التصميم المعماري للكون

إذا نظرنا إلى السماء خُيِّل لنا أنها على شكل قبة تظهر لنا الأرض تحتها كقرص مستدير بحيث تنطبق حافة القبة على حافة القرص عند الأفق، وإذا كان الوقت ليلًا ظهرت النجوم كنقط مضيئة مبعثرة على سطح القبة، هذه المشاهدة البسيطة تؤدي بنا إلى تصوُّر الكون كضريح أرضه الأرض وقبته السماء به مصابيح مثبتة في قبته هي النجوم، ونكون نحن في هذه الحالة «الشيخ» تحت القبة. ونجد في آثار أجدادنا المصريين صورًا تمثل «سب» أو الأرض كإنسان راقد أو مستلقٍ على ظهره إشارة إلى انبساط الأرض تعلوه «نو» أو «نوت» وهي السماء على صورة إنسان مكب على الأول طرفا رجليه عند أحد طرفي الأرض وأطراف أصابع يديه عند الطرف الآخر وظهره إلى أعلى بحيث تتكوَّن من جسمه نصف دائرة تقريبًا إشارة إلى تكوُّر القبة السماوية، ونجد جسم «نوت» مرصعًا بالنجوم، وفي المسافة الواقعة بين «سب» و«نوت» أي بين السماء والأرض نجد «شو» الذي يمثل الهواء أو نور الشمس. فهذا التمثيل البسيط يعبر عن نتيجة الرؤية المباشرة للكون المحيط بنا. وسيرى القارئ قبل أن آتي على آخر مقالي أن هذه الصورة بعيدة كل البعد عن حقيقة الشكل الخارجي للعالم. فالعين وإن كانت أداة قوية في الوصول إلى معرفة الأشياء، إلا أنها خدَّاعة لا يجوز أن نركن إليها وحدها في تكوين آرائنا عن حقيقة ما هو كائن، وعلى الخصوص لا يجوز أن نعتمد على نظرة واحدة سطحية. وكيف ننتظر من صورة على شبكية العين لا تبلغ مساحتها سنتيمترًا مربعًا أن تمثل كونًا تصل أبعاده إلى مسافات شاسعة يصعب على العقل تصورها؟

إذا نحن تحرَّكنا على سطح الأرض نحو ناحية معينة من الأفق فإننا نجد أن أجزاءً جديدة من الأرض تظهر لنا فوق الأفق في هذه الناحية في حين أن أجزاءً أخرى في الناحية المضادة تختفي تحت الأفق، وبعبارة أخرى تنتقل دائرة الأفق معنا في حركتنا. فالأفق الذي يظهر لنا كما لو كان حدًّا بين السماء والأرض إنْ هو إلا دائرة وهمية تحدد مدى نظرنا، وشكله الدائري إنْ هو إلَّا نتيجة تكوُّر الأرض، وكلَّما تحركنا على سطح الأرض تحرك أفقنا معنا بحيث نبقى في مركز دائرته. وقد اهتدى الإغريق إلى معرفة كروية الأرض من هذه الظاهرة، ومن غيرها من الظواهر التي يجدها القارئ مشروحة في كتب الجغرافيا. فوصلوا إلى تصوير الأرض ككرة تحيط بها كرات أخرى تمثل السماوات. وأشهر الآراء المنقولة عن الإغريق في نظام هذه السماوات الرأي المنسوب إلى بطليموس. فمن المعلوم أن الأغلبية الساحقة للأجرام السماوية يظهر لنا كما لو كانت مثبتة في سطح كرة عظمى تدور حول محور واصل من الأرض إلى نقطة قريبة من النجم القطبي بحيث تدور دورة كاملة في يوم إلا نحو أربع دقائق. فهذه الكرة الهائلة تظهر لنا كما لو كانت تدور حول هذا المحور حاملة معها النجوم التي تسمَّى بالثوابت لثبوتها على سطح الكرة (وإن كانت متحركة بحركة الكرة طبعًا). إلا أن هناك بعض مستثنيات، فالشمس والقمر والكواكب السيارة أو المتحيرة وإن كانت تشترك مع كرة الثوابت في حركتها اليومية إلا أن لكل منها حركةً خاصة، بعضها سنوي كما في حالة الشمس، وبعضها شهري كما في حالة القمر، والبعض الآخر معقَّد ومختلط كما في حالة الكواكب السيارة، من هذا الاختلاف في الحركات نشأت فكرة تعدد السماوات عند الإغريق، فزيادة على الكرة التي تحمل النجوم الثوابت وُجِد من اللائق أن يكون لكل من الأجرام السماوية الأخرى التي كانت معلومة لهم وهي الشمس والقمر والمريخ والمشتري وزحل وعطارد والزهرة، سماء أو كرة خاصة به. وهذا الرأي يعطينا صورة محدودة من حيث الكيف عن التصميم المعماري للكون. فالكون في رأي بطليموس عبارة عن (كرة من جوه كرة من جوه كرة وهكذا) مبتدأً بكرة الثوابت١ من الخارج ومنتهيًا بالكرة الأرضية من الداخل، وهو تصوير يتفق ومنطق العقل الإغريقي الذي كان يتطلب الكمال في الكائنات، ويعلق أهمية خاصة على كمال الشكل الهندسي إذا لاحظنا أن الكرة كانت في نظرهم أكمل جسم لتمام استدارتها من جميع نواحيها.

وقد قام الإغريق بزيادة التحديد لهذه الفكرة عن نظام الكون بأن قاسوا فعلًا عظم الكرة الأرضية أي طول محيطها، وأول قياس ورد ذكره على وجه التحقيق لقطر الأرض قام به ايراستوتين المولود سنة ٢٧٦ أو ٢٧٥ قبل المسيح، والذي كان رئيسًا على المكتبة الإسكندرانية الكبرى. وقد بنى حسابه على قياس المسافة بين أسوان والإسكندرية وتعيينه للفرق بين عرض المدينتين فحصل بذلك على أن محيط الكرة الأرضية يساوي ٢٥٢ ألف اسطاديون، وهو يعادل على أشهر الأقوال ٣٩٥٩٠ كيلومترًا، ويقل عن التقدير الحقيقي بمقدار ٤٨٠ كيلومترًا.

وقد نقل العرب عن الإغريق آراءهم في نظام الكون، لا سيما رأي بطليموس، وقاموا هم بأنفسهم بقياس محيط الأرض، فمن ذلك ما قام به سند بن علي وخالد بن عبد الملك المروروذي بأمر المأمون من قياس درجة من دائرة عظمى على سطح الأرض، فوجدوا أن محيط الأرض يبلغ ما يعادل ٤١٢٤٨ كيلومترًا، وهو يزيد على التقدير الحقيقي بمقدار ١١٧٨ كيلومترًا. أما عن الكرات الأخرى التي تحيط بالكرة الأرضية والتي هي السماوات فليس فيما ورد عن الإغريق أو عن العرب أو عمَّن سبقهم ما يحدد أبعادها أو درجات عظمها. إلا أنه كان المفهوم طبعًا أنها كلها عظيمة عظمًا كافيًا يتناسب مع المظهر الخارجي لبعدها عنا. وقد بقيت آراء بطليموس سائدة بين علماء الفلك خلال القرون الوسطى إلى أواخر القرن الخامس عشر، ومنذ ذلك العهد اتجهت دراسة علم الفلك اتجاهات جديدة باستعمال آلات مستحدثة في الرصد وتأثير التقدم الذي حدث في دراسة العلوم الرياضية والطبيعية من الناحيتين النظرية والعملية. وأهم العناصر الجديدة في التقدم الذي حدث من حيث أثرها في الموضوع الذي نحن بصدده هي:
  • أولًا: معرفتنا لنظام المجموعة الشمسية.
  • ثانيًا: اكتشاف أن النجوم التي كانت تسمى بالثوابت ليست في الحقيقة ثابتة ولكنها متحركة، وتمكننا من قياس أبعادها عنَّا وحركاتها.
  • ثالثًا: عثورنا على طائفة كبيرة من الأجرام السماوية تعرف بالسدم، والتمكُّن من قياس أبعادها عنَّا وحركاتها.

فأما عن المجموعة الشمسية فإن الدراسات التي قام بها كوبرنك وجالليليو ونيوتن ولابلاس وأتباعهم قد أدَّت بنا إلى معرفة أن كُلًّا من الأرض والكواكب السيَّارة تتحرك من مدارات مستديرة تقريبًا حول الشمس، وأن القمر يتحرَّك حول الأرض كتابع لها، وأنَّ لكل من الكواكب السيارة أقمارًا أو توابع تدور حولها، وكل هذه الأمور يعرفها الخاص والعام في عصرنا الحالي، فالمريخ والمشتري وزحل وعطارد والزهرة وكذلك يورانوس ونبتون وبلوتو بدلًا من أن تحتل سماوات أو كرات مركزها الأرض كما رأى بطليموس صارت تحتل دوائر مركزها الشمس، وصارت الأرض حكمها حكم أي واحد من هذه الكواكب تدور في مسارها، وإذا أضفنا إلى ذلك الكواكب الصغرى التي يربو عددها على الألفين وكذلك المذنَّبات التي تتحرك من مدارات إهليلجية الشكل، تكوَّنت صورة للمجموعة الشمسية أظنها معروفة لكثير من القراء. وأمَّا عن النجوم الثوابت فإن زيادة الضبط في استعمال الآلات الفلكية قد أدَّى بنا إلى معرفة أبعاد هذه النجوم عنَّا. وقبل أن أذكر هذه الأبعاد يجب أن نتفق على وحدة لقياس الأبعاد متناسبة مع المسافات التي سنتكلم عنها وسنأخذ وحدة قياسنا للأبعاد ما يسمى بالسنة الضوئية أي إنني سأتبع في قياس المسافات طريقة تشبه الطريقة التي كان يتَّبعها العرب حين يقولون «طولها شهر وعرضها عشر»، فكذلك سأقول طولها سنة أو سنتان وهكذا. والشيء المفروض تحرُّكه في حكاية العرب كان البعير الذي لا يزيد ما يقطعه في الساعة عن عشرة أميال.

وأمَّا في حكايتي فالمتحرك هو الضوء الذي يقطع ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية الواحدة أي أن السنة الضوئية تعادل ستة ملايين مليون من الأميال تقريبًا. على هذا الأساس وجدوا أن أقرب نجم من النجوم المعروفة بالثوابت إلينا (وهو المسمَّى ألفًا من برج قنطورس) يبعد عنَّا أربع سنين ضوئية أي أن ضوءه يحتاج إلى أربع سنين ليصل إلينا متحركًا بسرعة ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية الواحدة.

ولكي يمكن مقارنة هذا البعد بأبعاد المجموعة الشمسية أذكر أن بُعد الأرض عن الشمس دقائق ضوئية تقريبًا، وأن المجموعة الشمسية بأسرها لا يزيد قطرها عن بضع ساعات ضوئية. فالمجموعة الشمسية بكواكبها وأرضها وأقمارها ومذنَّباتها تتضاءل أمام بُعد أقرب نجم إلينا وتصير كنقطة صغيرة بالنسبة إلى المستقيم الواصل إلى النجم الذي يليها. كيف توزع النجوم في الفضاء إذن على هذا المقياس! وُجِد أن النجوم التي تؤلف عالمنا وهو الذي يُعرف بالعالم المجرِّي نسبة إلى نهر المجرة الذي نراه في السماء موزَّعة في الفضاء على شكل عدسة أو ساعة جيب أو رغيف من الأرغفة «البلدي» وأن الشمس بمجموعتها التي نحن نقطة فيها إن هي إلا إحدى نجوم هذا العالم ويبلغ قطر هذا الرغيف نحو نصف مليون سنة ضوئية. وأما عن المسألة الثالثة وهي مسألة السدم فقد وُجِد أن هذه السُّدُم هي في الواقع عوالم أخرى تشبه عالمنا المجرِّي، وأن أبعادها عنَّا تُقدَّر بملايين السنين الضوئية. فالكون إذن عبارة عن جملة سُدُم متفرقة يبلغ عددها مئات آلاف الملايين بينها مسافات تُقَدَّر بملايين السنين الضوئية، وعالمنا المجري هو أحد هذه السُّدُم وهو مؤلَّف من مئات آلاف الملايين من النجوم بينها مسافات تُقدَّر بعشرات السنين الضوئية، والشمس هي إحدى هذه النجوم وحولها كواكب أبعادها عن الشمس تُقدَّر بالدقائق أو بالساعات الضوئية، والأرض إحدى هذه الكواكب ونحن نعيش عليها، وننظر إلى هذا الكون محاولين أن نحيط به وأن نتغلب عليه.

ولكن إلى أي مدًى يبلغ اتساع هذا الكون؟ هذه نقطة لا تزال موضع نظر، والرأي السائد الآن أن فضاء الكون منحنٍ أو ملتوٍ على نفسه بحيث يمكن للضوء أن يدور حوله كما يمكن للإنسان أن يدور حول الأرض متَّجهًا في اتجاه واحد. وقد قام بعض العلماء أمثال جينز وملن وادنجتن بتقدير محيط الكون فقدر له ادنجتن نحو ٧ آلاف مليون سنة ضوئية، أي إننا إذا أرسلنا شعاعًا من الضوء فإن هذا الشعاع يعود إلينا بعد ٧ آلاف مليون سنة بعد أن يكون قد طاف حول الكون كما يطوف السائح حول الأرض ويعود إلى حيث ابتدأ. وتلخيصًا لمقالي أذكر أنني أشرت إلى ثلاثة آراء أساسية مختلفة عن التصميم المعماري للكون، فالرأي الأول الذي يرجع إلى قدماء المصريين ويُسْتَمَد من المشاهدة البسيطة يمثل الكون كضريح ذي قبة أو كصحن عليه «مكبة» ونكون نحن الشيخ تحت القبة أو الطعام تحت المكبة، والرأي الثاني إغريقي نقله العرب واستمر مقولًا به إلى أواخر القرون الوسطى، وهو يمثل الكون ككرات متداخل بعضها في بعض أو «كعلبة من داخل علبة … إلخ» نحن في العلبة الوسطى وحولنا عدد من العلب الأخرى كما لو كان من المرغوب فيه المحافظة علينا بكل عناية لئلا نتلف أو لئلا نهرب، والرأي الحديث يمثل الكون كعدد عظيم من السُّدُم، كل واحد منها عالم بذاته، ومجموعتنا الشمسية نقطة في أحد هذه العالَمينَ، وهو العالم المجري والأرض كوكب من كواكب المجموعة الشمسية ونحن نعيش على سطحها كما يعيش العنكبوت في زاوية من زوايا قصر فخم نخدع أنفسنا بتصور أن القصر لنا.

١  يشتمل النظام البطليموسي على ثلاث كرات أخرى تقع خارج كرة الثوابت وتعمل على إيجاد حركة الأجرام السماوية، وقد أغفلنا الإشارة إليها هنا من باب الاختصار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤