المواد التي تدخل في بناء الكون

تحدثت في المقال السابق عن التصميم المعماري للكون، وأتحدث في هذا المقال عن المواد الداخلة في بناء الكون أو بعبارة أخرى عمَّا تتألَّف منه الأجرام السماوية.

الكون إلى حد علمنا مؤلَّف من عدد عظيم من العالَمِينَ، كل عالم عبارة عن مجموعة هائلة من النجوم، وبين هؤلاء العالَمِينَ المنتشرة في فضاء الكون مسافات شاسعة، وتُعرَف هذه المجموعات بالسُّدُم اللولبية، وتمكن رؤيتها في السماء بالمناظير. أحد هؤلاء العالَمِينَ هو عالمنا المعروف بالعالم المجري نسبة إلى نهر المجرة الذي تمكن رؤية كثير من نجومه في السماء بالعين العارية لقربها منَّا قربًا نسبيًّا، والشمس واحدة من هذه النجوم، والأرض إِنْ هي إلا أحد الكواكب التي تدور حول الشمس. هذا ملخص شكل الكون أو نظامه.

ونحن نعلم أن المواد المختلفة التي نجدها قريبة من سطح الأرض تتألف من نحو ٩٢ عنصرًا من العناصر بحيث يمكن القول بأن الأرض مصنوعة من هذه العناصر. بعضها يوجد بكثرة مثل الكربون والأوكسجين والأزوت والإيدروجين والحديد، وبعضها نادر مثل الهليوم واليورانيوم والكريبتون والراديوم … إلخ. والسؤال الذي أريد أن أتعرض له الآن هو: هل هذه العناصر داخلة أيضًا في تركيب الأجرام السماوية؟ هل النجوم مصنوعة من نفس العناصر التي صُنِعت منها الأرض؟ هذا هو السؤال الأول، وهو سؤال لعَمري يكاد يكون شعرًا لا نثرًا. فإذا نحن ناجينا النجوم في ساعات تأمُّلنا أنحن نناجي أجرامًا مصنوعة من المواد العادية التي نجدها على سطح الأرض؟ أجرامًا أرضية قوامها الكربون والحديد والأوكسجين والإيدروجين … إلخ، أم أن الأجرام السماوية مصنوعة من مواد أرق وأدق من موادنا الأرضية؟ سيُقال وكيف السبيل إلى معرفة ذلك؟ كيف الوصول إلى النجوم لنحلِّل مادتها ونصل إلى معرفة عناصرها؟ إنه لأمر بعيد المنال حقًّا! الجواب على ذلك أنه لا حاجة بنا إلى الانتقال إلى النجوم لكي نحلل مادتها ونقف على حقيقة تركيبها؛ إذ إن النجوم تغنينا عن ذلك فهي تخاطبنا بأسرارها! أجل أيتها القارئات ويا أيها القارئون أن كل نجم من النجوم يكاشفنا بأسراره بلغة هي أقدم اللغات وأعمها. وُجِدَت قبل أن تتبلبل الألسن فهي سواء لدى من كان عربيًّا ومن كان أعجميًّا من نطق بالضاد ومن لم ينطق، وهي مع ذلك لغة سلسة العبارة جميلة الأسلوب لا غموض فيها ولا إبهام، تلك اللغة هي لغة النور، فكما أن أجدادنا القدماء تصل إلينا أخبارهم وحقائق أحوالهم خلال آلاف السنين في رسالاتهم المحفور منها والمخطوط، كذلك النجوم تصلنا رسالاتها النورية خلال أعماق الفضاء، وكما أن البشر ظلوا منصرفين عن رسالات أجدادنا المصريين لا يفقهون لها معنى إذا رأوها إلى أن قام شامبليون وأتباعه بحل رموزها وفتح كنوزها، كذلك ظل البشر معرضين عن رسالات النجوم النورية حتى قام نيوتن وأتباعه، فعلَّمونا كيف نفسرها ونتقبَّلها، إلَّا أن هناك فرقًا بين اللغتين. فاللغة الهيروغليفية من صنع البشر ولذلك هي محدودة الحروف والمفردات، للعقل البشري أن يحيط بها في زمن محدود، كما أنها لا تعبر إلا عمَّا كان يجول بخواطر البشر في ذلك العهد من الفكر والأخبار والإنشاءات وكلها أمور تقع تحت الحصر. أما اللغة النورية فلا حد لحروفها ومفرداتها، كما أنها تعبر عن أسرار صنع المادة وكنه تركيبها وما هي عليه من الأحوال ممَّا لا يقع تحت حصر. ولذلك تجدوننا قد أحطنا بالهيروغليفية علمًا في حين أننا لا زلنا في دور التهجي من لغة النور. وسأنتهز هذه الفرصة لأقدم للقراء درسًا بسيطًا في مبادئ هذه اللغة. يعلم القارئ أن النور إذا مر في قطعة من الزجاج السميك المقطوع وهو الذي نسميه «البنور» نشأ عن ذلك ألوان مختلفة تُشبه ألوان قوس قزح. هذه الظاهرة المألوفة استلفتت نظر السير إيزاك نيوتن منذ أكثر من مائتي سنة، فأخذ في دراستها ووجد أن النور المنبعث من جسم مضيء كنور الشمس أو نور مصباح مثلًا إذا مر في منشور الزجاج فإنه يتحلَّل إلى ألوان مختلفة عد منها سبعًا. وقد اخترعت آلات خاصة لدراسة هذه الظاهرة تعرف بالاسبكتروسكوبات أو آلات تحديد الضوء، وصرنا الآن نستطيع أن نحلل الضوء الصادر عن أي جسم مضيء فنحصل بذلك على ما يسمَّى بالطيف. والطيف هذا يمكن رؤيته بالعين وبالتالي يمكن تصويره فوتوغرافيًّا على لوحة حساسة بالطريقة العادية، فإذا نحن قمنا بهذه العملية حصلنا على صورة تظهر لنا لأول وهلة كما لو كانت عديمة المغزى. وتتألف هذه الصورة من جملة خطوط متوازية يتخلَّلها جملة مساحات تعرف بالأشرطة. والصورة تتألف من هذه الخطوط والأشرطة التي هي ألف باء لغة النور، فكل خط من هذه الخطوط وكل شريط من هذه الأشرطة صادر عن عنصر معين من العناصر التي تتكون منها المادة.

فعنصر الإيدروجين مثلًا تصدر عنه خطوط معينة وأشرطة معيَّنة، وعنصر الحديد له خطوط وأشرطة أخرى معينة، وهكذا يرى القارئ في ذلك قوة هذه الطريقة التي تُعرَف بطريقة التحليل الطيفي في التوصل إلى معرفة تركيب الأجرام السماوية. فإذا نحن وجهنا منظارًا إلى نجم من النجوم كالشِّعْرى اليمانية مثلًا وحلَّلنا الضوء الواصل إلينا منه ثم نظرنا في الطيف الذي نحصل عليه كنتيجة لهذا التحليل فإن هذا الطيف سيحتوي على خطوط وأشرطة، فإذا كان بين هذه الخطوط خط نعلم من تجاربنا الأرضية أنه لا يصدر إلا عن عنصر الصوديوم حكمنا بوجود هذا العنصر في الشِّعْرى اليمانية. هذا باختصار ملخص طريقة التحليل الطيفي أو لغة النور.

ولكي أدل القراء على مبلغ قوة هذه الطريقة ومدى أثرها أذكر لهم الحادث الآتي: في عام ١٨٦٩م أراد السير نورمن لوكير الفلكي الإنجليزي المعروف أن يتوصل إلى معرفة المواد التي تتألف منها أنشاز الشمس، وأنشاز الشمس هذه عبارة عن ألسنة من اللهيب تنبثق من الشمس وتبتعد عن قرصها إلى مسافات تقارن بقطر الشمس ذاته وتظهر لنا هذه الأنشاز بوضوح وقت كسوف الشمس الكلي، فإننا إذا أخذنا صورة فوتوغرافية للشمس في وقت الكسوف الكلي أي عند ما يحجب القمر قرصها عنَّا تمامًا فإننا نجد هذه الألسنة من النار صادرة عن الشمس وظاهرة حول القرص المعتم. هذه الأنشاز استلفتت نظر العلماء والباحثين، وأراد السير نورمن لوكير أن يعرف ممَّا تتألف مادتها. وعلى ذلك قام بتحليل الضوء الصادر عن هذه الأنشاز فحصل على طيف لها عكف على دراسته فوجد فيه خطوط عنصر الإيدروجين وكذلك خطوط عنصر الكلسيوم فحكم من ذلك بوجود هذين العنصرين في مادة الأنشاز.

ولكنه وجد زيادة على ذلك خطًّا أصفر غريبًا لم يُعْرَف بين أطياف المواد الأرضية فأسماه الخط د٣، وحكم من ذلك بأن في أنشاز الشمس عنصرًا لم يُعْرَف على الأرض أسماه عنصر الهيليوم نسبة إلى هيليوس أو الشمس. كان ذلك كما ذكرت عام ١٨٦٩م. وفي مارس عام ١٨٩٥م أي بعد ذلك ﺑ ٢٦ سنة استخرج الأستاذ وليم رامزي من معدِن الكليفيت النادر غازًا خفيفًا درس طيفه فوجد فيه بالضبط الخط الأصفر د٣ الذي وجده لوكير في طيف الأنشاز الشمسية، وعلى ذلك أسمى الغاز الأرضي بالهيليوم، وقد تحقَّق العلماء منذ ذلك الحين من وجود جميع خطوط الهيليوم في أطياف الأنشاز، وهكذا اكْتُشِف عنصر الهيليوم على الشمس قبل اكتشافه على الأرض ﺑ ٢٦ سنة.

ولغة النور تمكننا أيضًا من معرفة درجات حرارة النجوم، فإذا أحمينا كرة من الحديد مثلًا تدريجيًّا في غرفة مظلمة فإنها بعد درجة حرارة معينة تبعث لنا ضوءًا أحمر اللون، فإذا زدنا في إحمائها ابْيَضَّ اللون تدريجيًّا، ثم إذا زدنا عن ذلك ضرب إلى الزرقة. ومعنى هذا أن الأجسام إذا ارتفعت درجة حرارتها زاد الجزء من إشعاعها الضارب إلى الزرقة وقَلَّ الضارب إلى الحمرة وقد قُدِّرَت من هذا درجة حرارة سطح الشمس المشع بنحو ٦٠٠٠ درجة مئوية.

ولا يقتصر طيف جرم من الأجرام على الجزء المرئي بالعين، بل إنه يمتد إلى حدود بعيدة في كلتا الجهتين، فالجهة الواقعة دون الجزء الأحمر تُسَمَّى أشعتها الأشعة دون الحمراء وتشمل الأشعة الحرارية، والجهة الواقعة بعد الجزء البنفسجي تُسَمَّى أشعتها الأشعة فوق البنفسجية، وهي تؤثر في الألواح الفوتوغرافية بشدة ومنها أشعة إكس المعروفة. ويمكن الاستدلال بطريقة التحليل الطيفي أيضًا على ضغط المادة الصادر عنها الإشعاع فإن ازدياد الضغط ينشأ عنه تَغَيُّر صغير في مواضع الخطوط الطيفية يمكن بقياسه معرفة مقدار الضغط، كما يمكن الاستدلال بنفس الطريقة على وجود حالة كهربائية أو مغناطيسية في الجسم المشع، وكذلك على سرعة ابتعاد الجسم عنَّا أو اقترابه منا وكلها أمور لا تكاد توجد وسيلة أخرى لمعرفتها.

والآن وقد عرفنا شيئًا عن لغة النور وما ترشدنا إليه، فسألخص ما نعلمه بفضلها عن طبائع المواد الداخلة في تركيب النجوم.

فالنجوم التي نراها بالعين العارية أو بالمنظار والواقعة في عالمنا المجرِّي تنقسم قسمين رئيسيين: فما كان منها مرتفع الحرارة سُمِّيَ نجمًا أبيض أو أزرق، وما كان منخفض الحرارة (نسبيًّا طبعًا) سُمِّيَ نجمًا أحمر؛ وذلك لظهورها بهذه الألوان. ويفترض العلماء في العادة أن النجوم التي نراها اليوم تمثل أدوارًا مختلفة لتطور النجم الواحد، وعلى ذلك فبدلًا من أن أصف كل نوع على حدة سألخص تاريخ حياة النجم الواحد، فأكون بذلك قد ذكرت جميع الأطوار المختلفة التي تظهر لنا فيها هذه النجوم.

فالنجم يبدأ حياته كوحدة مستقلة على شكل كتلة هائلة من الغاز القليل الكثافة قد يزيد قطرها على ثلاثمائة مليون ميل أو نحو ٤٠٠ مرة من قطر الشمس، وتكون درجة حرارة سطح هذا العملاق الأحمر واطئة نسبيًّا وتتراوح بين ٢٥٠٠º، ٣٠٠٠º مئوية. وتكون كثافة أجزائه الخارجية قليلة جدًّا بحيث يمكن مقارنتها بالكثافة داخل أنبوبة قد فرِّغ معظم هوائها بوساطة مضخة الهواء. أما عند مركز النجم فإن الضغط يصل إلى آلاف الأطنان على السنتيمتر المربع ودرجة الحرارة تصل إلى ٢ أو ٣ ملايين درجة. وأحسن مثال على هذا النوع من النجوم هو النجم الأحمر المعروف بإبط الجوزاء (في برج الجوزاء أو الجبار)، فهذا النجم ولو أن توهج سطحه ضئيل إلَّا أن عظم هذا السطح يجعل مجموع ما يصل إلينا من أشعته كبيرًا بحيث يظهر لنا واضحًا، ومثل هذا النجم يشع كمية كبيرة من الحرارة ويتصاغر قطره تدريجيًّا فتتزايد كثافته، ويتبع هذا التغير ازدياد مطرد في درجة الحرارة ينجم عنها تغير في اللون من الأحمر إلى الأصفر إلى الأبيض فالأبيض الضارب إلى الزرقة، إلا أن هناك نهاية عظمى لدرجة حرارة السطح تساوي حوالي ٢٠٠٠٠ درجة ونهاية عظمى لدرجة حرارة المركز تساوي نحو ٣٠ مليون درجة، فإذا وصل النجم إلى هذه النهاية العظمى من درجة حرارته فإنه يكون قد قطع النصف الأول من تاريخ تطوُّره ويكون حجمه قد صغر إلى بضع مرات حجم الشمس بحيث نبتدئ نطلق عليه اسم القزم بعد أن كنَّا نسميه العملاق.

وبعد مرحلة الانقلاب هذه تبتدئ درجة حرارة السطح في الانخفاض، إلا أن درجة حرارة المركز لا تتغير كثيرًا بل تظل عالية. ويستمر مع هذا حجم النجم في التناقص وينشأ عن انخفاض درجة حرارة سطحه أن يعود لونه من البياض إلى الصفرة فالحمرة.

والشمس قزم في مرحلة أولية من مراحل انخفاض درجة حرارتها. وتبلغ درجة حرارة سطحها ٦٠٠٠ درجة، أما درجة حرارة المركز فربما كانت ٣٠ مليون درجة. ثم يستمر النجم بعد ذلك في التضاؤل حجمًا وحرارة. وماذا يحدث لكتلة النجم أو كمية مادته في تطوره هذا؟ أتظل ثابتة كما كنَّا نظن في القرن الماضي من أن المادة لا تفنى؟ كلا إن حدوث الإشعاع ينشأ عنه نقصان مستمر في كتلة النجم.

وهكذا يولد النجم كبير الجثة قليل الهمة، ثم تصغر جثته وتزداد همته إلى أن يصل إلى عنفوان شبابه، وبعدها يتضاءل جثة وهمة حتى يُقْضَى على أجله ويُطْرَح في زوايا النسيان. وشمسنا وإن كانت قد فاتت مرحلة الشباب والطيش وبعثرة المجهود إلا أنها لا تزال قوية ظاهره كأنما هي الرجل في سن الأربعين جمع بين القوة والخبرة والحكمة.

وأما السُّدُم المجرِّية فلا تظهر للعين العارية، وتظهر في التلسكوب كسحب صغيرة، وسُمِّيَت بالسُّدُم المجرِّية نسبة إلى نهر المجرة. فلنذكر أن العالم المجرِّي إنْ هو إلا واحد من عوالم تُعَدُّ بمئات ألوف الملايين، فالسديم الأكبر في برج أندرومدا مثلًا هو عالم كعالمنا المجرِّي مؤلَّف من نجوم تشبه نجومنا، وقد أمكن الحصول على بعض معلومات عن هذه النجوم متفرقة أي كل نجم على حدة، وكل ما لدينا من هذه المعلومات يعزز فكرة أنها لا تختلف في تركيبها عن نجوم عالمنا المجرِّي.

وتلخيصًا لما تقدَّم أذكر أنني بحثت في المواد التي تتألف منها الأجرام السماوية فبيَّنت أنها تتألَّف من العناصر المعروفة على سطح الأرض، ولكن في حالات طبيعية من حيث الضغط ودرجة الحرارة تختلف عمَّا عليه المادة في معاملنا الأرضية، فالأرض لانخفاض درجة حرارة سطحها قد أمكن لجزيئات المادة عليها أن تتعقد وتتقارب مما أدى إلى تكون المركبات العضوية التي أدت بالتالي إلى إمكان وجود الحياة. هذا التعقد في التركيب الكيميائي هو الذي يميز موادنا الأرضية عن المواد التي تمكِّن دراستها في نجوم السماء، ولعله هو الفرق الأساسي بين المواد الداخلة في تركيب سطح الأرض، والمواد الداخلة في بناء بقية الكون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤