الجسيمات التي كُشِفت حديثًا في علم الطبيعيات

في المقال السابق الذي كُتِبَ في شهر مارس من سنة ١٩٣٠م، تكلمت عن تركيب المادة.

وقد أشرت إلى الرأي الذي كان سائدًا بين العلماء في ذلك الوقت من أن المادة ربما كانت مؤلَّفة من جوهرين اثنين أوليين؛ الإلكترون والبروتون. فقد كان من المُسَلَّم به أن هذين الجوهرين الرئيسين كافيان لبناء سائر العناصر الكيميائية. فالإلكترون وهو الذي يحمل شحنة كهربائية سالبة، كان بمثابة أحد الجنسية المكونين للمجموعة المادية، والبروتون — الذي يحمل الشحنة الموجبة — كان بمثابة الجنس الآخر.

والآن، ولمَّا يمضِ من الزمن إلا فترة يسيرة،١ أرى من الضروري أن أصحح الفكرة التي صورتها في مقالي السالف، وفي ذلك دليل واضح على سرعة تقدم العلوم الطبيعية في العصر الحاضر. ويرجع السبب في تعديل آرائنا في هذا الموضوع إلى الكشف عن جسيمات أساسية غير الإلكترون والبروتون، عُثِرَ عليها في خلال السنوات الخمس الماضية. وهذه الجسيمات هي:
  • (١)

    النيوترون أو البروتون عديم الشحنة.

  • (٢)

    البوزيترون أو الإلكترون الموجب.

  • (٣)

    الديبلون أو نواة الأيدروجين الثقيل.

وسألخص الطريقة التي عُثِرَ بها على كل جسيم من هذه الجسيمات، وأذكر شيئًا عن خواصه الرئيسية.

(١) النيوترون

يرجع الكشف عن النيوترون إلى البحوث التي قام بها بوث وبكر٢ عام ١٩٣٠م، وكانا يجريان تجاربهما على أشعة «ألفا» الصادرة عن عنصر البولونيوم، وأشعة ألفا هي عبارة عن جسيمات صغيرة متحركة بسرعات عظيمة، كل جسيم منها يزن نحو أربعة أمثال ذرة الإيدروجين، ويحمل شحنة موجبة تعادل ضعف ما يحمله البروتون. هذه الجسيمات أو هذه الأشعة كما تُسَمَّى مجازًا، كان يسلطها الباحثان المشار إليهما على عناصر مختلفة لمعرفة نتائج اصطدامها مع ذرات هذه العناصر. وقد وجدا أن بعض العناصر، لا سيما الليثيوم والبورون والفلورين، يصدر عنها في هذه الظروف أشعة، تمر من خلال سنتيمترين من النحاس، وأن عنصر البريليوم على وجه خاص غني بمثل هذه الأشعة. ولما كانت هذه الأشعة عديمة الشحنة، فقد افترض بوث وبكر، بدون مناقشة، أنها أشعة جمَّا، أي أنها أشعة من نوع أشعة الضوء وليست جسيمات متحركة. وتابع جوليو وزوجه إيرين كوري جوليو٣ (مدام كوري سابقًا) هذه الأبحاث مستخدمين مصدرًا أقوى من البولونيوم، فوجدا أن الأشعة المشار إليها تخترق عدة سنتيمترات من الرصاص، كما وجدا أن هذه الأشعة تطرد البروتونات عن شمع البارافين، إلا أن مدى هذه البروتونات لا يتفق مطلقًا وافتراض أن هذه الأشعة هي أشعة جما. وفي ظرف يوم أو يومين من ظهور بحث جوليو وزوجه بيَّن تشادوك٤ أن كل الصعوبات القائمة في سبيل تفسير هذه الأشعة تنمحي إذا افترضنا أنها مؤلفة من جسيمات عديمة الشحنة أي من نيوترونات. ومنذ ذلك الحين قد اسْتُحْدِثَت النيوترونات بطرق مختلفة أخرى أهمها طريقة استخدام بروتونات تُزَاد سرعتها بواسطة مجال كهربائي. وقد وُجِدَ أن كتلة النيوترون تعادل كتلة البروتون وقدر لها تشادوك ١٫٠٠٦٦ من كتلة البروتون.

(٢) البوزيترون أو الإلكترون الموجب

ويرجع الكشف عنه إلى بحوث أندرسن٥ من بايزينا بأمريكا. وكان يشتغل في البحث عن الجسيمات التي تفصلها الأشعة الكونية عن جزيئات الغازات، وكان أندرسن يستخدم مجالًا مغنطيسيًّا يعادل نحو ١٥٠٠ جاوس، لمعرفة مقدار طاقة الجسيمات. وقد عثر أندرسن على جسيمات يمكن أن تخترق لوحًا من الرصاص سمكه ٦ مليمترات، وبمقارنة انحناء مسار الجسيم في ناحيتي اللوح، يمكن معرفة اتجاه حركة الجسيم، وقد وجد أن الجسيم يحمل شحنة موجبة وأن كتلته أقل بكثير من كتلة البروتون. وفي نفس الوقت كان بلاكيت وأوتشياليني٦ يجريان مثل تجارب أندرسن بجهاز يمتاز عن جهاز أندرسن بأن التمدد في الغاز لا يحدث إلا عند مرور الأشعة الكونية، وقد أثبت هذان الأخيران أن الشحنة موجبة. وقد أمكن إحداث الإلكترون الموجب بطرق أخرى أهمها: (أ) أن الأشعة الصادرة عن عنصر البريليوم والناشئة عن وقوع أشعة من عنصر البولونيوم عليه، والتي تتألف من أشعة ألفا ونيوترونات إذا وقعت على عنصر الرصاص صدر عن هذا العنصر إلكترونات موجبة. وقد وجد هذا كل من تشادوك وبلاكيت وأوتشياليني وغيرهم. (ب) أن أشعة جما الصادرة عن الثوريوم C (أو الراسب الفعَّال للثوريوم) إذا وقعت على الرصاص صدر عن هذا الأخير إلكترونات موجبة. وقد اكتشف ذلك المذكورون وأندرسن.

(٣) الديبلون

كان الكشف عن هذا الجسم ناشئًا عن الدقة الشديدة في قياس الفروق الصغيرة وملاحظتها كما حدث في الكشف عن عنصر الأرجون في الهواء الذي قام به لورد رايلي: فكثافة غاز الإيدروجين يمكن قياسها بالطرق الكيميائية ويمكن مقارنتها بكثافة غاز الأوكسجين. كما أنه من الممكن أيضًا قياس هاتين الكثافتين ومقارنتهما بطريقة حركة البروتونات في جهاز ولسن وقد لاحظ بيرج ومندل٧ أن بين الطريقتين فرقًا يعادل نحو ١ / ٥٠٠٠ ووجدا أن هذا الفرق أكثر من الخطأ المحتمل وقوعه، وقد فرضنا أن العلة في هذا الفرق ربما كانت راجعة إلى وجود إيدروجين ذرته أثقل من ذرة الإيدروجين العادي.
وقد حقق صحة هذا الزعم كل من يوري، وبركودل، وميرفي٨ بطريقة التحليل الطيفي بمشاهدة خط خافت في طيف الأيدروجين. وقد وجد يوري وواشبرن أن التحليل الكهربائي يزيد عن نسبة الأيدروجين الثقيل في الماء وحصلا على ماء ثقيل مركز بواسطة التحليل الكهربائي المتكرر.
ويوجد نحو سنتيمتر مكعب واحد من الماء الثقيل في كل ٦ لترات من الماء العادي. وأول من حضَّر الماء الثقيل خالصًا تقريبًا هو ج. ن. لويس٩ من كاليفورنيا. وأرسل عينات منه لمعامل أوروبا وأمريكا لدراسة خواصه.

وقد سمى الإيدروجين الثقيل باسم ديبلوجين؛ وتتألف ذرته من ديبلون وإلكترون كما تتألف ذرة الإيدروجين الخفيف من بروتون وإلكترون.

والديبلون جسيم شحنته تساوي شحنة البروتون، ولكن كتلته تساوي ضعف كتلة البروتون.

وقد تمكن لويس أخيرًا من تحويل الديبلون إلى ٢ بروتون وإلكترون واحد. وإذا كان الأمر كذلك فإن الديبلون لا يخرج عن أنه ذرة مركبة، شأنه شأن نوى العناصر الأخرى.

ولا أريد أن أخوض في الأهمية النظرية والعلمية لهذه الاستكشافات، فليس الغرض من هذا المقال، إلا شرح طريقة الكشف عنها والبيان عن خواصها الرئيسية.

١  كُتب هذا المقال عام ١٩٣٥م، ومنذ ذلك الوقت قد عثر على جسم جديد آخر أطلق عليه الاسم «الميزون».
٢  Bothe and Becker.
٣  Joliot et Jiène Curie Joliot.
٤  Chadwick نشر بحثه في مجلة Nature، في أوائل سنة ١٩٣٢م.
٥  C. D. Anderson.
٦  Blackett and Occhialini.
٧  Birg and Mendee.
٨  Urey. Birkweddle and Murphy.
٩  G. N. Lewis.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤