما يُلْمَس ويُسْمَع ويُنْظَر إنما هي ظلال للحقيقة وأن وراء هذه الظلال توجد الحقيقة الأبدية التي لا تصل إلى الحس ولا تدركها العقول. وهنا سأوضح الموقف بأن أذكر محاورة وهمية بين عالِم وفيلسوف صوفي.

العالِم : أنت تدَّعي أن كل الحقائق التي نصل إليها عن طريق الحواس إن هي إلا أوهام.
الفيلسوف : نعم، أو بعبارة أخرى أصح هي ظلال للحقيقة.
العالِم : إذن فهذه المائدة وهذا المصباح وهذا الكرسي الذي أراه كلها أوهام؟
الفيلسوف : إن ما يصل إليك عن طريق الحواس من هذه المائدة وهذا المصباح وهذا الكرسي هي ظلال لحقائق هذه الأشياء. أما كنه هذه الأشياء فلا يمكن أن يصل إليك عن طريق الحواس، بل إن تفرقتك بين أجزاء الكون وتسمية كل جزء باسم خاص هو من عملك أنت. أما الحقيقة فوحدة متماسكة لا تتجزأ.
العالِم : وإذن فكيف تصل إلى معرفة هذه الحقيقة؟
الفيلسوف : عن الطريق الروحي، حيث تدرك وحدة الكون وتتجلَّى لك الحقيقة.
العالِم : ولكني أفهم أن معنى هذا أنك تضع نفسك في حالة نفسية خاصة لا يمكنني أن أصفها بأنها حالة طبيعية، بل هي أشبه بحالة الإغماء، فلا أستطيع أن أعتمد على خبرتك النفسية عندئذٍ.
الفيلسوف : إن ما تسميه أنت حالة إغماء هو ما أسميه أنا حالة «الإشراق» أو «التجلي»، وعندها تصفو الروح من مكدرات الحواس وتتصل النفس بالحق.
العالِم : اعذرني إذا أنا فضَّلت البقاء في حالة الوعي التام واعتمدت على نتائج المشاهدة والتفكير.
الفيلسوف : لك أن تفعل ذلك، ولكنك لن تصل بذلك إلى حقيقة شيء، بل ستعيش في عالم من الرموز والظلال. وهنا يفترق الرجلان، كلٌّ يظن أخاه واهمًا.

هذه المحاورة الوهمية ربما حدثت بين عالِم وفيلسوف صوفي في القرن الماضي. إلا أن العلم والفلسفة قد تطور كل منها في أوائل هذا القرن بحيث اقتربت وجهتا النظر وأصبح من الميسور أن يتفاهما. وربما استغرب البعض أن يسمع أن أول خطوة في سبيل هذا التفاهم خطاها السير إيزاك نيوتن العالم الفلكي الطبيعي منذ نحو قرنين ونصف قرن لما وضع قانون الجاذبية العامة. فكلكم قد سمع الحكاية التي تحكي عن أن نيوتن رأى تفاحة تسقط من شجرة، فأوحى إليه هذا الحادث أن الأرض تجذب التفاحة إليها وتدرج من ذلك إلى أن الأرض تجذب القمر والشمس تجذب الأرض … إلخ. لنتأمل في رأي نيوتن هذا. أي جزء منه واقع تحت المشاهدة وأي جزء خارج عنها؟ إن التفاحة والأرض وحركة التفاحة كل هذه أشياء تمكن مشاهدتها. ولكن ما هي هذه القوة التي تجذب الأرض بها التفاحة؟ نحن نعلم أنه لا يوجد ارتباط مادي بين الأرض والتفاحة، فكيف إذن يمكن أن تشد الأرض التفاحة؟ ألا يرى القارئ أن نيوتن اضطر إلى افتراض وجود عامل خفي لا تتسنى مشاهدته لكي يفسر حركة التفاحة؟ هذا العامل الخفي — أو العفريت الاصطناعي — هو ما سماه الجاذبية الأرضية. حقيقة أن لفظ الجاذبية عليه شيء من الطلاء العلمي. ولكن يجب ألَّا نغتر بالأسماء، فالجاذبية كانت ولا تزال نوعًا من السحر العلمي، والقول بوجودها هو القول بوجود سر من الأسرار الخفية في نظام الكون أو طلسم من الطلاسم التي لا تصل إلى كنهها العقول. ومع هذا فقد ظل العلم أكثر من مائتي عام بعد نيوتن بعيدًا عن الفلسفة الصوفية. فالجاذبية وقوانينها إن هي إلا جزء يسير من العلوم الطبيعية — وإن كان جزءًا أساسيًّا فيها — وهناك المادة التي نشاهدها ونُجري تجاربنا عليها، كما أن هناك الحرارة والكهربائية والضوء وكلها أشياء محسوسة تكوِّن أساسًا مُقنِعًا مُشاهَدًا للعلم.

والخطوة الثانية التي قرَّبت العلم من الفلسفة الصوفية خطاها علماء الطبيعة في أواخر القرن الماضي حين افترضوا وجود الأثير. فالأثير الذي افترضوه هو شيء لا تمكن مشاهدته، ومع ذلك فقد كان في افتراضه تبسيط للحقائق الطبيعية ولمٌّ لشعثها بحيث يستطيع العقل البشري أن يفهمها ويؤلِّف بين أجزائها. وكما أن قوى الجاذبية موجودة في جميع أنحاء الفضاء فكذلك الأثير مالئ له، فكأنما العالم بحر هائل من الأثير، والمادة إن هي إلا أجزاء صغيرة فيه تختلف خواصها عن خواص ما حولها من الأثير. وكان العلماء في أوائل هذا القرن يتكلمون عن المادة كما لو كانت مجرد ظاهرة أي ظرف خاص من ظروف هذا الأثير. أليس هذا معناه أن الحقيقة الأصلية وهي الأثير شيء لا يقع تحت حِسِّنَا، وأن ما يقع تحت حِسِّنَا وهي المادة إن هي إلا ظرف خاص من ظروف الحقيقة أو هي ظل من الظلال الزائلة في عالم الحقيقة؟

ثم جاء إينشتين بنظريته المعروفة بالنسبية، وجاء دي برولي وشرويدنجر بأن المادة إن هي إلا أمواج في لا شيء لا سبيل إلى وصفها إلا باستعمال الرموز الرياضية المعقدة، فتلاشت الأسس المادية التي كان العلم يبني عليها صرحه، واستعضنا عنها بمعادلات رياضية هي في ماديتها أوهى من نسيج العنكبوت. ولكي أدل القارئ على موقف العلم إزاء الفلسفة الصوفية سأنقل له ترجمة من قول الأستاذ السير أرثر أدنجتن من أكبر العلماء الفلكيين والطبيعيين في هذا العصر من كتابه «كنه العالم الطبيعي» حيث يقول: «كلنا يعلم أن هناك أنحاء من النفس البشرية غير مقيدة بعالم الطبيعة. ففي المعنى الخفي للخليقة التي تحيط بنا وفي التعبير الفني وفي النزوع نحو الله — في كل هذه تطمح النفس إلى العلا وتجد تحقيقًا لشيء مودع في طبيعتها. وتبرير هذا الطموح داخلي فينا فهو محاولة من جانب إدراكنا أو هو نور داخلي ناشئ عن قوة أعظم من قوتنا. والعلم يكاد لا يُقْدِم على الشك في تبرير هذا الطموح؛ إذ إن الرغبة في العلم هي نفسها ناشئة عن وازع داخلي لا تقوى على ردعه. فسواء في الاستزادة الفكرية من العلم أو في سائر النزعات الروحية الخفية في كلتا هاتين أمامنا نور يجذبنا إليه ونحن نشعر بالرغبة في السعي نحو هذا النور. ألا يكفي أن نترك المسألة عند هذا الحد؟ وهل من الضروري أن نُصِرَّ على استخدام كلمة الحقيقة كما لو كانت لازمة لتشجيعنا في مجهودنا؟»

هكذا يكتب العالِم الطبيعي اليوم. ويرى القارئ أن المحمل العقلي الذي انطوت عليه هذه الكتابة يختلف كثيرًا عن المحمل العقلي الذي كان يُقرَن بالعلم حتى أوائل هذا القرن. فالعلم قد أدرك أن المعرفة البشرية متعددة النواحي وأن طريقة المشاهدة والتحليل المنطقي التي بنى عليها عمله ليست بالطريقة الوحيدة التي يمكن أن يسلكها المرء في الوصول إلى المعرفة كما أن هذه الطريقة قد أدت بنا إلى نوع من التفكير الصوفي، بحيث صارت الشُّقَّة بيننا وبين الفلاسفة والعلماء الروحيين غير بعيدة. ومن يدري فلعل أبناء الجيل القادم يرون علماء الطبيعة وعلماء الدين والفلاسفة متصافحين متكاتفين على خدمة البشر في النواحي الثلاث الطبيعية والروحية والتفكيرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤