سياحة في فضاء العالمين

لست أقصد من هذا المقال أن أشعر القارئ بصغر شأنه. أما أن بعض القارئين سيشعرون فعلًا بضآلتهم فهذا قد يكون راجعًا إلى تعوُّدهم الحكم على الأشياء بعظم أحجامها وكبر أبعادها. وفي الواقع قد يكون أقرب إلى غرضي أن أدخل على نفس القارئ شيئًا من السرور وأروِّح عنه من نصب الحياة على هذه البسيطة، وأي شيء أبهج أو أروح للنفس من السياحة إذا كان الغرض منها النزهة والاطلاع على ما احتواه الكون من كل بديع وجميل.

ولما كانت سياحتنا ستقتضي قطع مسافات شاسعة فقد أعددت للقارئ حيلة عجيبة الشأن تمكننا من جوب كل ما بعد من الأرض واتسع من فضاء الكون، ذلك أننا سنمتطي شعاعًا من النور نوجهه حيث شئنا فيحملنا في طريقنا بسرعة مقدارها ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية، وهي سرعة لا بأس بها إذا لاحظنا أن أكبر سرعة وصل إليها البشر إلى الآن بآلاتهم الطائرة لم تصل إلى سدس الميل الواحد في الثانية.

إلا أن القارئ يجب أن يعلم أن سياحتنا هذه تستغرق بضع مئات الملايين من السنين، ولذلك وجب عليه إما أن يطيل أجله إلى هذا الحد أو أن يكون مستعدًّا للاستمرار في السياحة بروحه بعد أن تفارق الجسد، كما أن عليه عدا هذا أن يذلل لنفسه جميع الصعوبات التي قد تخطر الآن أو فيما بعد والتي قد تقوم في سبيله بتوفير القوت والوقاية من حرارة الشمس وسائر النجوم التي سنزورها وما إلى ذلك، ولنبدأ الآن في رحلتنا.

ففي الجزء الأول من سياحتنا سنصرف سحابةَ يومٍ في تفقد مجموعتنا الشمسية، فرحلتنا من هنا إلى الشمس لا تستغرق إلا نحو ثماني دقائق، ومن الشمس نستطيع أن نرى المجموعة الشمسية بأسرها مؤلفة من الكواكب التسعة الكبرى، وهي عطارد والزهرة والأرض والمريخ والمشتري وزحل ويورانوس ونبتون وبلوتو مرتبة حسب أبعادها عن الشمس، وسنرى كل واحد منها يدور حول الشمس ومعه أقماره أو توابعه في فلك على شكل قِطع ناقص مستدير تقريبًا، كما أننا سنرى الكواكب الصغرى وعددها أكثر من الألفين منتشرة بين فلكي المشتري وزحل. وسنرى أيضًا المذنبات وكل منها يدور في فلك إهليلجي.

figure
صورة تمثل المجموعة الشمسية تظهر فيها أفلاك الكواكب الكبرى مستديرة تقريبًا وأفلاك المذنبات إهليلجية.
figure
السديم الأكبر في برج الجوزاء.

ونحن نستطيع أن نمتطي شعاعنا ونزور كل كوكب على حدة حتى نصل إلى نبتون. أما إذا قمنا من الشمس إلى نبتون رأسًا فإننا نصله في نحو الأربع ساعات وربع الساعة. وأنا أشعر أن القارئ يريد أن يصرف شيئًا من الوقت في تفقُّد كل كوكب على حدة إلا أن الوقت قصير، ولا بد لنا من مفارقة المجموعة الشمسية لكي نُكَوِّن فكرة عامة عن العالم الذي إن هي إلا قطرة فيه ثم عن العوالم الأخرى. فلنذهب إذن من المجموعة الشمسية إلى أقرب نجم إليها وهو المسمَّى ألفا في برج قنطورس. سنصل إلى هذا النجم في أربع سنين، ومن هذا النجم تظهر لنا المجموعة الشمسية بأسرها كنقطة صغيرة في الفضاء، وسنستمر نزور النجوم المختلفة فنقطع ما بين النجم والذي يليه في بضع سنين حتى نصل إلى حدود العالم الأدنى أي العالم الذي شمسنا أحد نجومه. فإذا خرجنا عن هذا العالم وسرنا بضع آلاف السنين ثم نظرنا وراءنا وجدنا هذا العالم مكوَّنًا من جم غفير من النجوم على شكل (مبطط) يشبه الرغيف أو الساعة ووجدنا الشمس واحدة من هذه النجوم قريبة من مركز الرغيف. هذا العالم هو الذي يُسَمَّى بالعالم المجرِّي.

وإذا نحن عدنا إليه بعد أن عرفنا شكله وأردنا أن نعبره من أقصاه إلى أقصاه استغرق هذا العبور منا حوالي مائة ألف سنة وربما استغرق عشرة أمثال هذا الزمن.

ولنرحل عن العالم المجرِّي فننتقل إلى أحد السُّدُم اللامجرية فنصل إليه في بضع ملايين السنين، ثم لننظر من هذا السديم إلى العالم المجرِّي فنجد مظهره كسحابة صغيرة في سمائنا يشبه ما تظهر عليه السُّدُم إذا ما نظرنا إليها من الأرض.

فالأرض التي نعيش عليها يمكن اعتبارها نقطة تافهة في المجموعة الشمسية التي يبلغ أكبر قطر فيها بضع ساعات ضوئية. ثم إن المجموعة الشمسية بأسرها يمكن اعتبارها نقطة تافهة في العالم المجرِّي الذي قد يبلغ أكبر قطر فيه حوالي نصف مليون سنة ضوئية. ثم إن العالم المجرِّي بأسره إن هو إلا أحد مئات الألوف من العوالم المتفرقة في الفضاء الذي لا نعلم له إلى الآن حدًّا ولا نهاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤