الفصل الخامس

الخروج من أفريقيا: الاستكشاف والتوسع

«الفضول قتَل القطة»١ لكنه بالنسبة للبشر مِفتاح سلوكهم؛ فبداية من جولات الإنسان الأولى خارج موطنِه حتى استكشاف الكواكب، ومن إجراء تجارِب على الحجر الصوَّان حتى زراعة جين، كان سعيُ الإنسان مدفوعًا بفضول فطري. انظر إلى ابنك البالغ من العمر عامًا واحدًا وهو يفحص كل قطعة من الأثاث في الغرفة، وكل شيء يمكنه التقاطه، واستمع إلى ابنتك ذات الأعوام الثلاثة وهي تسأل باستمرار أسئلة مثل: «لماذا هذا؟» و«لماذا ذاك؟» هل يمكنك القول بصراحة إن الفضول، الذي يُعبَّر عنه عبر اليدين والصوت والعقل، ليس أساسيًّا في تطورهم؟ وإذا كان الفضول سمةً عامة هكذا في سلوك الإنسان، ألا يكون إذن نتيجةً لعمل جينات معينة؟ هل تعجَّلْنا كثيرًا في تأكيدنا على عدم وجود جينات خاصة بالإنسان؟ أنا لا أعتقد هذا؛ فعلى حدِّ علمنا يتجوَّل الشمبانزي بقدر ما نتجوَّل أنا أو أنت في العالم الموجود حوله، وهو يفتقر فحسب للصفات التي حدَّدناها — اليد سلسة الحركة، والقدرة على الكلام، والشبكة العصبية المعقَّدة — لإشباع تأملاته.

(١) هجرة الهومو الأوائل

منذ فترة تتراوَح بين مليون إلى مليونَيْ سنة بدأت مجموعات من الهومو استكشاف ماذا يوجد خارج موطنهم المباشر في الأدغال الأفريقية. على الأرجح كانوا من نوع الإنسان المُنتصِب، لكن لا يُمكننا التأكُّد من هذا؛ لأن الإنسان المنتصب لا بد أنه عاش لمئات الآلاف من السنوات مع سلفه الإنسان الماهر (على افتراض أنهما كانا نوعَين منفصلَين، وليسا مجرَّد شكلَين مختلفين من النوع نفسه)، ومع ذلك من وجهة نظر توضيح النزعة الاستكشافية لدى أسلافنا، لا يهمُّ في الواقع إذا كانوا من نوع الإنسان العامل أو الإنسان المنتصب. كما أن المنشأ الجغرافي المحدَّد لهذه المجموعات المبكِّرة من الهومو ليس معروفًا أيضًا، وربما بدأ تكوُّن مجموعات مختلفة من أماكن مختلفة. بالتأكيد لا بد أن تكون مجموعات كثيرة منها ترجع أصولها إلى الأجزاء السُّفلى للوادي المتصدع الكبير، الذي شهد أغنى اكتشافات لنشاط أشباه البشر. كانت الأدوات التي عُثر عليها بجوار بقاياهم ما تزال بدائية للغاية؛ ليس أكثر من مجرد حجارة مدببة صُنعت من خلال حك قطعة بأخرى، وهي عملية يُسميها علماء الآثار «التقشير»، ولم تُركب مثل هذه الأدوات إلا فيما بعد على أعمدة خشبية لصنْع فئوس ورماح بدائية.

لا بد أن المتجوِّلين أدركوا منذ فترة مبكرة للغاية أن النيران التي تشتعل أحيانًا بفعل البرق لا تمثل خطرًا، شريطة أن يَبقى المرء على مسافة آمنة منها. وعلى العكس، تُبعد النيرانُ المفترساتِ المحتملةَ، وتطهو الحيوانَ الذي تمكَّن أحدُ أفراد المجموعة مِن قتْله؛ مما يجعل مضغَه أسهل بكثير ويُحسِّن طعمه. لكن كيف يشعل المرء نارًا بنفسه؟ لا بد أنه عرف بالملاحظة العرَضية أن الشرارة الناتجة من تقشير الأشياء يُمكنها إشعال العيدان الجافة والنباتات الأخرى. هذا الفعل الواحد المتمثِّل في إشعال النار عن عمْد يُعدُّ إحدى الصفات المميزة للإنسان؛ فلم يُشعل أي شمبانزي نارًا على الإطلاق. ومع تجول مجموعات من الهومو إلى نقطة أبعد في شمال أوراسيا، لا بد أن الحرارة الناتجة عن ألسنة النار في مدخل الكهف أصبحتْ إضافةً مرحَّبًا بها للغاية لجلود الحيوانات التي تعلَّموا وضعها على أجسامهم؛ فقد يكون تشوكوتيان في شمال شرق الصين مكانًا باردًا في الشتاء.

لم يتبع تجوُّل الهومو طريقًا واحدًا مثل الحيوانات المهاجرة؛ فقد كانت الهجرة تحدث على صورة توسُّعات، تمامًا مثل التموجات الدائرية التي تَنتج عن قذف حجر في بركة من الماء؛ إذ تتحرك نحو الخارج بالتدريج، ومثل الأمواج في البحيرة، كان كل توسُّع يتبعه توسع آخر، رغم أن هذا يحدث على مدى نطاق زمني يقدَّر بآلاف السنوات. وعند انتقال مجموعة إلى أرض جديدة، قد تظلُّ بها لقرون أو أكثر. ثم ربما لأن أفراد المجتمع استنفدوا التوت والفواكه الموجودة على الشجيرات والأشجار في المِنطقة المجاورة، وسَّعوا حدود بحثهم عن الطعام قليلًا. كما رأينا في الفصل السابق، أضاف الهومو التهام الحيوانات النافقة، ثم الصيد فيما بعد، إلى مجرَّد اقتيات النباتات الموجودة حوله. كان هؤلاء الناس صيادين وجامعين للنباتات، فلم تظهر الزراعة حتى عصر الهولوسين منذ ١٠ آلاف سنة. ربما هدَّدت التغيُّرات المُناخية مصدرهم من المياه فانتقلت المجموعة، أو ربما كان خطر المفترسات أقل في مِنطقة أخرى. يوجد سبب آخر للتوسُّع في مناطق جديدة؛ ففي جميع أنحاء المملكة الحيوانية يوجد صراع لا نهائي بين قائد المجموعة — الذي يكون بوجه عام الذكَر الأقوى والأكثر عدوانية — والأعضاء الشباب الجدُد. إذا فاز أحد المتنافسين في المعركة على الهيمنة على المجموعة، فإنه يتولى القيادة، لكن إذا خسر؟ على الأرجح تكون النتيجة، من الحشرات إلى الثدييات، ترك هذا الفرد للمجموعة. على الأرجح نجد الأطفال والشباب يتجوَّلون وراء نطاق حدود المجموعة. إن مثل هؤلاء المهاجِرين هم الذين يعملون على توسيع مناطق تواجد النوع. وكما وصف عالم الأحياء الأمريكي إدوارد ويلسون الأمر قائلًا: «على الأرجح يكون هؤلاء المتجوِّلون هم الذين يَستقرُّون في المواطن الجديدة، ويُجربون أشكالًا جديدة من التكيُّف، ويتعلمون بسرعة أكبر، ويُعدلون القدرة الثقافية للنوع عن طريق التمثُّل الجيني.»٢ إذا انطبق هذا النوع من الهجرة إلى الخارج على الهومو الأول، فمِن شأنه أن يقدم تفسيرًا لتوسعه.
انتشر المهاجرون بالتدريج في جميع أنحاء أفريقيا؛ فتوجد بقايا للإنسان المنتصب في ترنيفين في الجزائر، وفي سوارتكرانس في جنوب أفريقيا، لكن كيف توسَّعوا في الشمال الشرقي داخل أوراسيا؟ بالتأكيد لم يكن لديهم مراكب؛ فبناء المراكب يتطلَّب معرفة فنية أكبر بكثير من تلك التي كانت موجودةً لدى الهومو الأوائل، والإجابة عن هذا أنهم لم يكونوا يحتاجون إلى مراكب؛ فقد جفَّ حوض البحر المتوسط إلى حدٍّ كبير خلال العصر الجليدي في هذا الوقت. فعندما تتجمَّد المياه في القطب الشمالي، يعمل لوح الجليد الذي يتكوَّن فعليًّا على حجز كثير من المياه الموجودة على سطح الأرض، فيقلُّ منسوب المياه في كل مكان آخر. تظهر العصور الجليدية وتختفي لأنَّ مدار الأرض حول الشمس ليس ثابتًا؛٣ ونتيجة لهذا تبرد الأرض أو ترتفع درجة حرارتها على مدى آلاف السنوات. تمثِّل درجة حرارة نصف الكرة الأرضية الشمالي خلال فصول الصيف المُتعاقبة عاملًا ذا أهمية بالغة في ضبط مستوى المحيطات. لم يَمتلئ البحر المتوسط بالمياه مرةً أخرى إلا منذ نحو ٤٥٠ ألف سنة مضت، في الوقت الذي كان الإنسان المنتصب وصل فيه بعيدًا حتى الشواطئ الشرقية لقارة آسيا؛ فقد عُثر على بقاياه في العبيدية في إسرائيل (تحدَّدَ تاريخها بنحو ١٫٤ مليون سنة مضت)، وفي جورجيا (جمجمة تحدَّد تاريخها بنحو ١٫٧٥ مليون سنة مضت؛ مما يجعلها أقدم عيِّنة يُعثر عليها خارج أفريقيا)، وفي مِنطقة تقع بين بحر قزوين وبحر آرال، وفي نارمادا في الهند (ربما ترجع إلى ٥٠٠ ألف سنة مضت) وفي تشوكوتيان ولانتيان في شمال شرق الصين (إنسان بكين يرجع إلى ٥٠٠ ألف سنة مضت)، وفي جاوة على طول نهر سولو في ترينيل (إنسان جاوة، من ٥٠٠ ألف إلى ٧٥٠ ألف سنة مضت)، وفي سانجيران وموجوكرتو (يُقال إنها ترجع إلى أكثر من مليون سنة). في هذا الوقت كان جنوب شرق آسيا كتلةً كبيرة واحدة من الأرض. وفي اتجاه الغرب توغَّل حتى بوكسجروف في شماليِّ إنجلترا (منذ ٥٠٠ ألف سنة، في الفترة التي كانت فيها بريطانيا ما تزال مرتبطة بأوروبا)، بينما عُثر على بقايا أخرى في بيلتسينجس ليبن في ألمانيا (عمرها ٤٠٠ ألف سنة) وفي سيبرانو في إيطاليا (عمرها من ٨٠٠ ألف إلى ٧٠٠ ألف سنة).

كانت الوظائف المُخيَّة للهومو منذ مليون سنة لا تزال محدودة؛ فقد استخدم النار والأدوات، لكن على الأرجح لم يكن يتواصل إلا عبر النخير والصيحات، إلا أنه حتى مثل هذه الأصوات البدائية يمكن إصدارها بطرُق مختلفة للإشارة إلى سيناريوهات بيئية متنوعة؛ فتُصدِر قرود الفرفت الشائعة في جميع أنحاء أفريقيا صيحةَ تحذير مختلفة عند رؤيتها لفهد أو نسْر أو ثعبان؛ فيتعرَّف رفاقها على الصوت ويتَّخذون الإجراء المناسب. نحن نعرف هذا لأن المتخصِّصين في علم الحيوان سجَّلوا صيحاتِ مجموعةٍ منها وأعادوا تشغيلها، دون أن يراهم أحد، لمجموعة أخرى؛ عند سماع الصوت الذي يحذِّر من فهد ستتسلَّق المجموعة الأخرى إحدى الأشجار، وعند سماع صوت التحذير من نسْر تُحاول الاختباء بين الشجيرات، وعند سماع صوت التحذير من ثعبان تقف منتصبة حتى تستطيع رؤية العدو على نحو أفضل بين العشب على الأرض. ومع ذلك ربما لم يكن يحدث إلا نقاش طفيف بين مجموعة الهومو حول وقتِ تحرُّكهم، وفي أي اتجاه، وبدلًا من ذلك كانوا يتبعون قائدهم، فيكون لكل مجتمع أو مجموعة قائد، وبين مجموعات القرود الحديثة يكون بوجهٍ عام الذكر الألفا هو المهيمن، رغم أن قرار وقت التحرك تتَّخذه أنثى دومًا. وفي حالة الهومو الأوائل لا نَعرف إلى أي مدًى كان التوسُّع في مناطق جديدة نتيجة تأثير الذكور أو الإناث. على أيه حال، كما ذكرنا سابقًا، ربما كانت الهجرة بفعل الخاسرين في المنافسات على القيادة.

أيًّا كان ما سعى المهاجرون وراءه، فإنهم ذهبوا بعيدًا للغاية عن موطنهم أكثر من أي نوع آخر من الرئيسيات في هذا الوقت، أو منذ ذلك الحين. ونظرًا لعدم العثور على بقايا من هياكل عظمية لأسلاف الشمبانزي الحالي، داخل أفريقيا أو خارجها، لا يُمكنُنا قطعًا أن نقول إن مثل هذه الرحلات لم تَحدُث؛ فكل ما نستطيع قوله إنها إن حدثت، فإنها لم تكن ناجحة. أنا أتكلم هنا عن وقائع حديثة نسبيًّا؛ فعلى مدى ملايين السنين، التي تقلبت خلالها الظروف المُناخية، انتقلت كثير من الحيوانات من موقع إلى آخر ثم ظلت في موطنها الجديد. كما أن حركة القارات عبر التحرُّك التكتوني الذي فصل بالتدريج كتلة الأرض الشمالية (أمريكا الشمالية وأرواسيا) عن الكتلة الجنوبية (أمريكا الجنوبية وأفريقيا والهند وأستراليا والقارة القطبية الجنوبية) منذ نحو ١٣٥ مليون سنة، وأعقبه اندماج الهند مع آسيا بعد ٧٠ مليون سنة، يَعني أن كثيرًا من الحيوانات والنباتات صارت منفصلةً؛ ونتيجةً لهذا ظهرت أنواع مختلفة في أماكن مختلفة. كانت السعالي أحد الأمثلة على هذا؛ فتَختلف القرود في أمريكا الجنوبية (سَعادِين العالم الجديد، ذات الأنف المفلطح) عن قرود العالم القديم الموجودة في أفريقيا وآسيا (النَّسْناسيات نازلة الأنف، ذات الأنف البارز). وتمثِّل الفِيَلة مثالًا آخر؛ فيتميَّز الفيل الهندي عن فيل الأدغال الأفريقية بأنه أصغر حجمًا، ولا توجد أنياب لدى الإناث. بالطبع يجب ألا يكونَ الانفصال الجغرافي فادحًا مثل الموجود بين القارَّات؛ فيعيش النوعان الحاليان من الشمبانزي (الشمبانزي الشائع والبونوبو) معًا في وسط أفريقيا، كما تعيش أنواع مختلفة من السلاحف وطيور البرقش، كما أشار داروين، على جزر جالاباجوس المختلفة. كل المطلوب من أجل ظهور نوع جديد من الحيوانات (أو النباتات أيضًا) هو ألا توجد فرصة لديه للتزاوج مع أحفاد آخرين لأسلافه. ما أريد توضيحه أن عمليات التجوُّل التي قام بها الهومو لم تكن غير مألوفة لدى الحيوانات، فكان الأمر المميَّز في الإنسان الأول هو توسُّعه المتعمَّد خارج مُناخ مناسب ودافئ إلى مُناخ أقل من هذا؛ فقد سعى إلى التكيُّف مع الظروف الأكثر برودةً بمجرَّد وصوله إلى وسط آسيا وأوروبا بفضل براعته، وتعطُّشه للسعي المستمر.

يَعتقد عالم الاقتصاد الأمريكي حايم أوفيك أن بعض أشكال التِّجارة ربما كانت تحدُث بين الهومو في وقت مبكِّر بين ١٫٥ إلى مليونَي سنة مضت. ربما من خلال تبادل حجر صوَّان بآخر، استطاع أفرادٌ لا تربطهم صلة التواصُل بعضهم مع بعض؛ مما أدَّى إلى تزاوجهم وتبادُل الجينات. يرى أوفيك أن التدفُّق الجيني هذا هو ما يميِّز أشباه البشر عن الحيوانات الأخرى، ويفسِّر سبب تعايُش أنواع مختلفة أقل من الهومو — نوع واحد على مدار الثلاثين ألف سنة الأخيرة — معًا في وقت واحد، وذلك على عكس سلفِه الأوسترالوبيثكوس.٤
حدثت الهجرات إلى خارج أفريقيا جميعها، موجة تلو الأخرى، في خلال آخر مليونَي سنة، وربما حدثَت أوَّلها منذ نحو ١٫٧ مليون سنة، وتبعها توسُّعان كبيران منذ نحو ٦٠٠ ألف سنة (بين ٤٢٠ ألف و٨٤٠ ألف سنة) و١٠٠ ألف سنة (بين ٨٠ ألف سنة و١٥٠ ألف سنة).٥ منذ نحو نصف مليون سنة، كان الهومو قد وسَّع مِنطقة وجوده، وإن كان على نحو متناثر، من أقل من ١٠ آلاف ميل مربع إلى أكثر من مليون ميل مربع. أصبَح بعض الذين وصلوا إلى أوروبا والشرق الأدنى أسلاف إنسان نياندرتال (هومو نياندرتالنسيس)، ربما عن طريق إنسان هايدلبيرج (هومو هايدلبيرجنسيس). عاش آخرون في آسيا، أو ظلُّوا في أفريقيا. لم يبقَ أيٌّ منهم على قيد الحياة. منذ نحو ٣٠ ألف سنة مات الجميع، وحلَّ محلهم نوع جديد من الهومو ظهر منذ ١٤٠ ألف سنة بين وادي أواش في إثيوبيا ومصبِّ نهر كلاسيس في جنوب أفريقيا. في هذا الوقت كان الإنسان العاقل في سبيله إلى الخروج من أفريقيا؛ فقد كان البحر المتوسط يمثِّل حاجزًا هائلًا، لكن كان لا يزال من الممكن السير عبر البرزخ في نقطة اقتراب البحر الأحمر من البحر المتوسط (في موقع قناة السويس الحالية). وعلى أيِّ حال ربما استطاع الإنسان العاقل بناء قوارب بسيطة.
القصة التي رويتها، التي تَعتمد على خليط من الأدلة الجزيئية والحفرية، ليست متَّفقًا عليها عالميًّا؛ فبعض علماء الآثار، خاصةً ميلفورد ولبوف من جامعة ميشيجان في الولايات المتحدة الأمريكية، يُعارضونها بشدة،٦ فرغم اتفاقهم على أن أقدم شكل من الهومو ظهر في أفريقيا، فإنهم لا يقرُّون الأدلة على أن الإنسان الحديث نشَأ بالكامل في أفريقيا. بدلًا من ذلك يفترضون وجود أصل آسيوي وأوروبي، بالإضافة إلى الأفريقي، في أصول البشر الموجودين حاليًّا. وهم لا يُسلِّمون بأن جميع أنواع الهومو المبكِّرة التي كانت تعيش في آسيا وأوروبا انقرضت، على العكس من ذلك يُقال إنهم كانوا أسلافنا المباشرين. تشير فرضية «تعُّدد المناطق» إلى أن الأفارقة الحاليين ينحدرون من سلالة أفريقية من الهومو، مع وجود مزيج من الجينات الآسيوية وغيرها، بينما ينحدر الآسيويون الحاليون من سلالة آسيوية من الهومو، مع وجود جينات أفريقية وغيرها لديهم، ويَنحدر الأوروبيون الحاليون من سلالة أوروبية من الهومو، مرة أخرى مع وجود جينات غيرها. ويُعزى التشابه في التكوين الجيني بين كل البشر الأحياء إلى الاختلاط والتزاوُج الداخلي على مدى أكثر من مليون سنة. يوافق مؤيدو «النشأة من أفريقيا وحدها» فيما يتعلق بأصل الإنسان العاقل، أن سلالة المُهاجرين من الإنسان المنتصب الأصلي ربما التقَوا بأنواع أخرى من الهومو في آسيا وأوروبا، لكنهم لا يُوافقون على حدوث تزاوج داخلي بينهم. يُمكن حل هذا الخلاف إذا اتضح أن الإنسان المُنتصب والإنسان العاقل ليسا نوعَين مُنفصلَين وإنما مجرَّد شكلَين مختلفَين، أو إذا كانت ذرية الأنواع البشرية المختلفة لديها قدرة إنجابية،٧ وهذه فرضيات لا يُمكننا حاليًّا اختبارها. تجدر بي الإشارة إلى أن مؤيدي فرضية تعدُّد المناطق يَحرصون على عدم إلزام أنفسهم بتحديد أي نوع من الهومو يتحدَّثون عنه.٨ تشير أحدث دراسة جزيئية،٩ خضعَت فيها جينات أخرى بخلاف جينات الميتوكوندريا وكروموسوم Y للتحليل،١٠ إلى وضع يجمع بين كلتا وجهتَي النظر؛ أن جميع البشر المعاصرين من أصلٍ أفريقي إلى حدٍّ كبير، لكن ليس بالكامل. ومن ناحية أخرى، يبدو أن الدليل الجزيئي الذي يُشير إلى أن الأوروبيين المعاصرين أقرب صلةً للأفارقة المعاصرين من إنسان نياندرتال، لا جدال عليه.

(٢) تحرك الإنسان العاقل

بطريقة أو بأخرى، كان الإنسان الحديث موجودًا في قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا منذ ٥٠ ألف سنة. تتمثَّل إحدى الحُجَج المؤيدة لفرضية تعدُّد المناطق في عدم توفُّر وقت كافٍ لديه ليسير من مكان مولده المزعوم في أفريقيا كل هذا الطريق حتى آسيا في الشرق في خلال نحو ٩٠ ألف سنة. أنا لا أفهم هذا الادعاء؛ فبعد عبور الإنسان العاقل من آسيا إلى شمال كندا، ربما على موجتين بين ١٦ ألف سنة و١٢ ألف سنة مضت،١١ استغرق أقل قليلًا من ألف سنة كي يَنتشر في جميع أنحاء الأمريكتَين، فترجع البقايا البشرية في باتاجونيا، في الطرَف الجنوبي لأمريكا الجنوبية، إلى ١٠٥٠٠ سنة١٢ (رغم أن أصلها، كما سنرى بعد قليل، لا يخلو من الجدل). فإذا استطاع الإنسان توسيع بيئته بمقدار ٨ آلاف ميل، من شمال كندا حتى جنوب شيلي، خلال ألف عام أو ما شابه، لماذا لا يُمكنه إجراء توسُّع مُشابه، من أفريقيا إلى أوراسيا، في فترة تُعادل ١٠٠ ضعف هذه المدة؟
لم يكن نوع الحياة التي يَعيشها الإنسان العاقل في هذه الفترة يَختلف كثيرًا عن حياة أسلافه الهومو؛ فكان لا يَزال صائدًا وجامعًا للأعشاب، ويَرتدي جلود الحيوانات في شمال أوروبا وآسيا، لكنه ربما كان يسير عاريًا في المناطق الاستوائية في أفريقيا وجنوب آسيا. ليس من الواضح متى ظهر الاحتشام بشأن إظهار الأعضاء التناسلية؛ فمتى عثر المستكشفون في القرن التاسع عشر والعشرين على مجتمع بدائي من الناس الذين انعزلوا عن باقي العالم، في أفريقيا أو غينيا الجديدة أو في غابات الأمازون، كانوا يجدون أن الرجال والنساء يغطُّون أعضاءهم التناسلية.١٣ في حالة الرجال، لا بدَّ أن رباطًا من نوعٍ ما، لمنْع الخُصيتين من التدلِّي وإعاقة الصيد وممارسة الأنشطة الأخرى، قد سبَق ظهور الرداء الذي يُرتدى فقط لأسباب اللياقة. ربما وصَل الاحتشام لأعلى درجاته بين الأوروبيين في القرن التاسع عشر، لكنه اختفى بسرعة، فأصبحت مُستعمَرات العراة والعري الكامل في شواطئ معيَّنة إحدى سمات عصرنا. تُشير التغيرات الدورية في الملابس إلى سعي الإنسان الْمُستمر للتجديد.

تمثَّل اختلاف الإنسان العاقل عن الأنواع المبكِّرة من الهومو في قدرته على الكلام؛ فأدَّى ظهور أحبال صوتية معقَّدة إلى تمكُّن أعضاء إحدى المجموعات من التحدُّث بعضهم إلى بعض، وعندما استقرَّت المجموعات وأصبحت منعزلةً في أجزاء مختلفة من أفريقيا وأوراسيا التي توسَّعت فيها، تطورت لغاتهم إلى أشكال مختلفة؛ فعلى عكس التكنولوجيا، التي تتَّسم بوحدة كبيرة في الشكل والوظيفة لدى شعوب مختلفة، ظلَّت اللغات منفصلةً. وهي تمثِّل إشارة جيدة على مدى تفاعُل المجتمعات المختلفة؛ في كثير من أنحاء أوراسيا من ناحية (تشهد السمات المشتركة لكل اللغات الهندية الأوروبية)، وغيابه تمامًا في أماكن أخرى (فكر في الألف لغة المستخدمة في غينيا الجديدة، على الأقل ١٠ منها له أصول مختلفة تمامًا). سنعود للحديث عن هذا الموضوع في الفصل الثامن.

لم يرضَ كل الذين استقرُّوا في جنوب شرق آسيا بالبقاء هناك؛ فمنذ ٥٠ أو ٤٠ ألف سنة انتقل البعض إلى أستراليا،١٤ ومنذ ٣٠ ألف سنة كانوا قد وصَلوا إلى جزر سليمان. في هذا الوقت كان كثير من الجزر الإندونيسية ما زالت متصلةً بعضها ببعض (أرض سوندا)، كما كانت غينيا الجديدة وأستراليا وتسمانيا لا تزال كتلة أرضية واحدة (ساهول)، ومع ذلك كان من الضروري المرور على ثمانية معابر بحرية من أجل الانتقال من الطرَف الجنوبي الشرقي للقارة الآسيوية إلى ساهول؛ ومن ثم لا بد أن هؤلاء المسافرين قد توصَّلوا إلى فن بناء المراكب البسيطة. من المحتمل أن هذه المراكب كانت زوارق طويلة خفيفة مصنوعة من جذوع الأشجار المجوَّفة أو من جلود الحيوانات، مع استخدام كل فرد في الطاقم مجدافًا خشبيًّا مصنوعًا خصوصًا، مثلما يفعل حاليًّا بعض سكان جزر بولينيزيا، أو ربما كانت أطوافًا مصنوعة من جذوع الأشجار المثبتة معًا بالشجيرات الصغيرة. لم تكن مساحات المياه التي تحتَّمَ عليهم عبورها كبيرة للغاية؛ فكانت تبلغ أطول مساحة نحو ٥٤ ميلًا، أو ضعف عرض القناة الإنجليزية، لكنه مع ذلك كان إنجازًا هائلًا. تذكَّر أن هؤلاء كانوا صيادين بسطاء وجامعين للنباتات، خاضوا البحر دون أدنى فكرة إلى أين يذهبون، لأسباب غير معروفة. ورغم أن فرص البقاء على قيد الحياة عند التوسع في مناطق جديدة على الأرض مُتفاوتة، فإن فرص النجاة في البحر على أمل الوصول إلى الأرض تكون في الواقع ضئيلة. من بين كل المستكشِفين الذين عاشوا على وجه الأرض، أظهر أسلاف سكان أستراليا الأصليِّين وسكان جزر سليمان بالتأكيد أكبر جَلَد في سعْيهم لاستكشاف نطاقات جديدة. ومنذ هذه الفترة في التاريخ فصاعدًا، انقرض إنسان نياندرتال في أوراسيا، وكان الإنسانُ العاقلُ النوعَ البشري الوحيد على وجه الأرض؛ وعليه فسأتخلى عن المسميات العلمية المتعبة وسأشير إلى نوعنا بكلمة البشر وحسب.
في الفترة بين ١٦ ألف سنة و١٢ ألف سنة مضت، بدأت مجموعات من البشر الذين استقرَّ أسلافهم في سيبيريا منذ آلاف السنين، والذين يَجتمعون معًا تحت العِرق المنغولي، في توسُّع آخر، فعملوا على توسيع موطنهم في اتجاه الطرَف الشمالي الشرقي لسيبيريا. في هذا الوقت كان أحدث عصرٍ جليديٍّ يوشك بالفعل على النهاية، لكن آسيا وأمريكا كانتا مُرتبطتَين بقطعة من الأرض في هذه المِنطقة. ومن هذه المِنطقة انتشرت مجموعات من الشعب المنغولي إلى ما يُعرف حاليًّا بشمال كندا، ربما على موجتين. في غضون ألف سنة أو ما شابه، ارتفع منسوب مياه البحر واختفى الجسر البري؛ فكان الرجوع يحتاج إلى مراكب.١٥ وفي وقتنا الحالي، بعد ١٠ آلاف سنة من العصر الجليدي، ما زال شمال كندا مكانًا موحشًا في الشتاء؛ لذا من غير المفاجئ أن المستوطنين هناك، الذين سأُشير إليهم الآن باسم الهنود الأمريكان، سرعان ما بدءوا في التوسُّع جنوبًا. أما الذين ظلوا في الشمال فهم الإنويت الحاليِّين (الإسكيمو) والأليوتيون الذين يعيشون في ألاسكا وكندا وجرينلاند. انتشر آخرون من النوع نفسه في كلِّ مِنطقة مما يُعرف حاليًّا باسم الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذه المناطق اصطادوا حيوان الماموث الصوفي (حتى انقراضه)؛ فقد عُثر على أعداد كبيرة من رءوس الرماح الصخرية القادرة على إصابة الماموث إصابةً مميتة في كثير من المواقع. استمرَّ التوسُّع على يد هؤلاء المستكشِفين، الذين أطلق عليهم علماء الآثار شعب كلوفيس،١٦ في وسط أمريكا وجنوبها، وفي غضون ألف سنة وصلوا إلى باتاجونيا.
ليست هذه الهجرة وحدها التي طُرحت كتفسير لظهور الإنسان في الأمريكتين؛ فقد طُرحت ثلاث طرق أخرى، يقتضي كلٌّ منها إجراء رحلات بالقوارب.١٧ كان أحدها من شرق آسيا إلى غرب كندا، مع التزام الإبحار بجوار الخط الساحلي قدرَ المستطاع، ربما تكون هذه الهجرة استمرَّت إلى الجنوب حتى الطرَف الغربي من أمريكا الجنوبية. ثمَّة رحلة أخرى مقترَحة من شبه الجزيرة الإيبيرية شمالًا، بتتبع الصفيحة الجليدية ووصولًا إلى الحافَة الشرقية لكندا. أما الرحلة الثالثة (وهي الرحلة الأبعد عن الاحتمال؛ إذ تشتمل على أطول رحلة في المياه المفتوحة) فهي من السواحل الشرقية لأستراليا، عبر جنوب المحيط الهادئ مباشرةً حتى الساحل الجنوبي الغربي لأمريكا الجنوبية. تتمثَّل الحُجج المؤيدة لهذه الهجرات فيما يلي؛ أولًا: أن الأدوات الحجرية التي عُثر عليها في بعض المواقع لها شكلٌ مختلف عن تلك التي عُثر عليها في مواقع أخرى؛ يُشير هذا — على الأقل لبعض علماء الآثار — إلى أن شعوبًا غير صيَّادي الكلوفيس سكنوا أجزاءً معينة من العالم الجديد. ثانيًا: عُثر على بعض المصنوعات في موقع تخييم يرجع تاريخه إلى نحو ١٥ ألف سنة في مونتي فيردي جنوبي تشيلي، هل توافَر بالفعل لشعب كلوفيس الوقت ليشقُّوا طريقهم نزولًا من كندا إلى باتاجونيا في أقل من ألف سنة؟ من غير المحتمل أن يكونوا عبروا جسر يابسة بيرنجيا قبل ١٥ ألف سنة أو ١٦ ألف سنة مضت؛ إذ كان لا يزال مغطًّى بصفيحة جليدية. ثالثًا: تُظهر حقيقة تمكُّن المهاجرين من غينيا الجديدة من الوصول إلى أستراليا بالقوارب منذ ٥٠ ألف سنة أو ٤٠ ألف سنة مضت، أن الإنسان أتقن فن بناء القوارب البسيطة في هذا الوقت.

يصعُب تفنيد أو إقرار هذه الافتراضات؛ ببساطة بسبب عدم وجود أدلَّة كافية. تؤكد الدراسات الجزيئية بالتأكيد الأصل المنغولي لكثير مِن الهنود الأمريكان الحاليِّين، لكن بسبب التزاوج الداخلي على مرِّ السنين، لا يُمكننا إغفال خليط من مجموعات صغيرة منفصلة من الأفراد ربما نشأت في غرب أوروبا أو شرق أستراليا. وبما أن البقايا الأثرية تَقتصِر إلى حدٍّ كبير على أدوات مَصنوعة من الحجارة، يصعب تتبُّع الأنماط البديلة لحياة المجموعات المُختلفة، مثل صيد الأسماك بدلًا من صيد الطرائد. عُثر قطعًا على بعض الأدلة على الاستيطان في جنوب جرينلاند، لكن يبدو أن هذه المجموعة من المستوطنين على وجه التحديد انقرضَت ولم تصل إلى أمريكا قط. يستمرُّ الجدل حول سرعة الهجرة؛ فيَعتبر جارد دايموند ألف سنة أكثر من كافية لإجراء رحلة من ألاسكا إلى باتاجونيا. على أيِّ حال، بما أن السفر على طول الساحل بالزَّوارق الطويلة أسرع من شق المرء طريقه عبر الغابات المطيرة الكثيفة وعلى طول جبال وسط أمريكا وجنوبها، لماذا لا يُمكن أن يكون بعض المهاجرين الأصليين من سيبيريا فعلوا الأمر عينه بأنفسهم؟ فلا بد أنهم صنعوا زوارق؛ إذ توجد إشارات على كَون كثير من الأنهار الكبرى في أمريكا الشمالية مأهولة بالسكان على الضفتين. فيما يخص فكرة حُجَّتي الأساسية، فإن هذه التوقعات من شأنها تقويتها فحسب؛ فأينما وجد الإنسان نفسه نتَج عن فضوله بشأن ما يوجد بعيدًا عنه وبحثه عن التقنية التي توصله إلى هناك؛ هجرات في جميع أنحاء العالم.

في النهاية الأخرى من العالم، في جنوب شرق آسيا، كان البحارة يتحرَّكون مرةً أخرى؛ فقد بدأت جزُر المُحيط الهادئ تُحتَل من أناس من أصل آسيوي. منذ ٣٦٠٠ وصلوا إلى فيجي (على بُعد ألفَي ميل جنوب شرق غينيا الجديدة)، ووصلوا بعد ألفَي عام أخرى إلى هاواي (على بعد ٣ آلاف ميل شمال شرق فيجي)، ووصَلوا منذ ألف سنة إلى نيوزيلندا (على بعد ١٥٠٠ ميل جنوب فيجي). لا تُعتبر بضعة آلاف من السنوات فترة طويلة لتغيُّر صفات عرقية، فسكان هاواي والفيجيون والماوري في نيوزيلندا تجمعُهم جميعًا صلة قرابة وطيدة. وحتى الانتهاء من تحليل الدليل الجزيئي للدي إن إيه الميتوكوندري، كان ثمة اعتقاد بأن سكان جزر كوك في تاهيتي، الموجودة شرق فيجي، ناهيك عن سكان جزيرة القيامة التي تقع أبعد حتى من هذا جهة الشرق، وصلوا إليها من أمريكا الجنوبية، وليس من جنوب شرق آسيا. وإن جزيرة الفصح، التي أطلق هذا الاسم عليها مُستكشِف هولندي يُدعى روجيفين لأنه عثر عليها في يوم عيد الفصح في عام ١٧٢٢، على بعد ٢٥٠٠ ميل فقط من الساحل الغربي لتشيلي، بينما تبعد ضعف هذه المسافة من فيجي وخمسة أضعافها من البر الرئيسي لجنوب شرق آسيا. وبما أن عالم الأنثروبولوجيا النرويجي ثور هايردال أظهر إمكانية الإبحار بطوف صغير، الكونتيكي، نحو ٦ آلاف ميل في الاتجاه الغربي من الساحل الغربي للبرِّ الرئيسي لأمريكا الجنوبية (من بيرو إلى تاهيتي)، كان من الطبيعي افتراض أن هذا هو الاتجاه الذي جاء منه سكان جزيرة الفصح.

لم يَعتقِد أحد أن هؤلاء البشر كانوا أذكياء بالقدر الكافي للإبحار أكثر من ١٠ آلاف ميل ضد الرياح السائدة، فكان هذا بالتأكيد دليلًا كافيًا على حماقتهم في استنزاف كل مواردهم الطبيعية، بما في ذلك الأشجار التي اعتمدوا عليها في بناء القوارب، التي ربما تركوا على متنها الجزيرة للبحث عن حياة جديدة في مكان آخر (أو على الأقل كانت تُستخدم في توفير الطعام من خلال الصيد)، وهو ما قضى على أعدادهم تقريبًا إلى حدِّ الانقراض بحلول القرن الثامن عشر. غير أنهم أبحروا بالفعل عبر المحيط الهادئ؛ إذ حلَّل المتخصِّص في علم الوراثة في جامعة أوكسفورد براين سايكس الدي إن إيه الميتوكوندري لسكان الجزيرة، مثل دي إن إيه المستوطنين البولينيزيين الآخرين، ووجد أنه يُشبه ذلك الخاص بسكان جنوب شرق آسيا، وليس الخاص بالهنود الأمريكان الحاليِّين الموجودين في أمريكا الجنوبية (أو أمريكا الوسطى والشمالية أيضًا).١٨ ونظرًا لأن الدي إن إيه الميتوكوندري يتعقَّب العلاقة بين الإناث فقط،١٩ من الممكن أن تكون مجموعة مكوَّنة من ذكر واحد فقط من الهنود الأمريكيين هي التي خاضت الرحلة غربًا من تشيلي أو بيرو (لكن كيف ومتى وصلت النسوة إلى هناك؟) استبعد سايكس هذه الحالة، على الأقل فيما يتعلَّق بجزر كوك، من خلال تحليل الدي إن إيه داخل كروموسوم Y؛ فرغم وجود خليط من كروموسومات Y الأوروبية — فعلى أي حال استكشفَ الكابتن جيمس كوك كل هذه الجزر في سبعينيات القرن الثامن عشر، ومنذ ذلك الحين يزورها الأوروبيون — فإن السلالة المهيمنة كانت من أصل جنوب شرق آسيوي، مع اختفاء أيِّ أثر لأسلافٍ من الهنود الأمريكيين. وعليه، يستطيع علم الأحياء الجزيئية الإجابة سريعًا على أسئلة جعلت علماء الأنثروبولوجيا والمؤرِّخين في جدل مع بعضهم لقرون. كان سكان جزيرة الفصح أذكياء لسبب آخر، فتَشتهِر جزيرتهم بتماثيل لرءوس بشرية يَبلُغ ارتفاع الواحد منها ١٠ أمتار، تصطف على طول أحد شواطئها. فمن المُذهِل كيف استطاع السكان الأصليون، باستخدام أدوات بدائية فقط، نحت هذه التماثيل الضخمة، فضلًا عن نقلها لعدة أميال ووضعها على أعمدة؛ فالأساليب التي استخدموها ما زلنا لا نعرفها حتى يومنا هذا.
منذ ألف سنة، انتهت الهجرات المبكِّرة للبشر إلى حدٍّ كبير، فاستقرَّ الإنسان بوجه عام في أي مكان انتهى به الحال فيه، ولم يَحدُث إلا تبادل بسيط بين مجموعة وأخرى، وبمرور الوقت ظهرت الصفات العِرْقية — مثل اللغات — للمجموعات المختلفة، كما تُظهِر حقيقة أن السكان الحاليين لأوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا مرتبطون جينيًّا ولغويًّا وثقافيًّا، أن هذه المِنطقة شهدت كثيرًا من التحركات والتزاوج الداخلي. أشرتُ في الفصل الثاني إلى حقيقة أن الدي إن إيه يتغيَّر قليلًا باستمرار نتيجةً لحدوث طفرات عشوائية، وهذه الطريقة التي يمكن بها استخدام الدي إن إيه الميتوكوندري ودي إن إيه كروموسوم Y تُساعد في تتبُّع التجمُّعات البشرية. يوجد أيضًا تنوُّع كبير في الجينات، ومن ثم في البروتينات، داخل الجهاز المناعي.٢٠ تتَّسم مجموعة أخرى من البروتينات، عمليًّا هي جزء مِن الجهاز المناعي، بدرجة مشابهة من التنوع. في هذه الحالة يكون الاختلاف من شخص لآخر، بدلًا من الاختلاف في صورة «تحديد جزَيْء غريب واحد في مقابل جزَيْء آخر» داخل الشخص نفسه. من بين البروتينات الأساسية في التنوُّع من شخص لآخر جزيئات (تُسمى مُستضدات الكُريات البيضاء البشرية) يختلف تركيبها قليلًا لدى كل إنسان ما عدا التوائم المتماثلة. هذا هو المركب المسئول عن رفض زرع جلد أو عضو من أي شخص إلا من أقرب الأقارب. إنه المركَّب الذي يُمدُّنا بقدر كبير من تفرُّدنا ويكمن وراء مقاومتنا النسبية للأمراض المختلفة أو قابليتنا للإصابة بها.

توفِّر الطفرات التي تحدُث داخل مركب مُستضدات الكُريَّات البيضاء البشرية عددًا وفيرًا من الجزيئات المختلفة التي لا تميِّز الأفراد فحسب، وإنما المجموعات العِرقية أيضًا؛ فربما يثبت أن نسخةً معينة من البروتينات مفيدة في نوع معيَّن من المُناخ، بينما تكون نسخة أخرى مفيدة في مُناخ مختلف، ويوفِّر شكلٌ من أحد البروتينات وقايةً من مرضٍ مُعدٍ منتشر في إحدى المناطق، بينما يقي شكل آخر منه من جرثومة مسبِّبة للمرض توجد في مكان آخر. بمرور الوقت، سيتكاثَر أصحاب التكوينات الجزيئية المناسبة بأعداد أكبر من غيرهم، وسيَحملُ أحفادُهم هذه الجزيئات لعدة أجيال. وبما أننا ذكرنا مميِّزات امتلاك جزَيْء بروتين معيَّن دون الآخر، ومن ثم الجين من أجل الحفاظ على استمرار إنتاجه لدى الذرية، عليَّ أن أكرِّر نقطة قديمة؛ أن كثيرًا من الجزيئات، مثل التي تدخل في تكوين الزائدة الدودية، توجد ببساطة دون أن يكون لها أي نفع أو ضرر، فربما ارتبطت فائدتها بفترة مبكِّرة من حياة البشر، أو في الواقع الثدييات.

(٣) المستكشفون المعاصرون

(٣-١) غزاة ورحالة

لم تَنقرض الرُّوح الاستكشافية للإنسان سواء منذ ٥٠ ألف سنة أو ألف سنة فقط. ومع ظهور الحضارات في بعض أجزاء من العالم دون غيرها — سنتحدَّث عن هذا الموضوع في الفصل القادم — أراد حُكَّامها معرفة ما يوجد وراء حدودهم. أُرسلت البعثات الاستكشافية، وكانت تُفيد على الدوام بوجود مجتمع أجنبي، وبناءً على الطبيعة الحربية للحاكم، كان يرسل جيشًا من أجل الإغارة على جيرانه وتوسيع أراضيه، أو كان بدلًا من ذلك يوسِّع قاعدته الاقتصادية من خلال تكوين شركاء تِجاريِّين جدد. ويَظهر هذان النوعان من التوسُّع على نحو متكرِّر على مدار التاريخ البشري.

على سبيل المثال، في حالة الإسكندر الأكبر في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد؛ كان هدفه الأول استعادة الأرض التي أخذها الفُرس في الأناضول (تركيا حاليًّا)، بعد ذلك عمل على توسيع الإمبراطورية اليونانية من خلال هزيمة الفُرس في مصر وسوريا وبلاد الرافدَيْن (العراق حاليًّا)، وبعد ذلك كان هدفه أسر ملك الفرس المُراوغ، داريوس الثالث، بنفسه. دخل الإسكندر بلاد فارس واستولى على برسبوليس، العاصمة القديمة للملك خشايارشا. حرق القصر وباقي المدينة، التي كانت الأكثر خصوبة وروعة في العالم في هذا الوقت، وسوَّاها بالأرض، على ما يبدو انتقامًا من الهزائم السابقة التي تعرَّض لها اليونانيون على يد الفرس. كان هذا عملًا تدنيسيًّا لا يتناسب مع القيم اليونانية للسلوك المتحضِّر. لم يكن بحاجة لأسر داريوس؛ فقد عُزل الملك الفارسي، ثم طُعن حتى الموت على يد أحد رجاله. أصبح الإسكندر آنَذاك حاكمًا لأكبر إمبراطورية في العالم، «الملك العظيم» و«سيد آسيا»، ومع ذلك واصل الغزو، واتجه نحو وسط آسيا. من هذه المرحلة أصبح الإسكندر مُستكشِفًا أكثر منه قائدًا؛ ففي مُعظم الأحيان لم يكن يعلم إلى أين يذهب، ومع ذلك وسَّع الدولة اليونانية شرقًا وصولًا إلى البنجاب، مسافة ٢٥٠٠ ميل. قضى ١١ عامًا في حملاته، فعليًّا فترة حكمه بأكملها. كان يقود جيشًا يَسير معظمه على أقدامه، لكن مثل القادة التالِينَ له — نابليون في ١٨١٢ وجنرالات هتلر في ١٩٤١ في محاولاتهم على التوالي للاستيلاء على روسيا — فقد أفرط أكثر مما يَنبغي في طموحاته. فالأراضي التي تؤخذ بالقوة عادةً ما تعود إلى السكان الأصليين؛ ولهذا السبب تنجو الخصائص الثقافية واللغوية لأحد الشعوب عادةً من فترات هيمنة قوة أجنبية. لم يَعِش الإسكندر ليرى إمبراطوريته وهي تنهار، بل لم تتسنَّ له العودة إلى اليونان؛ ففي طريقه إلى بلده تُوفِّي على أثر حُمى، على الأرجح التيفوس، في بابل، وكان في الثالثة والثلاثين فقط من عمره.

إذا كانت الشعوب التي خاضت البحر في جنوب شرق آسيا منذ ٥٠ ألف عامٍ أعظم الْمُستكشفين في عصرهم، فإن كريستوفر كولومبوس، أو كريستوبال كولون كما كان يحب أن يُطلق عليه، كان أحد أكثر المستكشفين إصرارًا في العصور الحديثة؛ فإيمانًا منه بما قرأ — في كتاب إسدراس الثاني الإنجيلي المشكوك في صحَّته، وفي كتابات بطليموس٢١ والمُختص الفلورنسي بعلم دراسة الكون المعاصِر له باولو توسكانيلي — بأن الأرض مُستديرة وليست مسطَّحة، وأن المسافة الأرضية من الحافَة الغربية للعالم (إسبانيا) إلى الحافَة الشرقية (الهند الشرقية وكاثاي) طويلة للغاية، حاول هذا البحار القادم من جنْوَة إثباتَ أن المسافة من إسبانيا إلى آسيا في اتجاه الغرب لا بدَّ أن تكون بِناءً على هذا قصيرة نسبيًّا؛ ٣٩٠٠ ميل من جزر الكناري، وفقًا لحساباته (لم يكن بعيدًا للغاية عن الصواب؛ فالمسافة عبر المحيط الأطلنطي من النقطة التي عبر منها تبلغ في الواقع نحو ٤ آلاف ميل). وعن طريق الإبحار غربًا بدلًا من الاتجاه شرقًا يُمكن للمرء الوصول إلى الأراضي الخرافية التي تمكَّن ماركو بولو من الوصول إليها فقط بعد رحلة برية طويلة عبر وسط آسيا منذ مِائتي عام. كان كولومبوس يبحث عن شيء آخر أيضًا؛ جزيرة أنتيليا الأسطورية — التي أسماها أفلاطون أطلنتس، ووصَفها بأنها أقدم حضارة على وجه الأرض — والتي يُقال إنها تقع «خلف أعمدة هرقل» (مضيق جبل طارق)؛ أي في مسار كولومبوس مباشرةً.

ألحَّ على ملك البرتغال، ودوق مدينة شدونة وكونت مدينة سالم، وحكام إسبانيا، والملك فرديناند والملكة إيزابيلا؛ من أجل الحصول على التمويل، فرفَضوا كلهم. كان كولومبوس رجلًا طموحًا؛ فبعد ٦ سنوات من التوسُّل للزوجين المَلِكَين الإسبانيَّين، استطاع إقناعهما بتغيير رأيهما، وفي الثالث من أغسطس عام ١٤٩٢ انطلق في رحلته (صورة ١). نحن جميعنا نعلم أن كولومبوس لم يَرسُ على أرض آسيا، وإنما في أمريكا. بالطبع كان يَعتقد أنه وصل إلى جزر الهند الشرقية. كذلك لم يعثر على جزيرة أنتيليا، التي يُعتقَد بأنها في حجم قارة أوروبا، لكن تكريمًا لسعيه الدءوب سُمِّيَت بعض الجزر في البحر الكاريبي باسم الأنتيل. الأمر الأقل شهرةً أن كولومبوس لم يكن أول أوروبي يَعثُر على الأمريكتين.

فقد وصل الفايكنج إلى هناك قبله بخمسمِائة عام؛ إذ أبحروا هم أيضًا، في حالتهم من مضايق النرويج، في اتجاه الغرب. لم يتَّضح لنا ما كانوا يبحثون عنه؛ هل استُنزفت الأراضي التي كانوا يَصطادون فيها، أم أنهم كانوا يهربون من الضرائب التي سيثور عليها إخوانهم الأوروبيون في نيو إنجلاند بعد ٧٠٠ عام؟ استقرَّ إريك الأحمر في جرينلاند في عام ٩٨٢، بعد ما نُفي من أيسلندا لارتكابه جريمة قتل، حاول تشجيع آخرين باتباعه من خلال إطلاق اسم «الأرض الخضراء» (جرينلاند) على هذه الدولة الجديدة (بخلاف المناطق الساحلية في الجنوب، هذا الاسم به قدْر من المبالغة). في القرن الحادي عشر أدخل ليف إريكسون المسيحية من النرويج إلى جرينلاند، ووصل نورمانديون آخرون إلى أبعد من ذلك حتى البر الرئيسي لكندا. فأُقيم موقع بالقرب من موقع لانس أوه ميدوز في شبه الجزيرة الشمالية لمقاطعة نيوفندلاند؛ وبذا وصل أول أوروبيين إلى الأراضي الأمريكية، ومع ذلك فقد ذهَبوا دون ترك أيِّ مُستوطنات باقية. وكذلك لم يفعل المستعمرون لجرينلاند، مع أنهم التقَوا بالإنويت المحليين في ثول حتى وصل الحال بهم أن أقاموا إبرشية في عام ١١٢٦. اتَّضح أن الظروف بالقرب من الدائرة القطبية الشمالية قاسية للغاية على هؤلاء البشر من أصل أوروبي؛ فعلى الأرجح ماتوا جميعًا من نقص الطعام والمأوى. أما على بعد آلاف الأميال جنوبًا فكان المُناخ أكثر اعتدالًا، وعاش الإسبان ليَحكوا عن اكتشافاتهم.

لم تبدأ هذه الاكتشافات على البرِّ الرئيسي، بل على الجزر الموجودة في البحر الكاريبي. ورغم أنه اتَّضح فيما بعد أنها ليست جزءًا من آسيا، فقد سُميت المِنطقة بأكملها جزر الهند الغربية إشارةً إلى اعتقاد كولومبوس؛ فهو إجراء يهدف لإثبات أنه وصَل إلى أرض على أيِّ حال، فبعد قضائه شهرين في البحر، بدأ الطعام والماء يَنفدان في رحلته الاستكشافية، وكانت الرُّوح المعنوية آخذة في الانهيار. ترجَّاه الملازمون البحريون في السفن الثلاث التي كان أسطوله الصغير يتكون منها؛ «سانتا ماريا» و«نينا» و«بينتا»، أن يغيِّر مساره ويعود إلى أوروبا، فرفض كولومبوس. حصد ثمار مثابرته هذه في غضون أسابيع؛ إذ رسا على جزيرة أطلق عليها اسمًا مناسبًا هو سان سلفادور. واصل في اتجاه الجنوب الغربي ووصَل إلى الساحل الشمالي لكوبا (التي اعتقد أنها اليابان، ثم أطلق عليها سيبانجو). غيَّر اتجاهه وانحرف نحو الشرق، ورسا على جزيرة أطلق عليها اسم إسبانولا أو هيسبانيولا (هي حاليًّا هايتي وجمهورية الدومينيكان). في هذا الوقت كانت سفينته الأساسية، سانتا ماريا، جنحت وتركها من عليها. ظلَّت مجموعة من الرجال على إسبانولا بينما عاد كولومبوس إلى إسبانيا في أوائل عام ١٤٩٣ على متن السفينة نينا ومعه السفينة بينتا، ولقي ترحيبًا حافلًا.

مع ذلك، لم يتوانَ وأبحر في شهر أكتوبر من العام نفسه نحو الغرب مرةً أخرى، فكانت رُوح السعي تسري في دمه، لا لسبب إلا الفضول واكتشاف طريق جديد للتجارة مع كاثاي. اكتشف جوادالوبي وأطلق عليها اسمها (جوادلوب)، ثم اكتشف بورتوريكو في طريقه إلى إسبانولا، وهناك وجد رجاله قد ذُبحوا، ثم انتقل إلى موقع آخر وأسَّس مدينة إيزابيلا، أول مدينة أوروبية في الأمريكتين. أبحر غربًا ووصل عندها إلى الساحل الجنوبي لكوبا، الذي سار عليه حتى وصل إلى البر الرئيسي لآسيا. وعند اتجاهه نحو الجنوب وصَل إلى جزيرة أخرى أطلق عليها اسم سانتياجو (أصبحت جامايكا فيما بعد). عاد في النهاية إلى إسبانيا، على متن أول سفينة بُنيت على الإطلاق في الأمريكتين. لم يكن استقباله حماسيًّا كما أراد، وفي عام ١٤٩٨ انطلق مرة أخرى. اتخذ هذه المرة طريقًا جنوبيًّا، ورسا على جزيرة سمَّاها ترينيداد. أكَّد فيما بعد لأنصاره أن مصب النهر الذي كان يقع أمام مينائه هو دلتا نهر الجانج (كان حوض نهر أورينوكو في فينزويلا). في أثناء عودته إلى إسبانولا، بدأت الأمور تسوء بشدة؛ فقد تمرَّد الرجال وقبض على كولومبوس فرانسيسكو بوباديلا، الذي أرسله فرديناند وإيزابيلا من أجل حلِّ المشكلات الموجودة فيما أصبح يُسمى الآن العالم الجديد (مونودس نوفوس)؛ فقد توصل الملك فرديناند والملكة إيزابيلا إلى استنتاج أن كولومبوس كان قائدًا بحريًّا عظيمًا لكنه حاكم سيئ. هذه المرة عاد كولومبوس إلى إسبانيا مكبَّلًا بالأغلال.

لم يردعْه هذا وتمكَّن من استرجاع قدر من كرامته ورحَل مرةً أخرى في عام ١٥٠٢. ومن إسبانولا أبحر إلى سانتياجو، ثم انحرف نحو الجنوب الغربي ورأى أرضًا فيما يُعرف حاليًّا بهندوراس. سار على طول الساحل جنوبًا حتى وصل إلى بنما (مقاطعة «المانجو»)؛ حيث أسَّس مدينة بيلين (بيت لحم). ترك فيها أخاه بارتولومي مع فريق من ٨٠ رجلًا، أما هو فتوجه شمالًا إلى إسبانولا، وفي عام ١٥٠٤ عاد إلى إسبانيا، وقد أصبح في الثالثة والخمسين من عمره ويعاني من ألم المفاصل. أُصيب كريستوبال في الواقع بخيبة أمل كبيرة؛ فهو لم يَحصل على التكريم ولا الثروة التي كان يشعر بأنه يستحقُّها، وبعد عامين في بلد الوليد لَقي حَتْفه. كان مؤمنًا حتى النهاية بأنه عثر على طريق غربي إلى جزر الهند الشرقية (ولولا شريط الأرض الضيق الذي يربط القارَّتين، أمريكا الشمالية بالجنوبية، ربما تمكَّن بالفعل من النجاح في هذا). كان أبناء بلده هم من تشكَّكوا فيه، ومع ذلك فقد قدَّروا اكتشافه عن طريق نقل عظامه إلى إسبانولا، وهي توجد هناك في كاتدرائية سانتو دومينجو حتى يومنا هذا.

ربما كان كولومبوس أكثر المستكشِفين فضولًا وإصرارًا في العصر الحديث، لكنه لم يكن الأول؛ فقد بدأ البرتغاليون استكشاف ساحل أفريقيا قبل قرن من الزمان تقريبًا، في ١٤١٨، بينما كان الأدميرال الصيني، على الجانب الآخر من العالم، تشنج خه، يبحث في المحيطات الشرقية عن أراضٍ جديدة يُتاجر معها.٢٢ ما استغله كولومبوس كان عزم وإصرار بعض الرجال على العثور على ما يبحثون عنه بالرغم من كل الصعوبات. فتُظهر مثل هذه الرحلات أن البحث عن آفاق جديدة لا بد أن يكون مصحوبًا بكثير من الإقدام، وهو صفة بشرية لم أركز عليها حتى الآن؛ فضرورة وجود الشجاعة أمر يَنطبق بالتأكيد على كافة الْمُستكشفين من قبل أو حتى الآن، على الأرض أو في البحر. ونظرًا لأن الشجاعة لا تَعتمد على وظائف دماغية عالية — ربما يقول البعض عكس هذا — ولا على استخدام صندوق الصوت ولا البراعة اليدوية، فإنها تقع خارج دائرة الصِّفات التي حددتُ أنها خاصة بالإنسان. هل يتَّسم الشمبانزي بالشجاعة في وقتٍ ما؟ سأترك هذا للمتخصصين في علم سلوك الحيوانات لإثباته.
هل ترتبط الشجاعة بالبحث عن شيء ما؟ أحيانًا. فيتصرَّف عادةً المؤمنون بالحياة الآخرة، ويسعَوْن جاهدين إلى دخول الجنة فيها بدلًا من النار، تصرُّفات شجاعة باختيارهم؛ فهم يسعَوْن إلى التخلُّص الأبدي من خطاياهم الأرضية. لقد تعرَّض الشهداء الدينيون على مرِّ القرون إلى التعذيب وبتر الأطراف والحرق وضرب الأعناق والشنْق بسبب تمسُّكهم بعقيدتهم، لكن ثمَّة آخرون يتصرَّفون تصرُّفات شجاعة دون السعي للحصول على مكافأة روحانية، فماذا كان دافع الناس في هولندا وفرنسا الذين آوَوا الأطفال اليهود وطيارِي الحلفاء من النازيين في أربعينيات القرن العشرين؟ فقد كانوا رجالًا ونساءً عاديين تصرَّفوا فقط بدافع الشفقة، بالرغم من علمهم بأنه إذا قُبض عليهم — كما حدَث لكثيرين — فإنهم سيواجهون التعذيب والموت. توضح تصرُّفاتهم مدى ما يصل إليه ما نطلق عليه الإنسانية. ومع ذلك، فإن المخاطرة بحياة الفرد من أجل حماية فردٍ آخر، بما في ذلك أفراد الأسرة بالطبع، هو أمر نشترك فيه مع حيوانات أخرى؛ فالإيثار ليست صفة تميِّز البشر. في الواقع، يَصعُب فعليًّا رؤية فائدة وراثية للإيثار بين البشر٢٣ على الإطلاق. نشترك مع كثير من الحيوانات٢٤ في التعبير أحيانًا عن الإيثار لدينا عن طريق تخصيص مواردنا لأقاربنا، مثلما يفعل الجد والجدة. فنظرًا لتخطيهم سن الإنجاب بكثير، فإنهم يرعَوْن أحفادهم حتى سن التزاوج؛ ومن ثم يضمنون استمرار السلالة. ويستخدم العلماء هذه الحُجَّة لتفسير طول العمر (الحياة لما بعد سن حاجة أطفال المرء للرعاية) بالإضافة إلى الفائدة الوراثية للإيثار. وإذا كان الدافع للشجاعة لدى البشر يتمثل أحيانًا في التطلعات الروحانية، فإن نقيضها، الجُبن، يَكمن في بعض الأوقات وراء الاستغلال المادي، لدى الذين يستخدمون الآخرين لأداء الأعمال الخطيرة بدلًا منهم حتى يحصلوا على الثروة. يُعتبَر حب الاقتناء بالتأكيد أحد أوجه السعي، كما تُشير الكلمة، وسنعود للحديث عن موضوع الثروة في الفصل التاسع. وفيما يتعلَّق بالشجاعة، فإن امتلاكها يحدِّد مدى ما يصل إليه فضولنا، ومثل صفات أخرى، كدرجة براعة المرء الفكرية، تعمل الشجاعة على تعديل النتيجة؛ فهي ليست مكوِّنًا أساسيًّا في السعي.

لا يرتبط اسم كولومبوس بأماكن موجودة في أمريكا الوسطى فحسب، بل بمدن وأنهار — وحتى جامعة — داخل الولايات المتحدة الأمريكية. اعترض مؤخرًا بعض الأمريكان الأصليين على هذا التبجيل لرجل يعتبرونه مُغتصب أراضيهم. إن غضبهم واستخدام اسم كولومبوس كلاهما في غير موضعهما؛ فعلى حد علمنا لم يقع نظر كولومبوس قطُّ على الشريط الساحلي لأمريكا الشمالية، ناهيك عن الذهاب إليها؛ فقد حدث هذا على يد إسباني آخر، خوان بونثي دي ليون، الذي فعل هذا في عام ١٥١٣؛ وقد أطلق على الأرض اسم فلوريدا، ليَعكس اكتشافه الذي كان في أثناء احتفالات عيد الفصح (باسكوا فلوريدا)، وحقيقة أن الريف كان عامرًا بالفعل بالنباتات المزهرة بسبب الأمطار الاستوائية. رسا بونثي دي ليون على الشاطئ الشرقي بالقرب من البُقعة التي تطورت لتُصبح ميناءً مفيدًا. أقام الفرنسيون مستوطنةً في هذه المِنطقة، لكن في عام ١٥٦٥ طرَدهم الإسبان، الذين أقاموا مدينة مُكتملةً في موقع الميناء، وأطلقوا عليها سان أوجستين. رغم أن هذه هي أقدم مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الاسم الفرنسي، سان أوجستين، هو الذي ظلَّ باقيًّا.

وصَل جيش صغير آخر من الإسبان في عام ١٥٢٨، ولم يكن هدفهم الاستقرار في الأرض، بل كان هدفهم العثور على الذهب، مثل معظم مُستكشفي الأمريكتين في هذا الوقت. بدءوا من كوبا وأبحروا أعلى الساحل الغربي لفلوريدا. نزَل مجموعة من الرجال ليبدءوا البحث، تجوَّلوا في المستنقعات وتواصَلوا مع هنود سيمينول، الذين يعيشون هناك إلى يومنا هذا، لكنهم لم يَلتقوا بأبناء بلدهم الذين كانوا يعيشون على بُعد أميال كثيرة في الجانب الآخر من شبه الجزيرة؛ ولم يَعثُروا أيضًا على الذهب. ونظرًا لمعاناتهم من الحمى وهجمات التماسيح، تحرَّكوا شمالًا للقاء سفنهم، بالقُرب من تالاهاسي الحالية. حدثت مشكلة أخرى؛ فقد أبحر الأسطول وتركهم. قررت هذه المجموعة البرية، التي تقلصت آنَذاك إلى ٣٠٠ رجل ويقودُها كابيثا دي فاكا، أن يحاولوا الوصول إلى المكسيك، التي اعتقدوا أنها قريبة نسبيًّا. بنَوْا قوارب صغيرة وانطلقوا في المياه المضطربة لخليج المكسيك. وبعد قضاء ستة أسابيع في البحر، مات معظمُهم خلالها، رسا المتبقون على ما اتَّضح أنها جزيرة، فلم يصلوا إلى المكسيك، بل جزيرة جالفستون على ساحل تكساس. لم يكن هنود كارانجوا عدائيِّين، وأقام الناجون هناك لعدة سنوات. في هذا الوقت كان كابيثا دي فاكا فقَد الجميع ما عدا ثلاثة رجال؛ فقد مات معظم رجاله بسبب المرض، تمامًا مثل هنود كارانجوا، وبسبب الافتقار لأي مناعة ضد الأمراض التي جلَبها الأوروبيون، انقرضَت القبيلة بأكملها على مدار القرنين التاليَيْن. في الواقع، من بين ٥ ملايين هندي أمريكي كانوا يَعيشون في أمريكا الشمالية والمكسيك وجزر الكاريبي في نهاية القرن الخامس عشر (يقول البعض إنهم كانوا ضعفَيْ أو خمسة أضعاف هذا العدد) مات معظُمهم بسبب جراثيم الغزاة، وليس رَصاصهم؛ إذ قتلَت الحصبة والجدري وحدَهما ٩٥٪ من الآزتيك. وفي أمريكا الجنوبية كان الوضع مشابهًا؛ ويستمر حتى يومنا هذا، مع محاولة الباحثين الطموحين — لكن الحمقى في الوقت نفسه — «تحسين» حياة الهنود الأمريكان المنعزلين الذين يعيشون في غابات الأمازون المطيرة.

على شواطئ تكساس في عام ١٥٣٠، كان كابيثا دي فاكا ورفاقه يتعلَّمون لغة الهنود الكارانجوا، ويتبعون أنماط حياتهم. ومن خلال دمج مُعتقداته المسيحية بمعتقدات الهنود، أصبح كابيثا دي فاكا أشبه بالكاهن، وكان يعظ جيرانه ويُحاول علاج أمراضهم. لكنه لم يتخلَّ عن مسعاهُ الأصلي. وفي النهاية رحل هو ورفاقه، فساروا في اتجاه الجنوب الغربي بحثًا عن الذهب. وصلوا إلى المناطق الجبَلية في شمال المكسيك، وعثروا على معادن تَحتوي على الحديد — البيريت أو الذهب الكاذب — الذي كان الهنود المحليون، الذين يعيشون في القرى والمدن، يُذيبونه. ربما كان كابيثا دي فاكا لا يتمتَّع بذكاء كبير، لكنه كان عنيدًا للغاية؛ فقد كان يبحث عن الذهب، وكان يعتزم العثور عليه. اتجهت المجموعة شمالًا على طول الآثار التي تبعها على الأرجح المهاجرون الأصليون القادمون إلى الجنوب من ألاسكا قبل هذا بعشرة آلاف سنة، ووجدوا أنفسهم في النهاية يَسيرون في طرق مليئة بالأصداف. سلكوا هذه الطرق نحو الغرب حتى أصبحوا يرَون البحر؛ فقد ساروا أكثر من ألفَي ميلٍ عبر الجزء الجنوبي من أمريكا الشمالية، وكانوا أول أوروبيين يَعبُرون القارَّة.

قبل أن يتمكَّنوا من نزول المياه لأول مرة منذ نحو ٥ سنوات، هجمَت عليهم دورية إسبانية اعتقدتْ خطأً أنهم من السكان المحليِّين، وكانت على وشك إطلاق النار عليهم وقتلهم على الفور؛ فقد وصل كابيثا دي فاكا ورجاله إلى الحضارة الأوروبية. عند عودته النهائية إلى إسبانيا كتب كابيثا دي فاكا قصة أسفاره، وحاول إقناع السلطات بتغيير موقفهم تجاه الهنود ومعاملتهم كبشر عاديِّين، لكنه فشل في هذا، تمامًا مثل فشله في بحثه عن الذهب؛ فقد مات كابيثا دي فاكا فقيرًا.

بخلاف المستوطنات في فلوريدا، لم يستعمر الأوروبيون أمريكا الشمالية طوال القرن السادس عشر. كانت الصورة مختلفة في أمريكا الوسطى والجنوبية؛٢٥ فقد رسا إرنان كورتيس في المكسيك في عام ١٥١٩، ورسا فرانثيسكو بيثارو في بنما في عام ١٥٣١. كان هؤلاء الغزاة، أكثر من مجرد مُستكشِفين، كما يتَّضح من وصفهم؛ فقد كان هدفهم سرقة الأرض من سكانها باسم المسيحية، والعودة بالذهب. قال كورتيس لمونتيزوما «أعاني أنا وزملائي من مرضٍ في القلب لا يَشفيه إلا الذهب.»٢٦ وقد هزم كورتيس الآزتيك في المكسيك، وهزم بيثارو الإنكا في بيرو. حين كان السكان الأصليون يُبدون استعدادهم للتحول للكاثوليكية، فربما كان يُطلق سراحهم، أما حين لم يَحدث هذا، فكانوا يُذبحون.

اعتبر الغزاة أنفسهم مبشِّرين، رغم أنه يصعب رؤية أيِّ تشابه بينهم وبين المؤمنين الحقيقيين بالله؛ فالمبشرون مثل القدِّيس أوجستين، الذي أرسله البابا جريجوري في عام ٥٩٦ لتحويل الإنجليز إلى المسيحية، أو ألبرت شفايتزر، الذي بنى مستشفًى إرساليًّا لعلاج المصابين بالجُذام والسكان الأصليين الآخرين المرضى في لامبارين في أفريقيا الاستوائية الفرنسية (الجابون حاليًّا) في عام ١٩١٣، أو الأم تيريزا التي أسَّست جمعية الإرساليات الخيرية لرعاية المُعدَمين والمُحتضَرين في كلكتا في عام ١٩٤٨، لا يشاركون في إراقة الدماء؛ بالإضافة إلى هذا، في المثالين الأخيرين لم يشمل مسعاهم أيَّ تحوُّل ديني على الإطلاق. يسعى المبشِّرون الحقيقيون إلى مساعدة الآخرين، ماديًّا وروحانيًّا؛ فهم يسعَوْن إلى تحسين حياة البشر، لا تدميرها.

طوال القرن السادس عشر، واصل المستكشِفون البحريُّون من شبه الجزيرة الإيبيرية رسم خرائط للخطوط الساحلية للقارَّات. استكشفَ الْمُستكشِف البرتغالي فاسكو دا جاما الساحل الجنوبي لأفريقيا في عام ١٤٩٧، رغم أن بحَّارًا برتغاليًّا آخر، بارثولوميو دياز، رأى الطرَف الناتئ المرتفع لجبل تيبل بالقرب من الحافَة الجنوبية قبلَه في عام ١٤٨٨. أطلق عليه دياز رأس العواصف (الذي يعبِّر بالتأكيد عنه)، لكن الاسم تغير فيما بعد إلى اسم أكثر تفاؤلًا؛ رأس الرجاء الصالح.٢٧ بعد تسع سنوات صحب دياز دا جاما في رحلته الاستكشافية الأكثر شمولًا. على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي، أبحر فرديناند ماجلان، البرتغالي الذي كان يخدم ملك إسبانيا، عبر أرخبيل تيرا ديل فويجو (أرض النار) الواقع عند الحافَة الجنوبية للقارة الأمريكية في عام ١٥١٩، وتحمل حاليًّا هذه المياه التي سار فيها اسمه. أصبح ماجلان أول أوروبي يُبحر عبر المحيط الهادئ — اجتاز البولنيزيون بالطبع معظمه من الاتجاه المقابل قبل هذا بعدة آلاف من السنين — ورسا في النهاية في الفلبِّين في عام ١٥٢١ (التي سُميت على اسم فيليب أمير إسبانيا، الذي أصبح فيما بعد فيليب الثاني). على عكس الغُزاة الذين ذهبوا بعد كولومبوس إلى الأمريكتَين، لم يكن ماجلان يسعى وراء الأرض أو الذهب؛ فقد كان يبحث عن سِلَع لها قيمة متساوية اشتَهَرت بأنها لا توجد إلا على مجموعة صغيرة من الجزر في الشرق؛ التوابل. وصل المستكشفون البرتغاليون السابقون إلى جزر مولوكو، التي أصبحت أسطورية بسبب احتوائها على جوزة الطِّيب والقرنفل والفُلفُل، عن طريق الإبحار حول أفريقيا وفي اتجاه الشرق عبر المحيط الهندي. كان ماجلان، مثل كولومبوس، مقتنعًا بأن ثمَّة طريقًا أقصر إلى جزر الهند الشرقية يمكن العثور عليه عن طريق الإبحار غربًا؛ وفي حالته عثر عليه (رغم ثبوت أنه أطول). قُتل ماجلان في شجار مع السكان الأصليين في جزيرة ماكتان الفلبينية، لكن واصل الناجون رحلته الاستكشافية ووصَلوا إلى جزر التوابل، وحمَّلوا جوزة الطيب والقرنفل والقرفة وقشرة جوزة الطِّيب المطحونة، وتمكَّنوا من العودة إلى إسبانيا. تمثِّل رحلتهم أول رحلة بحرية تجوب العالم. وكان هذا، بالإضافة إلى أشياء أخرى، الدليل الأخير على أن الأرض مُستديرة بالفعل، وليست مسطَّحة.
كان القرن السادس عشر إذن قرن استكشاف؛ فقبل نهايته بوقت طويل رُسمت خرائط شديدة الدقة للشريط الساحلي لمُعظم أجزاء العالم، صنَع رسام الخرائط الفلمنكي جيراردس مركاتور،٢٨ الذي كان يعيش في ألمانيا، خريطة على هذا النحو في عام ١٥٦٩، ورغم أنها أظهرت خطوط الطول موازيةً بعضها لبعض، وهي بالطبع ليست كذلك، فإن هذا الرسم كان مفيدًا للملاحين؛ نظرًا لأن خطوط الاتجاهات في البوصلة، مثل الذي يُشير شمالًا، تكون بالفعل خطوطًا مستقيمة. كانت أجزاء من خريطة مركاتور دقيقة بناءً على التخمين أكثر من معلومات حقيقية؛ فقد توقَّع وجود مضيق بيرنج بين آسيا وأفريقيا قبل اكتشافه بنحو ٢٠٠ عامٍ. ونحن نَدين على الأرجح لمركاتور بكلمة «أطلس» (المأخوذة من الاسم الذي أطلَقه اليونانيون على أحد عمالقتهم الأسطورية)؛ فقد استخدمه عنوانًا لخرائطه عن جزء من أوروبا في عام ١٥٨٥.
كان من بين الذين بحثوا عن طريق جديد إلى جزر التوابل ملاح إنجليزي مثابر للغاية اسمه هنري هدسون، تمثَّلت محاولته الأولى في الإبحار جهة الشمال، وفي عام ١٦٠٧ وصل إلى مكان على بُعد عشر درجات من القطب الشمالي؛ حيث ظنَّ أن المياه ستُصبح فجأة أكثر دفئًا، لكن هذا لم يحدث، وأجبره الجليد على أن يعود أدراجه. ولمعرفتها بإنجازاته في القطب الشمالي، فوَّضت شركة الهند الشرقية الهولندية هدسون للعثور على «الممرِّ الشمالي الشرقي» الذي كانت هي ونظيرتها الإنجليزية متأكدتَين من أنه سيقتَطع آلاف الأميال من هذه الرحلة الطويلة حول أفريقيا. لم تَصلْ محاولات سابقة، أحدها لهدسون نفسه، إلى أبعد من نوفايا زيمليا على الساحل الشمالي لروسيا، لكن شعَر مُديرو الشركة أن مثابرة هدسون ومعرفته بمياه القطب الشمالي ستؤدِّي إلى نتيجة ناجحة. انطلقت الرحلة الاستكشافية أخيرًا في عام ١٦٠٩. ما لم يكن يعلمه مؤيدوه أنه لا يعتزم الإبحار شرقًا على الإطلاق؛ فقد كان هدفه العثور على «ممر شمالي غربي» وليس شرقيًّا. وصل إلى الساحل الغربي لنوفا سكوشا، لكن دفعتْه رياح جليدية وثلج مُتساقط، ناهِيكَ عن ثورة طاقمه، إلى الاتجاه جنوبًا. مرَّ على كيب كود، ووصَل إلى الفتحة الكبيرة بالقرب من جزيرة أسماها المحليون «مانا-هاتا»، رآها ملاح يُدعى جيوفاني دي فيرازانو قبل قرن تقريبًا من الزمن. شعَر هدسون بأن هذا المجرى المائي سيؤدي به إلى المحيط الهادئ؛ ومن ثم إلى جزر التوابل. للأسف، لم يَحدث هذا. أبحر إلى الشمال في المياه الفسيحة حتى وصل إلى مدينة ألباني الحالية، لكنه أدرك في هذه اللحظة أنه كان يُبحر فحَسبُ في نهر لا يؤدِّي إلى أي مكان. استَدار عائدًا على مضَض، ولو كان علم أن السكان اللاحقين لهذه الشواطئ سيُطلقون اسمه على هذا النهر، لم يكن هذا ليخفِّف عنه حزنه؛ فقد كان هدفه العثور على طريق غربي إلى المحيط الهادئ، لا أن يترك اسمه للأجيال القادمة. وعلمًا منه بأن دافعي راتبه ليسوا سعداء كثيرًا بنتائجه،٢٩ لم يعدْ هدسون إلى أمستردام وإنما إلى لندن، ومن هناك انطلق مرةً أخرى بحثًا عن الممر الشمالي الغربي، وهذه المرة بدعم من الملك الإنجليزي جيمس الأول. مرَّ في طريقه على نيوفندلاند، عبر المضيق الواقع بين جزيرة بافن والساحل الشمالي لكيبك، ودخل إلى الخليج، الذي أصبح حاليًّا هو والمضيق يَحملان اسمه. كان الثلج يتساقط بشدة، ومرة أخرى حدث اضطراب على متن السفينة، فقبَض فردان من الطاقم على هدسون، ووضعوه مع سبعة من أنصاره بالإجبار على متن قارب صغير من دون إمدادات، ثم تركوهم في عُرْض البحر، ولم يُرَ هنري هدسون مرةً أخرى على الإطلاق.
لم يَختلف تصرف معظم الإنجليز والفرنسيين الذين ذهبوا لاستكشاف أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر كثيرًا عن تصرُّف أسلافهم الإسبان في أمريكا الوسطى والجنوبية؛ فكانت أيُّ محاولة من جانب السكان المحليِّين لمقاومة استيلاء الوافدين على الأراضي التي يستهدفونها تُسحَق بوحشية. لم يَنطبق هذا على الآباء الحُجاج، الذين تركوا إنجلترا في عام ١٦٢٠ للهروب من الاضطهاد الديني.٣٠ أبحر هؤلاء من بليموث إلى فيرجينيا، التي استعمرها الأوروبيون في عام ١٦٠٧، لكن لأنهم ذهبوا دون خرائط بحرية، رسَوْا أبعد مِن هذا بأكثر من ٤٠٠ ميل شمالًا عند كيب كود في ماساتشوستس، ومنذ هذا اليوم يَفتخر أهالي بوسطن ونيو إنجلاند بسبب موقفهم المتسامح تجاه الأقليات العِرقية مثل الهنود الأمريكان وتجاه الأقل ثراءً. أسس فرانسيس كابوت أول مصنع للغزل والنسيج في العالم في بداية القرن التاسع عشر، وعلى عكس المصانع في لانكشاير واسكتلندا، كانت ظروف العمل مثالية. استخدم أفراد آخرون من عائلة كابوت ثروتهم في تأسيس مؤسَّسات مثل مستشفى ماساتشوستس العام وأوركسترا بوسطن السيمفوني. كانت أسرة لويل٣١ أسرة خيرية أيضًا، لكن الأُسَر الباقية كانت أقل إيثارًا؛ فقد مات أكثر من نصف الأمريكان الأصليين البالغ عددهم ١٫٥ مليون، الذين كانوا يعيشون في بداية القرن السابع عشر في جميع أنحاء كندا والولايات المتحدة الأمريكية، على يد المستعمرين الجُدد؛ الإنجليز والفرنسيين من أوروبا، والإسبان من المكسيك.

(٣-٢) أبطال معاصرون

بمجرَّد رسم حدود القارات على يد المستكشفين الأوروبيين (والصينيين)،٣٢ واستعمار المناطق الداخلية بها عبر غزوات من أبناء بلادهم الذين يتمتَّعون بالقدر نفسه من رُوح المغامرة، اكتسب سعي الإنسان معانيَ أخرى أكثر شهامة؛ فلم يعُد الإنسان يبحث عن مجرَّد طرُق بحْرية جديدة، أو معادن نفيسة، أو مناطق جديدة يستقرُّ فيها، لكن لأن أيَّ مكان في العالم لم يذهب إليه أصبح يمثل تحديًا، وكلما تعذر الوصول إليه كان ذلك أفضل. بدأنا بالأراضي القاحلة المتجمِّدة في الغطاء الجليدي القطبي، وانتهينا بسطح القمر الأقل ملاءمةً للحياة.

كانت ثمة صعوبة مزدوجة في الوصول إلى القطب الشمالي؛ فهو يبعد أميالًا كثيرة عن أقرب نقطة يمكن الوصول إليها بالقارب، كما أن الجليد يَذوب ليصنَع بِرَك مياه مما يجعل الذهاب بالمِزْلجة أمرًا صعبًا. يوجد أيضًا خطر ذوبان الجليد عند الحواف أو تشقُّقه. كل هذا يحدُث في الصيف؛ فلم يكن أي شخص بالغباء الكافي ليُحاول الذهاب إلى هناك في الشتاء، عندما تَنخفِض درجة الحرارة إلى −٧٠ درجة مئوية ويستمرُّ الظلام طوال ٢٤ ساعة في اليوم. لم يردَع هذا ضابط البحرية الأمريكية روبرت بيري؛ فقد ذهب في ثماني رحلات إلى القطْب الشمالي، ونجح في رحلته التاسعة، فادَّعى أنه وصل مع رفيقه الأمريكي ماثيو هينسون، تجرُّهما الكلاب، إلى القطب الشمالي في ٦ أبريل عام ١٩٠٩؛ فكانا أول رجلين يفعلان هذا. أنا أتحدث عن القطب الشمالي الجغرافي، أما القطب الشمالي المِغناطيسي، الذي تُشير إليه كافة البوصلات، فيبعد أكثر من ٣٠٠ ميل جنوب غرب القطب الشمالي الكندي، ولم يصل إليه أحد حتى عام ١٩٢٦، وكان هذا على يد ريتشارد بيرد، أمريكي آخر، على متن طائرة، والمستكشف النرويجي روال أموندسن على متن منطاد مزوَّد بمحرك توجيه.

يمثِّل القطب الجنوبي تحديًا آخر؛ فهو أكثر بُعدًا من الناحية الملاحية وأعلى من مستوى سطح البحر بنحو ٩٨١٦ قدمًا (٢٩٢٢ مترًا)، مما يجعل تسلُّق كتل صخرية من الجليد، خاصةً مع فريق من الكلاب، أمرًا شاقًّا، لم يُخفْ هذا أموندسن، الذي حاول ونجح بالفعل في ١٤ ديسمبر عام ١٩١١. ووصلت رحلة استكشافية بريطانية بقيادة روبرت سكوت، انطلقت في العام السابق، إلى القطب الجنوبي في يناير عام ١٩١٢، بعد شهر واحد من أموندسن؛ ولك أن تتخيَّل الإحباط الذي أصابهم.٣٣ وكان الأسوأ قادمًا؛ فحاصرت ريحٌ شديدة رحلةَ العودة، ونَفد طعامهم تقريبًا، ومات كل أفراد الرحلة الاستكشافية الخمسة.٣٤ عثرت مجموعة بحثية أُرسلت من سفينتهم الأم «ديسكفوري» على بقاياهم بعد ٨ أشهر. وكان بين اليوميات التي عُثر عليها سلسلة من الرسوم الرائعة بالألوان المائية رسمها طبيب الرحلة الاستكشافية، إدوارد ويلسون.٣٥
يمثِّل أعلى جبل في العالم، على ارتفاع ٢٩٠٢٨ قدمًا (٨٨٤٨ مترًا) تحديًا طبيعيًّا للإنسان؛ أولًا: بسبب قلَّة الهواء للغاية؛ مما يجعل من الصعب الوصول إليه دون إمداد بالأكسجين (رغم أن هذا حدث). والسبب الآخر: أن أسطُح الصخور شديدة الانحدار، والمساحات الواسعة من الجليد والصدوع العميقة تجعل الصعود مُرهِقًا وخطيرًا؛ فعلى الحدود بين نيبال والصين يقع جبل ساجارماثا (بالنيبالية)، أو كومولانجما (بالصينية)، وهو معروف لدى الأوروبيين باسم مدير قسم المسح الجغرافي في الهند في القرن التاسع عشر، السير جورج إفرست. فشلت كافة محاوَلات المجموعات لتسلُّقه في النصف الأول من القرن العشرين. وفي ربيع عام ١٩٥٣ نجحت مجموعة بريطانية بقيادة العقيد جون هانت، وقد وقف اثنان من الفريق، هما النيوزيلندي إدموند هيلاري وتينسينج نورجاي من شعب شيربا النيبالي، على القمة في ٢٩ مايو عام ١٩٥٣. بعد أربعة أيام تُوِّج ملكٌ جديد على رأس الكومنولث البريطاني، وبدا أن تسلق جبل إفرست كان إيذانًا ببدء عصر إليزابيثي جديد من الاستكشاف. كانت المشكلة الوحيدة أنه لم يعد يوجد شيء يُكتشَف. عزى البريطانيون أنفسهم بأنهم كانوا أول من أبحروا حول العالم دون مساعدة من أحد (فرانسيس شيشستر على متن سفينة «جيبسي موث ٤» في عام ١٩٦٧)، وأول مَن قام بهذا على الأقدام إلى حدٍّ كبير (رانولف فينس وتشارلز بورتن بين عامي ١٩٧٩ و١٩٨٢).٣٦
كانت أهداف الروس والأمريكيين أسمى من هذا؛ فقد كانت للاتحاد السوفييتي الريادة في الوصول إلى الفضاء في عام ١٩٥٧ بإطلاق القمر الصناعي «سبوتنك ١» في مداره حوله الأرض، وتبعتْها الولايات المتحدة بالقمر «إكسبلورر ١» في عام ١٩٥٨، وكان الروس في الطليعة مرةً أخرى في عام ١٩٦١ عندما أصبح يوري جاجارين أول رجل يصعد إلى الفضاء. كان أقل حظًّا بالقرب من الأرض، وتوفي في أثناء اختباره لإحدى الطائرات بعد هذا بعدة سنوات. في عام ١٩٦٢ انطلق جون جلين إلى الفضاء، وكان أوفر حظًّا من يوري جاجارين وتمكَّن من إعادة تجربته الملاحية الفضائية بعد ثلاثة عقود. بالطبع كان الهدف الحقيقي هبوط الإنسان على القمر، لكن يجب ألا نقلِّل من قدر الإنجازات الفنية المتضمنة؛ أولًا: إطلاق كبسولة فضائية بأمان في الغِلاف الجوي، وأظهر الرُّوس أن هذا أمر يمكن فعله، وكرر الأمريكان هذا الإنجاز، ثم يأتي تحديد الهدف بدقة على بُعد ٢٤٠ ألف ميل وهبوط مركبة قمرية بهدوء، مع ترك وحدة القيادة تدور حول القمر. وهذا فقط من أجل الوصول إلى هناك. في عام ١٩٦٩ كانوا مستعدِّين، وانطلق ثلاثة رواد فضاء إلى الفضاء. عند وصولهم بالقرب من سطح القمر، ظلَّ مايكل كولينز على متن مركبة القيادة، بينما هبط نيل أرمسترونج وإدوين (باز) ألدرين في المركبة القمرية (صورة ١). أنجزوا المهام الموكَلة إليهم، التي اشتملت على جمع قطع من الصخور من أجل تحليلها لاحقًا؛ وأثبت هذا أن عمْرَ القمر (٤٫٣ مليارات سنة) هو نفسه عمر الأرض تقريبًا (٤٫٦ مليارات سنة). وأظهرت التجارِب الأخرى حدوث هزات زلزالية تُشبه تلك التي تحدُث على سطح الأرض. وبخلاف أنَّ كتلته تُساوي نحو ثُمن كتلة الأرض؛ ومن ثم تبلُغ قوة الجاذبية على سطح القمر سُدس الموجودة على سطح الأرض، يبدو أن الاختلاف الوحيد الموجود بين القمر والأرض هو غياب أيِّ صورة للحياة على الإطلاق. فمع غياب المياه وتراوح درجات الحرارة بين ١٠٠ درجة مئوية في أثناء النهار القمري، و−٢٠٠ درجة مئوية في الليل، فلا يُمكن لأيٍّ من التفاعلات الجزيئية التي تتكون منها الكائنات الحية على الأرض أن تحدث. فلم تبدأ الحياة قطُّ على الأرض إلا لأنها كانت محاطة طول ٤ مليارات سنة مضت بغِلاف جوي من الغازات التي تَعزل سطحها عن درجات الحرارة القصوى النهارية.٣٧ صعد أرمسترونج وألدرين على متن المركبة؛ فهل ستَشتعل الصواريخ التي كانوا يحتاجون إليها لترك سطح القمر؟ إن لم تشتعل، فإنه سيُحكم عليهم بالموت السريع بمجرد نفاد مخزونهم من الأكسجين، كما ستعمل درجات الحرارة المنخفضة في أثناء الليل القمري على تجميدهم حتى الموت. انتصرت التكنولوجيا الأمريكية، واستطاع أول رجلين على سطح القمر الانضمام لزميلهما والعودة بسلام إلى الأرض. سألتُ باز ألدرين مؤخرًا إذا كانت هذه المهمة تمثل فعليًّا أكثر لحظة لا تُنسى في حياته بأكملها، فجاء رده على الفور: «دون أدنى ذرة شك.»

(٤) الهجرات الحديثة

دعوني أُنهِ هذا السرد القصير لسعي الإنسان وغزوه من حيث بدأْت؛ بالحديث عن غريزة الهجرة لدى الإنسان، وستكفي أربعة أمثلة يوضِّح كلٌّ منها حركة مجموعة مترابطة من البشر في العصور الحديثة.

إن الغجر، الذين يوجد انطباع خاطئ بأنهم جاءوا من مصر، نشئوا فعليًّا في شمال الهند. ولغتهم الرومانية، التي سُميت بهذا الاسم أيضًا بسبب إقامتهم لفترة طويلة في رومانيا، مُشتقة من اللغة السنسكريتية؛ ومن ثم تقع ضمن مجموعة اللغات الهندوأوروبية. إنهم في الأصل رحَّالة وتحرَّكوا تدريجيًّا نحو الغرب إلى أوروبا وشمال أفريقيا، حتى إنَّ بعضهم وصلوا إلى أمريكا الشمالية والجنوبية. بدأ تجولهم على الأرجح كمُتتبِّعين لمعسكرات الجيوش الهندية؛ فربما كانت الحِرَف التي ما زالوا يُمارسونها حتى يومنا هذا، مثل تجارة الخيول وصنع الأدوات المعدِنية ونسج السِّلال ونحت الأخشاب، مفيدةً للجيش في أثناء تحرُّكه. هناك أيضًا الموسيقى التي يعزفونها. لتأثُّرهم برقص الموريش، الذي كان مشتقًّا في حد ذاته من شمال الهند، أنشأ الغجر الذين عاشوا في إسبانيا في القرن الخامس عشر أسلوبًا حزينًا لكنه جريءٌ، أصبح معروفًا باسم الفلامنكو (بمعنى فلمنكي، تسمية أخرى مغلوطة). كان لديهم سبب للحزن؛ فكانوا يتعرضون دومًا، مع المورسكيين، للاضطهاد على يد «حاكميهم الأكثر التزامًا بالكاثوليكية»، فرديناند الثاني وإيزابيلا الأولى ملوك إسبانيا. كان الاضطهاد عاملًا مميزًا في رحلات الغجر على مدى مُعظم تاريخهم؛ فقد تمكَّن النازيون من إبادة نصْف مليون منهم بين عامي ١٩٣٣ و١٩٤٥، ومنذ ذلك الحين وهم مطارَدون في دول مثل رومانيا، أولًا من الرئيس تشاوشيسكو ثم من خلفائه. ومع ذلك فقد حافظوا على هُويَّتهم؛ فلم يقلِّل تفرُّقهم عبر القارَّات من قيَم الأُخوَّة لديهم. ومثل المجموعات الأخرى التي سأتحدث عنها، كانوا لا يسعَوْن إلا إلى السماح لهم باتِّباع أساليبهم التقليدية.

في القرن السابع عشر قرَّرت مجموعة من المزارعين الهولنديين الهجرة إلى جنوب أفريقيا من أجل الهروب من الاضطهاد الديني الذي تعرَّضوا إليه في موطنهم؛ فكانوا يؤمنون بعقيدة إصلاحية بشدَّة وبروتستانتية سُميت على اسم جون كالفن، رجل الدين الفرنسي الذي أسس الحركة الإنجيلية المَشْيخية في جنيف في منتصف القرن الماضي. استقر البويريون، كما أصبَح يُطلَق عليهم (الكلمة الهولندية التي تعني مزارعين)، على الساحل الشرقي لما يُعرف حاليًّا بجنوب أفريقيا في عام ١٦٥٢. لحق بهم في وقت لاحق أنصار كالفن من ألمانيا وفرنسا، رغم أن لغتهم — الأفريكانس — ظلَّت هولندية في الأصل. في البداية تزوَّج البويريون داخليًّا من الكويكوي (الهوتنتوت)، الذين أجبروهم فيما بعد على ترك أراضيهم واستخدموهم فقط كعمال. في ثلاثينيات القرن التاسع عشر انطلقت مجموعة من الأفارقة من أصل أوروبي، كما أصبح يُطلق على البويريين، في هجرة أخرى شمالًا إلى الداخل، وكان هدفُهم الهروب من تدخل البريطانيين الذين أقاموا مستعمرةً في المِنطقة نفسها، التي عُرفت في هذا الوقت بمستعمرة كيب، في عام ١٨٠٦. في أثناء هذه «الرحلة الكبرى» لم يتردَّدوا في ذبح أيِّ سكان أصليين في طريقهم؛ ففَقَد ٣ آلاف فرد من قبائل الزولو حياتهم في «معركة نهر الدم». وصل المهاجرون إلى ترانسفال؛ حيث أُقيمت العاصمة بريتوريا في النهاية على يد مارتينوس بريتوريوس. انتصروا في بعض المعارك ضد البريطانيِّين، لكنهم خسروا معارك أخرى، أشهرها حرب البوير الثانية في عام ١٩٠٢. استمرَّت كراهية الأفارقة من أصل أوروبي لأصحاب الأصول الأخرى الذين يَعيشون في محيطهم. وفي قمة كراهيتهم للأجانب، عقب انتخاب الحزب الوطني اليميني في عام ١٩٤٨، مارَس هؤلاء الأفارقة من أصل أوروبي التمييز ضد كافة غير البيض بحماسٍ ديني حقيقي. ومع ذلك يظل معظم الأفارقة من أصل أوروبي حتى يومنا هذا مسيحيين مخلصين. فمع تحولهم من مُضطهَدين إلى مُضطهِدين،٣٨ ما زالوا يَحتفظون ببعض الروابط والقيم التي وحَّدتهم على مدار ٣٥٠ عامًا.
في عام ١٨٣٠ أسس جوزيف سميث كنيسة يسوع المسيح لقدِّيسي اليوم الآخِر في نيويورك. استلهم سميث الفكرة من وحيٍ إلهيٍّ، وادَّعى أنه عثر على كتاب مورمون المفقود، الذي يصف هجرة مجموعة من اليهود إلى أمريكا الشمالية قبل نحو ٦٠٠ سنة من مولد المسيح، ويَعتبر أتباعه، المورمون، أنفسهم ورثة هذه المجموعة من الناس. كان سميث أيضًا يَعِظ بتعدُّد الزوجات بوصفه أسلوبًا للحياة.٣٩ وفي عام ١٨٤٧ قرر خليفته، بريجهام يونج،٤٠ بوصفه زعيمًا نقل قاعدتهم غربًا بحثًا عن صهيون الخاص بهم. تبعه ٥ آلاف مورموني في رحلة عبر مئات الأميال لمِنطقة لم تُكتشَف إلى حدٍّ كبير. عندما وصلت الرحلة الاستكشافية إلى بحيرة مالحة كبيرة فيما يُعرف حاليًّا بيوتا، علم يونج أنه عثر على الوطن الرُّوحي للمورمون، فبنى كنيسة عظيمة ظلَّت مكان عبادتهم المركزي. والمورمون طائفة مُلتزمة تنتشر حاليًّا في معظم أنحاء القارة الأمريكية وأبعد منها؛ فيُقال إن الكنيسة الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها بها أكثر من ٥ ملايين فرد، وثمة عدد مماثل في الخارج. وهم يُمارسون ما يَعظِون به (فلا يوجد لديهم رجال دين)؛ فهم يساعدون بعضهم، ويتبرَّعون بجزء من دخلهم إلى الكنيسة (بنسبة مرتفعة تصل إلى ١٥٪)، كما يقومون بأعمال تبشيرية. ظهرت كثير من الحركات الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية، وأحد الأمثلة عليها كنيسة المسيح العالِم، التي أسَّستها ماري بيكر إيدي في بوسطن في عام ١٨٧٩؛ فيوفِّر مُناخها المتقبِّل للأفكار المبتكَرة مكانًا خصبًا لازدهار الطوائف الدينية.

أُقيمت دولة إسرائيل في عام ١٩٤٨؛ فقد سعى الصهيونيون لإقامة وطن لليهود لسنوات عديدة، ونجحوا جزئيًّا في عام ١٩١٧، عندما أعلن وعد بلفور فلسطين بوصفها وطنًا قوميًّا لليهود. أقول «جزئيًّا» لأنَّ فلسطين كانت ولاية تحت الحكم البريطاني العام طوال الأعوام الثلاثين التالية. هاجر ملايين اليهود (٤٫٥ ملايين بين عامي ١٩٤٨ و١٩٩٤) إلى إسرائيل. لم يكن سببهم هو الحماس الديني، ولا تجنُّب الاضطهاد بالدرجة الأولى، رغم أنه بالنسبة للذين هاجروا من أوروبا كان الاضطهاد بالتأكيد الدافع الرئيسي. كان السبب المشترك للهجرة أمرًا آخر؛ الرغبة في الحصول على نوع من الهُوية والانتماء، في حياة يُمكن لليهودي أن يقول فيها بصدق إنه يعيش في بلده. لم يَخلُ سعيُ هؤلاء البشر من الصِّعاب؛ تمثلت في التخلي طوال الوقت عن وظائف مجزية في بيئة مريحة من أجل بدء الحياة كعامل في مزرعة، أو كمجنَّد في جيش في حالة حرب، أو كمدنيٍّ يواجه خطر التفجير يوميًّا. إن القاسم المشترك مع الغجر أن اليهود أيضًا تعرَّضوا للاضطهاد من فرديناند وإيزابيلا، وعانوا من الإبادة على يد النازيين في أوروبا (توفي منهم ٦ ملايين شخص).

كان بإمكاني استخدام أمثلة أخرى على الهجرات الحديثة، مثل الهوجونوتيون الذين تعرَّضوا للاضطهاد من حين لآخر طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر على يد حكامهم الفرنسيين بسبب التزامهم بالبروتستانتية، والمليون أيرلندي الذين تركوا وطنهم في عام ١٨٤٥ عندما فسد محصول البطاطس بسبب آفة زراعية، والعدد الهائل الذي هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بسبب اضطهاد الحكام البريطانيين بسبب اتباعهم للكنيسة المشيخية. كان بإمكاني الإشارة إلى هجرات الجامايكيين إلى بريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية، وإلى طرد الآسيويين خارج أوغندا على يد عيدي أمين في عام ١٩٧١، وإلى الفيتناميين الذين هرَبوا من بلدهم عقب سقوط مدينة سايجون في يد الفيت كونج في عام ١٩٧٥، وإلى المهاجرين من الصين وشرق أوروبا وشمال أفريقيا إلى غرب أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية في العقود الأخيرة (لأسباب اقتصادية وسياسية على حدٍّ سواء). إلا أن الأمثلة الأربعة التي اخترتُها توضِّح بالقدر الكافي وجهة النظر التي أريد التعبير عنها؛ أن بحث الإنسان عن حياة أفضل لا يَنسحِب على الأفراد فحسب، بل يَنسحب عادةً على مجموعة مترابطة من الناس تدفعها قيم مشتركة. أخرج السعي أولًا الإنسان من أفريقيا منذ مليون سنة، ويستمرُّ في تحريكه من بلد لأخرى أمام أعيننا.

هوامش

(١) مَثل من أوائل القرن العشرين.
(٢) كتاب إدوارد أوه ويلسون «البيولوجيا الاجتماعية: التركيب الجديد»، المرجع السابق، ص٢٩٠.
(٣) مؤخرًا، كانت العصور الجليدية — التي تتحدد بانخفاض مستمر في متوسط درجة الحرارة يتراوح بين ٥ و١٠ درجات مئوية — تستمر نحو ٦٠ ألف سنة، بين ٢٩٠ ألف سنة و٢٤٠ ألف سنة مضت، وبين ١٩٠ ألف سنة و١٣٠ ألف سنة مضت، وبين ٧٠ ألف سنة و١٢ ألف سنة مضت.
(٤) حايم أوفك المرجع السابق، الصفحات ١١٨ إلى ١٢١.
(٥) بناءً على التحليل الجزيئي الذي يتعقَّب التوسُّعات العددية والجغرافية على حد سواء. انظر مقال آلان آر تمبلتون «الخروج من أفريقيا مرارًا وتكرارًا»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٦: ٤٥–٥١، ٢٠٠٢.
(٦) انظر على سبيل المثال، مقال إم إتش ولفبوف وآخرين «أصول متعدِّدة المناطق وليست متعددة»، مجلة أمريكان جورنال أوف فيزيكال أنثروبولوجي، العدد ١١٢: ١٢٩–١٣٦، ٢٠٠٠. وللاطلاع على مناقشة جيدة لوجهات النظر المُتعارضة هذه، انظر جيه إتش ريلثفورد، المرجع السابق.
(٧) انظر الفصل الثاني.
(٨) يَستخدم مُصطلحَ هومو سيبيان «القديم» في مقابل هومو سيبيان «المعاصر» أو «الحديث» بعضُ علماء الأنثروبولوجيا لتجنُّب إعطاء جواب قاطع (تمامًا مثلما يُستخدم مصطلح هومو سيبيان نياندرتالينسيس وهومو سيبيان سيبيان للإشارة إلى إنسان نياندرتال والبشر الحاليِّين).
(٩) بِناءً على التحليل الجزيئي الذي يتعقَّب التوسُّعات العددية والجغرافية على حد سواء. انظر مقال آلان آر تمبلتون «الخروج من أفريقيا مرارًا وتكرارًا»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٦: ٤٥–٥١، ٢٠٠٢.
(١٠) الجينات التي توجد في اﻟ ٢٢ كروموسومًا الأخرى. ورغم أن المعلومات ليست قاطعة مثل تلك المأخوذة من تحليل الدي إن إيه الميتوكوندري (الذي يتتبَّع الأسلاف من الإناث) أو دي إن إيه كروموسوم Y (الذي يتتبَّع الأسلاف من الذكور)، يُمكن الوصول لبعض الاستنتاجات العامة.
(١١) رغم أن البعض يقول إن هذا حدَث في وقت مبكِّر منذ ٣٠ إلى ٢٠ ألف سنة مضت. انظر على سبيل المثال، فنسنت إتش مالمستروم، المرجع السابق، ص١٦.
(١٢) جارد دياموند، المرجع السابق، ص٣٠٦.
(١٣) لا ينطبق هذا على سكان أستراليا الأصليين الذي ظلوا عراةً بالكامل حتى عام ١٧٨٨، عندما عثر عليهم الأوروبيون لأول مرة في خليج بوتاني. انظر كتاب روبرت هيوز «الشاطئ المميت»، فينتاج بوكس، نيويورك، ١٩٨٨، ص٨٥.
(١٤) يقول بعض علماء الآثار إنَّ وصول البشر إلى أستراليا حدث في وقت مبكِّر يعود إلى ٧٥ ألف سنة مضت. ويذهب بيتر كيرشو من جامعة موناش إلى أبعد من هذا؛ فهو يعتقد أن الإنسان كان يُشعل حرائق فيها منذ ١٤٠ ألف سنة، لكن حتى الآن لا توجد أدلة كافية على هذا. انظر ريتشارد رادجلي، المرجع السابق، ص٢٤٥–٢٤٧.
(١٥) اكتشف القناة التي حُفرت مُستكشِف دنماركي يُدعى فيتوس بيرنج، والذي شجعه في عام ١٧٤٠ بيتر العظيم قيصر روسيا لاستكشاف ما إذا كانت آسيا وأمريكا الشمالية متصلتين أم لا. وجد بيرنج أنهما ليستا متصلتين، وسُمي المضيق على اسمه. في إحدى رحلات العودة التي قام بها (فقد قام بعدة رحلات) تحطَّمت سفينته. لجأ إلى إحدى الجزر التي مات عليها، وتحمل هذه الجزيرة أيضًا اسمه وبقاياه.
(١٦) على اسم موقع غني على وجه الخصوص بالأدوات الحجرية في مدينة كلوفيس في ولاية نيومكسيكو.
(١٧) ساشا نيميتشيك، مجلة ساينتيفيك أمريكان، العدد ٢٨٣ (سبتمبر): ٦٢–٦٩، ٢٠٠٠.
(١٨) براين سايكس، المرجع السابق، ص٩٦–١٠٧.
(١٩) انظر الهامش ٣٧ في الفصل الرابع.
(٢٠) ونتيجةً لهذا نستطيع محاربة العدوى، سواء ذات الأصل الفيروسي أو البكتيري أو البروتوزوي.
(٢١) سبق كل من فيثاغورس (٥٨٠–٥٠٠ قبل الميلاد) وإراتوستينس (حوالي ٢٧٥–١٩٤ قبل الميلاد) بطليموس (حوالي ٩٠–١٦٨ ميلاديًّا) بعدة قرون في طرح فكرة أن الأرض مُستديرة. وقد اقترح إراتوستينس قيمةً لمحيط الأرض لا تختلف عن الرقم الفعلي (٢٤٩١١ ميلًا) بأكثر من ٢ بالمِائة.
(٢٢) يَنسب البعض إلى تشنج خه إنجازات أكبر تأثيرًا من رحلاته الاستكشافية والتِّجارية الموثَّقة جيدًا بين الصين والهند والشرق الأوسط في عشرينيات القرن الخامس عشر؛ فقد قال أحد ضباط البحرية المنشقِّين الذي تحول إلى طالب علم، يُسمى جافن مينزيس، إن تشنج خه وصل إلى الأمريكتين قبل ٧٠ سنة من وصول كولومبوس، واكتشف أستراليا ونيوزيلندا قبل أكثر من ٣٠٠ سنة من جيمس كوك. انظر صحيفة ذا ديلي تليجراف (المملكة المتحدة) في ٤ مارس عام ٢٠٠٢، وكتاب مينزيس القادم «١٤٢١».
(٢٣) مقال إرنست فيهر وسايمون جاشتر «عقوبة الإيثار لدى البشر»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٥: ١٣٧–١٤٠، ٢٠٠٢.
(٢٤) انظر كتاب إدوارد ويلسون «البيولوجيا الاجتماعية: التركيب الجديد»، المرجع السابق، ص١٠٦–١٢٩.
(٢٥) ابتكر اسم القارة عالم الجغرافيا الألماني مارتن فالدسميلر، في عام ١٥٠٧. من الواضح أن فالدسميلر لم يكن على علم بشأن رحلات كولومبوس، وقرَّر احترام مزاعم المستكشف الإيطالي أمريجو فسبوتشي بأنه كان أول مَن رأى شواطئ أمريكا الجنوبية في عام ١٤٩٧. كان فسبوتشي مهتمًّا بالتِّجارة أكثر من الحرب، تمامًا على عكس المستكشفين الإسبان، الذين عبروا المحيط الأطلنطي بجيوش صغيرة بعد عدة عقود.
(٢٦) استشهد بهذه المقولة، لسبب وجيه، ستيرلينج سياجراف في كتابه «سلالة ماركوس»، دار نشر ماكميلان، لندن، ١٩٨٩، ص١٥.
(٢٧) على يد ملك البرتغال جون الثاني، أو ربما على يد بارثولوميو دياز نفسه. وفي الواقع إن أبعد نقطة في أفريقيا جنوبًا هي رأس أقولاس.
(٢٨) انظر نيكولاس كرين المرجع السابق.
(٢٩) رغم أن وصفَه لغِنى الغطاء النباتي والحيوانات البرية المفيدة في «مانا-هاتا» أسهم في شراء الهولنديين للجزيرة فيما بعد من السكان المحليِّين بحلي تعادل قيمتها ٦٠ جيلدرًا فقط.
(٣٠) بالطبع لا يُعتبر ترك الفرد لمنزله بحثًا عن حياة أفضل في مكان آخر شكلًا من السعي خاصًّا بالبشر. فنحن نشترك في هذا مع الحيوانات، كما أوضحنا بأمثلة عن الهجرة في الفصل الرابع وفي بداية الفصل الخامس ونهايته.
(٣١)
وهذه هي بوسطن القديمة
موطن الفاصوليا وسمك القد
لا يتحدث فيها آل لويل إلا إلى آل كابوت
ولا يتحدث آل كابوت إلا إلى الله (جون كولينز بوسيدي، ١٨٦٠–١٩٢٨).
(٣٢) يَنسب البعض إلى تشنج خه إنجازات أكبر تأثيرًا من رحلاته الاستكشافية والتِّجارية الموثَّقة جيدًا بين الصين والهند والشرق الأوسط في عشرينيات القرن الخامس عشر؛ فقد قال أحد ضباط البحرية المنشقِّين الذي تحول إلى طالب علم، يُسمى جافن مينزيس، إن تشنج خه وصل إلى الأمريكتين قبل ٧٠ سنة من وصول كولومبوس، واكتشف أستراليا ونيوزيلندا قبل أكثر من ٣٠٠ سنة من جيمس كوك. انظر صحيفة ذا ديلي تليجراف (المملكة المتحدة) في ٤ مارس عام ٢٠٠٢، وكتاب مينزيس القادم «١٤٢١».
(٣٣) كانوا يستخدمون دون تفكير حكيم، كما اتضح، المِهار بدلًا من الكلاب في حمل الأدوات العلمية الثقيلة من أجل الأبحاث المستقبلية.
(٣٤) للحصول على قصة حديثة انظر كتاب سوزان سولومون «المسيرة الأبرد: رحلة سكوت الاستكشافية المميتة إلى القطب الجنوبي»، مطبعة جامعة ييل، نيو هيفن، كونيتيكت، ٢٠٠١.
(٣٥) يمكن رؤيتها في كلية سانت جورج للطب في لندن؛ المستشفى التي حصل فيها ويلسون على تدريبه الطبي.
(٣٦) تركوا جرينتش في ٢ سبتمبر عام ١٩٧٩، وعبروا القطب الجنوبي في ١٥ ديسمبر عام ١٩٨٠، وعبروا القطب الشمالي في ١٠ أبريل عام ١٩٨٢، وعادوا إلى جرينتش في ٢٩ أبريل عام ١٩٨٢، بعد انتهائهم من رحلة بلغت ٣٥ ألف ميل (٥٦ ألف كيلومتر). انظر موسوعة جينيس للأرقام القياسية، ٢٠٠٣.
(٣٧) لمزيد من التفاصيل، انظر الفصل الثالث.
(٣٨) حتى تقاعد الرئيس بوتا في عام ١٩٨٩.
(٣٩) رغم أنه أصبح الآن رسميًّا أمرًا غير قانوني، فإن كثيرًا من المورمون ما زالوا يمارسون تعدُّد الزوجات، على وجه الخصوص الذين يعيشون في يوتا. ورغم منع الولاية لتعدُّد الزوجات عند انضمامها إلى الاتحاد في عام ١٨٩٦، فإنها تغاضَت عن ممارسته لأكثر قرن من الزمان، وأصبحت الآن فقط تضيِّق الخناق على الذين يواصلون ممارسة هذه العادة، الذين يبلغ عددهم نحو ٣٠ ألفًا.
(٤٠) كان يونج يطبِّق ما يَعظ به؛ فقد كانت لديه أكثر من ٢٠ زوجة و٤٧ طفلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤