الفصل الرابع عشر

انقراض الفضول البشري أم بقاؤه؟

تتمثَّل إحدى خصائص البحث في عدم معرفة ما ستَعثر عليه. فقد كان كولومبوس يبحث عن طريق للوصول إلى جزر الهند من خلال السفر غربًا عبر المحيط الأطلنطي، وبدلًا من هذا عثر على الأمريكتين؛ وبعد ٤٠٠ سنة كان ديفيد ليفينجستون يبحث عن منبع نهر النيل؛ فعثر على منابع نهر الكونغو. وكان نيوتن يبحث عن تفسير لحركة الكواكب، فاكتشف الجاذبية؛ وكان واطسون وكريك يبحثان عن التركيب الصحيح للدي إن إيه، فاكتشفا طريقة تعبير الجينات وتناسخها. وطالما أن الحال كذلك، يستحيل توقُّع التطورات التي تنتظرنا. فإذا كنت طلبت من أي شخص في عام ١٩٠٠ توقع كيف ستكون حياة الإنسان في عام ٢٠٠٠، ربما كانوا سيتوقعون ظهور السيارة بوصفها وسيلة انتقال أكثر راحة من الحصان أو العربة التي تجرُّها الخيول أو قطار السكك الحديدية الذي يَسير في مسار محدَّد، لكنهم لم يكونوا ليتوقعوا أن تصبح شوارع بومباي وبانكوك وكاراكاس وجاكرتا أكثر ازدحامًا بالسيارات من شوارع لندن أو باريس أو نيويورك. كذلك لم يكن ليُفاجئهم اختراع الطائرة — فقد ظهرت آلات الطيران على لوحات الرسم منذ عصر ليوناردو دافنشي — لكن كان سيُفاجئهم الانتقال من لندن إلى نيويورك في أقل من ٤ ساعات. كان من الممكن كذلك أن يتوقَّعوا ظهور وسائل الاتصال الإلكترونية — فقد اختُرع التلغراف في منتصف القرن وسرعان ما تبعه الراديو، وبث ماركوني أول إرسال له عبر مصبِّ نهر سيفرن من مدينة بينارث إلى ويستون-سوبر-مير في عام ١٨٩٦ — لكن لم يكن ليخطر ببالهم أن كلَّ طفلٍ في المدرسة وأمينِ مكتبة وموظَّف في بنك ومُمرضة وبائع في متجر سيبرع في استخدامها. وربما كانوا سيتوقعون اكتشاف القطبين الشمالي والجنوبي، وتسلُّق جبل إفرست، لكنهم لم يكونوا ليتخيلوا أنه من الممكن للبشر السير على القمر.

عندما وضع ماكس بلانك نظريته عن الكم في عام ١٩٠٠، لم يتوقَّع أي عالِم أن مدلولاتها ستؤدي إلى الاستخدام اليومي لأجهزة الترانزستور أو الليزر أو التصوير بالرنين المِغناطيسي. تتَّسم طبيعة الاكتشافات العلمية بالعشوائية، ويكون معدَّل التقدم التكنولوجي سريعًا للغاية، بحيث يصعب توقع المستقبل. يرفض العلماء الجادُّون توقع مسار العلوم الأساسية. عندما طلبتُ من صديق (حاصل على جائزة نوبل) توقُّع الاكتشافات المستقبلية التي ستحدث في مجال تخصُّصه، ردَّ قائلًا: «أنا عالِم تجريبي، ولستُ مُنجِّمًا.» وأحيانًا لا تكون التوقعات بها قدر كبير من التفاؤل؛ فتكون التكنولوجيا المطلوبة والدعم المادي دون المستوى، كما يُمكن للرأي العام أن يدمِّر أكثر المشروعات بَراعة. في عام ١٩٥٥ كان من المتوقع أنه في خلال ٥ سنوات أو في أسوأ الأحوال ١٥ سنة، ستَعبُر الطائرات التي تعمل بالطاقة الذرية المحيط الأطلنطي في ٣٠ دقيقة. مرت ٥٠ سنة ولم يحدث شيء؛ فقد جعلتْنا مخاطر استخدام الطاقة النووية نحتاط.

(١) القرن القادم

هل تريد مني توقع كيف سيكون شكل الحياة في عام ٢١٠٠ نتيجة لأبحاثنا؟ بما أني لن أكون موجودًا — ولا أنت أيضًا، على ما أظن، وكذا معظم قرائي إلا إذا كانوا مُتعلِّمين منذ سنٍّ مبكِّرة للغاية، وينعمون في الوقت نفسه بطول العمر الفائق١ — فليس لديَّ ما أخسره. يَعتقد المتشائمون بالطبع أن الحياة كما نعرفها ستنتهي فعليًّا؛ فسيؤدي تلاعبنا بالطبيعة وبأنفسنا — المحاصيل المعدَّلة جينيًّا والبشر المعدَّلين جينيًّا — إلى كارثة مفجعة. أما أنا فلا أتفق معهم في هذا الرأي للأسباب المذكورة في الفصول السابقة. فيوجد أناس يتوقَّعون وقوع أحداث كارثية مع كل كسوف كلي للشمس ومع كل ألفية جديدة، ويتحدثون عن دقة تنبؤات نوستراداموس منذ ٥٠٠ عام التي توقَّعت اغتيال الرئيس كينيدي، وانتهاء الحرب الباردة، وغزو صدام حسين للكويت، ووفاة الأميرة ديانا أميرة ويلز. عندها أبتسم بأدب وأغيِّر الحوار؛ فعندما يَغيب المنطق في منتصف الحوار، من الأفضل التوقُّف عنه.
بالطبع من الممكن أن يَضرب الأرض كُويكب ضخم مثل ذلك الذي ارتطم بالأرض منذ ٦٥ مليون سنة.٢ وفي الواقع ستكون عواقب مثل هذا الحدث كارثية، لكن احتمالات حدوثه ضئيلة.٣ ومع ذلك يوجد أكثر من ١٠٠ ألف كويكب في حجم ملعب كرة القدم في مجموعتنا الشمسية وحدها.٤ ونحن نعلم أن احتمال ارتطام كويكب صغير بالأرض بقوة مِائة قنبلة نووية — كالتي ضربت هيروشيما — في ٢١ سبتمبر ٢٠٣٠ هو مجرد ١ في ٥٠٠. تحدد مؤخرًا أيضًا كويكب آخر، «إن تي ٧»، في مسار الاصطدام بالأرض. تبلغ كتلته ١١ مليار طن، ويبلغ قطره من ١ إلى ٢ ميل، ويدور حول الشمس بسرعة ١٧ ميلًا في الثانية. إذا ضرَب الأرض، فإنه سيفعل هذا — في ١ فبراير ٢٠١٩ — بقوة تزيد عن قوة مليون قنبلة هيدروجينية. لكن لا تيأس؛ فالعلماء يخططون من الآن لطرق تجعله يحيد عن مساره الحالي؛ عن طريق إلصاق شراع ضخم يعمل بالطاقة الشمسية به، أو دفعه جانبًا باستخدام مُفاعل نووي، أو تفجيره بالطبع باستخدام قنبلة نيوترونية.٥
مع ذلك بين كل أنواع الحيوانات والنباتات التي ربما تَنقرض، بالتأكيد سيكون الإنسان الأقل تأثرًا؛ فسعيه للبقاء قويٌّ للغاية. بالطبع سيؤدِّي بحث الإنسان عن مساحة إضافية للحياة وعن طعام ومياه عذبة إلى حالات من التوتر؛ فيَزيد عدد سكان العالم بمعدل ٢٤ شخصًا كل ١٠ ثوانٍ، ومع كل ٨ ثوانٍ تمر يُفقَد هكتار من الأرض المزروعة.٦ إن عصرنا الحالي يضم ثُلثي البشر الذين وصلت أعمارهم إلى ٦٥ عامًا على الإطلاق. وفي غضون ٢٠ سنة، سيعيش نصف سكان الدول النامية في مناطق حضرية مقارنةً بأقل من الثُّلث في العصر الحالي. وسيحاول الناس ذوو النوايا السيئة استغلال مثل هذه المواقف٧ بتوفير مزيد من أسلحة الدمار الشامل الفعالة. وبالفعل توجد بين أيدينا تكنولوجيا لتدمير الناس انتقائيًّا؛ ومثال على هذا القنبلةُ النيتروجينية والجراثيم الفتاكة، فضلًا عن التعقيم الجماعي. لكن من غير المحتمَل أن يخرج مثل هذا الهجوم عن السيطرة بما يكفي للقضاء على الإنسان العاقل على سطح الأرض. فصفة العملية، التي تُعتبر واحدة من الصفات المميزة للإنسان، توفِّر قيدًا يعمل على تحجيم الأهداف الخبيثة ذات الأبعاد العالمية. تذكَّر الحرب الباردة التي حدثَت مؤخرًا، واستمرَّت ٤٠ عامًا بين الاتحاد السوفييتي والدول الديمقراطية الغربية، التي انتصر فيها ضبط النفس على انتهاز فرصة استخدام الأسلحة النووية.
بعض جوانب الحياة في عام ٢١٠٠ لن تتغير؛ فستظل الخلافات بشأن التكنولوجيا الجديدة موجودة.٨ وستظل تقع مشاجَرات وتَندلع حروب، وتُخرَق معاهَدات ووعود. وستكون الفوضوية منتشرةً تمامًا مثلما كان الحال في عام ٢٠٠٠ أو ١٩٠٠، وسيستمرُّ تبرير أعمال الإرهاب على أسس دينية، كما كان الحال منذ أول حرب صليبية اندلعَت منذ ألف سنة. وسيظل عدد الاكتشافات العلمية هو نفسه تقريبًا كما كان في خلال القرن الماضي، لكن من المتوقَّع أن تصبح التطورات التكنولوجية التي تنتج عنها ضخمة. ولن يزيد عدد الكتب المميزة التي تؤلَّف، أو المقطوعات الموسيقية التي تُلَحَّن، أو الصور التي تُرسم، عن العدد الذي ظهر في أثناء السنوات المِائة الماضية؛ فسيَشعُر بالراحة أولئك الذين يرَوْن أن جودة الفن في العصر الحالي أصبحت بالفعل في حالة من التراجُع المستمر؛ مثال لذلك الروايات التي تُطعَّم بمواد إباحية، والموسيقى الناتجة عن تنافر الأصوات، وأشكال الصور التي تحصد الجوائز ولا تزيد عن كونها عُلبة حساء أو حيوان محفوظ في الفورمالدهايد. ويرجع السبب في هذا الثبات في الإنجاز، كما أشرتُ سابقًا، إلى أن صفات الكره والشر، وانعدام الكفاءة وانعدام الأمانة، والتميز العلمي والإبداع الفني، موزَّعة عشوائيًّا بيننا، ونسبة المحظوظين أو الملعونين بواحدة أو أكثر من هذه الصفات لا تتغير على مدار مِائة سنة فقط. تعكس هذه الصفات عمل مزيج الجينات التي نَرثها عن والدينا. تتعرض الجينات إلى إعادة توزيعٍ مع كل جيل، لكن إجمالي التجميعة الجينية يظلُّ ثابتًا إلى حدٍّ ما. في الواقع تتعرض تجميعة الجينات للتغيير لكن على مدار ملايين — وليس مئات — السنين؛ فربما تظهر أنواع جديدة من الإنسان العاقل — لا بل هي تظهر بالفعل — لكنَّنا لا نُدركها؛ فالتغييرات التي تحدث بسيطة للغاية.
تتغيَّر البيئة بمعدل أسرع، وقد أكدتُ على أن وظائف أجسامنا يُحدِّدها التفاعل بين العوامل الوراثية والبيئية. فهل التغيرات التي تحدث في هذه الأخيرة ستؤثر علينا بحلول عام ٢١٠٠؟ من المتوقع أن يعمل الاحترار العالمي على رفع متوسِّط درجة الحرارة في العالم إلى نحو ٦٠ درجة مئوية على مدار السنوات المِائة التالية، مقارنةً بارتفاع قدره ٠٫٦ درجة مئوية في القرن الماضي. وسيكون التأثير الأكبر على القطبين؛ فسيذوب كل الجليد في القطب الشمالي مع مطلع القرن القادم؛ مما سيجعل القطب الشمالي في وسط محيط. ويتمثَّل السبب في ارتفاع درجة الحرارة هذا في تأثير الصوبة الزجاجية، الذي يَنتج جزئيًّا من ثاني أكسيد الكربون الذي يصدره الإنسان من خلال وسائل المواصلات والتلوث الصناعي، وجزئيًّا من إنتاج غاز الميثان مع زيادة عدد الحيوانات المجترَّة، وجزئيًّا من انخفاض نسبة ثاني أكسيد الكربون الذي تمتصُّه النباتات بسبب تدمير الغابات. وتُعادل الزيادات في درجة الحرارة أو تعمل على تفاقمها تغيراتٌ لا يَستطيع الإنسان التحكُّم فيها؛ مثل التغيرات التي تحدُث في دورة الكربون في العالم وفي الإشعاع الشمسي. تنتج الأولى من ثاني أكسيد الكربون الذي يَصدر من الانفجارات البركانية ويدخل في الغِلاف الجوي ويعود إلى الأرض في صورة أمطار حمضية؛ ويُسهم في ذلك أيضًا التقلبات في كَمِّية ثاني أكسيد الكربون الذي تمتصُّه النباتات٩ والتغيرات في المحتوى الميكروبي في المحيطات.١٠ أما التغير الثاني فيكون نتيجةً للبقع الشمسية. ربما يُمثِّل التلوث الذي يتسبَّب فيه الإنسان عاملًا رئيسيًّا في الاحترار العالمي على مدار القرن التالي،١١ لكنه لا يكون بأيِّ حالٍ من الأحوال العامل الوحيد.١٢
ستكون آثار الاحترار العالمي إقليمية؛ فسيذوب الجليد على قمة جبل كليمنجارو، لكن ربما يصبح الشتاء في شمالي أوروبا في الواقع أكثر برودة. وسيؤدِّي ذوبان جليد القطب الشمالي إلى برودة المحيط الأطلنطي وإبطال مفعول الدفء الذي يَجلبه تيار الخليج حاليًّا إلى الجزر البريطانية وشمال غرب أوروبا. وقد انخفضَت سرعة تيار الخليج بالفعل بنحو ٢٠٪ على مدار السنوات الخمسين الماضية. ونتيجة لهذا سيكون الشتاء في لندن وبروكسل أكثر شبهًا بالشتاء في مناطق أخرى على خط العرض نفسه؛ مثل خليج سانت لورانس وسهول سيبيريا، اللتان تتجمَّدان كليًّا في منتصف الشتاء.١٣ وعلى العكس من هذا، سترتفع درجة حرارة جنوبي أوروبا، وربما يعود البعوض الحامل للأمراض — الذي ينقل فيروسات مثل فيروس حمى الضنك وفيروس حمى النيل الغربي وطفيل الملاريا — ليُصبح مُستوطنًا.١٤ كذلك ربما يرتفع مستوى سطح البحر بما يقرب من متر، وستحتاج كثير من المدن الساحلية في إنجلترا إلى حماية الخنادق التي تمنع حاليًّا مياه بحر الشمال والقناة الإنجليزية من الدخول إلى هولندا. تتفاقم هذه المشكلات بزيادة الرياح المطيرة؛ فبنهاية هذا القرن ستَحمل السماء فوق جنوبي إنجلترا مزيدًا من الأمطار بنسبة ٥٠٪ من الموجودة حاليًّا.١٥ لكن هل الاحترار العالمي فعليًّا أمر كارثي للغاية؟ يرى الثنائي المنفرد برأيه، الراحل فريد هويل وشاندرا ويكراماسينج، اللذان التقينا بهما في الفصل الثالث، أن زيادة الاحترار العالمي ستكون مفيدة للأرض؛ إذ ستُنقذنا من عصر جليديٍّ آخر.١٦ ربما يكونان مُحقَّين على المدى الطويل، لكن فيما يتعلق بهذا القرن، لا يتفق مع وجهة نظرهما إلا عدد قليل.
ستتحدى التغيرات المُناخية براعة المتأثِّرين بها، لكنها لن تؤثر كثيرًا على كيميائهم الحيوية، فسيعادل التهديد بعودة الملاريا إلى إيطاليا احتمال إتاحة لقاح لها بحلول ذلك الوقت. ثمة تغيرات بيئية أخرى من المرجَّح أن تترك أثرًا في تعداد البشر؛ وأحدها انتشار فيروس العوز المناعي البشري. ففي أفريقيا، حيث تصل نسبة إصابة السكان بهذا الفيروس إلى ٤٠٪ في بعض الدول، من المحتمل أن يُنجب المقاومون للإصابة بمرض الإيدز١٧ ذرية تفوق في عددها الغالبية العظمى المعرَّضة لخطر الإصابة به. تحدُث مثل هذه التغيرات في التكوين الجيني للسكان طوال الوقت؛ فكثير من الذين نجَوْا من وباء الإنفلونزا في عام ١٩١٨ (الذي قَتل ٤٠ مليونًا) ربما حدَث لهم هذا بسبب تمتُّعهم بميزة جينية. مع الأسف، لا يتمتَّع بالضرورة أحفادهم الموجودون حاليًّا بحماية مستقبلية من الأوبئة؛ لأن الفيروس تعرَّض لتغييرات مستمرة؛١٨ فأحفاد المقاومين حاليًّا لفيروس العوز المناعي البشري ربما يقعون فريسة له غدًا. ما أريد الإشارة إليه أن الجراثيم المسبِّبة للعدوى في البيئة مسئولة عن الانحراف الجيني الذي يَحدث بين السكان؛ فهو جزء من عملية التطور. لكن على حدِّ علمنا، لا ترتبط قابلية الإصابة بالمرض بصفات مثل الإبداع أو الذكاء أو العدوانية أو الطيبة. ولهذا السبب لن يَختلف سعي الإنسان في عام ٢١٠٠ كثيرًا عنه في عام ٢٠٠٠.
تزدهر حضارات وتتدهور حضارات، وأصبح الآن مُصطلح «مجتمع» ملائم أكثر من مصطلح «حضارة»؛ حيث أصبح الإنسان «متحضرًا» في جميع أنحاء العالم، ليس بالضرورة من خلال الاضطرار إلى تسلُّق بضع درجات من سُلم الإنجاز بنفسه، لكن من خلال الارتقاء دون جهد منه. ألم أقُل من قبل أن السُّلم نفسه يرتفع إلى الأعلى باستمرار؟ وأنه سُلم متحرِّك؟ أفكر على وجه الخصوص في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، التي تعرَّضت لأشكال أوروبية من الحكم والتكنولوجيا عبر الغزو والاندماج لعدة قرون.١٩ وفي حين أفنت المذابح والعبودية سكانها منذ قرنين، تَضطلع المجاعات والإيدز بهذا الدور في عصرنا الحالي. إلا أن الناجين يستفيدون من التكنولوجيا الغربية في مجالات معيَّنة ويعيشون حتى سن متقدمة؛ ولهذا السبب يحتاج إنتاج الطعام لديهم إلى أن يتضاعف باستخدام التكنولوجيا الحديثة.
بحلول عام ٢١٠٠ ستتغير الخريطة السياسية والاجتماعية للعالم؛ فستنمو بعض المجتمعات، وستضعف مجتمعات أخرى. وقد عبَّر المؤرخ أوزفالد شبنجلر عن هذا منذ قرن مضى فقال: «الثقافات … تزدهر وتهرم … لكن «البشرية» لا تهرم. فلكل ثقافة إمكانياتها الجديدة للتعبير عن ذاتها، وهي ترتقي وتنضج وتتحلل ولا تعود أبدًا … [فهي] تنمو دون هدف تمامًا مثل الزهور في الحقل.»٢٠ ويكون المعيار الذي نقيس به النجاح مزيجًا من التأثير والثروة؛ فقد كان الاتحاد السوفييتي طوال معظم القرن العشرين يتمتَّع بتأثير كبير مع قليل من الثروة، بينما تمتَّعت سويسرا وبروناي بثروة كبيرة لكن مع تأثير ضئيل. ومنذ منتصف القرن العشرين (ويقول بعض المؤرخين حتى قبل هذا) كانت أوروبا في حالة تدهور. أدرك رئيس الوزراء الإنجليزي اللورد ساليسبوري هذا منذ مِائة سنة، عندما كانت الإمبراطورية البريطانية لا تزال في أوج ازدهارها؛ إذ قال: «أيًّا كان ما سيحدث [في السياسة الخارجية] فإنه سيكون للأسوأ؛ ومن ثم مِن مصلحتنا أن يحدث أقل قدر ممكن.» والجمود بلا شك هو عدو السعي.

قابل اضمحلالَ تأثير أوروبا على مدار القرن السابق ارتفاعُ شأن الولايات المتحدة الأمريكية، التي ما تزال مهيمنة في مطلع القرن الحادي والعشرين. لا أعتقد أن اتحادًا أوروبيًّا فيدراليًّا يستطيع حاليًّا تغيير ما حدَث في القرن الماضي؛ فإن بيروقراطيته الخانقة وقوانين العمل غير المرنة ستجعله غير قادر على المنافسة مع الدول الأخرى. وفي المقابل من المفترض أن تصل الصين والهند، التي تُسهم كل منهما حاليًّا بنحو ٢٠٪ من تعداد السكان في العالم، إلى كامل قدرتهما الاقتصادية، ويُصبح لهما دور مسيطر على الساحة العالمية. يَفترض هذا عدم انفصال جنوب الصين عن الشمال — المنافسة القديمة بين متحدثي الكانتونية في الجنوب والمندارين في الشمال — وأن تظلَّ الهند دولة ديمقراطية علمانية، دون أن يَحصل إقليم كشمير والأقاليم المسلمة الأخرى على استقلالها عن الحكومة المركزية في نيودلهي. ومن المحتمل أيضًا أن تفقد الولايات المتحدة الأمريكية كثيرًا من تأثيرها، خاصةً إذا آثَرت ولايات معيَّنة داخل الاتحاد — تتبادر إلى الذهن تكساس وكاليفورنيا — الحصول على استقلالٍ أكبر؛ فستكون الاختلافات السياسية والاجتماعية أسبابًا للانفصال، وهذه المرة من دون حرب أهلية. وداخل أوروبا، ربما تحصل مناطق، مثل اسكتلندا وويلز وكتالونيا وإقليم الباسك، على استقلالها من حكامها الحاليين. ومن غير المحتمل أن يحصل الشرق الأوسط مرةً أخرى على المكانة التي كان يتمتَّع بها في النصف الأول من الألفية الماضية (من القرن الحادي عشر حتى القرن الخامس عشر)؛ فالأصولية الإسلامية ستُعيق حدوث هذا، كما سيَنفد البترول. وستشهد أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أكبر تغيير من بين القارات الأخرى؛ فربما يَحين أخيرًا وقت زيادة ازدهارها — الذي يحدث حاليًّا بسبب انخفاض كبير في عدد السكان نتيجة لمرض الإيدز — بمجرد انحسار الوباء.

إذن ستتحوَّل الأهمية الثقافية والسياسية والاقتصادية مرةً أخرى — بعد ٥٠٠ سنة من التفوق الغربي — إلى الشرق؛ من أوروبا وأمريكا الشمالية إلى الهند والصين وجنوب شرق آسيا واليابان. ما السبب في تأكيدي على هذا؟ جزئيًّا «تراجُع المستوى الفكري» — الانحطاط إلى أقل قاسم مشترك — الذي نشهده حاليًّا في العالم الغربي؛ في التعليم والثقافة أيضًا. فهو بمنزلة النزول لبضع درجات أسفل سُلم التنوير. وبصرف النظر عما إذا كانت التكنولوجيا في الغرب تُواصل المضي قُدمًا أم لا، فإن التعليم الذي يتلقاه الغالبية العظمى في أوروبا وأمريكا الشمالية سيبدأ في التدهور، كما يحدث حاليًّا بالفعل، ورغم ذلك ستظل دومًا مجموعات متفرقة من النخبة موجودة.

أجرَت الجمعية الدولية لتقييم التحصيل التربوي مؤخرًا دراسة على الأطفال في سن الرابعة عشرة (في الصف الثامن) في ٣٨ دولة في مادة العلوم، احتلَّت إنجلترا المرتبة التاسعة، بعد تايوان وسنغافورة واليابان وكوريا (الجنوبية)، وجاءت الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك في المرتبة السادسة عشرة؛ وفي الرياضيات احتلت إنجلترا المرتبة العشرين والولايات المتحدة الأمريكية المرتبة التاسعة عشرة، بينما احتلت سنغافورة وكوريا وتايوان وهونج كونج واليابان المراكز الخمسة الأولى.٢١ ومن بين الدول الأوروبية، تفوقت الدول التي تَنتمي للكتلة الشرقية السابقة، مثل المجر وجمهورية التشيك وروسيا نفسها، في المتوسط على الدول الديمقراطية الغربية؛ فيُحقِّق أسلوبها التعليمي نتائج أفضل. صحيح أن الفروق في التحصيل لم تكن كبيرة؛ ففي مادة العلوم حقَّقت الدول متوسطة المستوى نتيجة ٨٨٪ مقارنةً بالدول الأكثر تفوقًا، بينما في الرياضات كانت النسبة ٨٢٪. ومع ذلك فإن التوجه واضح؛ فأخلاقيات العمل في الشرق الأقصى تؤدِّي إلى إنتاج أطفال تعليمهم أفضل مقارنة بالأسلوب الأكثر تكاسلًا المعمول به في الغرب. ويعتبر أداء الأطفال اليوم مؤشرًا على أداء دولتهم غدًا. فعندما يَنخفض التعطش للمعرفة، سرعان ما تتلاشى المنافسة. ويتبع هذا انخفاض عام في المعايير، ويَصحبه التزام «باللياقة السياسية» الذي يكون فعليًّا غير صائب.

لا يُسمح لأي شخص في عصرنا الحالي بالفشل في أي امتحان (فهذا من قبيل التمييز). يستطيع خرِّيجو الجامعة بالكاد كتابة مقال مترابط. في المملكة المتحدة منذ عدة سنوات، تضاعف عدد الجامعات بين عشية وضحاها؛ فهل ارتفع فعليًّا فجأة عدد الطلبة المؤهَّلين والمدرِّسين الأكْفاء الذين يستطيعون التدريس لهم؟ أكَّد رجال السياسة والبيروقراطيون على أن هذا حدث، وأن مجموعة كبيرة من الطلاب في الثامنة عشرة من عمرهم والمحاضرين الأذكياء ينتظرون منذ فترة طويلة دورهم للحصول على فرصة للاشتراك في الحياة الأكاديمية. عندما كنتُ أُدرِّس في أكسفورد منذ ٣٠ عامًا، أُرسلت مجموعة منا «الأساتذة» الشباب في جميع أنحاء بريطانيا بحثًا عن بعضٍ من هؤلاء الدارسين البائسين الذي فشلوا في التمكُّن من دخول الجامعة. لم نعثر عليهم، لكني حددتُ مكانهم فيما بعد؛ فكانوا بالفعل طلابًا ومعلمين يتمتَّعون بموهبة استثنائية، لكنهم محبَطون بسبب حظهم. إلا أنهم لم يكونوا في مانشستر أو هال أو برمنجهام أو لستر؛ فقد كانوا في كلكتا وبانكوك، وفي أكرا وبغداد، وفي كاراكاس ومكسيكو سيتي. ومن أجل تمكين بعضٍ منهم — الذين يَرغبون في تحقيق إمكانياتهم في مجال العلوم الطبية الحيوية — أنشأتُ فيما بعد مركز أكسفورد الدولي للطب الحيوي. هذا استطراد.

ماذا حدث للجامعات الجديدة في بريطانيا؟ ازدهرت، إلا أن الطلاب فيها لا يَدرسون الفلسفة أو الفيزياء أو علم النفس، بل التعبئة وتجارة العطور وإدارة مشروعات تربية الخنازير ودراسات الموسيقى الشعبية؛ ويَشغل مُدرِّسوهم منصب الأستاذية ليس في اللغويات أو القانون أو الأدب، بل في تكنولوجيا صناعة الجلود وإدارة وقت الفراغ وتصميم الإضاءة. إذا كنتَ تعتقد أني أبالغ، اقرأ بنفسك كتاب ماسكيل وروبنسون «فكرة جديدة عن الجامعة».٢٢ علينا ألا نتفاجأ بهذا التوجه؛ فالجامعات الجديدة نشأت إلى حدٍّ كبير من كليات فنية ومتعدِّدة التقنيات، وظلت مُخلصة لهدفها الأصلي فحسب؛ فلم تصحَب الطفرة التي حدثت في مكانتها طفرةٌ مماثلة في الفضول الفكري. إنها تقدم مثالًا جيدًا لما عنَيته بتراجع المستوى التعليمي. ولا يقتصر هذا الانخفاض في المعايير على المملكة المتحدة؛ فهو يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الأوروبية أيضًا. في الواقع كانت معظم التغيرات الثقافية التي حدثت منذ القرن التاسع عشر مثل الرياح السائدة، انتشرت عبر المحيط الأطلنطي من الغرب إلى الشرق. وللإنصاف، على مدار السنوات المِائة الماضية ارتفع عدد الأطفال والشباب الذين يَتلقون تعليمًا في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية للغاية. تَتمثل النقطة التي أريد توضيحها في أن النمو يتحقَّق حاليًّا على حساب الجودة. وحتى الآن، لم يُصِب تراجع المستوى الفكري جيوبًا متناثرة من التعليم الحقيقي في هارفرد ويال وهايدلبرج وأوبسالا. ولا يَرغب المرء في توقع ما إذا كانت مثل هذه المجموعات ستتمكَّن من مقاومة ضغوط الانحدار الفكري في المجتمع على مدار السنوات المِائة التالية؛ فقد بدأت الصدوع تظهر بالفعل.
يَعرف القارئ آرائي بشأن الاتجاه الذي يتبعه الفن الغربي المعاصر؛ إحلال الوقاحة محل الموهبة، والتبلُّد محل الجمال، والفضلات محل الأعمال الأدبية.٢٣ إلا أن تراجع المستوى الفكري يشمل المجتمع بأكمله؛ فلا يَقضي معظم الناس — سواء كانوا أطفالًا أو كبارًا، متزوجين أو غير متزوجين — فترات المساء في القراءة (واختفت كتابة الخطابات تمامًا)، أو الاستماع إلى الموسيقى، بل يُشاهدون التليفزيون.٢٤ أصبحت أشهر البرامج هي برامج المسابقات، وبرامج الألعاب، والمسلسلات التليفزيونية الدرامية الاجتماعية، وبرامج الثرثرة التي لا طائل منها عن «المشاهير» (نجوم الأفلام، ونجوم موسيقى البوب، ورجال السياسة سيئي السمعة والقتلة المتسلسلين). وحلَّ الكُسالى الذين يشاهدون التليفزيون طوال الوقت محلَّ الأشخاص الذين يكتبون يومياتهم، وحل الباحثون عن الحانات والشواطئ الرملية محل المحبين للسفر بحثًا عن ثقافات أخرى. وكما هو الحال في التعليم فقد تمكن مزيد من الناس من الاستفادة من الترفيه والسفر أكثر مما كان يَحدث منذ قرن مضى، وستزيد الأعداد أكثر خلال السنوات المِائة القادمة. ومرةً أخرى، تكون مثل هذه الزيادة تحديدًا مسئولةً عن تراجع المستوى الفكري. هل ما أُشير إليه هو أن الفضول الفكري لدى الغالبية العظمى أقل مِن الموجود لدى الأقلية؟ نعم؛ فضمن أيِّ مجموعة من البشر، سيكون البعض أكثر ابتكارًا من الناحية الفكرية، والبعض أكثر مهارة يدوية، والبعض أكثر تفوقًا رياضيًّا، والبعض الآخر أكثر تميزًا فنيًّا. فكان البحث — عن المعرفة وعن تكنولوجيا جديدة — من جانب نسبة قليلة من السكان هو ما أدَّى إلى إقامة الحضارات الرئيسية منذ ٥ آلاف سنة، وإلى الارتقاء فيما بعدُ بمستوى خلفائهم. حتى القرن الماضي، لم تكن آراء الغالبية العظمى لها تأثير كبير على أفعال الأقلية، التي كانت تضمُّ المبتكرين والمعلمين والحُكام؛ فلم يكن معظم الناس لديهم حتى الحق في التصويت.
هل يؤدي إذن ارتفاع مستويات المعيشة ووجود رأي للأغلبية في حُكم الدولة حتمًا إلى انهيارها؟ لا على الإطلاق؛ فكانت بريطانيا أكثر قوة في نهاية القرن التاسع عشر من أيِّ وقت مضى، ومع ذلك استطاع في هذا الوقت عدد متزايد من الرجال التصويت عقب قوانين الإصلاح في أعوام ١٨٣٢ و١٨٦٧ و١٨٨٤-١٨٨٥، كما أن مستوى المعيشة تحسَّن منذ منتصف القرن. ثمة مثال آخر عن اليابان في العقود التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية. لقد خسرت اليابان الحرب، لكن كفاح شعبها (مع مشروع مارشال) عوَّض الدمار الذي لحق بالدولة وخسارة مكانتها. فحصل السكان على طعام أفضل، ومساكن أفضل، وتعليم أفضل من أي وقت مضى، وأصبحوا الآن هم الذين يختارون الزعماء السياسيِّين في البرلمان (تذكَّر ملاحظاتي بشأن الحُكام بالوراثة في الفصل السادس). إن وجود أغلبية متعلمة لا يُضعف الدولة، بل يقوِّيها. لكن وجود أغلبية متكاسلة وغير تنافسية يحكم على الدولة بالانهيار. ألم يكن هذا أحد أسباب سقوط شعب جزيرة الفصح؟ أولم يُسهم هذا في زوال الإمبراطورية الرومانية؟ فعندما يحل الاكتفاء محل البحث، يهبط المجتمع بضع درجات أسفل السُّلم. فيُعتبر الطموح عنصرًا أساسيًّا لإحراز التقدم؛ ويكون الجهل عدوه. كان النازيون يتمتعون بالاثنين، لكن الثاني كان هو الأقوى، وسرعان ما أدَّى إلى انهيارهم؛ وعلى الصين أن تتوخى الحذر. وبصرف النظر عن الملاحظة الأخيرة، أكرِّر أنه بحلول عام ٢١٠٠ ستصبح الدول التي تمتد جذورها في الحضارات الهندية والصينية — الهند والصين وكوريا واليابان وماليزيا وتايلاند — مرةً أخرى مُسيطِرة على العالم؛ فقد بدأت الحضارة الأوروبية منذ ٣ آلاف سنة، والآن تتدهور ثقافتها. هذه ليست وجهة نظر تمييزية؛ اقرأ ما كتبه الكاتب الفرنسي جون جامبل،٢٥ الذي توقع حدوث تطور مماثل لا يعتمد كثيرًا على «تدهور المستوى الفكري» بقدر اعتماده على التدهور الاقتصادي وما يتبعه من انخفاض في التكنولوجيا القابلة للتطبيق. فيبدو أنه لا يُمكن إنكار العلاقة بين السعي والتنمية البشرية.

من المستحيل توقُّع كيف ستغير التكنولوجيا نمط حياة أولئك الذين سيعيشون في عام ٢١٠٠؛ فمن المفترض أن تزيد سرعة السفر جوًّا بمعدل أُسِّي تقريبًا، وربما يقضي السياح معظم وقتهم في الفضاء أو على القمر. وقد تعمدتُ أن أقول «من المفترض»؛ فكما رأينا في بداية هذا الفصل، لم يكن السفر بالطاقة الذرية اختُرع حتى القرن الماضي، وكذلك السفر التِّجاري بالصاروخ، هذا رغم إعلان شركة بيل للطيران في ولاية بافلو في عام ١٩٥٥ أن المسافرين سيتمكَّنون قريبًا من السفر من نيويورك إلى سان فرانسيسكو — بحرًا بسرعة ٧٥٠٠ ميل في الساعة — في ٧٥ دقيقة. تحدَّد موعد الرحلة الأولى للصاروخ في عام ١٩٦١، لكن الخطط تأجلت فيما بعد. هل يكون توقُّع حدوثها بعد ١٤٠ سنة أمرًا مفرطًا في التفاؤل؟

سيرتدي الناس بالتأكيد في عام ٢١٠٠ ملابس مختلفة، وستكون تصفيفات شعرهم مختلفة أيضًا. ستكون فرص حدوث الأمر الثاني هذا محدودة؛ فربما تعود أشكال معينة من الشعر المستعار للظهور، رغم أن الصلع لن يحتاج إلى هذا، حيث سيُصبح الشعر المعدَّل جينيًّا — من أي لون ولا يشيب أبدًا — متاحًا. كذلك سيكون الطعام الذي يتناولونه مختلفًا، وسيَعيشون في منازل مختلفة ويقودون مركبات مختلفة.٢٦ ربما ستظهر السيارة التي تنطلق عموديًّا في هذا الوقت؛ أنا أتعجَّب طوال الوقت من أنها لم تُخترَع حتى يومنا هذا.٢٧ وسيشمل التواصل الإلكتروني العروض المرئية، التي تُصنَّع حتى في عصرنا الحالي، وسيُتاح للجميع استخدامها في معظم أنحاء العالم في غضون عَقد. ماذا عن الخصوصية؟ حسنًا، أفترض أنك تستطيع دومًا غلق أي شيء أو غلق عينيك عن الشاشات التي تُحدِّق فيك من كل مكان في منزلك؛ تَعرض لك درجة الحرارة والرطوبة والتلوث داخل المنزل وخارجه، وتفاصيل عن قرضك البنكي الذي لم يُبَتَّ فيه، وسعر الأفوكادو والوجبات الفورية المكونة من ثلاثة أطباق في السوبر ماركت الكبير في منطقتك السكنية، وسُبل الترفيه التي في انتظار أن تُحضرها هذا المساء، وتقرير عن حالة الخضرة في ملعب الجولف المفضل لك (سواء القريب منك أو الموجود في تسمانيا)، وأخبار من المدن والقرى من جميع أنحاء العالم؛ بما في ذلك المغامرات الجنسية وحالة كبد كلِّ سياسي ونجم تمثيل أو كرة قدم (ثمة أنشطة ترفيهية أخرى ربما تتفوق على الجولف وكرة القدم، لكن الحُجة تظل قائمة).

إن السبب في تنبؤاتي بسيط للغاية؛ توقَّفْ لحظة وفكر في نمط حياة أجدادك. عندما كانوا في مثل سنك، منذ نحو نصف قرن أو ما شابه، ألم تكن حياتهم مختلفة عن حياتك الآن؟ ربما كانت قديمة الطراز قليلًا، أليس كذلك؟ فنحن لا يُمكننا — حتى إذا أردنا — مقاومة الأدوات الجديدة التي تَفرضها التكنولوجيا الجديدة علينا، ووتيرة الحياة المتسارعة. فنادرًا ما يظل العلم والتكنولوجيا جامدَين؛ فالفضول والتغيير في جيناتنا. إذن هل تعلَّمْنا كيف نُسيطر على الأعاصير والفيضانات والبراكين والزلازل؟ حاليًّا نحن لا نستطيع توقُّع آخر اثنين، ناهيك عن التحكم فيهما. إلا أن الزلازل حصدت وحدها حياة ١٠ ملايين شخص في جميع أنحاء العالم على مدار القرن الماضي، نتيجةً لهزات زلزالية استمرت في مجملها أقل من ساعة واحدة. وعلى الأرجح أمكن احتواء الفيضانات من خلال بناء السدود في حجم الكاتدرائيات على طول ضفاف نهر المسيسيبي، وشواطئ بنجلاديش، وأنهار شمالي أوروبا والخط الساحلي بها؛ ويحتمل أنه بحلول عام ٢١٠٠ أن تصبح تكنولوجيا إسقاط الأمطار على مناطق تُعاني من الجفاف أكثر تطورًا ومجدية اقتصاديًّا، بما أنه يَجري تطويرها حاليًّا بالفعل. إلا أن فُرَص التحكم في الأعاصير وحرائق الغابات والانفجارات البركانية والزلازل — ناهيك عن منْع حدوثها — ليست جيدة.

منذ عَقدين فقط لم يَستطِع رئيسا أكبر دولتين على وجه الأرض — ميخائيل جورباتشوف زعيم الاتحاد السوفييتي وجورج بوش (الأب) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية — عقد لقاء على مدمِّرة بحرية في البحر الأسود لأن الأمواج كانت عاتية للغاية بحيث منعَت زورقيهما من أن يقترب كلٌّ منهما من الآخر بما يكفي. لقد صنَع بلد كلٍّ منهما في هذا الوقت أكثر تكنولوجيا متطوِّرة عرفها الإنسان، وأرسلَ كلٌّ منهما رواد فضاء روسًا وأمريكانًا إلى السماء، لكنهما اضطُرا إلى إلغاء موعدهما. وفي المُناخ المضطرب لا تستطيع المعديات التي تقطع القناة الإنجليزية (المانش) بين دوفر وكاليه أن ترسو، وتُضطر إلى الانتظار لساعات خارج مدخل الميناء حتى تهدأ الأمواج. وفي حال وجود ضباب على الأرض لا تستطيع الطائرات الهبوط، وإذا تعرَّضت أطراف أجنحتها إلى التجمُّد لا يُمكنها الإقلاع. وتؤدي عاصفة ثلجية كبيرة إلى دخول كثير من المدن في الولايات المتحدة الأمريكية في حالة من الجمود التام. فربما استطاع الإنسان تطويع الحيوانات والنباتات الموجودة على القشرة الأرضية لخدمة احتياجاته، لكنه لم يستطع التحكم في العناصر الموجودة فوق القشرة أو تحتها. فيُمثِّل تطويع قوى الطبيعة الأكثر عنفًا تحديًا من غير المحتمل أن يعثر الإنسان عن حلول له في غضون ١٠٠ سنة.

من ناحية أخرى، يخطط الإنسان للسفر إلى المريخ. من حيث حجمه يشبه المريخ الأرض أكثر من القمر؛ فالجاذبية على سطحه ثُلث الجاذبية على الأرض، وليست سُدسها. ستَستغرِق الرحلة ٦ أشهر؛ ومن المخطط أن يمكث أول مُستكشفين لسطح المريخ سنة ونصف سنة عليه. بالطبع سيحتاجون إلى أخذ أكسجين وطعام معهم؛ ويُقال إن الماء موجود هناك، في حالة متجمِّدة. رغم أنه بحلول هذا الوقت ربما تكون اختُرعت طريقة لبناء نظام بيئي صغير ذاتي الاستدامة — نباتات تُصدر كَمِّية كافية من الأكسجين والعناصر الغذائية — ستكون الشمس المصدر الأساسي للطاقة، تمامًا مثل الحال على الأرض. وبينما ينشغل بعض العلماء بتعديل جينات خضراوات مناسبة من أجل تحقيق هذا، يدرس آخرون عادات النوم لدى الدببة السوداء.٢٨ يرجع هذا إلى وجود كثير من الأمور التي نتعلمها من الحيوانات التي تَدخُل في سبات شتوي عن تجنُّب ضمور العضلات في أثناء الفترات الطويلة من انعدام النشاط والوزن. ومع ذلك، من المتوقع أن يفقد المسافرون في رحلة الذهاب والعودة من المريخ المقترحة نحو ٤٠٪ من كتلتهم العضلية. ومن المحتمل أن تنخفض كثافة عظامهم بنحو ٢٥٪؛ مما يجعل الإصابة بهشاشة العظام نتيجة محتملة. بالإضافة إلى هذا، ستزيد نسبة الإشعاع الذي يمتصونه في الطريق من احتمالات إصابتهم بالسرطان. إلا أنه في ظلِّ التطورات التي تحدث حاليًّا في الإجراءات الطبية، يَحتمِل التغلبُ على هذه المشكلات. ما الذي يتوقع المستكشِفون العثور عليه على سطح المريخ الأجدب؟ سيبحثون٢٩ عن آثار لأي كائناتٍ ربما تكون عاشت عليه في وقت ما. لا يوجد أي شيء في تعقيد النباتات أو الحيوانات الأرضية، لكن ربما توجد بعض أنواع البكتيريا البدائية. ففي النهاية، احتلت الكائنات أحادية الخلية وحدها الأرض لأكثر من مليارَي سنة — تقريبًا نصف عمرها حتى الآن. وإذا لم تظهر أيُّ صور للحياة على هذا الكوكب الأحمر، فإن الجزء الأكثر متعة بالطبع سيكون تحليل الجزيئات المكوِّنة له؛ سواء ثبت أنها تشبه بأيِّ طريقةٍ الجزيئات التي تطورت على الأرض أم لا.
ثمة أهداف أخرى ستَشغل العلماء طوال هذا القرن؛ أحدها البحث عن حياة على كوكب خارج مجموعتنا الشمسية. وتُعتبر احتمالات اكتشاف هذا بحلول عام ٢١٠٠ مرتفعة. فتحتوي درب التبانة وحدها، التي تمثِّل المجرة الرئيسية التي نَنتمي إليها، على ١٠٠ مليار نجم؛ وتعتبر مجرتنا واحدة فقط من بين نحو ١٢٥ مليار مجرة في الكون كله. ألا يُمكن أن تكون الغازات المنبعثة من بعضٍ من هذه النجوم على الأقل تجمَّعت لتكوِّن كواكب مثلما حدث مع الأبخرة المنبعثة من الشمس والتي كونت كواكب الزهرة والأرض والمريخ والمشتري؟ الإجابة أن هذا حدث بالفعل؛ فقد اكتُشف بالفعل في أثناء تأليفي لهذا الكتاب ٧٥ كوكبًا في مجموعات شمسية أخرى،٣٠ ومن المحتمل أن يزيد هذا الرقم إلى ملايين، إن لم يكن مليارات، بحلول عام ٢١٠٠؛ ومن ثم يوجد احتمال جيد أن يكون بعضها، على الأقل، خضعَ لتسلسل أحداث مُشابه لذلك الذي حدث على الأرض. إن الظروف التي تسمح بحدوث هذا — البرودة الكافية (لكن غير المبالغ فيها) وتكوين غِلاف جوي عازل بحيث يُمكن نمو الجزيئات العضوية وبعض أشكال الحياة — صارمة للغاية وبعيدة الاحتمال؛ ومع ذلك نحن نعلم أن هذا حدث بالفعل مرة من قبل. وبما أن الحياة استغرقت مليار سنة حتى تنشأ على الأرض، وأن كثيرًا من النجوم يبلغ عمرها ضعف عمر شمسنا، يبدو افتراض أن مثل هذه الأحداث تَحدُث في مكانٍ آخر لا يمكن دحضه. وفي الواقع، ربما تحتوي على كائنات أكثر تطورًا من الإنسان العاقل.
من أجل اختبار هذا الاحتمال، يبحث العلماء في الكون عن علامات دالة على وجود ذكاء خارج الأرض. ضُبطت محطة إذاعية في الغابة المطيرة في بورتوريكو، وأخرى في مركز جودرل بانك في بريطانيا. تفحص هاتان المحطتان معًا ٢٠ مليون تردد، وتَستمعان إلى أي شيء ربما يَصدر من مكان عميق في الفضاء. في الوقت نفسه تبحث معدات أخرى عن موجات ميكرونية وإشارات تُشبه الليزر ذات طول موجي منخفض.٣١ حتى الآن لم تَعثر على شيء. لكن في غضون قرن، مَن يدري؟ وإذا كانت ثمة أشكال أخرى للحياة في الخارج، فهل ستزورنا بحلول عام ٢١٠٠؟ بالطبع سيقول لك المؤمنون بالأجسام الطائرة الغريبة إن هذا بالضبط ما فعلته هذه الأشكال بالفعل. أما بقيتنا فيُدرك حقيقة أن أقرب كوكب اكتُشف حتى الآن (في كوكبة السرطان) يبعد ٤١ سنة ضوئية. فإذا كان يأوي كائنات وصلت للمعرفة التي تُمكِّنها من بناء مركبة فضاء تشبه الموجودة لدينا،٣٢ فكان لزامًا عليها الانطلاق عندما كان الإنسان المنتصب يسير عبر أوراسيا؛ لأنها ستَستغِرق أكثر من ٤٠٠ ألف سنة لتصل إلينا. أما سفينتنا الفضائية (غير المأهولة) بيونير ١٠، التي انطلقت منذ ٣٠ سنة، فإنها تتجه إلى كوكبة الثور. لقد تخطت حدود مجموعتنا الشمسية منذ ١٩ عامًا، لكنها ستَستغرق مليونَي سنة أخرى حتى تصل إلى وجهتها.

(٢) المليونية القادمة

دعونا إذن نَنظر إلى أبعد من عام ٢١٠٠، وإلى أبعد من الألف سنة القادمة، ونتدبَّر ما سيحدث بعد مليون عام.٣٣ وربما يكون السؤال الذي تريد الحصول على إجابة عنه الآن هو: هل من المحتمل أن يؤدي بحثنا الدءوب إلى حدوث كارثة ما تُنهي سعي الإنسان إلى الأبد؟ هل الإنسان الفضولي مصيره إلى الانقراض؟ ثمة سيناريوهات وُصِفت لحدوث خلل في أجهزة الكمبيوتر وتسبُّبها في أحداث كارثية، ولخروج كائنات معدَّلة جينيًّا عن السيطرة وقضائها على الجنس البشري، ولاستيلاء الروبوتات على العالم، ولم يَقتصر هذا على الذين يستخدمون الخيال العلمي. كما ذكرتُ سابقًا، أنا لا أشاركهم هذه المخاوف؛ فالإنسان هو أكثر الكائنات ذكاءً على الأرض؛ فقد استطاع التحكم في العواقب المحتمَلة لكارثة نووية باستخدام المنطق السليم، ونتائج الكوارث البيولوجية — تفشِّي فيروس العوز المناعي البشري، على سبيل المثال٣٤ — من خلال البحث العلمي والابتكار التكنولوجي والتحذيرات الصحية المتكررة؛ ومن ثم فإن استنتاجي بسيط؛ إذا ظهرت مخاطر جديدة غير متوقَّعة، لا يوجد كائن أفضل من الإنسان لمواجهتها. فقدرته على البحث عن حلول جديدة، وقدرته العقلية التي تمكنه من العثور عليها، ستضمن بقائه رغم كل الصعوبات.

ثمة تساؤل آخر يدور في أذهان كثيرين؛ هل يَحتمِل أن تظهر أنواع جديدة من البشر بمرور الزمن، بحيث تحلُّ في النهاية محل الإنسان الفضولي، مثلما كان هو (ربما) مسئولًا عن زوال إنسان نياندرتال؟ نوع جديد يَنحدر منا، أو من أقاربنا من الرئيسيات، الشمبانزي الشائع والبونوبو؟ من غير المحتمل حدوث كلا الأمرين؛ ففي الحالة الأولى، لا يتطور نوع جديد إلا في حالات انفصال مجموعتَين أو أكثر من أسلافه عن بعضهما. وهذا ما أعطى تشارلز داروين المِفتاح لأصل الأنواع؛ فقد توصل إلى استنتاج أن طيور البرقش الموجودة على جزر جالاباجوس المتعدِّدة كانت مختلفة لأنها فقدت القدرة على الطيران لمسافة طويلة؛ ومن ثم انفصلت عن أقرانها من النوع نفسه. وبالتدريج أصبح عددٌ من الأشكال المختلفة موزَّعًا على كل جزيرة. ومن بين هذه الأنواع، نما نوع واحد أكثر من الأنواع الأخرى؛ لأنه اتضح أن قدرته على البقاء أفضل، ربما كان السبب في ذلك تجنُّبه للمفترسات — تمتُّعه، على سبيل المثال، بلون ريش يضاهي تمامًا لون بيئته — أو قدرته الأكبر على العثور على الطعام أو التزاوج. ونظرًا لاختلاف الظروف قليلًا على كل جزيرة، يوجد اختلاف طفيف أيضًا في الأنواع التي نجحت في البقاء؛ فأصبحت أنواعًا متمايزة. استعمر الإنسان الكرة الأرضية بالكامل؛ لذلك لم تَعد توجد مجموعات متفرقة منعزلة. كما يحدث التزاوج بين كل الأفراد على نطاق واسع، بحيث يوجد احتمال ضئيل لبقاء تجميعة من الجينات مُنعزلة عن الجينات الأخرى لأي فترة من الزمن. بالطبع تتغير الجينات ببطء وباستمرار عبر الطفرات، وربما يَنتج عن طفرة معيَّنة مقاوَمة مُتزايدة لسلالة جديدة من الفيروسات القاتلة. وسيتمتَّع أحفاد الشخص المقاوم لهذه السلالة، الذين يرثون الجين، بميزة انتقائية مقارنةً بكل الأشخاص الآخرين. إلا أنه للأسباب المذكورة توًّا — قدرة الإنسان على التحرك وتزاوجه غير المقيد — لن تتطور هذه المجموعة من الأفراد لتُصبح نوعًا مميزًا. ومن حيث التطور من جنس مُنفصل مثل الشمبانزي، فالاحتمال أقل بكثير. فتتعرض القِرَدة الشائعة والبونوبو إلى خطر الانقراض بسبب الإنسان وتقليصه المستمر للمِنطقة التي تعيش فيها، فليس لديها نعمة التوسع. وفي الواقع تكون احتمالات تكرار ٥ ملايين سنة من التطور البشري في وادٍ ما في صدع شرق أفريقيا ضئيلة. وإذا فكرتَ في تقليد هذه العملية في قفص أو في حظيرة صناعية للعدد نفسه من السنين، فإن خيالك أكثر جموحًا من خيالي.

المكان الوحيد الذي يَحتمِل أن يَعثر فيه الإنسان على أرض خصبة مُنعزلة ربما يكون خارج حدود كوكب الأرض؛ على القمر أو المريخ،٣٥ أو على متن محطة فضائية في مدار حول الأرض. لكن حتى لو أمكن توفير كل العناصر المطلوبة — الأكسجين والماء والغذاء على سبيل المثال — على نحو مستديم يمكِّن مُجتمعًا من البقاء لأشهر وسنوات بل وملايين السنين، أفلا تعتقد أنه من المرجح أن يسيطر فضول الإنسان عليه قبل هذا بوقت طويل، ويَرغب الموجودون على الأرض في زيارة الموجودين في الفضاء والعكس؟ وبمجرد حدوث هذا، سيحدث اختراق للمجموعة المنعزلة. ومع ذلك، ربما ينطلق مجتمع مكتفٍ ذاتيًّا، مثل نسخة عصرية من سفينة نوح، خارج مجموعتنا الشمسية بالكامل، ويَبحث عن حياة على كوكب آخر في ركن مختلف من مجرَّتنا، أو في مجرة أبعد من ذلك. كما أشرتُ مسبقًا، إن أقرب نجم اتضح حتى الآن أن ثمة كوكب يدور حوله يَبعد أكثر من ٤٠ سنة ضوئية. لذا بالمعدل الحالي للسفر في الفضاء سيستغرق الوصول إليه نحو ٤٠٠ ألف سنة أو ٢٠ ألف جيل. حسنًا، أنت تقول إن هذا يمثل متسعًا من الوقت لنشأة الإنسان — الإنسان الفضائي — في الطريق. أجد نفسي عاجزًا عن دحض هذا؛ لأنه كلما زاد إمعان الاقتراح في المستقبل، زادت صعوبة العثور على حُجج تدحضه. لكن مرةً أخرى، ربما تكون كائنات لديها ذكاء أكبر ومعرفة تكنولوجية أكبر في طريقها إلينا بالفعل، بحثًا عن عالمنا الصغير. إن كان هذا هو الحال، فإن الوقت في صفهم؛ فأمامهم ٧ مليارات سنة أخرى قبل احتراق شمسنا ذاتيًّا واختفاء الضوء على الأرض. ومع ذلك، قبل حدوث هذا بوقت طويل سنكون قد هلكنا بالفعل. هذا لأنه قبل زوالها ستشتعل الشمس بأكثر من ١٠٠ ضعف حجمها وتَرفع حرارة كوكبنا لدرجة أن مياه المحيطات ستبدأ في الغليان، وفي ظل غياب الماء ودرجات الحرارة هذه، ستكون الحياة على الأرض مستحيلةً تمامًا مثل استحالتها حاليًّا على عطارد أو الزهرة. وبذلك سينتهي سعي الإنسان.

هوامش

(١) من غير المحتمل أن يزيد متوسط العمر المتوقع بأكثر من ١٠ سنوات أو ما شابه خلال القرن المقبل.
(٢) ثمة جدال حول ما إذا كان ذلك أدَّى إلى القضاء على الديناصورات.
(٣) منذ ٤ مليارات سنة ونصف كانت كويكبات ضخمة تصطدم بالأرض باستمرار. وفي الآونة الأخيرة حدثت هذه الاصطدامات الكبيرة مرتين أو ثلاث مرات على الأقل. وتنهال النيازك — أجسام أصغر حجمًا مكوَّنة أيضًا من الحجارة والمعادن — علينا بمعدَّل الثورات البركانية.
(٤) يُقال أيضًا إن ثمة جسيمات مُتناهية الصغر (المادة الغريبة)، في حجم حبوب اللقاح لكن الواحد منها يزن أكثر من طن، تتحرك في الفضاء بسرعة تساوي ٤٠ ضعف سرعة الصوت. يوجد اعتقاد بأنها تتكون من جسيمات دون ذَرية تُعرف باسم الكواركات. وتعني قوة اندفاعها الهائلة أن مسارها نادرًا ما يتأثَّر بالمادة الصلبة. ويعتقد العلماء أن اثنين من هذه الجسيمات ارتطم بالأرض في عام ١٩٩٣؛ إذ ضرب أحدها القطب الجنوبي وخرج بعد ٢٦ ثانية من قاع المحيط الهندي؛ وضرب الآخر المحيط الهادئ بالقرب من جزر بيتكيرن وخرج بعد ١٩ ثانية من القارة القطبية الجنوبية. انظر صحيفة ذا صنداي تليجراف في ١٢ مايو عام ٢٠٠٢. ومع ذلك، من غير المحتمَل أن تتسبب هذه الجسيمات الغريبة في أي ضرر يَزيد عما تحدثه رصاصة في حوض كبير مليء بالزُّبْد.
(٥) كان من المزمع انعقاد مؤتمر برعاية ناسا في واشنطن العاصمة في سبتمبر عام ٢٠٠٢ لمناقشة هذه الأمور (كما ورَد في صحيفة ذا صنداي تليجراف، في ٢٨ يوليو ٢٠٠٢). انظر أيضًا مقال ستيف ناديس «حماية الكواكب»، مجلة ساينتيفيك أمريكان، العدد ٢٨٧ (أكتوبر)، ص١٢، ٢٠٠٢.
(٦) الأرقام مأخوذة من المعهد الدولي لبحوث الأرز، لوس بانوس، الفلبين. انظر أيضًا مقال إدوارد ويلسون عن «عنق الزجاجة» (مقتبس من كتابه «مستقبل الحياة» المرجع السابق)، في مجلة ساينتيفيك أمريكان، العدد ٢٨٦ (فبراير)، الصفحات من ٧٠ حتى ٧٩، ٢٠٠٢.
(٧) منذ ٣٥٠ سنة توقع توماس هوبز بالفعل أنه «عندما يكتظُّ العالم كله بالسكان، فإن آخر علاج لهذا كله يكون الحرب …» المرجع السابق (الجزء الثاني، الفصل ثلاثين، ص٢٢٧).
(٨) سيُواصل العلماء التلاعب بالجينات، حتى إنهم ربما يحاولون إعادة بناء السلف المشترك للشمبانزي والإنسان، أو الأوسترالوبيثكوس مثل لوسي. انظر كتاب «السنوات الخمسين التالية»، وهو مجموعة من المقالات حرَّرها جون بروكمان، المرجع السابق.
(٩) تمتص سنويًّا النباتات الموجودة في العالم (الغابات في المقام الأول، والسافانا والمروج أيضًا)، نحو ٦٠ مليار طن من الكربون عبر عملية التمثيل الضوئي؛ وتصدر مقدارًا مقاربًا (ليس مساويًا) من الكربون، جزئيًّا من خلال تصنيع ثاني أكسيد الكربون في الليل (انظر الفصل الثالث)، وجزئيًّا من خلال التحلل الميكروبي للمادة المشتقة من النبات. ويجب مقارنة هذا الرقم بمقدار الكربون المنبعث من إحراق الإنسان للوقود الحفري؛ نحو ٦٫٥ مليار طن. انظر مقال جون جريس ومارك رايمنت «التنفس في خطر»، مجلة نيتشر، العدد ٤٠٤، الصفحات من ٨١٩ حتى ٨٢٠، ٢٠٠٠.
(١٠) تحتوي المحيطات إجمالًا على نحو ٣ × ١٠٢٨ بكتيريا، والتي تؤثر تأثيرًا كبيرًا على المُناخ من خلال دورتي الكربون والنيتروجين الخاصة بها؛ انظر مقال جون كوبلي «كله في البحر»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٥، ص٥٧٢، ٢٠٠٢. وينطبق هذا أيضًا على العوالق النباتية، انظر مقال بول جي فالكوفسكي «غابة المحيط الخفية»، مجلة ساينتيفيك أمريكان، العدد ٢٨٧ (أغسطس)، الصفحات من ٣٨ حتى ٤٥، ٢٠٠٢. إلا أنه من غير الواضح ما إذا كان التأثير الإجمالي للمحيطات على دورة الكربون العالمية يتمثَّل في كونها مصرفًا محضًا أم مصدرًا محضًا؛ انظر مقال بول إيه ديل جورجو وكارلوس إم دوارتي «التنفس في البحر المفتوح»، مجلة نيتشر، العدد ٤٢٠، الصفحات من ٣٧٩ حتى ٣٨٤، ٢٠٠٢.
(١١) تُقر اللجنة الدولية للتغيرات المُناخية بوضوح أن «معظم الاحترار العالمي المرصود على مدار السنوات الخمسين الماضية يُنسَب إلى أنشطة بشرية.» وتتوقع مجموعتان لديها أن درجات الحرارة بين عامي ٢٠٢٠ و٢٠٣٠ ستفوق بنحو درجة مئوية واحدة الزيادة التي حدثت بين عامي ١٩٩٠ و٢٠٠٠؛ انظر مقال فرانسيس دبليو تفيس، مجلة نيتشر، العدد ٤١٦، الصفحات من ٦٩٠ حتى ٦٩١، ٢٠٠٢. إلا أن الأسباب الطبيعية غير المتوقعة لا بد ألا تُستبعَد؛ فحرائق الغابات في إندونيسيا عام ١٩٩٧ وحدها تسببت في تضاعف الانبعاث العالمي لثاني أكسيد الكربون (انظر مقال ديفيد شيمل وديفيد بيكر «عامل الحرائق الهائلة»، مجلة نيتشر، العدد ٤٢٠، الصفحات من ٢٩ حتى ٣٠، ٢٠٠٢).
(١٢) على أيِّ حال، كما أشار الدكتور روبرت إي ديكنسون في اجتماع الجمعية الأمريكية لتطوير العلوم في بوسطن في ٧ فبراير عام ٢٠٠٢، في كلمة بعنوان «توقع تغير المُناخ»، يوجد مقدار كبير بالفعل من غاز الصوبة الزجاجية في الغِلاف الجوي، بحيث لا يمكن لأي شيء إيقاف ارتفاع درجة حرارة العالم على مدار القرن القادم، حتى إذا انخفض استخدام الوقود الحفري كثيرًا. انظر أيضًا مقال دانيال جروسمان، مجلة ساينتيفيك أمريكان، العدد ٢٨٥ (نوفمبر)، الصفحات من ٢٦ حتى ٢٧، ٢٠٠١.
(١٣) إلا أن دور تيار الخليج في إبقاء شمال أوروبا دافئًا يبدو حاليًّا غير مهم؛ إذ إن التيارات الجوية هي العامل الأكثر أهمية. انظر مقال ريتشارد إيه كير «نسبة فصول الشتاء المعتدلة في الأغلب للهواء الدافئ لا لتيار الخليج»، مجلة ساينس، العدد ٢٩٧، ص٢٢٠٢، ٢٠٠٢.
(١٤) منذ ٢٠٠ عام فقط كانت الملاريا السبب الرئيسي للوفاة بين الذين يعيشون في المستنقعات المالحة في جنوب إنجلترا.
(١٥) وفقًا لدراسة أجرتْها وحدة أبحاث المُناخ في جامعة شرق أنجليا (المملكة المتحدة)، ذكرها روبرت دوبسون وتوم روبينس في مقالهما «العواصف العاتية سترفع خطر حدوث فيضان»، ذا صنداي تايمز، ٢١ أكتوبر ٢٠٠١.
(١٦) علينا أن نزيد انبعاثات غاز الصوبة الزجاجية، هذا وفقًا لما يراه فريد هويل وشاندرا ويكراماسينج، «الفيزياء الفلكية»، مجلة سبيس ساينس، العدد ٢٧٥، الصفحات من ٣٦٧ حتى ٢٧٦، ٢٠٠١.
(١٧) لأنها تفتقر إلى وجود جزَيْء على سطح خلايا الدم البيضاء لديها، يعمل كمُستقبِل لفيروس العوز المناعي البشري. أما الغالبية العظمى من الناس فتملك هذا الجزَيْء وتُصاب خلايا الدم البيضاء لديهم بالمرض بمجرد دخول فيروس العوز المناعي البشري إلى أجسامهم.
(١٨) إن فيروس الإنفلونزا، التي يصاب بها مليار شخص سنويًّا، مثل فيروس العوز المناعي البشري، فيروس آر إن إيه وليس دي إن إيه؛ ومن ثم يتعرض لطفرات سريعة لأن الآر إن إيه ليس لديه آلية «تصحيح أخطاء» مثل الموجودة في الدي إن إيه.
(١٩) ويتمثل الجانب السلبي في فقدان المهارات التقليدية والأدوية العشبية.
(٢٠) مقتبسة من جون جامبل، المرجع السابق، الصفحات من ٩٩ حتى ١٠٠.
(٢١) مايكل أوه مارتن وآخرون: التقرير العلمي الدولي لسنة ١٩٩٩ التابع لتوجهات الدراسة العالمية للرياضيات والعلوم، مركز الدراسة العالمي في مدرسة لينش للتعليم، كلية بوسطن، ماساتشوستس، الولايات المتحدة الأمريكية (٢٠٠٠)، الصفحات ٣٢ وما يليها؛ وإينا في إس موليس وآخرون: تقرير الرياضيات الدولي لعام ١٩٩٩ التابع لتوجهات الدراسة العالمية للرياضيات والعلوم، مركز الدراسة العالمي في مدرسة لينش للتعليم، كلية بوسطن، ماساتشوستس، الولايات المتحدة الأمريكية (٢٠٠٠)، الصفحات ٣٢ وما يليها.
(٢٢) وإذا أردت تحضير الماجستير في طعام الرحلات الجوية، فإن جامعة سري في جيلدفورد هي الأفضل لك. وبفضل منحة سخية من الجمعية الدولية لتموين الطائرات، مُنح مؤخرًا منصب الأستاذية في هذا الموضوع تحديدًا.
(٢٣) كما الحال في الجامعات، يقع اللوم إلى حدٍّ كبير على مدرِّسي الفن في الكليات. استمع إلى ما يقوله الطلاب السابقون في إحدى المؤسسات النموذجية، كلية كامبرويل للفنون في لندن؛ اشتكى أحدهم من عدم عثوره على أي شخص يُعلمه القواعد الأساسية للفن. وعبَّر آخر عن انتقادٍ مشابه، فقال: «لم نمارس بأي شكل تقنية الرسم ولم نتعلم أي شيء فعليًّا عن تاريخ الفن. واتضح لي أنك إذا التحقت بالكلية وأنت تمارس الفن التشخيصي ورسم المناظر الطبيعية وتخرَّجت فيها وأنت تمارس الأمرَين نفسيهما، فإنك لن تُحرز أي تقدم. أما إذا تخرجتُ لأصنع مقاطع فيديو عن مؤخرتي، فإني بذلك أكون قد حققتُ تقدمًا ملحوظًا» (تقرير من صحيفة التايمز التي تصدر في لندن، ٨ يوليو ٢٠٠٢).
(٢٤) انظر الملحوظة ٤١ في الفصل الثالث.
(٢٥) جون جامبل، المرجع السابق.
(٢٦) ربما يحل غاز الهيدروجين محل البترول (الجازولين) كوقود للسيارات. انظر لورنس دي بيرنز وآخرين، «مركبة التغيير»، مجلة ساينتيفيك أمريكان، العدد ٢٨٧ (أكتوبر)، الصفحات من ٤٠ حتى ٤٩، ٢٠٠٢.
(٢٧) كان من المزمع اختراعها في سبعينيات القرن العشرين بوصفها سيارة فائقة الخفَّة، لكن هذا لم يحدث أبدًا، في الأغلب لأسباب اقتصادية.
(٢٨) مقال هنري جيه هارلو وآخرين «قوة العضلات لدى الدببة التي تدخل في سبات شتوي»، مجلة نيتشر، العدد ٤٠٩، ص٩٩٧، ٢٠٠١.
(٢٩) من المرجَّح إلغاء مهمة إرسال البشر إلى المريخ في غضون السنوات القليلة التالية؛ فيستطيع الروبوت إجراء معظم المهام بكفاءة جيدة، وبتكلفة أقل كثيرًا، ودون تعريض الحياة للخطر. انظر المقال الافتتاحي «هل ما زلنا بحاجة إلى رواد فضاء؟»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٩، ص٦٥٣، ٢٠٠٢.
(٣٠) انظر مقال توني رايكارد «صور الكواكب»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٥، الصفحات من ٥٧٠ حتى ٥٧١، ٢٠٠٢: ومقال جاك جيه ليساور «الكواكب خارج المجموعة الشمسية»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٩، الصفحات من ٣٥٥ حتى ٣٥٨، ٢٠٠٢.
(٣١) من برنامج «احتمال وجود حياة على كواكب أخرى»، برنامج يُذاع على تليفزيون المملكة المتحدة (القناة الرابعة)، ٥ فبراير ٢٠٠١.
(٣٢) بالسفر بسرعة ٧ × ١٠٤ أميال في الساعة على أحسن تقدير.
(٣٣) لا توجد كلمة لاتينية تعبر عن مليون (على عكس الصينيين، اعتبر الرومان الألف ألف مجرَّد مقدار «كبير للغاية»، واستخدموا عبارة «عشر مِائة ألف» للتعبير عن مليون). أما أنا فسمحتُ لنفسي بابتكار كلمة «مليونية» من المليون تمامًا مثل اشتقاق كلمة «ألفية» من الألف.
(٣٤) من المتوقَّع انخفاض نسبة الإصابة بالإيدز، على الأقل في الجزء الأخير من هذا القرن.
(٣٥) انظر آراء السير مارتن ريس، الفلكي الملكي، التي لخَّصها مقال آدام ناثان «الوجهة المريخ، الغرب الجامح الجديد»، صحيفة صنداي تايمز، ٨ سبتمبر ٢٠٠٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤