النور

النور أمره واضح لا يكاد يخفى على أحد، ومع ذلك فدراسته التفصيلية من أدق المسائل وأعوصها. وتنقسم دراسته إلى قسمين رئيسيين: أحدهما ما يُسَمَّى «البصريات الهندسية» والآخر اسمه «البصريات الطبيعية»، ففي البصريات الهندسية يتصور النور كما لو كان خطوطًا أو «أشعة» صادرة عن الجسم المضيء تنتقل في الأوساط الشفافة. كالهواء والماء والزجاج وما إليها فتنعكس وتنكسر طبقًا لقوانين الانعكاس والانكسار التي هي علاقات هندسية بين اتجاه الشعاع قبل انعكاسه أو انكساره وبعدها. وقد وضح علم البصريات الهندسية أجدادنا الناطقون بالضاد وكانوا يعتبرونه بحق فرعًا من فروع علم الهندسة. وأهم مؤلَّف وصل إلينا خبره في البصريات الهندسية الكتاب الذي وضعه أبو علي الحسن بن الحسن المعروف بابن الهيثم المتوفى سنة ١٠٣٨ ميلادية، وقد ترجم كتابه إلى اللاتينية ونشر في أواخر القرن السادس عشر وعنه أخذ علماء العالم أجمع ومنه تعلموا.

وقد شرح ابن الهيثم رؤية العين وبيَّن الوظائف المختلفة التي تقوم بها أجزاء العين في عملية الرؤية، كما أشار إلى تَكَوُّن صور المرئيات على ما نسميه الآن «شبكية» العين وانتقال أثر ذلك إلى المخ.

ومما لا شك فيه أن العرب استخدموا العدسات لتصحيح العيوب الهندسية في تكوين العين كقصر النظر وطوله، وعنهم أخذ الإفرنج ما نسميه اليوم بالنظارات، كما أنني أعتقد أن الفضل في اختراع الآلات البصرية كالتلسكوب والميكروسكوب راجع إلى العرب أيضًا.

وإذا كان علم البصريات الهندسية قد وضعه العرب فإن البحث في طبيعة الضوء أو البصريات الطبيعية قد جاء ولا شك متأخِّرًا عن عصرهم. ويرجع البحث في طبيعة الضوء إلى التجربة الكلاسيكية التي قام بها نيوتن من تحليل الضوء الأبيض العادي إلى ألوان مختلفة بوساطة منشور من الزجاج. وكان نيوتن يعتقد أن الضوء عبارة عن جسيمات صغيرة جدًّا تنبعث من الجسم المضيء وتنفذ في الأجسام الشفافة، وقد بذل نيوتن جهدًا كبيرًا وأظهر براعة فائقة في الدفاع عن هذا الرأي، وكانت خصومة كبيرة بينه وبين القائلين بأن الضوء عبارة عن أمواج تنتقل في الفضاء، أمثال هوك العالم الإنجليزي وهايجنز العالم الهولندي. ولما كان نيوتن متمتعًا بنفوذ عظيم في العالم العلمي في ذلك العصر فقد كان من آثار ذلك أن أعرض العلماء عن نظرية الأمواج وقُوبِلَت بشيء من السخرية، وبذلك تأخرت دراسة علم البصريات الطبيعية ما يقرب من مائة سنة.

ومن أهم الحقائق التي استكشفها البشر عن الضوء أنه ينتقل بسرعة محدودة وليست لا نهائية، كما أن من أهم انتصارات العلوم الطبيعية قياس هذه السرعة قياسًا مضبوطًا.

وأول من قام بحساب سرعة الضوء الفلكي الدانمركي رومر، وقد توصل إلى ذلك من مشاهدات خسوف أحد أقمار أو توابع المشتري. ولاقت آراء رومر في أول الأمر معارضة من علماء الفلك إلى أن قام فيزو وفوكو العالمان الفرنسيان في القرن التاسع عشر بقياس هذه السرعة بطرق مستحدثة في المعمل ووصلا إلى نتائج تعزز ما قال به رومر، وتبلغ سرعة الضوء أو سرعة البرق كما يصح أن نسميها نحو ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة! وهي سرعة يصعب أو يستحيل على العقل البشري تصوُّرها.

وفي القرن التاسع عشر تعزَّزت النظرية الموجية وصار الضوء يُنظَر إليه كأمواج تتحرك في الفضاء بسرعة البرق هذه، وعُلِّلَ اختلاف الألوان بالاختلاف في طول الموجة، كما وُجِدَ أن الأشعة الحرارية تنتقل بنفس السرعة، فصار حكم هذه الأشعة حكم أشعة النور، وإنما تختلف عنها بازدياد طول موجاتها. واستكشفت أشعة أطول موجة من الأشعة الحرارية ومنها الأشعة المستعملة في التخاطب اللاسلكي كما استكشفت أشعة أقصر موجة من الأشعة المرئية ومنها أشعة «س» المشهورة وأشعة جاما. فازدحم فضاء الكون بهذه الأشعة المختلفة منها القصير الموجة ومنها الطويل الموجة ومنها المتوسط، وتسابق العلماء في قياس أطوال هذه الموجات وفي دراسة خواص كل طائفة من هذه الأشعة.

ولما كان العقل البشري يصعب عليه تصوُّر وجود موجات في لا شيء، فقد ابتكر العقل العلمي وسطًا أو شيئًا قابلًا للتموج ينقل هذه الأشعة من مكان إلى مكان وسُمِّيَ الأثير، وأصبحت التموجات الأثيرية كناية عن هذه الاضطرابات المختلفة في الفضاء.

وكلنا خبير بتأثير الضوء في أعيننا وهو المؤدي إلى الإبصار كما أننا خبيرون بتأثير الأشعة الحرارية في الجلد مما ينتج عنه الشعور بالدفء أو الحرارة، وللأشعة آثار أخرى مختلفة منها الكيميائي ومنها الكهربائي ومنها المغناطيسي … إلخ. فقد وُجِدَ أن الأشعة المرئية والأشعة التي تليها في قصر الموجة (وهي المعروفة بالأشعة الفوق البنفسجية) تؤثر في بعض الأملاح كأملاح البروم واليود تأثيرًا خفيًّا بحيث يؤثر ذلك في تفاعلها الكيميائي مع الحوامض. فكأن لهذه الأملاح نوعًا من الحساسية الضوئية. وهذه الظاهرة هي أساس فن الفوتوغرافية على نحو ما هو مشهور، كما وُجِد أن للضوء أثرًا كهربائيًّا إذا وقع على بعض المواد كالسيلنيوم انبعثت منها تيارات كهربائية، وهذه الظاهرة التي تعرف بالظاهرة الكهربائية الضوئية هي أساس بعض الاختراعات الحديثة كالسينما الناطقة.

ومن الغريب أن بعض الظواهر التي استكشفت حديثًا كالظاهرة الكهربائية الضوئية التي أشرت إليها تبعث على الظن بأن الضوء ربما كان مؤلَّفًا من جسيمات صغيرة وبذلك يرجع التفكير العلمي إلى ما قال به نيوتن منذ مائتين وخمسين سنة. ومن الآراء الشائعة اليوم الرأي الذي قال به العالم المشهور ألبرت ينشتين من أن الضوء مؤلَّف من جسيمات أو حزم صغيرة من الطاقة طبقًا لقوانين نظرية الكم أو نظرية «الكوانْتُم»، ولا أريد أن أخوض بالقارئ في تفاصيل هو في غنى عنها، وإنما اكتفى بهذا القدر ولعلي وصلت إلى الغرض الذي أرمي إليه وهو إثارة اهتمام القارئ بأبحاث علم الضوء الحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤