الشمس ومنشأ حرارتها

في هذه الأيام١ وقد بلغ الصيف أشده وارتفعت الشمس في السماء حتى كادت تداني سمت الرأس وقت الظهيرة. أقول في هذه الأيام أيام الانقلاب الصيفي يصح للمرء أن يتساءل عن منشأ تلك الحرارة التي ترسلها علينا الشمس إرسالًا وتغمرنا بها غمرًا. أقصد بذلك البحث في ازدياد الحرارة في الصيف عنها في الشتاء، فإن ذلك أمره معروف وشائع؛ فازدياد الحرارة في الصيف راجع إلى سببين رئيسيين: أولهما ارتفاع الشمس في السماء وقت الصيف بحيث تنصب أشعتها علينا انصبابًا رأسيًّا، والثاني الازدياد في طول النهار في الصيف وما يتبعه من قصر الليل فلا تنجو من أشعة الشمس إلا ساعات معدودات. وإنما الذي أريد أن أتعرَّض له هو منشأ الحرارة التي ترسلها الشمس في الفضاء، تلك الحرارة التي تصدر عن الشمس فتنبعث في جميع الاتجاهات ولا يصيب الأرض إلا النزر اليسير منها. ما منشأ هذه الحرارة الهائلة التي ظلت تنبعث في كل لحظة في فضاء العالمين منذ ملايين السنين والتي ستبقى منبعثة في كل لحظة ملايين أخرى من السنين؟

•••

ولعل أول ما يخطر بالبال في كنه الشمس أنها لهيب أي مادة محترقة ينجم عن احتراقها الحرارة والضوء. فلنفرض أن الشمس مصنوعة من فحم الانتراسيت (من أجود نوع) وغاز الأوكسجين بنسبة تسمح بالاحتراق التام. فعلى هذا الفرض يمكن حساب كمية الحرارة التي تنجم عن هذا الاحتراق. وقد وُجِدَ أن هذه الكمية تعادل ما ينبعث من الشمس من الحرارة في ١٥٠٠ سنة أي أنه بناء على هذا الفرض لا يمكن أن يزيد عمر الشمس على نحو ١٥٠٠ سنة وهذا طبعًا ما لا يمكن القول به.

لنفرض أن الشمس جسم متوهج غير محترق كقطعة من الحديد أُحْمِيَ عليها في التنور ولنفرض أنها بدأت ذات درجة حرارة مرتفعة ثم انخفضت درجة حرارتها تدريجيًّا على مر السنين، فلو أن الأمر كان كذلك لكانت درجة حرارتها تنقص في وقتنا الحالي بمقدار درجة مئوية كل سنة، وعلى ذلك فلا يمكن أن تستمر في إرسال حرارتها أكثر من بضعة آلاف السنين بعدها تنخفض درجة حرارتها إلى ما يقرب من الصفر المئوي وكذلك ينجم عن هذا الفرض أن الشمس كانت ترسل إلى الأرض من الحرارة من بضعة آلاف السنين أضعاف ما ترسله إليها اليوم. وإذن فهذا الفرض أيضًا لا يستقيم.

•••

وهناك فروض أخرى عن كنه مادة الشمس ومنشأ حرارتها، أهمها ما سُمِّيَ في القرن الماضي بفرض الانكماش، وخلاصته أن الشمس تنكمش وينشأ عن انكماشها ازدياد في كمية حرارتها، وأن هذا الازدياد هو ما ترسله الشمس في الفضاء من الحرارة، وقد حسب مقدار الانكماش اللازم لإنتاج كمية الحرارة التي تشعها الشمس (أي ترسلها في صورة أشعة) فوُجِدَ أنه لا يتعدي ٨٠ مترًا في قطر الشمس في العام، ولما كان قطر الشمس يبلغ نحو مليون ميلٍ وكان بعدها عنَّا حوالي ٩٣ مليون ميل فإن هذا الانكماش يكون صغيرًا نسبيًّا بحيث لا يمكننا أن نلحظه بأدق آلاتنا الفلكية إلا بعد ١٠٠٠٠ سنة. وكان علماء الطبيعة إلى أواخر القرن الماضي يسلمون بفرض الانكماش هذا في تفسير منشأ حرارة الشمس، ومن أشهر من تمسك به ودافع عنه اللورد كلفن الذي استنبط منه أن عمر الشمس لا يزيد على ٢٥ مليون سنة، وبالتالي أن عمر الأرض كذلك لا يزيد على هذا المقدار، وقد أحدث تصريح اللورد كلفن هذا استياء في الدوائر الجيولوجية؛ لأن العلماء في هذه الدوائر محتاجون إلى مائة مليون سنة على الأقل لحدوث تغيراتهم الجيولوجية وتكوين حفرياتهم وما إلى ذلك. إلا أن جناب اللورد أصر على رأيه وطلب منهم أن يبحثوا عن طرائق لحدوث ما شاءوا حدوثه من التغييرات في اﻟ ٢٥ مليون سنة التي سمح لهم بها.

ولا أزال أذكر حادثًا وقع أثناء اجتماع الجمعية البريطانية لتقدم العلوم في أدنبرة عام ١٩٢١م فقد كان موضوع البحث في جلسة من جلسات الاجتماع عمر الأرض، وكان العلماء يدلون بالآراء الحديثة في هذا الموضوع وهي الآراء التي سأشرحها في آخر هذا المقال، والتي تناقض آراء اللورد كلفن التي أشرت إليها، وفجأة وقف رجل مسن من الحاضرين فأشار إلى اللورد كلفن وآرائه بألفاظ جارحة فيها معنى التشفي، وقد كان المتكلم قد خالف اللورد كلفن في آرائه عن عمر الأرض أثناء حياة اللورد كلفن في أواخر القرن الماضي إلا أن العلماء لم يلتفتوا إليه لما كان للورد كلفن من المقام العلمي. فلما تغير الرأي العلمي وقف ذلك الرجل المسن يتشفى لنفسه من اللورد الميت، وكانت تظهر عليه علامات الانفعال الشديد مما أدَّى ببعض الحاضرين إلى المسارعة إليه لتهدئته وحمله على السكوت.

واليوم ونحن في أوائل الثلث الثاني من القرن العشرين ماذا يرى العلماء في أمر كنه الشمس ومنشأ حرارتها؟ إن المقام لا يسمح بكثير من الإسهاب ولكنني سأحاول تلخيص الموقف.

دلنا التحليل الطيفي على أن الشمس تحتوي على معظم العناصر الأرضية في حالة ذات حرارة مرتفعة. وفي الواقع أن سطح الشمس أو الفوتوسفير لا تختلف مادته في كنهها كثيرًا عن مادة الغازات المرتفعة الحرارة في معاملنا الأرضية. أما إذا تعمقنا في جسم الشمس فإن كلًّا من الضغط ودرجة الحرارة ترتفعان ارتفاعًا كبيرًا بحيث أن ذرات المواد تتكسر وتتهشم فتتناثر أجزاؤها ويصبح من الممكن اقتراب هذه الأجزاء تحت تأثير الضغط الهائل الذي يحيط بها فبذلك تتكثَّف المادة أي تتجمع كمية كبيرة منها في حجم صغير. فإذا سُئِلْنَا عن مادة باطن الشمس غازية هي أم سائلة أم جامدة كان الجواب لا هذه ولا تلك ولا الأخرى، فهي غازية من حيث إن ذراتها متنافرة تحت تأثير درجة حرارتها العالية، وهي سائلة من حيث إنه لا يوجد تماسك بين ذراتها. وهي جامدة من حيث إن ذراتها متقاربة جدًّا الواحدة من الأخرى.

ثم إن البحث الحديث قد دلَّنا على أن الأجسام إذا صدر عنها إشعاعات قوية فإن ذلك يقلِّل من مادتها. وأمامنا مثال على ذلك في حالة المواد ذات النشاط الإشعاعي كالراديوم واليورانيوم فإن صدور الأشعة عن هذه المواد ينجم عنه نقص في كمية مادتها. وهذا الأمر يعد تطورًا هامًّا في آرائنا عن المادة، فقد كان المظنون حتى أوائل القرن الحالي أن المادة لا تنعدم أو بعبارة أخرى أنها لا تتحول إلى شيء آخر ليس بمادة، أما اليوم فنعلم أن المادة تتحول إلى أشعة وقد قدر أن ما ينعدم من مادة الشمس أو بعبارة أصح ما يتحول منها إلى أشعة يبلغ أكثر من مليون طن في الثانية الواحدة.

وخلاصة القول أن البحث في طبيعة الشمس ومنشأ حرارتها قد أدَّى إلى الحكم بأن مادتها تختلف في ظروفها عن موادنا الأرضية وتمتاز بارتفاع عظيم في درجة حرارتها وفي ضغطها، كما أن الأشعة الشمسية هي من القوة والشدة بحيث يقارن وزنها بوزن المادة، وبحيث يمكن القول بأن مصدر حرارة الشمس هو مادتها.

ومن غرائب الصدق أن آخر النظريات العلمية تعزو حرارة الشمس إلى غاز الهيليوم الذي اكتشف أول ما اكتشف على الشمس ذاتها كما سبقت الإشارة فتجعل بناء هذا العنصر من عنصر الإيدروجين أساس الإشعاع الشمسي.

١  نُشر هذا المقال لأول مرة في شهر يونيو سنة ١٩٣٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤