التطورات الحديثة في آرائنا عن تركيب المادة

لا حاجة بي إلى أن أنوِّه بأهمية البحث في تركيب المادة، سواء أكان ذلك من الناحية الأكاديمية والفلسفية البحتة أم من ناحية أثره في الرقي الصناعي وتقدم العمران. فإن ازدياد فهمنا لتركيب المواد التي تحيط بنا وكشفنا عن خبايا صنعها وما انطوت عليها من القوى الكامنة — إن هذا كله عدا ما له من اللذة الفكرية — يُمَكننا من استخدام هذه المواد وتلك القوى لمنفعة البشر ولرفاهية الأسرة الإنسانية. والقصة التي سأتلوها هي قصة العقل البشري وسعيه المتواصل وراء إرجاع ما هو معقد متشعب إلى ما هو بسيط محصور. وهو في سعيه هذا لا يألو جهدًا في تذليل ما يعترضه في طريقه من الصعاب والاستفادة مما يصادفه من حسن الحظ متوخيًا طلب الحقيقة لذاتها لا متمسكًا برأي قديم لقدمه ولا متعلقًا بمذهب جديد لجدته. وسأطلب إلى القارئ بادئ ذي بدء أن ينظر إلى ما حوله من مختلف المواد وكذلك أن تستعيد ذاكرته ما وقع عليه حسه من المادة في صورها المتباينة ومظاهرها المتعددة. فإذا عُلِمَ بعد هذا أننا نستطيع اليوم أن نثبت أنها كلها مؤلفة من نوعين اثنين١ من الجواهر وأن ننبئ في كثير من الأحوال بعدد هذه الجواهر وكيفية ترتيبها في بناء المادة، وإذا راعينا أن الوصول إلى هذه المعرفة لم يستغرق أكثر من نيف ومائة سنة أدركنا مبلغ نجاح الطريقة العلمية في كشف أسرار الكون. ولكن أراني أبدأ بآخر قصتي فلأعد إلى البداية.

فعلمنا بتركيب المادة يرجع إلى النصف الأول من القرن الماضي حين وجد علماء الكيمياء في ذلك العصر وعلى رأسهم جون دُلْتون أن من الممكن تخصيص رقم معين لكل عنصر من العناصر الكيميائية بحيث إنه كلما دخل عنصر في مركب كيميائي دخل بنسبة الرقم المخصص له أو بنسبة أحد مضاعفات هذا الرقم. فمثلًا الرقم المخصص للأوكسجين هو ١٦ وللكربون هو ١٢، وإذن فكلما دخل الأوكسجين مع الكربون في مركب من المركبات دخلت ١٦ جرامًا من الأول مع ١٢ جرامًا من الثاني أو ٣٢ جرامًا من الأول مع ١٢ من الثاني وهكذا. هذا القانون يُعرف بقانون «النسب المضاعفة». ولما كان قانونًا عامًّا منطبقًا على جميع العناصر وعلى جميع المركبات بدقة عظيمة فقد كان من الطبيعي أن يفترض دُلْتون وأصحابه أن الرقم ١٦ يمثل وزن ذرة الأوكسجين والرقم ١٢ يمثل وزن ذرة الكربون، وأن عددًا من ذرات العنصر الأول يتحد مع عدد من ذرات العنصر الثاني فيتكوَّن بذلك جزيء من المركب الكيميائي. وقد كان الرأي في ذلك الوقت أن الذرة هي الجوهر الفرد الذي لا يقبل التجزئة ولذلك اُشْتُقَّ اسمها من الكلمة الإغريقية «أتوموس» التي معناها لا يقبل القطع أو الكسر، ويرى القارئ أن هذا «الفرض الذري» كما يُسَمَّى هو من نوع الفروض العلمية التي تعززها التجارب العملية، وقد نجح نجاحًا كبيرًا بحيث يصح أن يُعْتَبَر بحق أساس علم الكيمياء.

وشرع الكيميائيون من القرن الماضي في حصر العناصر فعثروا على نحو السبعين عنصرًا. قاسوا أوزان ذراتها بنسبتها إلى أخفها وهي ذرة الإيدروجين كما أخذوا يحللون سائر المركبات الكيميائية وبذلك توصلوا إلى تعيين عدد الذرات المختلفة المؤلفة للجزيئات. فالمركبات الكيميائية في نظر علماء القرن التاسع عشر إذن مؤلفة من جزيئات وكل جزيء يتألَّف من ذرات كل ذرة منها تنتمي إلى عنصر من العناصر. ولما كانت جميع المواد التي يقع عليها حسنا هي إما عناصر أو مركبات أو مزيج من هؤلاء فيكون هناك نحو السبعين جوهرًا فردًا تتألف منها جميع المواد على اختلاف أجناسها. فالماء مثلًا (إذا افترضنا أنه نقي تمامًا) مؤلف من جزيئات متشابهة كل واحد منها هو جزيء الماء وكل جزيء مؤلف من ذرتين من ذرات الإيدروجين وذرة من ذرات الأوكسجين وهنا تنشأ ثلاث مسائل تَعِنُّ للفكر بداهة.

(الأولى) عن الجزيئات معتبرة كواحدات مستقلة هل هي ساكنة أم في حركة مستمرة؟ وكيف هي موزعة في الفضاء؟ ثم ما هي القوى التي تجمعها جميعًا وتمنعها من التفرق؟ و(الثانية) عن تركيب الجزيء الواحد، ما شكله وكيف ترتبط ذرتا الإيدروجين بذرة الأوكسجين؟ و(الثالثة) عن الذرة الواحدة ما الفرق بين ذرة وأخرى وممَّ تتألف الذرة؟

•••

فأما عن المسألة الأولى: فقد فهمها علماء القرن التاسع عشر فهمًا صحيحًا ووصلوا في حلها إلى شأوٍ بعيد. ذلك أنهم افترضوا أن الجزيئات في حركة مستمرة متشعبة كأنها جماعة من النحل في اضطراب عظيم تعدو الواحدة منها حتى تصطدم بأخرى (أو بجدار الإناء) فترتد عن هذا الاصطدام إلى اصطدام آخر وهكذا. وهذا الاضطراب المستمر هو منشأ حرارة المادة فإذا زاد ازدادت درجة الحرارة وإذا نقص نقصت، كما أن اصطدام الجزيئات المتواصل بجدران الإناء هو سبب الضغط الواقع على هذه الجدران، وتُعْرَف هذه النظرية بالنظرية الكينيتيكية للمادة نسبة للكينيتيكة أي الحركة، ويرجع الفضل الأكبر فيها إلى كلارك مكسول العالم الاسكتلندي الذي ربما كان أعظم من أنجبه القرن الماضي من الباحثين.

وقد نجحت هذه النظرية نجاحًا عظيمًا في تفسير القوانين الطبيعية للأجسام بحيث أصبحت اليوم من النظريات المجمع عليها من العلماء. ولكي تتكون عند القارئ فكرة عن هذه الجزيئات وعن حركاتها أذكر أن في كل سنتيمتر مكعب من الماء يوجد نحو ٣٠ ألف مليون مليون مليون جزيء، وأن متوسط سرعة الجزيء الواحد نحو ٣٠ كيلومترًا في الدقيقة الواحدة، وأن وزن الجزيء لا يتعدى ثلاثة أجزاء من مائة ألف مليون مليون مليون جزء من الجرام.

وأما عن المسألة الثانية وهي الخاصة بتركيب الجزيء فهذه من أعوص المسائل التي لم نكد نعرف عنها شيئًا إلى اليوم.

وأما عن المسألة الثالثة وهي الخاصة بتركيب الذرة، فهذه ما سأخصص لها ما تبقى من هذا المقال.

وسأبدأ بأن أطلب من القارئ أن يتأمل قليلًا في مصباح كهربائي، هو يتركب من زجاجة منتفخة داخلها سلك دقيق متوهج. ولكن ما السبب في توهج السلك؟ سيقال «مرور التيار الكهربائي فيه». إذن فالسلك يسمح بمرور التيار الكهربائي، لنفرض أننا أتينا بزجاجة منتفخة مثل هذه ولحمنا بها طرفي سلكين ثخينين من نوع هذه الأسلاك الكهربائية التي لا تتوهج لثخانتها وكانت الزجاجة تحتوي على هواء ثم وصلنا السلكين بقطبي آلة مولدة للكهرباء، فهل يمر التيار في الهواء كما يمر في هذا السلك؟ وهل يتوهج الهواء؟ نحن نعلم أن الهواء موصل رديء للكهرباء، فإذن لا يُنْتَظَر أن يمر فيه التيار والواقع أن التيار لا يمر ما دام ضغط الهواء كبيرًا من نوع ضغط الهواء الجوي، ولكن إذا أنقصنا الضغط تدريجًا فإن مقاومة الهواء للتيار تقل تدريجًا إلى أن تصل إلى حالة فيها يمر التيار داخل الزجاجة خلال الهواء كما يمر خلال السلك المعدني وعندها يتوهج الهواء بشكل جذَّاب ومسترعٍ للنظر، هذه الظاهرة في حالتها العامة هي ما يُعْرَف «بمرور الكهرباء في الغازات» عُني بدراستها علماء الطبيعة في العقد الأخير من القرن الماضي وفي أوائل القرن الحالي فكانت مفتاح عصر جديد أدى بنا إلى تركيب الذرة.

figure
جهاز أشعة المهبط.

ففي هذه الصورة التي بالأعلى يرى القارئ أنبوبة من الزجاج تحتوي على غاز متخلخل أي قليل الكثافة يمر فيه تيار كهربائي وترى أشعة تنبعث عن القطب السالب. هذه الأشعة هي ما يُسَمَّى بأشعة المهبط، والمهبط اسم آخر للقطب السالب، كما أن المصعد اسم للقطب الموجب، وإذا وضعنا حائلًا في سبيل هذه الأشعة فإنه يتكوَّن له ظل مما يدل على أن الأشعة تتحرك في خطوط مستقيمة، هل هذه الأشعة هي من نوع أشعة الضوء؟ الجواب عن هذا بالسلب، فإن الضوء لا يتحرك عن سبيله بتأثير قوة مغنطيسية وأما هذه فتنحرف. وقد ثبت أن هذه الأشعة تتألف من جسيمات صغيرة مشحونة شحنة سالبة ومتحركة بسرعات تختلف باختلاف أحوال الجهاز. هذه النتائج قد وُصِلَ إليها من أبحاث هيتورف وبلوكر وبران وكروكس ولنارد والسر جوزف طمسن، وإذا وقعت أشعة المهبط على حائل في طريقها صدر عن هذا الحائل أشعة خفيفة لها مقدرة على اختراق المواد الجامدة المعتمة والتأثير في الألواح الحساسة الفوتوغرافية، وأول من شاهد ذلك الأستاذ رنتجن عام ١٨٩٥م ولهذه الأشعة شأن خاص اليوم في عالم الطب والجراحة كما هو معلوم، وأشعة رنتجن لا تنحرف بتأثير المغنطيس وقد دلت التجارب على أنها من نوع الأشعة الضوئية أي أنها تموجات متنقلة في الفضاء. وترجع قدرتها على اختراق المواد المعتمة إلى قصر موجاتها مما يسمح لها بالمرور بين جسيمات المادة. ويبلغ طول موجاتها نحو جزء من مائة مليون جزء من السنتيمتر الواحد أو نحو جزء من عشرة آلاف جزء من طول موجات الأشعة المرئية.

•••

سأنتقل الآن إلى مصدر آخر ذي شأن عظيم من مصادر علمنا بتركيب الذرة، وأقصد ظاهرة النشاط الإشعاعي التي تتجلى بأجلى مظاهرها في عنصر الراديوم، ويرجع تاريخ هذه الظاهرة إلى سنة ١٨٩٦م حين وجد العالم الفرنسي بكرل أن الكبريتات المزدوجة لليورانيوم والبوتاسيوم تؤثر في لوح فوتوغرافي حساس إذا كانت مجاورة له في الظلام، ووجد بكرل أن هذا التأثير ناشئ عن صدور أشعة خفيفة عن هذه المادة تشبه أشعة رنتجن، وسُمِّيَت هذه الأشعة بأشعة بكرل، ثم وجد أنها تصدر عن بعض المواد الأخرى كعنصر الثوريوم ومركباته. وقد اتجهت الأنظار إلى هذه الظاهرة الخفية التي سُمِّيَت بظاهرة النشاط الإشعاعي، وبينما كانت مدام كوري تمتحن معادن مختلفة بغرض العثور على عناصر لها هذا النشاط الخاص وُفِّقَت هي وزوجها المسيو كوري إلى اكتشاف عنصر الراديوم الذي هو أنشط العناصر التي نعرفها إشعاعًا. وينبعث عن عنصر الراديوم ثلاثة أنواع رئيسية من الأشعة وهي أشعة ألفا وأشعة بيتا وأشعة غما. ودلت التجارب على أن أشعة ألفا مؤلفة من جسيمات صغيرة مشحونة شحنة إيجابية ويبلغ وزن الواحدة منها وزن ذرة الهيليوم أي نحو أربعة أضعاف وزن ذرة الأيدروجين، أما أشعة بيتا فلا تختلف عن أشعة المهبط التي ذكرتها في شيء ما فهي جسيمات صغيرة مشحونة شحنة سالبة ومتحركة بسرعات متفاوتة، وأما أشعة غما فهي من نوع أشعة س، وهي أحدُّ قليلًا من أشعة س المستعملة عادة أي أقصر منها موجة.

•••

لو أنني كتبت هذا المقال منذ أربع سنوات٢ لوقفت عند هذا الحد (ولعل بعض القراء يود لو أن الأمر كان كذلك) إلا أنني أكون مقصِّرًا في واجبي إذا لم أُطْلِع القارئ باختصار على تطور هام حدث في آرائنا عن تركيب المادة في خلال السنوات الأربع الماضية. إن الضوء قد فُسِّرَ بأنه أمواج في الفضاء، ومن أهم الأدلة على ذلك أن الضوء إذا مر في ثقب دقيق أو اعتراضه حائل معتم صغير نشأ عن ذلك ما يسمَّى بالتداخل أو الاشتباك بين الأمواج فبدلًا من أن يسير الضوء في خطوط مستقيمة تشتبك أجزاؤه. ولما كانت أشعة س من نوع الأشعة الضوئية فإنها تُنْتِج مثل هذه الظاهرة إذا أمررناها في معدن متبلور أو في صفائح فلزية رقيقة، وفي هذه الحال تقوم ذرات المعدن أو الفلز مقام الحوائل في حالة الضوء المرئي.

•••

وفي عام ١٩٢٦م جاء العالم الفرنسي لوي ده برولي بنظرية مؤداها أن الإلكترونات هي عبارة عن أمواج كهربائية متجمعة في حيز صغير. وقام بعض علماء الطبيعة بامتحان هذه النظرية منهم دافنسن وجرمر وطمسن (الابن) بأن أمرُّوا إلكترونات متحركة خلال معادن متبلورة وصفائح فلزية.

figure

ويُرَى في الصورة نتيجة تجربة طمْسُن منها يتضح أن الإلكترونات المتحركة هي كما لو كانت أمواجًا من نوع أشعة س أي من نوع النور المرئي. هذا التطور كان له أثر عظيم في فلسفتنا عن تركيب المادة وعن الفرق بين المادة والنور. فالإلكترونات التي تتألَّف منها جميع المواد يظهر أنها لا تختلف في كنهها عن النور الصادر عن مصباح، وإذن فالمادة يظهر أنها لا تختلف في كنهها عن النور.

وقد أتيح لي أخيرًا أن أضيف إضافة يسيرة إلى الأبحاث في هذه النقطة إلا أن الأمر لا يزال غامضًا وفي حاجة إلى كثير من النور.

•••

ومن قديم الزمن كان النور رمزًا على المعرفة واليوم نرى المعرفة قد اتصلت بالنور واتصلت بالمادة حتى كادت جميعًا تستحيل الواحدة إلى الأخرى أو تستحيل إلى شيء واحد. ومن يدري ما يخبئه لنا الزمان فلعله هو أيضًا بعد أن اختلط بالمكان في النظرية النسبية يختلط بالنور وبالمادة وبالمعرفة بحيث لا يبقى إلا شيء واحد أترك للأجيال القادمة أن تجد له اسمًا.

١  كُتب هذا المقال عام ١٩٣٠م، وقد كُشف من ذلك الوقت عن جواهر أخرى موصوفة في المقال التالي.
٢  انظر [فصل: التطورات الحديثة فى آرائنا – هامش رقم ١].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤