الفصل الثاني

الوحدة والتنوع في الكائنات الحية

(١) الأساس الجزيئي للحياة

تتألَّف الحياة كلها، وفي الواقع الكون بأكمله، من جزيئات؛ جزيئات الهيدروجين والهيليوم الموجودة في الشمس والنجوم الأخرى، وجزيئات الماء في الأنهار والمحيطات الموجودة على سطح كوكبنا، وجزيئات سيليكات الألومنيوم الموجودة في قشرته الخارجية، وجزيئات النيتروجين والأكسجين الموجودة في غِلافه الجوي، وجزيئات الحَمض النووي (الحَمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (دي إن إيه)، والحَمض النووي الريبوزي (آر إن إيه))، والبروتين والكربوهيدرات والدهون الموجودة داخل كل كائن حيٍّ يعيش على سطحه. تُسمى المجموعة الأخيرة من الجزيئات أحيانًا الجزيئات العضوية؛ تمييزًا لها عن الجزيئات غير الحية وغير العضوية التي تتكوَّن منها الصخور والرمال والبحار والهواء، ولا تزيد الجراثيم والنباتات والحيوانات عن كونها مجموعة من الجزيئات العضوية مع بعض الأملاح والماء.

تتَّسم الجزيئات بأنها متناهية الصِّغَر؛ فجزيئات مثل الماء أو الأكسجين أو ثاني أكسيد الكربون تقلُّ في حجمها بأكثر من مليار مرة عن حجم رأس الدبوس، والكربوهيدرات مثل الجلوكوز، والدهون مثل الكوليسترول أكبر منها بعشر مرات، والبروتينات والكربوهيدرات مثل النشاء أكبر منها بمِائة مرة، والدي إن إيه، الذي يُعتبَر أكبر جزَيْء في المادة الحية، أكبر منها بمليون مرة (لكن يظلُّ من المستحيل رؤيته إلا باستخدام مِجهر إلكتروني).

نظرًا لأن الكائنات الحية لا تتكوَّن إلا من الجزيئات، فمن البديهي وجود أعداد كبيرة للغاية منها في أي جرثومة أو نبات أو حيوان؛ نحو ألف مليون مليون مليون مليون (١٠٢٧) جزَيْء ماء، ومِائة ألف مليون مليون مليون (١٠٢٣) جزَيْء بروتين، وعشرة آلاف مليون مليون (١٠١٦) جزَيْء دي إن إيه لدى الإنسان البالغ. تُكوِّن هذه الجزيئات الأعضاء، مثل الكبد والكُلى والمخ؛ والأنسجة، مثل العضلات والدهون والعظام، التي تتكوَّن منها أجسامنا.

تنقسم الأعضاء (وبعض الأنسجة) إلى تكوينات أصغر حجمًا تُسمَّى الخلايا، يحيط بكلٍّ منها غشاء، يَتكوَّن بالطبع أيضًا من جزيئات، تتألف في الأساس من بروتينات ودهون مع بعض الكربوهيدرات. تتَّسم خلايا النباتات والحيوانات بأن لها الحجم نفسه (يبلغ قطرها تقريبًا واحدًا على مِائة من الملِّيمتر، فهي صغيرة للغاية بحيث تستحيل رؤيتها بالعين المجردة)، وهذا بصرف النظر عما إذا كانت جزءًا من زهرة أُقحوان أو من خُنفساء، أو من شجرة السيكويا العملاقة أو من فيل، أو من جنين عمره شهر واحد، أو من رجل عمره ٢٠ عامًا. والجراثيم كائنات أحادية الخلية، وتكون خلاياها حتى أصغر حجمًا؛ أقل من واحد على عشرة من حجم خلية النبات أو الحيوان. تستطيع مئات البكتيريا المسبِّبة للعدوى، مثل «المتفطرة الجذامية»، الحياة داخل خلية بشرية واحدة، ومع ذلك فإن الفيروسات أصغر حجمًا منها؛ فهي تنمو داخل البكتيريا وتستطيع عشرات الآلاف منها الحياة داخل خلية حيوانية واحدة قبل انطلاقها.

يعتمد عدد الخلايا الموجودة في الكائن الحي على حجمه؛ فالإنسان البالغ يحتوي جسمه على مِائة مليون مليون (١٠١٤) خلية. وتُظهر لنا عملية حسابية سريعة أن أيَّ خلية تحتوي على نحو عشرة ملايين مليون (١٠١٣) جزَيْء من الماء، ومِائة مليون (١٠٩) جزَيْء بروتين، ونحو مِائة (١٠٢) جزَيْء دي إن إيه.
هكذا، فإن الجزيئات أصغر وحدة تتكون منها كافة المواد، ويختلف بعضها عن بعض ليس في الحجم فقط، وإنما في التكوين أيضًا؛ فالماء، على سبيل المثال، يتكون من ذرتَي هيدروجين H تربطهما ذرة واحدة من الأكسجين O:H2O. أما جزَيْء الجلوكوز فيتكون من ست ذرات من الكربون C، و١٢ ذرة من الهيدروجين وست ذرات من الأكسجين: C6H12O6 (شكل ٢-١). لا توجد الذرات ككيانات منفصلة (باستثناء حالة درجات الحرارة المرتفعة للغاية)، فالجزيئات والتفاعلات القائمة بينها هي التي تشكِّل كيمياء الحياة. تَكُون هذه التفاعلات معقَّدة لأن بعض الجزيئات تكون معقَّدة. يظهر هذا جليًّا في البروتينات والدي إن إيه؛ فعلى عكس جزيئات الماء أو الجلوكوز، التي تكون واحدة أينما وُجدت، تختلف جزيئات البروتينات والدي إن إيه من كائن لآخر.
fig2
شكل ٢-١: تتمثَّل الجزيئات، التي تكون واحدة لدى كافة الكائنات، في: (أ) الماء، (ب) الجلوكوز، (ﺟ) الحَمض الأميني، (د) النيوكليوتيد. يُسمى الحَمض الأميني الواضح في الشكل الجلوتامات، وتَظهر الروابط التي تربطه بالأحماض الأمينية المجاورة داخل البروتين في شكل خطوط متقطعة. أما النيوكليوتيد الموضح في الشكل فيُسمَّى أدينين ديوكسي نيوكليوتيد: تمثِّل الحلقة العليا التي تحتوي في تكوينها على ذرات النيتروجين N جزء الأدينين، أما الحلقة السُّفلى فتُسمى ديوكسي ريبوز، وتُسمى مجموعة الذرات الموجودة على يسارها، التي تحتوي على ذرة فسفور، فوسفات. تحتوي كل الديوكسي نيوكليوتيدات (تُسمى أحيانًا نيوكليوتيدات للاختصار) على ديوكسي ريبوز وفوسفات؛ الحلقة التي تحتوي على النيتروجين هي التي تختلف بين أنواع النيوكليوتيدات الأربعة، التي يُشار إليها للتبسيط برموز A (الموضح في الشكل) وC وG وT. تظهر الروابط التي تصل نيوكليوتيد الأدينين بالنيوكليوتيدات المجاورة داخل جزَيْء الدي إن إيه في شكل خطوط متقطِّعة. كل النيوكليوتيدات سالبة الشحنة (ويظهر هذا من علامة السالب (−) الموجودة بجوار ذرة الأكسجين المتصلة بذرة الفسفور). تكون المجموعة الأمينية NH2 أحيانًا موجَبة الشحنة، وفي أحيان أخرى لا تكون كذلك، وهي تَظهر هنا في شكلٍ عديم الشحنة. تكون بعض الأحماض الأمينية مُوجَبة الشحنة، ويكون البعض الآخر منها غير مشحون (محايدًا)، في حين يكون بعضها، مثل الجلوتامات في الشكل (ﺟ)، سالب الشحنة.

(٢) البروتينات والدي إن إيه

تتألَّف البروتينات من مئات ذرات الهيدروجين والأكسجين والكربون والنيتروجين N وبعض الكبريت S، ترتبط كلُّها معًا في سلاسل طويلة، تتألف كلٌّ منها من سلسلة من وحدات أصغر حجمًا تُسمَّى الأحماض الأمينية (شكل ٢-١). تخيل سلسلة حلقية معدِنية تحتوي على مئات الحلقات؛ إذا كان البروتين في سلسلة، فإنَّ الأحماض الأمينية تمثِّل كل حلقة فيها. وتمامًا كما يُمكن ثني السلسلة الحلقية لتكوِّن تكوينات أصغر حجمًا، عن طريق وضعها في دلوٍ مثلًا، يُمكن ثني البروتين أيضًا على النحو نفسه في شكل ملفوف يتمثَّل في الخلايا (شكل ٢-٢). لا تكون الأحماض الأمينية التي يتكوَّن منها البروتين متشابهة؛ فيوجد ٢٠ نوعًا مختلفًا من الأحماض الأمينية، ويستطيع أيٌّ منها الارتباط بالآخر. يتفاوت طول السلسلة أيضًا؛ فبعض البروتينات تتكون من سلاسل قصيرة نسبيًّا، بينما تتكون بروتينات أخرى من سلاسل أطول. يعتبر الأنسولين مثالًا على النوع الأول، والهيموجلوبين مثالًا على النوع الثاني؛ لذلك عندما يُوصف جزَيْء بأنه بروتين، فإن هذا يحدِّد تكوينه؛ فيتكون من كثير من الأحماض الأمينية المرتبطة معًا في سلسلة. يختلف التكوين الدقيق من بروتين لآخر،١ ولأن تكوين الجزَيْء يحدِّد وظيفته، فإن البروتينات يُمكنها أداء أنشطة متنوعة للغاية؛ فالبروتينات في الواقع هي وسطاء الطبيعة.
fig3
شكل ٢-٢: جزيئات مختلفة اختلافًا يسيرًا لدى الكائنات كافة. يُظهر الشكل نوعين من البروتينات: (أ) الأنسولين البشري. و(ب) الهيموجلوبين البشري. تعبِّر الخطوط عن الروابط بين الذرات كما في شكل ٢-١، بدرجة تكبير أقل (الذرات الفعلية حُذفت). هذه الأشكال نماذج ثلاثية الأبعاد قائمة على تصوير البلورات بالأشعة السينية. يبدو الهيموجلوبين مُتناسقًا لأنه يتكون فعليًّا من أربع سلاسل منفصلة من الأحماض الأمينية؛ سلسلتَي ألفا وسلسلتَي بيتا. أُعيدت طباعة هاتين الصورتين من قاعدة بيانات سويس بروت (الأنسولين: http://ca.expasy.org/cgi-bin/niceprot.pl?1308) و(الهيموجلوبين: http://ca.expasy.org/contact.html) من بنك بيانات البروتين. انظر إتش إم بيرمان وآخرين، «بنك بيانات البروتين»، مجلة نيوكليك أسيدس ريسيرش العدد ٢٨: ٢٣٥–٢٤٢، ٢٠٠٠.

يحتوي جسم الإنسان على أكثر من ١٠٠ ألف نوع مختلف من البروتينات، كلٌّ منها له وظيفته المحدَّدة؛ فيساعد الأنسولين على امتصاص السكر من مجرى الدم في العضلات والكبد، ويحمل الهيموجلوبين الأكسجين عبر مجرى الدم، ويشكِّل الأكتين والميوسين الشُّعيرات القابضة والباسطة للعضلة، وتحفِّز بروتينات أخرى عملية التمثيل الغذائي؛ فتساعد في تفكيك الطعام الذي نَتناوله؛ ومن ثم تُمكِّننا من استخدام الطاقة الناتجة في ضخِّ الدم في جميع أنحاء الجسم، وفي الركض والقفز والقتال، في حين تكون بروتينات أخرى مسئولة عن جعْل أعيُننا زرقاء أو داكنة، وشعرنا أشقر أو أسود، مُجعَّدًا أو أملس، وقامتنا كبيرة أو صغيرة، وأفكارنا حزينة أو سعيدة، وقدرتنا العقلية يقظة أو بطيئة الاستيعاب؛ فكل صفة لدينا تُحددها البروتينات. كيف تنتقل إذن هذه الصفات من جيل لآخر، كما يحدث بوضوح لكثير منها؟ لا تكون البروتينات نفسها المسئولة عن هذا، وإنما الجُزيء الذي يمثِّل مخطَّطًا تمهيديًّا لكل بروتين في أجسامنا، ذلك الجزَيْء الذي يُسمَّى الدي إن إيه.

يتكون الدي إن إيه من ذرات الهيدروجين والأكسجين والكربون والنيتروجين والفوسفور P، والتي ترتبط معًا في سلسلة أطول من البروتينات. مرةً أخرى، تتكون هذه السلسلة من وحدات أصغر، تُسمى في هذه الحالة النيوكليوتيدات (شكل ٢-١)، ويتكوَّن الحَمض النووي من أربعة أنواع فقط من النيوكليوتيدات: نيوكليوتيد الأدينين (يُسمى A اختصارًا)، ونيوكليوتيد السيتوسين C، ونيوكليوتيد الجوانين G، ونيوكليوتيد الثيامين T. إن مدى ما تصل إليه سلسلة الدي إن إيه مذهل للغاية؛ فقد يصل طول جزَيْء الدي إن إيه البشري، عند بسطه، إلى نحو المترين، ومع ذلك فهو موجود داخل خلية يَبلغ اتساعها ١٠ ميكرومترات. ونظرًا لكون الميكرومتر يساوي واحدًا على مليون من المتر، فإنَّ هذا يعني تصغيرًا للحجم بنحو ٥٠٠ ألف ضعف. وحتى يتحقق هذا يلتف الدي إن إيه داخل الخلية حول نفسه مرارًا وتكرارًا عدة مرات، ليس هذا فحسب وإنما في أثناء انقسام الخلية يُخزَّن الدي إن إيه داخل الكروموسومات، الأصغر حجمًا؛ مقارنةً بوضعه المضغوط للغاية داخل الكروموسومات، بينما «يُفكُّ» الدي إن إيه نسبيًّا في أثناء الطور البَيني (الفترة بين الانقسامات المتعاقبة للخلية). يمثل كل جزَيْء من الدي إن إيه في الواقع دائرة مغلقة، تمامًا مثل العِقْد المكوَّن من خرزات صغيرة.
حتى نوضح الطول الهائل للدي إن إيه، تخيَّل أن يكون العِقد أرفع من شعر الإنسان بمِائة مرة (سلسلة الدي إن إيه أرفع من هذا في الحقيقة)؛ لكنه يعادل في الطول مضمارَ سباق دائريًّا يَبلغ طوله ميلًا. يكون الكروموسوم في حجم رأس الدبوس، وكل خرزة في العقد — النيوكليوتيدات المنفصلة — حجمها واحد على ألف من حجم رأس الدبوس. توجد أربعة ألوان فقط لهذا الخرز؛ الكهرماني للأدينين A، والكريمي للسيتوسين C، والأخضر للجوانين G، والفيروزي للثيامين T. في الواقع يتكون العقد (الدي إن إيه) من شريطين ملتفين أحدهما حول الآخر، بحيث تكون كل خرزة كهرمانية A أو فيروزية T على أحد الشريطين مقابلة لخرزة فيروزية T أو كهرمانية A على الشريط الآخر، وكل خرزة خضراء G أو كريمية C على أحد الشريطين تقابلها خزرة كريمية C أو خضراء G على الشريط الآخر. لا يسعُني تصوير عِقد بهذا الشكل؛ لأنَّ هذا الكتاب لا يحتوي على صور ملونة، ولكني متأكِّد من أن أي قارئ محب للسعي والتحدي ويستطيع إعداد صورة لمثل هذا العِقد، سيجد أن ناشري النصوص الكيميائية الحيوية والأقراص المدمجة سيتَهافتون عليه لشراء ابتكاره.
ربما نتعجب من طريقة اصطفاف شريطَي الدي إن إيه بمثل هذه الدقة أحدهما أمام الآخر. يرجع هذا لكونهما متكاملَين؛ فيجذب كلٌّ منهما الشريط الآخر. يُمكن تشبيه الوضع بانجذاب قضيبين من المِغناطيس أحدهما إلى الآخر؛ فالقطب الشمالي في أحد القضيبين يَنجذِب للقطب الجنوبي في الآخر، والقطب الجنوبي في القضيب الأول ينجذب للقطب الشمالي في الثاني. يكون الانجذاب بين هذين القضيبَين مِغناطيسيًّا، أما الانجذاب بين شريطي الدي إن إيه فهو كيميائي، ويتطلب وجود قوة ضعيفة نسبيًّا تُعرف باسم الرابطة الهيدروجينية.٢ لا يُمكن للحياة أن تبدأ على كوكبنا إلا عندما تَنخفض درجة الحرارة بالقدر الكافي الذي يحافظ على سلامة الروابط الهيدروجينية التي تربط أجزاء الدي إن إيه معًا.

يحدِّد التسلسل الذي تُرتَّب فيه نيوكليوتيدات الأدينين والسيتوسين والجوانين والثيامين على طول جزء من شريط الدي إن إيه، التسلسل الذي تَرتبط به الأنواع العشرين المختلفة من الأحماض الأمينية للبروتين معًا. ربما تتساءل كيف يُمكن لأربعة كيانات مختلفة أن تحدِّد ٢٠ نوعًا آخر؛ فيجب على الأقل وجود ٢٠ نيوكليوتيدًا مختلفًا في الدي إن إيه من أجل تحديد ٢٠ نوعًا مختلفًا من الأحماض الأمينية؟ إجابة هذا السؤال هي أن كل حمض أميني لا يتحدَّد بفعل نيوكليوتيد واحد، وإنما بمجموعة تتكون من ثلاثة نيوكليوتيدات؛ فتكون الشفرة التي تحدَّد بها نيوكليوتيدات الدي إن إيه أحماض البروتين الأمينية شفرة ثلاثية. يُمكن لأي من النيوكليوتيدات الأربعة شغل ثلاثة أماكن في هذه الشفرة الثلاثية؛ ومن ثم يوجد ٤ × ٤ × ٤ = ٦٤ احتمالًا مختلفًا، أكثر مما يَكفي لعشرين حمضًا أمينيًّا. تحدِّد بعض الشفرات الثلاثية إشارات إضافية، مثل «ابدأ» و«توقف»؛ وهي علامات الترقيم في الدي إن إيه التي تُخبر آلية الخلية أين يبدأ البروتين وأين ينتهي؛ ومن ثم فإنَّ الشفرة «أدينين، ثيامين، جوانين»، على سبيل المثال، تشير إلى «بداية بروتين جديد»، بينما الشفرة «جوانين، أدينين، جوانين» تُشير إلى حمض الجلوتامات الأميني، والشفرة «جوانين، ثيامين، جوانين» تشير إلى حمض الفالين الأميني، بينما الشفرة «ثيامين، جوانين، أدينين» تشير إلى «نهاية البروتين»، وهكذا.

(٣) الوراثة

ربما تُبهر الجُزيئات عالِم الكيمياء الحيوية أو المُتخصص في علم الصيدلة العصبية طوال حياته، لكنها تكون صعبةً بعض الشيء على المسافر الذي اشترى هذا الكتاب في المطار (خاصةً إذا كان لديه انطباع أن عنوان الكتاب هو شكل مبتكَر من عناوين وكالات المواعدة)، ومع ذلك، فإنَّ القارئ الذي ما زال يقظًا حتى الآن قد يلاحظ وجود تناقض، فكيف يستطيع جزَيْء من الدي إن إيه تحديد شفرة بروتين معيَّن بينما لا يوجد إلا نحو ١٠٠ جزَيْء للدي إن إيه داخل الخلية، في حين يوجد أكثر من ١٠٠ ألف، وربما ٣٠٠ ألف، بروتين مختلف للاختيار من بينها داخل الخلية الواحدة؟ والإجابة عن هذا السؤال هي أنَّ جزَيْء الدي إن إيه الواحد لا يحدد شفرة بروتين واحد، وإنما عدة آلاف من البروتينات المختلفة. فيحدِّد جزءٌ من الدي إن إيه شفرةَ أحد البروتينات، ويحدِّد الجزء التالي شفرة بروتين آخر، وهكذا؛ فجُزيء الدي إن إيه أطول بمليون مرة من البروتين.٣
يُسمى جزء الدي إن إيه الذي يحدِّد شفرة بروتين واحد بالجين؛ ومن ثم يوجد أكثر ألف جين، مجاورة لبعضها على امتداد كل جزَيْء من الدي إن إيه.٤ يُسمى جزَيْء الدي إن إيه أيضًا كروموسوم، ويوجد ٢٣ كروموسومًا مختلفًا، تضم أشرطة دي إن إيه ذات أطوال مختلفة، في كل خلية بشرية. في الواقع إنَّ العدد الإجمالي للكروموسومات هو ٤٦، نظرًا لوجود كل كروموسوم في شكل زوج (شكل ٢-٣). عندما تكون الخلية على وشك الانقسام، يتضاعَف عدد جزيئات الدي إن إيه، أو بعبارة أخرى عدد الكروموسومات، ليَصل إلى ٩٢؛ بحيث تُصبح كل خلية وليدةٍ، بعد انقسام الخلية إلى نصفين، تحتوي مرةً أخرى على ٤٦ كروموسومًا (٢٣ زوجًا)؛ ومِن ثمَّ يُصبح عدد اﻟ ١٠٠ جزَيْء دي إن إيه التقريبي داخل الخلية، الذي اقترحناه في بداية هذا الفصل، غير بعيد عن الصواب. لماذا توجد الكروموسومات في شكل أزواج؟ الإجابة على هذا السؤال بسيطة؛ فالإنسان يرث مجموعة تتكون من ٢٣ كروموسومًا من والدته، ومجموعة أخرى تتكون من ٢٣ كروموسومًا من والده.
fig4
شكل ٢-٣: الكروموسومات. يعرض الشكل أزواج الكروموسومات في خلية بشرية لذكَر في الطور الوسيط (قبل انقسام الخلية مباشرةً). صُبغت الكروموسومات بصبغة مشعَّة ورُتِّبت بحسب حجمها. أُعيدت طباعة الصورة من كتاب «الكروموسومات البشرية: مبادئ وتقنيات» لرام إس فايرما وأرفيند بابو، الطبعة الثانية، ماكجرو هيل، نيويورك، ١٩٨٥، بإذن من شركات ماكجرو هيل.
يَرجع سبب الالتباس الذي يحدث في أسماء مثل «الجين» و«الكروموسوم» إلى حقيقة أن ابتكار هذه الأسماء حدَث قبل سنوات من معرفة تكوينها الكيميائي (الدي إن إيه)؛ فكلمة «جين» تشير إلى وحدة وظيفية للوراثة (من الكلمة الإغريقية واللاتينية بمعنى «ولادة»)، أما كلمة «كروموسوم» (الكلمة الإغريقية بمعنى «الجسم الملون») فتُشير إلى تكوين يُرى باستخدام المِجهر الضوئي داخل الخلايا المصبوغة بصبغة معينة قبل تهيؤها للانقسام مباشرةً. يعود الفضل في ظهور مفهوم الجين إلى جريجور مندل، راهب من مورافيا، الذين عمل في صمت على تهجين سلالات مختلفة من البازلاء في حديقة أحد الأديرة في مدينة برون (التي تُعرف حاليًّا باسم برنو في جمهورية التشيك) منذ ١٠٠ عام. لقد أجرى أول تجربة علمية على عملية التهجين، التي مارسها الإنسان منذ ١٠ آلاف سنة، فلم يكن يبحث عن شيء عدا الآلية التي تَنتقل بها صفات معيَّنة من جيلٍ إلى آخر، وقد اكتشف أن صفات نبتة البازلاء، مثل الطول أو القصر، ووجود لون أو غيابه في الزهور، وتجعُّد البذور أو ظهورها بمظهر أملس، تُورَث منفصلةً عن بعضها، بطريقة يُمكن توقُّعها. واستنتج من هذا أن الصفات تنتقل كعناصر منفصلة، وأطلق عليها الجينات. وبفخر شديد يَعترف النمساويون (أو التشيكيون) أن جريجور مندل أحد أكبر علمائهم حتى وقتنا الحالي. لقد اكتُشفت مشاركة الكروموسومات في توريث صفات معيَّنة منذ وقت اكتشاف الجينات تقريبًا، لكن لم تُكتشَف الطبيعة الكيميائية للكروموسومات إلا في وقت لاحق، في خلال السنوات الخمسين الأخيرة، وتحدَّد أن الجينات المكوِّنة لها هي ببساطة شريط طويل من الدي إن إيه.٥
بعد ذلك، في عام ١٩٥٠، ظهر اتفاق عام على أن تكوين المادة الوراثية — الكروموسومات والجينات المكوِّنة لها — هو عبارة عن كيان كيميائي واحد يُسمى الدي إن إيه. اكتُشفت طريقة عمل الدي إن إيه مصادفةً، نتيجة للتعرُّف على تكوينه؛ ففي كامبريدج ابتكر ويليام براج وابنه لورنس تقنية تصوير البلورات بالأشعَّة السينية من أجل تحديد تركيب البلورات. وقد استطاعا توضيح تكوين المِلح NaCl، الذي يُعتبر أحد أبسط المواد الكيميائية في الطبيعة. هل يُمكن تطبيق التقنية نفسها على الدي إن إيه، أكثر الجزيئات تعقيدًا على وجه الأرض، الذي لا يُعتبر حتى بلورة فعليًّا؟ تشجَّع عالم شاب في كامبريدج، يُدعى فرانسيس كريك، لمحاولة ذلك، وراودت الفكرة نفسها زميلًا باحثًا شابًّا يُجري أبحاث ما بعد الدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية يُدعى جيمس واطسون، كان يعمل في القسم نفسه في هذا الوقت، وبدا تحديد تكوين الدي إن إيه مشروعًا مناسبًا لتعاونهما المشترك، وإن كان يَنطوي على تحدٍّ كبير. في الواقع لم يكن كريك قد حصل بعدُ على درجة الدكتوراه؛ لأن دراساته توقفت بسبب الحرب، ففي الواقع كان من المفترض أن يعمل على أطروحته عن تركيب الهيموجلوبين تحت إشراف ماكس بيروتس، في حين عُرض على واطسون مكانٌ في المختبَر نفسه لينضم إلى جون كندرو في دراساته للميوجلوبين. يُخبرنا هذا الكثير عن سماحة بيروتس وكندرو، وعن المُناخ الخالي من التوتُّر الذي كانا يعملان فيه — في مختبر كافندش، أشهر قسم للفيزياء في بريطانيا — الذي سمح لواطسون وكريك بإشباع حماسهما للدي إن إيه، بدلًا من تكريس طاقتهما لدراسة تركيب البروتينات. إلا أنَّ أهمية الدي إن إيه بوصفه المادة الوراثية المحتمَلة كان مُعترفًا بها بالفعل، ويُقال إن لينوس باولنج في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أظهر أن أساس كثير من البروتينات يكون في شكل لولبِ ألفا، كان على وشك التوصُّل إلى تركيب الدي إن إيه (كان يعتقد أنه ذو تركيب لولبي ثلاثي). بالتأكيد لم يكن كندرو وبيروتس ورئيس القسم، الذي أصبح في هذا الوقت السير لورنس براج، ضد احتمال توصُّل هذا الثنائي الشاب الذي تظهر عليه علامات الذكاء لهذا الاكتشاف ونِسْبته لإنجلترا.
أصبحت بقية القصة معروفة تمامًا مثل صيحة أرشميدس الشهيرة «وجدتُها!» وهو يقفز خارجًا من حوض الاستحمام؛ إذ قصَّها جيمس واطسون على نحوٍ رائع في كتابه «اللولب المزدوج». ورغم عدم وجود دليلٍ فعليٍّ على ركض أرشميدس عاريًا في شوارع سَرَقوسة، فإن التفاصيل المذكورة في كتاب «اللولب المزدوج» جميعها حقيقية على وجه الدقة. إذن هل استطاع واطسون وكريك بلوَرة الدي إن إيه؟ لا، لم يحاولا حتى فِعل هذا. بدلًا من ذلك، فقد بحثا عن صور أشعة سينية أعدَّها آخرون خاصة بالدي إن إيه البِلَّوري الزائف، بحيث يُمكنهم شرح تركيبه. وقد عثرا على هذه الصور على مسافة ساعة ونصف، في كلية كينجز في لندن؛ إذ تمكَّن ثنائيٌّ بحثيٌّ شابٌّ آخر؛ روزاليند فرانكلين وموريس ويلكنز، من الحصول على صور يمكن أن تكفي لمحاولة شرح تركيبه. اتضح أنها كذلك بالفعل، ونشر واطسون وكريك النتائج في عام ١٩٥٣. وقد وصف مقالهما الدي إن إيه بأنه تركيب لولبي زوجي، يبقى وحدة واحدة بفعل الروابط الموجودة بين الأدينين والثيامين، وبين السيتوسين والجوانين.٦ في نهاية مقالهما توجد ملحوظة عابرة: «لم يَغِب عنا أن التزاوج المحدَّد الذي افترضناه يشير على الفور إلى احتمال وجود آلية لنسخ المادة الوراثية.» ظهرت على الفور أهمية هذه الجملة، وحظيَ واطسون وكريك، مع موريس ويلكنز، بالتكريم في كل اجتماع علمي. أما روزاليند فرانكلين، الشخص الوحيد الذي تعامل فعليًّا مع الدي إن إيه، والتي فصلت المادة التي عُرف منها تركيبه، فلاقت تجاهلًا شديدًا، وعندما حصل كريك وواطسون وويلكنز (لكن ليس تشارجاف) على جائزة نوبل في عام ١٩٦٢، كانت قد سقطت فريسة لمرض السرطان، وكانت في السابعة والثلاثين من عمرها.

يُمكن أن يُشبه الطفل والديه في صفات وطباع معيَّنة، لكنه لا يكون نسخة طبق الأصل من أيٍّ منهما. تكون آلية عملية الوراثة في الواقع نفسها لدى الكائنات كافة — في النباتات والجراثيم والحيوانات أيضًا — لذا يُمكننا استمرار استخدام البشر في شرح هذه العملية. لماذا إذن لا تكون الطفلة نسخةً من والدتها، والطفل نسخةً من والده؟ هذا لأن الكروموسومات — المخزون الكامل من الجينات، الذي يُشار إليه أحيانًا بالجينوم — التي تُورَّث من كلٍّ من الوالدَين لا تكون متطابقة طوال الوقت؛ فكل مجموعة من الجينات تتوافق مع جزء من كل زوج من الكروموسومات؛ أحدها من الأم والآخر من الأب، ويحدِّد زوج من الجينات شفرة زوج من البروتينات له الوظيفة نفسها. تكون بعض أزواج الجينات متطابقة؛ ونتيجة لهذا تكون أزواج البروتينات التي تحدِّد شفرتها متطابقة أيضًا. ومثالٌ على هذا الجينُ الخاصُّ ببروتين الأنسولين؛ فيكون مُتشابهًا في كروموسوم الأم والأب؛ ولهذا لا يُصنَع إلا نوع واحد من الأنسولين. تكون أزواج أخرى من الجينات غير متطابقة، وإنما تكون بالكاد متشابهة؛ ومن ثم تحدد شفرة بروتينات يوجد بينها اختلاف طفيف؛ فبينما يؤدي كلا البروتينين الوظيفة نفسها، قد يؤدِّيها أحدهما بشكل أفضل أو أسوأ من الآخر؛ ونتيجة لهذا يكون تعبير هذا الزوج من الجينات خليطًا من نشاطَين. سنُعطي مثالًا على هذا بعد قليل. لكن أولًا، لا بد أن نُركِّز على ما يسبق اختلاط كروموسومات الأم والأب في أثناء عملية تخصيب الحيوان المنوي للبويضة.

حتى تحتوي كل خلية لدى الجنين الآخذ في التكوُّن على العدد المطلوب من الكروموسومات — مجموعتين من ٢٣ كروموسومًا — يجب أن ينقسم العدد الموجود في كل بويضة أو حيوان منوي إلى النِّصف؛ بحيث يحتوي كلٌّ منهما على مجموعة فردية، وليست زوجية، من الكروموسومات. يحدث انقسام أزواج الكروموسومات هذا في أنسجة الخلايا الجنسية؛ البويضات لدى النساء، والخُصيتين لدى الذكور. في أثناء هذه العملية تحتوي الخلايا، التي ستنضج لتُصبح بويضات أو حيوانات منوية، على مزيج من ٢٣ كروموسومًا. بعض الكروموسومات الموجودة في الخلية الجنسية يَرثها الفرد من والده، والبعض الآخر يرثه من والدته.٧ وحتى يتضح لك الأمر ما عليك إلا النظر في التجمُّعات العائلية؛ «جيمس لديه عينا والدته، لكنه طويل مثل والده.» «حقًّا، لكن انظر إلى أنفه، فهو نسخة طبق الأصل من أنف جدِّه فريدريك.» «صحيح، لكنه يُشبه أكثر جده ليونارد في أسلوب تفكيره.» إذن فالجينات لا تتغير في حد ذاتها من جيل لآخر، كما اكتشف مندل، وإنما تُحفظ داخل تجمُّعات عائلية. وعند تطبيق هذا بتوسُّع على تجمُّع كامل من السكان، فإننا نجد إجمالًا أن مجموعة الجينات تظل إلى حدٍّ ما كما هي على مدار مئات وآلاف الأعوام.

(٤) ظهور تنويعات الجينات

تفسِّر الآلية التي شرحتُها للتوِّ عملية الخلط بين الجينات في كل جيل. لكن كيف تظهر تنويعات الجينات المختلفة في المقام الأول؟ تتغيَّر الجزيئات الموجودة داخل الكائن — البروتينات والدي إن إيه والليبيدات وغيرها — باستمرار بسبب تفاعلها مع الجزيئات الموجودة في البيئة؛ الطعام الذي نتناوله، والهواء الذي نتنفسه، والجزيئات التي تُكونها أشعة الشمس والإشعاعات الأخرى التي تسقط على جلدنا. فالحياة هي عملية تفاعل مستمر بين الجزيئات التي نرثُها وتلك التي نكتسبها. تكون بعض الجزيئات من النوع الأخير من نوع يُعرَف باسم «الجذور الحرة»، التي تميل إلى أكسدة الجزيئات التي تحتكُّ بها. وإذا دُمر جزَيْء من البروتين (أو الليبيد) على هذا النحو، فلا مشكلة في ذلك؛ إذ يوجد نحو ١٠ آلاف نسخة من أي بروتين داخل الخلية الواحدة، ويكفي ٩٩٩٩ جزيئًا لم يتأثَّر للحفاظ على وظائف هذه الخلية. وحتى إن تأثَّرت جميع الجزيئات التي تُقدر بنحو ١٠ آلاف جزَيْء داخل الخلية، فإن العواقب قد تظلُّ غير خطيرة؛ نظرًا لوجود مليارات (١٠١٢) الخلايا داخل أي عضو، مثل الكبد.
لكن عندما تَعتمد الوظيفة على مجموعات من الخلايا أصغر من ذلك بكثير، كما في مسارات حسية معيَّنة في المخ أو في عضلات «تنظيم ضربات القلب» في القلب، فإن التدهور الوظيفي يصبح واضحًا (فنادرًا ما تتحسَّن وظيفة البروتينات). يكون هذا أساسًا لبعض الأمراض المعينة، وجزءًا من عملية الشيخوخة. ورغم العدد الكبير الذي يَتلف من البروتينات في أجسامنا، فإننا لا ننقل هذا الخلل لذريتنا؛ ليس فقط بسبب حدوث عملية الإنجاب قبل حدوث تلف واضح، وإنما بسبب وجود عدد قليل للغاية من البروتينات التي ذكرناها للتوِّ داخل الحيوان المنوي أو البويضة. على أيِّ حال، فإن البروتينات لا تُستنسخ ذاتيًّا؛ ومن ثمِّ فإن جزَيْء البروتين المصاب الموجود في جسم الجنين سرعان ما يَضعُف تأثيره بسبب ملايين جزيئات البروتين الجديدة التي تُصنَّع.٨

أما الدي إن إيه، من ناحية أخرى، فيُستنسخ مع كل انقسام للخلية، سواء في جسم إنسان بالغ أو في البويضة المخصَّبة؛ ومن ثم فإن أي تلف يصيب الدي إن إيه فإنه يستمرُّ. وربما تؤدي طبيعة التلف إلى تحول في أحد النيوكليوتيدات؛ فعلى سبيل المثال، قد يتحوَّل السيتوسين إلى ثيامين. يُسمى هذا التغيير الطفرة. وإذا حدَث داخل مِنطقة من الدي إن إيه تحدد شفرة أحد البروتينات؛ بعبارة أخرى داخل أحد الجينات، فإنه يؤدِّي إلى إنتاج ملايين الجزيئات المعدَّلة من البروتين في ملايين الخلايا. يُمكن ألا يتأثر عمل البروتين المُعدل، أو ربما يقلُّ، لكنه نادرًا ما يتحسن، وبناءً على المكان المحدد للنيوكليوتيد الطافر قد لا يَجري تصنيع أي بروتين على الإطلاق، كما يحدث مثلًا عند إصدار الأمر «توقف» في بداية تسلسل البروتين.

يَحتوي جسم الفرد الذي تحدث لديه مثل هذه الطفرة على نسختَين من هذا البروتين؛ النسخة الأصلية غير المُعدَّلة، والنسخة المُعدلة. إذا حدثت الطفرة داخل خلية لا توجد في نسيج الخلايا الجنسية، فإن الأمر ينتهي عند وفاة الفرد، ولا يَجري توريث الطفرة.٩ أما إذا حدثت الطفرة داخل الحيوان المنوي أو البويضة، فيوجد احتمال ٥٠٪ لانتقال الجين المُعدَّل إلى الجيل التالي. وربما يتفاوت وضع الذين يرثون النسخة المُعدلة، بالإضافة إلى نسخة غير مُعدلة من الوالد الآخر، من حيث وظيفة هذا البروتين على وجه الخصوص، بين عدم التأثر على الإطلاق، أو ربما تسوء حالتهم قليلًا، أو تتحسن قليلًا.
إن مُصطلحَي «تسوء» و«تتحسَّن» مصطلحان نسبيان؛ فالنسخة «الأسوأ» من أحد البروتينات ربما تكون في الواقع مفيدةً في ظروف معيَّنة؛ فعلى سبيل المثال، امتلاك شكل مختلف من الهيموجلوبين يُدعى الهيموجلوبين «المنجلي»١٠ يُعطي ميزة للذين يعيشون في بيئة موبوءة بالملاريا؛ إذ إن الجرثومة الطفيلية «المتصوَّرة المنجلية»، التي تدخل إلى مجرى دم الإنسان الذي يتعرض للدغة بعوضة تحمل هذه الجرثومة، تقلُّ نسبة بقائها على قيد الحياة في خلايا الدم الحمراء التي تحتوي على ٥٠٪ هيموجلوبين منجلي و٥٠٪ هيموجلوبين عادي. ربما يتعرَّض مثل هذا الإنسان لمشكلات وعائية بسيطة؛ لأن الهيموجلوبين المنجلي يتسبَّب في تشوه خلايا الدم الحمراء؛ إذ تُصبح منجلية الشكل؛ ومن ثم تمرُّ بصعوبة أكبر عبر الشعيرات الدموية، لكنه يكون أقل عُرضة للوفاة بسبب الملاريا. لكن عندما يُصبح الهيموجلوبين في جسم الإنسان من النوع المنجلي بنسبة ١٠٠٪، فإن المشكلات الوعائية تفوق أيَّ مميِّزات لها علاقة بمُقاومة الملاريا. إذن تُصبح الجينات المتغيِّرة متركِّزة لدى السكان في مناطق جغرافية معينة. ومع تغيُّر البيئة على مدى آلاف السنين، يُمكن لمثل هذه الطفرات الاختفاء تدريجيًّا، أو أن تُصبح مركزة، لدى مجموعة معيَّنة. هذه هي الآلية التي تصبح بها النسخ المختلفة من أحد البروتينات مرتبطةً بمجموعات عِرقية مُختلفة؛ ويُعتبر لون الجلد أوضح مثال على هذا؛ ببساطة لأنَّ الاختلافات الأيضية، مثل امتلاك هيموجلوبين منجلي، لا يُمكن التعرف عليها من المظهر الخارجي للإنسان.

(٥) ظهور أنواع جديدة

إن القوقازيين والآسيويين والأفارقة والسكان الأصليين لأستراليا كلهم أشكال مختلفة من النوع نفسه؛ «الإنسان العاقل». يَنتمي الشمبانزي إلى نوع مختلف؛ «بان تروجلوديت» أو «الشمبانزي القزم». مِمَّ يتألف النوع، وكيف ينشأ نوع جديد؟ الغريب في الأمر أن الإجابة عن السؤال الأول أقلُّ وضوحًا من الإجابة عن الثاني.

بوجه عام يُمكن عزو كائنَين إلى نوعين منفصلين إذا كانت الذُّرية التي تنتج عن تزاوجهما عقيمة؛ فعند حدوث تزاوج بين فرس وحِمار، فإن ذريتهما، البغل، تكون عقيمةً؛ ومن ثم فإن الفرس والحِمار ينتميان إلى نوعين منفصلين.١١ من ناحية أخرى، تنتمي الذئاب والقيوط والكلاب إلى أنواع منفصلة، رغم أن الذرية التي تَنتج من تزاوجها تكون في معظم الأحيان قادرةً على الإنجاب.١٢ يبدو أن معيار قضية عدم القدرة على الإنجاب لا يعبِّر بدقة عن الأمر. إذن هل علينا اعتبار أن الذئاب والقيوط والكلاب تنتمي لنوع واحد؟ وهل هذه الأنواع الثلاثة من الحيوانات مجرَّد أشكال مختلفة وحسب؟ ليس بالضرورة. فالفكرة أن الذئاب والقيوط والكلاب تَصادَف امتلاكها للعدد نفسه من الكروموسومات؛ ٣٩ زوجًا، بينما يختلف العدد الموجود لدى الأَحصِنة عن الموجود لدى الحَمير؛ ومن ثم فإن الانقسام الاختزالي١٣١٤ الذي يَحدُث لدى الذرية التي تنتج عن التزاوج الداخلي في عائلة الكلبيات يَحدث بسهولة أكبر منه في ذرية الفرس والحِمار. ربما يكون أدق تعريف للنوع هو التالي: «مجموعة من الأفراد يوجد بينها تدفُّق جيني».١٥ يُغفل هذا التعريف الآليات الجزيئية ولكنه يضع في اعتباره الأسباب الجغرافية والسلوكية لغياب التدفُّق الجيني. لا يزال المتخصصون في علم الحيوانات مختلفين حول هذه القضايا. وما يَعنينا في هذا أن التمييز بين الأنواع المختلفة والأشكال المُتباينة داخل النوع نفسه ليس دقيقًا. حتى داروين نفسه كان متحفِّظًا؛ فلم يحدد في أي موضع من كتابه «أصل الأنواع» ما يقصده بالضبط بالنوع.
ذكرتُ من قبل تضاعُف جينات معينة؛ ويحدث هذا عندما يُنسخ جين معين مرتين بدلًا من مرة واحدة في أثناء عملية تصنيع الدي إن إيه. يعني مثل هذا الحدث وجود جينين متطابقين، أحدهما بجوار الآخر، على الكروموسوم نفسه. تُصحَّح هذه العيوب، تمامًا مثل الطفرات داخل الجينات، بوجه عام في أثناء عملية تُعرف باسم «تصحيح الأخطاء». لكن إذا كانت آلية تصحيح الأخطاء هذه هي نفسها تالفة، فقد تظلُّ الأخطاء موجودة وتنتقل إلى الجيل التالي (إذا حدثت الطفرة في خلية جنسية). يولِّد امتلاك نسخ متعدِّدة من الجينات فرصةً لإنتاج بروتينات ذات تأثير متفاوت عن طريق الطفرات التالية.١٦ من ثم يؤدِّي تضاعُف الجينات وطُفورها باستمرار إلى إنتاج أشكال مختلفة من البروتينات، وإذا عانى الذين يَمتلكون هذه البروتينات من ظروف معيشية صعبة، فإن الجينات الطافرة ستَختفي بالتدريج من تجميعة الجينات؛ لكن إذا كان لهذه البروتينات فائدة، فإنها ستظلُّ باقية، ومع تراكم المزيد من مثل هذه الأشكال الطافرة لدى تجمُّع من السكان، فإنها ستُمِدُّ أصحابها في النهاية بصفات تُميِّزهم عن أسلافهم. وهذه، بإيجاز، الكيفيةُ التي يظهر بها نوع جديد.
لا يظهر النوع الجديد، سواء لإنسان أو قرد أو فيل أو فراشة، ببساطة في وقت ما؛ فجميع الكائنات١٧ تتغير باستمرار بالطرُق غير الملحوظة التي شرحتُها. ومن بين كافة الأشكال المتغيرة التي تظهر، قد يجد بعضها أنه أكثر ملائمةً للبيئة في هذا الوقت من غيره؛ ومِن ثم يتكاثر أسرع. تُواصل الكائنات الأكثر تكيُّفًا الازدهار، بينما تختفي الكائنات الأخرى بالتدريج؛ ويعني العدد الهائل من الكائنات الناجحة فوزَها في المنافسة على الطعام والمأوى والماء والتزاوج، وربما تكون لديها قدرة أفضل أيضًا على تجنُّب المُفترسات. هذا في الأساس ما كان يَعنيه تشارلز داروين والعالم المعاصر له الذي يَنساه كثيرون، ألفريد راسل والاس،١٨ حين اقترحا أن تطوُّر الأنواع يحدث من خلال الانتقاء الطبيعي، عبر آلية «البقاء للأقوى»، على حد قول هيربرت سبنسر، المصلح الاجتماعي الذي ظهر في القرن التاسع عشر، وكان أحد أنصار نظرية داروين التطورية. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، بدأت مبادئ التغيُّر الجغرافي البطيء — مثل تكوُّن الأودية من خلال عملية التعرية التي تحدُث بسبب الأنهار الجليدية والأنهار العادية — تظهر ويقرُّها كثير من العلماء في هذا الوقت.١٩ لكن الأمر الذي لم يَخطر على ذهن أحد عدا داروين ووالاس في إنجلترا، وجان باتيست لامارك قبل نصف قرن في فرنسا، أن الكائنات الحية قد تتغير ببطء أيضًا بمرور الوقت. اختلف لامارك عنهما في اعتقاده بأن الصفات التي يكتسبها الكائن طوال حياته تنتقل إلى ذريته؛ أما داروين ووالاس فقد اختارا الاعتقاد بأن الطبيعة تطرح عددًا من الأشكال المختلفة، لا يبقى منها إلا الأكثر ملاءمةً للبيئة في هذا الوقت. أُثبت فيما بعدُ أن وجهة نظر لامارك غير صحيحة، رغم إعادة إحيائها في الحقبة السوفييتية على يد عالم الأحياء تروفيم دينيسوفيتش ليسينكو؛ فقد لاقت نتائجه التي كانت تهدف لإظهار وراثة الصفات المكتسبة استِحسان جوزيف ستالين؛ فهكذا تنتقل قِيَم الماركسية بين الناس عبر الأجيال. بالإضافة إلى ذلك، سعدَ ستالين على وجه الخصوص بزعم ليسينكو أن البذور التي تتعرَّض لدرجة حرارة مُنخفضة ستكون أكثر قدرة على إنتاج محاصيل في الطقس البارد؛ إذ كان من شأن هذا أن يُغيِّر المحاصيل الزراعية في جميع أنحاء سيبيريا. كانت النتيجة مختلفة تمامًا؛ فقد مات الملايين من الجوع (لكن ليسينكو أصبح مديرًا لمعهد علم الوراثة ورئيس أكاديمية لينين للعلوم الزراعية التي تشمل كل الاتحاد السوفييتي). المهم في الأمر أنه في عام ١٨٥٠، سواء في إنجلترا أو فرنسا، لم يكن يوجد إلا عدد قليل من الناس الذين لا يُقرُّون بأن أصل كل أنواع الحيوانات والنباتات هو حدثٌ إلهي لم يتكرر.
لم يُعلن داروين عن نتائجه، التي استوحاها من الاختلافات الطفيفة بين طيور البرقش التي وجدها على جزر جالاباجوس التي تقع غرب الإكوادور، طوال أكثر من ١٥ سنة، وعندما أدرك أن والاس كان يفكِّر على النحو نفسه، أسرع في نشر كتابه «في أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي أو بقاء الأعراق المفضَّلة في أثناء الكفاح من أجل الحياة» مع الناشر جون موراي، في ٢٤ من نوفمبر عام ١٨٩٥. أرسل موراي أجزاءً من المسوَّدة من أجل مراجعتها، ورغم ما حصلت عليه هذه الأجزاء من تعليقات لاعنة من البعض، فإن عددًا كافيًا من العلماء ذوي المكانة الرفيعة — عالم الجيولوجيا السير تشارلز لايل، وعالم النباتات السير جوزيف هوكر، وآخرين غيرهما — دعم آراء داروين بقوة تكفي لتجعل موراي يُقْدِم على مثل هذه المخاطرة. طُبع ١٢٥٠ نسخة من الكتاب، بيعت كلها على الفور، وطُبعت طبعة ثانية تبلغ ٣٠٠٠ نسخة من أجل تلبية الطلب عليه. أصبح الكتاب حديث الدوائر الثقافية في جميع أنحاء إنجلترا، وسرعانَ ما نُشر في أمريكا، وتبع ذلك ترجمته إلى الألمانية والفرنسية. ورغم ذلك كان ردُّ الفعل العام عليه متباينًا؛ فلم يَفهم إلا عددٌ قليل ما كان يحاول داروين أن يقوله، والذين اعتقدوا أنهم فهموا قصده، أدانوه لأسباب دينية. أُضيفت السخرية أيضًا إلى الهجوم: «سيد هكسلي: أودُّ أن أعرف من أي جانب تدَّعي أنك انحدرتَ منه من نسل القرود؛ من جانب جدك أم جدتك؟» هكذا حاول الأسقف صامويل ويلبرفورس إحراج توماس هكسلي، عندما كان هذا الرجل المحترم يؤيد فرضية داروين عن أصل الأنواع في اجتماع للجمعية البريطانية لتقدُّم العلوم في أكسفورد عام ١٨٦٠.٢٠ أغضبت هذه المَزحة الساخرة من «سام المتملِّق» ويلبرفورس — ابن المصلح الاجتماعي ويليام ويلبرفورس، الذي أدَّت حُججه القوية في البرلمان إلى إلغاء العبودية في بريطانيا قبل ٢٥ عامًا — هكسلي كثيرًا. من ناحية أخرى، أعطى افتقار هجوم ويلبرفورس للمنطق فرصة لهكسلي للرد سريعًا بعنف قائلًا: «أنا لا أخجل من أن يكون أسلافي من القِرَدة؛ ولكني أخجل من معرفة رجل استخدم الهدايا الكبيرة لإخفاء الحقيقة.» لاقى كلام هكسلي استحسان الجميع، بينما حصل ويلبرفورس على الازدراء.

بخلاف التحيُّز الفطري لدى الناس ضد فرضية التغير المستمر للأنواع، كانت المشكلة تتمثل في عدم قدرة داروين على تقديم تفسير منطقي لطريقة تحقُّق هذا التنوع. لم يظهر الدليل اللازم لتفسير هذا الأمر إلا بعد مرور أكثر من قرن من الزمن؛ فعندما بدأت دراسة الكائنات الحية من الناحية الجزيئية، بدأت تظهر الآلية التي تَحدُث بها هذه التغييرات الخفية في الشكل والوظيفة. كم كان داروين سيُقدِّر الاكتشافات العلمية التي حدثت في فترة خمسينيات وستينيات القرن العشرين، والسهولة الفطرية لتضاعُف الدي إن إيه والشفرة الثلاثية!

إذا كانت عملية ظهور نوع جديد تحدث ببطء، فإن عملية انقراض نوع موجود بالفعل، أقل قدرة على التكيُّف، تكون عادةً أكثر بطئًا؛ فعلى مدار مليار سنة مضت تقريبًا، كان ظهور الأنواع الجديدة أسرع من عملية انقراض الأنواع الموجودة على قيد الحياة؛ مما أدَّى إلى حدوث تنوع مُتزايد في الكائنات الحية، وحاليًّا يوجد نحو ١٠ ملايين نوع مختلف من النباتات والحيوانات في العالم، لم يَرد وصف إلا مليون ونصف مليون نوع فقط منها حتى الآن. تتعايش الأنواع التي ستتعرَّض للانقراض في النهاية مع الأنواع التي ستنجو؛ فعلى سبيل المثال، بعد وقت طويل من ظهور الإنسان الحديث، ظلَّت أنواع من القِرَدة العليا الأقدم تعيش معه. إنَّ المدى الزمني الذي يستغرقه التغير التطوري حتى يُصبح واضحًا، في حالة الرئيسيات مثل القِرَدة العليا والإنسان، يُقدَّر بمئات الآلاف من السنين. بالطبع أحيانًا يحدث الجزء الثاني من العملية، المتمثِّل في انقراض الأنواع، بسرعة أكبر.

على سبيل المثال، غيَّر الارتطام المحتمل لمذنَّب من الفضاء الخارجي منذ ٦٥ مليون سنة البيئة؛ بحيث أدى إلى انقراض الديناصورات في خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًّا.٢١ يُعتقد أن عرض هذا المذنب كان يقدر بنحو ٦ أميال، وأن ارتطامه بالأرض كان بقوة تساوي انفجار مليار قنبلة نووية؛ ونتيجة لهذا أحدث حفرة، في خليج المكسيك، يبلغ عرضها ١٠٠ ميل. أدَّى هذا إلى ظهور سحابة من الغبار ربما استمرَّت لفترة تتراوح بين عدة أشهر إلى ما يقرب من عَقد؛ مما أدى فعليًّا إلى توقف عملية التمثيل الضوئي بالكامل. وبالتدريج أصبح لنقص النباتات الخضراء تأثير هائل على السلسلة الغذائية؛ إذ كان له إما تأثير مباشر على الديناصورات، التي كان كثير منها نباتيًّا، أو تأثير غير مباشر، من خلال نقص عدد الحيوانات التي كانت تتغذى عليها. كان أحد الآثار الأخرى لهذا الحدث الاحترار العالمي؛ حيث أدَّى توقف التمثيل الضوئي إلى عدم امتصاص أوراق الأشجار لثاني أكسيد الكربون الموجود في الجو، ونتيجةً لهذا تُكوِّن الكَمِّية الزائدة من ثاني أكسيد الكربون في الجو حاجزًا عازلًا حول الأرض، وهو المعروف بتأثير «الصوبة الزجاجية»، وربما يكون مثل هذا الاحترار قد أثَّر بالسلب على قدرة الديناصورات على التكاثُر؛ هذا لأنه كما نعلم فإن جنس مواليد بعض أنواع الزواحف (فئة من الفقاريَّات من أقارب الديناصورات) يتحدَّد جزئيًّا بدرجة الحرارة التي ينمو فيها داخل البيضة. إذا كان هذا ينطبق أيضًا على بيض الديناصورات فربما تكون نسبة الذكور للإناث تغيرت كثيرًا؛ بحيث تعذر على أي نوع من الديناصورات البقاء على قيد الحياة، كذلك من المحتمل أن يكون انبعاث أدخنة سامة من الحفرة هو ما أفناها.
مع ذلك، قبل انقراض الديناصورات بالكامل، بدأت أنواع معينة في التطوُّر بالفعل لتُصبح أسلاف الزواحف الموجودة في عصرنا الحالي، مثل التماسيح والسلاحف؛ بينما تطور البعض الآخر، على الأرجح، ليشكِّل فئة الطيور الموجودة في عصرنا الحالي. يوجد اتفاق عام على فكرة أن عصر الزواحف انتهى منذ نحو ٦٥ مليون سنة، مع الحلول التدريجي للثدييات محلَّ الديناصورات؛ إذ بدأت الثدييات تظهر في ظلِّ أخطار مُحدقة قرب نهاية عصر هيمنة الديناصورات. استمرَّ عصر الثدييات الذي نتج عن هذا حتى يومنا هذا. اختفت كائنات أخرى، مثل المنخربات،٢٢ من على سطح الأرض مع الديناصورات. ويُمكن أن تدفعنا حقيقة وجود السلاحف والتماسيح على الأرض لأكثر من ١٠٠ مليون سنة إلى اعتبارها حقَّقت نجاحًا باهرًا من الناحية التطورية. بدلًا من ذلك، يُمكننا التفكير في قياس النجاح بعدد الأنواع المُختلفة التي تعبر عن أيِّ فئة. في هذه الحالة، قد تتفوَّق الحشرات (التي تضم أكثر من مليون نوع معروف، وربما أكثر من ٩ ملايين نوع آخر لم تُكتشَف بعد) بسهولة على كافة الفئات الأخرى؛ على سبيل المثال، الثدييات التي تضمُّ أقل من ٥ آلاف نوع مُنفصِل.
منذ ظهور الإنسان أصبحت الأنواع تتعرَّض للانقراض على نحو أسرع نتيجة لأفعاله؛ بسبب الصيد والزراعة والتعدِّي المستمرِّ على الغابات وحقول السافانا؛ إذ أصبحت أعداد البشر تزيد على حساب النباتات والحيوانات الموجودة حولهم. تشير التقديرات إلى أنه في خلال آخر ٣٠٠ سنة زاد معدَّل انقراض الطيور والثدييات من ٥ إلى ٥٠ ضعف المعدل «الطبيعي»؛ بمعنى انقراض نوع كل ٤ سنوات تقريبًا. بعبارة أخرى: يكون إجمالي عمر أي نوع، في المتوسط، نحو مليون سنة تقريبًا. في أثناء العقود الأخيرة من القرن العشرين ارتفع معدَّل الانقراض ٢٠ ضعفًا مرةً أخرى؛ فقد أصبحنا الآن نفقد تقريبًا نوعًا من الحيوانات أو النباتات كل يوم،٢٣ فبطريقة أو بأخرى انقرض أكثر من ٩٩٫٩٪ من الأنواع التي ظهرت على سطح هذا الكوكب.

(٦) ظهور جنس جديد

إذا كان ظهور نوع جديد لا يتطلب أكثر من مجرَّد تراكم جينات طافرة، فهل ينطبق الأمر نفسه أيضًا على ظهور جنس جديد، مثل جنس الهومو (الإنسان) الذي ظهر من جنس البان (الشمبانزي)؟ تشبه جينات الإنسان جينات الشمبانزي بنسبة ٩٥٪. ما الذي يعنيه هذا فعليًّا، وكيف حصلنا على هذه النسبة؟

تعني نسبة الشبه الكبيرة أن الدي إن إيه البشري يتكون تقريبًا، وليس بالكامل، من العدد نفسه من الأدينين والسيتوسين والجوانين والثيامين على طول شريطيه.٢٤ ورغم أن إجمالي طول الدي إن إيه لدى الشمبانزي هو نفسه لدى الإنسان، فمن قبيل المفاجأة أن عدد الكروموسومات ليس واحدًا؛ إذ يوجد لدى الشمبانزي ٢٤ زوجًا من الكروموسومات، بينما يمتلك الإنسان ٢٣ زوجًا. يبدو أن ما حدث في مرحلةٍ ما من تطور الإنسان أن أحد الكروموسومات الأربعة والعشرين المأخوذة من أسلافنا اندمج مع الكروموسوم ١١؛ مما جعله أطول لدى البشر منه لدى الشمبانزي. إذن فعدد أزواج الكروموسومات في أي كائن — على سبيل المثال، ١٨ لدى الثعلب الأحمر، لكنها ٢٥ لدى الثعلب القطبي، و٣٢ لدى ثعلب الصحراء، و٣٧ لدى الثعلب الأشيب الذي يوجد في شمال شرق البرازيل٢٥ — لا تكون له أهمية كبيرة مقارَنة بإجمالي عدد الجينات الموجودة داخلها.
عرفنا وجود تشابه بنسبة ٩٥٪ باستخدام طريقة تُدعى التهجين.٢٦ كما ذكرنا في الفصل السابق فإن تفسيري للاختلاف الجيني الموجود بنسبة ٥٪ تقريبًا بين الإنسان والشمبانزي أنه يَعكس درجة التنوع في الجينات التي تنتمي لفصائل متشابهة لدى كائنَين؛ ومن ثم تؤدي تقريبًا الوظائف نفسها، فلا توجد جينات تميِّز البشر في مقابل جينات تميز الشمبانزي.٢٧ يختلف رأيي في هذه النقطة عن علماء مثل جارد دياموند، الذي يبدو أنه يَعتقد أننا نستطيع العثور على الجينات التي تميِّز الإنسان في هذا الاختلاف الجيني بينه وبين الشمبانزي الذي يُقدَّر بنسبة ٥٪.٢٨ مع ذلك يجب عليَّ توخي الحذر؛ فرغم أننا أصبحنا الآن نعرف التسلسل الدقيق لمعظم الدي إن إيه البشري، فإنَّ جينوم الشمبانزي لم يُعرَف تسلسله حتى الآن (فالمشروع الآن قيد التنفيذ)؛ وعليه فلا يُمكننا التأكد من وجود تماثُل حقيقي بين الجينات؛ إذ يكون بعضها متطابقًا، والبعض بينه تطابق تقريبي، والبعض الآخر بينه مجرَّد تشابه، على طولِ كامل تتابعات الدي إن إيه الخاصة بها.

أما عن الوظيفة التي يُحدِّدها كل جين عند ترجمته إلى بروتينات، فإننا لا نعرف هذا حتى في حالة الإنسان، فلا يُمكننا في الوقت الحالي استنتاج وظيفة أحد البروتينات من مجرد تسلسل الأحماض الأمينية التي يتكون منها، التي تمثِّل كافة المعلومات التي يحتوي عليها الجين؛ فقد اتضح أن بعض البروتينات ذات التسلسل المتشابه تؤدي وظائف مختلفة، وبعض البروتينات ذات التسلسل المختلف تؤدِّي الوظيفة نفسها. استغرقتْ معرفة تسلسل الدي إن إيه البشري أقل من عَقد من الزمن، ومن المحتمل أن يستغرق فهم وظائف كافة البروتينات التي تحدِّدها هذه الجينات على الأقل الفترة نفسها. وحتى تتضح وظائف كافة البروتينات لدى الشمبانزي والإنسان لا يُمكننا التأكُّد مما إذا كان أحدها يؤدي دورًا مختلفًا تمامًا لدى الشمبانزي عن دوره لدى الإنسان أم لا. ومع ذلك، أيًّا كانت النتيجة، يُمكننا التأكد إلى حد ما أن الآلية التي شرحناها مسبقًا عند الحديث عن ظهور الأنواع الجديدة من حيث التراكم التدريجي للجينات الطافرة؛ تَنطبق أيضًا على ظهور الأجناس الجديدة.

إذا أردنا توسيع نطاق تطبيق هذه الحُجة، فيُمكنني توقُّع عدم وجود جينات خاصة بالرئيسيات في مقابل جينات خاصة بالقرود، وجينات خاصة بالثدييات في مقابل جينات خاصة بالطيور أو الزواحف، وجينات خاصة بالفقاريَّات في مقابل جينات خاصة باللافقاريَّات، وهكذا؛ فنحن لا نستطيع التعرُّف على إنسان أو شمبانزي، قرد أو حمامة، تمساح أو دبور، من خلال جيناته فقط؛ فلا يُمكن تحديد انتماء الكائن إلا كوحدة واحدة لأحد الأنواع أو الأجناس أو الفصائل أو الرتب أو الفئات أو الشُّعَب. ظللتُ طوال أكثر من ٤٠ سنة أخبرُ الطلبة الذين يدرسون الكيمياء الحيوية والطب أنه في حال وُجدَت لدينا خلايا كبد متجانس مذابة في محلول فسيكون من الصعب علينا تحديد إذا كان هذا الكبد لفيلٍ أم لإنسان؛ فتحليل الجزيئات التي يتكون منها لا يكشف عن مصدره، لكن إذا دخل الكائن صاحب هذا الكبد إلى الغرفة، فسيكون من السهل تمييزه عن غيره. في الواقع إن حقيقة أننا نشترك مع الموز في ٥٠٪ من جيناتنا تدعم نقطة التشابه هذه في التكوين الجزيئي بين كافة أشكال الحياة؛ إنه لا يوجد سوى تغير تدريجي بين الجرثومة الأولى والإنسان.

(٧) تنوع الشكل والوظيفة

تنمو خارج نافذة مكتبي شجرتان مُتناسقتان من نوع كستناء الحصان (أيسكولوس هيبوكاستانوم). في أواخر فصل الصيف لا يُمكن رؤيتهما؛ إذ تكون كلٌّ منهما مليئة بالفاكهة التي كنا نُطلق عليها ونحن صغار اسم «كونكيرس»، ومع ذلك لاحظتُ في فصل الربيع تأخُّر ظهور الأوراق، ومن ثم الأزهار، في الشجرة الموجودة على جهة اليسار لعدَّة أسابيع عن الشجرة الموجودة على اليمين. على الأرجح كلتا الشجرتين قُطعتا من الجذع نفسه؛ فهما شجرتان أختان، لكنَّ الشجرة على اليسار «متأخرة النمو». أشرنا من قبل إلى حقيقة عدم وجود تطابق كامل بين أي فردَين من ذرية الكائن نفسه. فحتى في التوأم المتطابق تظهر علامات الاختلاف البسيط مع بدء تأثير البيئة في جيناتهما على نحو مُختلِف (بحيث يُصاب أحدهما، على سبيل المثال، بالسرطان بينما لا يُصاب الآخر به).

هكذا في حالة وجود مجموعة تتكون مثلًا من ١٠٠ فرد ينحدرون كلهم من نفس الوالدَين، فإن هؤلاء الأفراد سيَتفاوتون ليس فقط في مظهرهم الخارجي، وإنما أيضًا سيتصرَّفون بعدد كبير من الطرق المُختلفة؛ فسيكون عدد قليل منهم أكثر عدوانية من البعض الآخر، وسيكون عدد قليل منهم أكثر خضوعًا؛ سيكون بعضهم أكثر ذكاءً، وآخرون أكثر غباءً؛ سيَبرع بعضهم أكثر في صنع أشياء بأيديهم، بينما سيكون آخرون أقلَّ براعةً؛ سيكون بعضُهم أكثر فضولًا، بينما يكون آخرون أقلَّ فضولًا. إن طيف السلوكيات والمهارات هائل.٢٩ تشتمل هذه الصفات بالطبع على الصفات التي ذكرنا في الفصل السابق المميِّزة للبشر؛ مثل القدرة على العمل باليدين، والقدرة على الكلام، وزيادة وظيفة الدماغ. إذن سيوجد أفراد تَزيد لديهم الرغبة في البحث؛ والرغبة في صنع أدوات جديدة، واستكشاف آفاق جديدة، والإفصاح عن أهدافهم على نحو أكثر وضوحًا، والبحث عن حلول للمشكلات بحماس وفاعلية، وسيتولى أفراد هذه المجموعة الذين يَمتلكون واحدة أو أكثر من هذه الصفات قيادة الآخرين في المغامرات الجديدة؛ فسيُصبح هؤلاء هم المسئولين عن عواقب السعي البشري التي سنتحدَّث عنها في الجزء الثاني.
إذا قارنَّا مثل هذه المجموعة من ١٠٠ إنسان بمجموعة تتكون من ١٠٠ شمبانزي تنحدر من نفس الوالدَين، فعلى الأرجح سنجد بعض التداخُل؛ فلن نجد فقط أن بعض الشمبانزي أكثر خضوعًا من إنسان عدواني، وإنما يُمكننا أن نقابل شمبانزي أكثر ذكاءً من إنسان متخلِّف عقليًّا. وهذا بالضبط ما أظهرتْه التجارِب التي أجراها علماء مثل سو سافاج رومبوه؛ فقد ربَّت سو وزملاؤها قرود شمبانزي منذ ولادتها في بيئة موجودة في مركز أبحاث اللغة في أتلانتا، في جورجيا، حيث علموها كلمات بسيطة، تمامًا مثل تعليم طفل صغير، وكانت النتيجة أن استطاع أحد قردتها نطق كلمات بطريقة تُشبه الطفل المعاق. وإذا كانت أجرت هذه التجربة على ١٠٠ شمبانزي، فلربما وجدت واحدًا يفوق فعلًا في قدرته على التعلُّم الطفل المعاق. بالطبع على الأرجح يكون الشمبانزي أفضل في تقشير الموز من مريض يعاني من شلل سفلي يواجه مشكلة في استخدام يديه. أؤكد هنا على نقطة ذكرتها مسبقًا؛ أن جينات الشمبانزي والإنسان متشابهة للغاية، بحيث يجب علينا ألا نتفاجأ عندما يَحدث تداخل أحيانًا في الوظائف التي تحددها، مثل القدرة على تنفيذ بعض المهام، فكلانا في النهاية أحفاد لسلف مُشترَك وتوجد بيننا صلة قوية؛ فقد أثبت بعض أفراد هذا النوع، منذ نحو ٦ إلى ٨ ملايين سنة، أنهم أفضل في تسلُّق الأشجار وتطوروا ليُصبحوا الشمبانزي الشائع أو الشمبانزي القزم؛ بينما أثبت أفراد آخرون أنهم أفضل في السير مُنتصبين والبحث عن المفترسات أو الفرائس، وتطوَّروا ليُصبحوا الإنسان العاقل، بينما اتضح أن آخرين٣٠ أقل كفاءة في ممارسة أيٍّ من هاتين المهارتين وانقرضوا. إن ما يميز الإنسان عن الشمبانزي هو اجتماع كثير من الصفات؛ اختر صفة واحدة فقط وربما تجد تداخُلًا بينها وبين صفة أخرى.

هوامش

(١) على سبيل المثال، يمكن لسلسلة بها ١٠٠ حمض أميني أن تتَّخذ نحو ٢٠١٠٠ شكلًا مختلفًا، وأنا لن أحاول حتى كتابة هذا الرقم بالكلمات، ولكني سأشير فقط إلى أن ٢٠١٠ هو أكثر بالفعل من ١٠ تريليون (١٠ ملايين مليون)، رغم أن كثيرًا من التآلفات المحتملة — مثل تكون بروتين بالكامل من نوع واحد من الأحماض الأمينية — لا تحدُث في الطبيعة، فإن الحسابات تُظهر التنوع الهائل الذي يمكن أن يوجد في البروتينات.
(٢) عندما يُصبح الأدينين في سلسلةٍ مقابلًا للثيامين في سلسلة أخرى، تتكوَّن رابطتان بينهما؛ لأن الأدينين والثيامين يتلاءمان جيدًا معًا (فتقل الطاقة الإجمالية للنظام)، وعندما يوجد الجوانين في سلسلةٍ مقابلًا للسيتوسين في السلسلة الأخرى، فإنهما يشكلان أيضًا زوجًا وثيقًا؛ إذ تربطهما في هذه الحالة ثلاث روابط. تُعرف هذه الروابط باسم الروابط الهيدروجينية، بسبب وجود ذرة هيدروجين في منتصف الرابطة دومًا. ومقارنةً بالروابط التي تربط الذرات على طول شريط الدي إن إيه، تكون الروابط الهيدروجينية ضعيفة نسبيًّا؛ فلا نحتاج إلا لقليل من الطاقة من أجل كسرها، فيكفي تسخينها على درجة حرارة نحو ٦٠ مئوية. لا تُشكِّل الروابط الهيدروجينية أساس التجاذب بين أشرطة الدي إن إيه المتكاملة وحسب، وإنما تجعل أيضًا سلاسل البروتينات — وسلاسل الدي إن إيه — ملتفة بعضها حول بعض، ما عليك إلا تسخين أحد البروتينات أو الدي إن إيه وستُفكُّ هذه السلاسل.
(٣) في الواقع أقل من ١٠٪ من الدي إن إيه لدى الحيوانات يحدِّد شفرة البروتينات؛ أما الكم الباقي من الدي إن إيه فيحدِّد المناطق التي تتحكم في بدء تصنيع البروتين وتوقفه — بعبارة أخرى: تمثِّل هذه المناطق الحافز لترجمة امتداد معيَّن من الدي إن إيه إلى بروتين — بالإضافة إلى الامتدادات الطويلة التي لا توجد لها وظيفة واضحة، التي ربما تعبِّر عن امتدادات دي إن إيه من فيروسات اندمجت في الدي إن إيه الخاص بالعائل نتيجة للتعرُّض لنوبة عدوى.
(٤) لا يُساوي إجمالي عدد الجينات الموجودة في كافة الكروموسومات إجمالي عدد البروتينات؛ لأنَّ بعض الجينات تحدِّد شفرة عدة بروتينات يكون لها تكوين مشابه لكنه غير متطابق، نتيجةً لإعادة ترتيب جزيئية تُدعى «التضفير»؛ ومن ثم فإن إجمالي عدد ٣٠ ألف جين مختلف لدى الإنسان يحدِّد ما يصل إلى ٣٠٠ ألف بروتين.
(٥) رغم ارتباط بروتينات معينة بالدي إن إيه، ومن ثم تصبح جزءًا من الكروموسومات، فإنها لا تلعب دورًا مباشرًا في عملية نقل المعلومات من الدي إن إيه إلى البروتين.
(٦) يرجع الفضل في اقتراحهما بوجود مثل هذه العلاقة الثابتة بين أزواج قواعد الدي إن إيه إلى ملاحظة سابقة لعالم الكيمياء الحيوية الأمريكي، إروين تشارجاف الذي اكتشف أن نسبة المحتوى من الأدينين مع الجوانين تكون دومًا مساوية لنسبة المحتوى من الثيامين مع السيتوسين، وخاصةً أن كَمِّية الأدينين بدت مساوية للثيامين، وكَمِّية الجوانين مساوية للسيتوسين.
(٧) في أثناء انقسام الكروموسومات إلى نصفين، قبل انفصال كل زوج من الكروموسومات، يحدث بالإضافة إلى هذا تبادل داخل للجينات بين أزواج الكروموسومات المعنية، قبل انفصالها تمامًا لتُكوِّن خلايا أحادية (تحتوي فقط على مجموعة فردية من الكروموسومات، وليست زوجية)، ستُصبح هي الحيوان المنوي أو البويضة، ونتيجةً لهذه العملية المعقدة إلى حد ما المعروفة باسم الانقسام الاختزالي، تصبح الجينات مختلطة لدى كل جيل بطريقة عشوائية تمامًا.
(٨) يبدو أن نوعًا خاصًّا من البروتين يوجد بكَمِّيات صغيرة للغاية، يُدعى البريون، ينسخ نفسه. تكون مثل هذه البروتينات مسئولةً عن انتقال التهاب الدماغ الإسفنجي البقري، «مرض جنون البقر»، ومرض كروتزفيلد جاكوب لدى البشر.
(٩) رغم أن الوفاة قد تحدث في وقت أقرب من المتوقَّع، فإنَّ أمراض السرطان تنشأ بسبب الطفرات غير النافعة التي تحدُث لهذا الفرد.
(١٠) في الهيموجلوبين المنجلي تحلُّ رواسب الفالين محل رواسب الجلوتامات، وهذا نتيجة لتحول الأدينين إلى ثيامين داخل الدي إن إيه (يحدد مزيج الجوانين مع الأدينين والجوانين GAG شفرة تكوين الجلوتامات، في حين يحدد مزيج الجوانين مع الثيامين والجوانين GTG شفرة تكوين الفالين).
(١١) التفسير المحتمل لهذه النتيجة من الناحية الجزيئية هو كالتالي: إن عدد الكروموسومات الموجودة لدى الفرس والحِمار متساوٍ، كذلك يوجد تشابه بالقدر الكافي بين هذه الكروموسومات بحيث تحدُث عملية التزاوج بينها، عندما يُخصِّب حيوانٌ منويٌّ البويضة، على نحو طبيعي. كذلك فإن عملية تضاعُف الدي إن إيه التي تحدث فيما بعد في كل مرة تنقسم فيها خلية في جسم البغل، طوال عملية نموه وهو جنين ونضجه وهو حديث الولادة؛ تكون طبيعية. يحدث الخلل في الخلايا الجنسية؛ ففي أثناء عملية الانقسام الاختزالي (انظر الهامش رقم ٧ أعلاه) يحدُث تبادل داخلي كثير في الدي إن إيه بين كل زوج من الكروموسومات، وحتى يحدث هذا التبادل، يجب أن يكون الكروموسومان (أحدهما من الأب والآخر من الأم) مصطفَّين تمامًا. إن وجدت اختلافات طفيفة بين الدي إن إيه لأحد الكروموسومَين عن الذي سيقترن به، فإن هذا لا يُحدث مشكلة. على سبيل المثال: إذا كان أحد الكروموسومين يحتوي على جين الهيموجلوبين الطبيعي في مقابل جين الهيموجلوبين المنجلي في الكروموسوم الآخر، فإن هذا لا يكون له تأثير، لكن إن كان الاختلاف بين الجينين أكبر من هذا (لا يقتصر الأمر على وجود ثيامين بدلًا من الأدينين)، وتوجد بالإضافة إلى هذا نسخٌ إضافية من جينات معينة، فإن الاصطفاف الدقيق؛ جين في مقابل جين، لا يُمكن أن يحدث. هكذا يتوقف الانقسام الاختزالي، فلا يتكون حيوان منوي (أو بويضة)؛ فيصبح الحيوان عقيمًا.
(١٢) انظر دانيال كليمنت دينيت، المرجع السابق، ص٤٥.
(١٣) في أثناء انقسام الكروموسومات إلى نصفين، قبل انفصال كل زوج من الكروموسومات، يحدث بالإضافة إلى هذا تبادل داخل للجينات بين أزواج الكروموسومات المعنية، قبل انفصالها تمامًا لتُكوِّن خلايا أحادية (تحتوي فقط على مجموعة فردية من الكروموسومات، وليست زوجية)، ستُصبح هي الحيوان المنوي أو البويضة، ونتيجةً لهذه العملية المعقدة إلى حد ما المعروفة باسم الانقسام الاختزالي، تصبح الجينات مختلطة لدى كل جيل بطريقة عشوائية تمامًا.
(١٤) التفسير المحتمل لهذه النتيجة من الناحية الجزيئية هو كالتالي: إن عدد الكروموسومات الموجودة لدى الفرس والحِمار متساوٍ، كذلك يوجد تشابه بالقدر الكافي بين هذه الكروموسومات بحيث تحدُث عملية التزاوج بينها، عندما يُخصِّب حيوانٌ منويٌّ البويضة، على نحو طبيعي. كذلك فإن عملية تضاعُف الدي إن إيه التي تحدث فيما بعدُ في كل مرة تنقسم فيها خلية في جسم البغل، طوال عملية نموه وهو جنين ونضجه وهو حديث الولادة؛ تكون طبيعية. يحدث الخلل في الخلايا الجنسية؛ ففي أثناء عملية الانقسام الاختزالي (انظر الهامش رقم ٧ أعلاه) يحدُث تبادل داخلي كثير في الدي إن إيه بين كل زوج من الكروموسومات، وحتى يحدث هذا التبادل، يجب أن يكون الكروموسومان (أحدهما من الأب والآخر من الأم) مصطفَّين تمامًا. إن وجدت اختلافات طفيفة بين الدي إن إيه لأحد الكروموسومَين عن الذي سيقترن به، فإن هذا لا يُحدث مشكلة. على سبيل المثال: إذا كان أحد الكروموسومين يحتوي على جين الهيموجلوبين الطبيعي في مقابل جين الهيموجلوبين المنجلي في الكروموسوم الآخر، فإن هذا لا يكون له تأثير، لكن إن كان الاختلاف بين الجينين أكبر من هذا (لا يقتصر الأمر على وجود ثيامين بدلًا من الأدينين)، وتوجد بالإضافة إلى هذا نسخٌ إضافية من جينات معينة، فإن الاصطفاف الدقيق؛ جين في مقابل جين، لا يُمكن أن يحدث. هكذا يتوقف الانقسام الاختزالي، فلا يتكون حيوان منوي (أو بويضة)؛ فيصبح الحيوان عقيمًا.
(١٥) انظر مقال ستيف ماك عن «كيف تُعرِّف النوع؟» على موقع www.madsci.org (١٩٩٩).
(١٦) إن أحد أسباب الاحتفاظ بنسخ متعددة من الجينات هو أنها تُقلِّل فرصة حدوث نتائج ضارة لإحدى الطفرات؛ فامتلاك ثلاث نسخ من جينات غير متأثِّرة تصنع بروتينًا طبيعيًّا، بدلًا من واحد فقط، يُساعد في التصدي للآثار السلبية لبروتين معيَّن ضار، كذلك فإن النسخ المتعددة من الجينات تؤدي إلى وجود وظائف مختلفة، من خلال الاحتفاظ بطفرات مختلفة في نُسخٍ منفصلة من الجين الأصلي. توجد في الأصل أكثر من نسخة واحدة من كثير من جيناتنا، وهذا نتيجة لعمليات المُضاعَفة التي حدثت منذ مئات الآلاف من السنوات، والتي احتفظنا بها. وخير مثال على هذا جين الهيموجلوبين؛ فيوجد لدينا أكثر من خمسة جينات كلٌّ منها ينتج الهيموجلوبين باختلاف طفيف في كفاءة الارتباط بالأكسجين. يعمل أحد أنواع الهيموجلوبين في أثناء مرحلة تكوُّن الجنين، بينما يعمل نوع آخر في مرحلة البلوغ، ويحتفظ الجسم بكلٍّ منهما لأن وجودهما يحسِّن عملية نقل الأكسجين في مراحل مختلفة من نمو الإنسان؛ ومن ثم يؤدي إلى تحسين صحة الفرد.
(١٧) يشمل هذا النباتات والجراثيم.
(١٨) للحصول على سيرة ذاتية حديثة يمكنك قراءة كتاب مايكل شيرمر «في ظل داروين: حياة ألفريد راسل والاس وعلمه»، مطبعة جامعة أكسفورد، أكسفورد، ٢٠٠٢.
(١٩) وأشار إلى ذلك ليوناردو دافينشي أيضًا قبل أكثر من ٣٠٠ عام. انظر شيروين بي نولاند، المرجع السابق، ص١٠٣.
(٢٠) نظرًا لعدم تسجيل تعليقات ويلبرفورس من ساحة البرلمان، توجد نسخ عديدة منها. انظر، على سبيل المثال، كتاب والتر جراتزر «الاكتشافات والسعادة: كتاب أكسفورد عن النوادر العلمية»، مطبعة جامعة أكسفورد، أكسفورد، ٢٠٠٢، ص٧١–٧٣.
(٢١) لم تعد حاليًّا فكرة أن اصطدام مذنَّب بالأرض هو الذي تسبب في انقراض الديناصورات مقبولةً بالإجماع.
(٢٢) فئة من البروتوزوا؛ كائنات أحادية الخلية، يعيش كثير منها في البحر.
(٢٣) للاطلاع على المزيد عن هذا الموضوع، انظر إدوارد أوه ويلسون (١٩٩٢) المرجع السابق، ص٢١٥–٢٨٠، وواي وايت جيبس، مجلة ساينتيفيك أمريكان العدد ٢٨٥، ص٢٨–٣٧، نوفمبر ٢٠٠١.
(٢٤) على وجه الدقة، فإن نسبة الأدينين + الثيامين إلى الجوانين + السيتوسين في الدي إن إيه البشري تُشبه الموجودة في دي إن إيه الشمبانزي (تذكر أن الأدينين يساوي دومًا الثيامين، والجوانين يساوي دومًا السيتوسين، أيًّا كان أصل الدي إن إيه). الأهم من ذلك، أن أزواج الأدينين مع الثيامين، والجوانين مع السيتوسين، لا توجد تمامًا في المواقع نفسها على طول شريط الدي إن إيه.
(٢٥) انظر روبرت كيه واين على موقع www.idir.net/-wolf2dog/wayne2.htm.
(٢٦) عند تسخين جزء صغير من الدي إن إيه، فإنَّ الشريطين الملتفَّين أحدهما حول الآخر يَنفصلان؛ فتَنكسِر الروابط الهيدروجينية التي تربط الأدينين مع الثيامين، والجوانين مع السيتوسين. إذا خُفِّضت درجة الحرارة، فإن الشريطين يتصلَّبان مرةً أخرى. إذا أخذنا الآن خليطًا من أجزاء الدي إن إيه (الدي إن إيه بأكمله كبير للغاية بحيث يصعب استخدامه)، على سبيل المثال دي إن إيه الشمبانزي ودي إن إيه الإنسان، وسخنَّاه فإن الشرائط في كل جزء من الدي إن إيه ستَنفصل؛ وعند تبريدها فإنها ستلتفُّ بعضها على بعض مرةً أخرى. باستخدام هذه العملية يمكن تكوين بعض الأجزاء المهجَّنة، التي تحتوي على شريط من الشمبانزي وشريط آخر من الإنسان. عند إعادة تسخين الأجزاء المهجَّنة فإنها تنفصل عند درجة حرارة أقل من أجزاء الدي إن إيه الأصلية لكلٍّ من الشمبانزي والإنسان؛ وهذا لأن عملية الدمج هذه ليست مثالية؛ ولذلك نحتاج إلى طاقة أقل لفصل الشريطين. ويُقال إنه أمام كل انخفاض بنسبة درجة مئوية واحدة في درجة الحرارة المطلوبة لفصل الشريطين في الدي إن إيه الهجين، يوجد اختلاف عن أجزاء الدي إن إيه الأصلية بنسبة ١٪ فدرجة الحرارة التي يَنفصِل عندها شريطا الدي إن إيه الهجين لشمبانزي وإنسان تقلُّ بنحو ٢ درجة مئوية عن تلك التي تنفصل عندها أجزاء الدي إن إيه الأصلية من كلا الجانبَين؛ ومن ثم فإن الدي إن إيه لهذين النوعين يُقال إنه يختلف بنسبة ٢٪ عن النوع الهجين، أو يُشبهه بنسبة ٩٨٪. كانت هذه نتيجة مبدئية تأكَّدَ الآن أنها كانت خاطئة؛ فالاختلاف الفعلي يقترب من ٥٪ وليس ٢٪ (انظر شكل ١-١).
يُظهر التهجين قيمةً تعبِّر عن متوسِّط الاختلاف بين الدي إن إيه لنوعين، سواء كانا يَنتميان إلى الجنس نفسه أو إلى جنسين مختلفين. قد يكون التكامل بين الشريطين المهجَّنَين مثاليًّا في بعض الأجزاء على طول السلسلة، وغير مكتمل في أجزاء أخرى. يؤدي هذا إلى مشكلة في التفسير نظرًا لاحتواء معظم الدي إن إيه على مناطق ليست جينات على الإطلاق؛ فكما أشرنا مسبقًا، تحدِّد بعض المناطق أدوات التحكم التي تُفعِّل التعبير الجيني وتوقف عمله، بينما تَختصُّ مناطق أخرى بوظائف لم تتَّضح بعد؛ وعليه فمن المحتمل أن يكون قدر كبير من التشابه بين الشمبانزي والإنسان يقع في مِنطقة غير جينية، مع عدم وجود أي تشابه تقريبًا داخل الجينات نفسها. يُمكن اختبار هذا الاحتمال من خلال عزل جينات معيَّنة وتحليلها. وقد حدث هذا بالفعل، وأصبحنا نعلم الآن أن التشابه بنسبة ٩٥٪ يوجد في مناطق تشفيرية في الدي إن إيه — بعبارة أخرى في الجينات — وأيضًا في المناطق غير التشفيرية التي تمثِّل الكم الأكبر من الدي إن إيه. في المقابل، فإن التشابُه في معظم الجينات يفوق بكثير نسبة ٩٥٪، حتى التي توجد في صميم الاختلافات بين الإنسان والشمبانزي (انظر الفصل الرابع). يرجع السبب في ذلك إلى أن الضغط الانتقائي يميل إلى الاحتفاظ بتتابعات التشفير في الدي إن إيه أكثر من الأجزاء غير التشفيرية؛ فإن معظم الطفرات الخطيرة على وظيفة الجين؛ ومن ثم فإن الكائنات التي توجد بداخلها تُزال تدريجيًّا من مجموع الجينات، وعلينا ألا نتفاجأ من حقيقة أن نسبة التشابه هي نفسها تقريبًا في مناطق التشفير والمناطق غير التشفيرية في الدي إن إيه؛ هذا لأن الطفرات هي أحداث عشوائية تحدث في أي مكان على امتداد الدي إن إيه.
(٢٧) لأنَّ كثيرًا من الطفرات يكون «صامتًا»؛ بمعنى أن الوحدات التي تتغير على طول الدي إن إيه لا تؤدِّي إلى تكوين بروتينات متغيرة الوظيفة، فإنَّ الاختلاف الجينومي (مثل الاختلاف بنسبة ٥٪ الموجود بين الإنسان والشمبانزي) قد لا يَعكس إلى حدٍّ ما أكثر من الوقت الذي مر على انفصال الكائنَين؛ فكلما زادت نسبة الاختلاف، زاد الوقت الذي مضى على انفصال سُلالتَي أسلافهما. وكما سنرى في الفصل الرابع، يقلُّ احتمال تغيُّر الجينات التي تلعب دورًا أساسيًّا في الاختلاف الجوهري بين البشر والشمبانزي مقارنةً بالجينات التي تؤدِّي وظائف مُتماثلة لدى الكائنَين. تضمُّ الطفرات الصامتة تلك التي تؤدِّي إلى ظهور حالة تعدُّد الأشكال؛ بمعنى أن تَمتلِك البروتينات أحماضًا أمينية مُتغيِّرة، ومع ذلك لا يوجد لهذا أي تأثير واضح على وظيفتها.
(٢٨) «… نحن حتى الآن لا نَعرف أي أجزاء من الدي إن إيه في أجسامنا مسئولة عن الاختلافات الوظيفية الواضحة بين البشر والشمبانزي …»: (جارد دياموند، المرجع السابق، ص٢٨). وكما سنرى في الفصل الرابع، في أحد الأمثلة التي خضع فيها أحد الاختلافات الواضحة للغاية للتحليل، كانت الجينات الأساسية تقريبًا واحدة، ولم يحدث اختلاف في البروتينات المسئولة عن هذا التفاوت إلا في حَمضين أمينيين من ٧١٥ حَمضًا أمينيًّا.
(٢٩) يعتقد البعض أن مثل هذه الفروق البسيطة في السلوك تقع خارج نطاق التفاعلات الجزيئية، لكن إذا نظرنا إلى سلوك نحل العسل، التي لا تختلف تفاعلاتها الاجتماعية كثيرًا عن تفاعلات البشر، فإننا نرى أن الاختلاف بين أحد أنواع النحل الذي يبقى في الخلية ويَعتني بها، ونوع آخر يذهب إلى الخارج ويبحث عن الرحيق، يعتمد على نشاط جين واحد، يكون هذا الجين خاملًا في النوع الأول من النحل، لكنه يُفعَّل في النوع الثاني؛ بمعنى أنه يُترجَم إلى بروتين، ويؤدي حقن هذا البروتين في النوع المستكين إلى تحويله إلى نوع نَشِط يجمع الرحيق. انظر إليزابيث بينيسي، مجلة ساينس، العدد ٢٩٦، ص٦٣٦، ٢٠٠٢. بالمثل، عندما يوجد أمام أنثى الدبور اختيار البقاء داخل مجتمع العشِّ أو الذهاب وحدها إلى الخارج من أجل تكوين عشٍّ جديد، فإن قرارها يعتمد جزء منه على خلفية جينية وجزء آخر على عوامل بيئية يمكن تحليلها. انظر راجافيندرا جاداكر، كتاب «علم الأحياء الاجتماعي لدى دبور الورق (روباليديا مارجيناتا)»، مطبعة جامعة هارفرد، كامبريدج، ماساتشوستس، ٢٠٠١.
(٣٠) مثل أوسترالوبيثكوس أفارينيسيس، والإنسان الماهر، والإنسان المُنتصب. انظر الفصل الرابع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤