الفصل السابع

الحضارة ١: المدن والمعابد

لنتحدَّث الآن عن ظهور سبع حضارات رئيسية أشرتُ إليها في الفصل السابق. الأدلة على هذه الحضارات أثرية إلى حدٍّ كبير؛ من خلال العثور على بقايا لتكوينات حجرية بارزة فوق سطح الأرض ثم الحفر إلى الأسفل للكشف عن أساساتها (أحيانًا يحدث التنقيب بناءً على الحدْس وحدَه). في الوقت نفسه تُنخَل التربة جيدًا لإظهار أيِّ أشياء أثرية مدفونة بالقرب من الموقع؛ مثل عُملات أو حُليٍّ أو أختام، أو أجزاء خزفية كانت أكوابًا فيما مضى أو أوانيَ لتخزين الطعام، أو ألواحٍ تحتوي على نصوص قديمة. لا تُخبرنا الهياكل العظمية للبشر عن حجم الناس الذين عاشوا في هذا الموقع فحسب، لكنها تخبرنا أيضًا عن بعض الأمراض التي عانَوْا منها؛ وتكشف لنا بقايا الحيوانات والمحاصيل عن معلومات حول الممارسات الزراعية والنظام الغذائي لبعض السكان. ويمكن تحديد عمر كل شيء عضوي يُستخرج بدقة إلى حدٍّ ما عن طريق التأريخ بالكربون، الذي كما ذكرنا سابقًا يُمكنه تحديد عمر الأشياء التي يتراوح عمرها بين ٥٠ ألف سنة و٢٠٠ سنة؛ ومن ثم يشمل الفترة التي نتحدث عنها.١ أما بالنسبة للعظام والأشياء المصنوعة من الحجارة أو الطمي أو المعادن، فإن ثمَّة أساليب تأريخ أخرى تُطبَّق. بالطبع لا يستطيع المرء إلا تأريخ الأشياء التي يعثُر عليها؛ فالمباني الخشبية لا تنجو عادةً من الدمار الذي يحدث عبر الزمن، وبالتأكيد لا تنجو أيضًا الأكواخ البسيطة المصنوعة من الطمي والقش. ومع ذلك فإن هذه تحديدًا تمثِّل المنازل التي عاش فيها جموع الناس. استمرَّ هذا الأمر حتى بضع مئات من السنوات؛ فإذا تجوَّلتَ بالسيارة في أوروبا فسترى كنائس وكاتدرائيات، وقلاعًا وقصورًا للأغنياء، كلها مبنية من الحجارة أو الطوب، لكن أكواخ الفقراء لم تَدُم؛ لذا يَعتمد قدر كبير من معرفتنا بالحضارات القديمة على القصور والمباني العامة، وعلى الأهرامات والمعابد، ويكون أسلوب حياة العامل (الذي يكون عبدًا عادةً) الذي بنى كل هذا مسألة تخمين إلى حد كبير.

(١) بلاد الرافدَيْن

تُعتبر مدينة أور والوركاء أقدم مدينتين في العالم؛ حيث سكنهما الناس منذ نحو ٧ آلاف سنة، وكلمة «أور» في حد ذاتها أصبحت تَعني القِدَم البالغ. تقع هاتان المدينتان على نهر الفرات بالقرب من مدينة البصرة الحالية في جنوب العراق، وكانتا جزءًا من مملكة السومريين. وبحلول عام ٣٢٠٠ قبل الميلاد كانت مدينة الوركاء بها ثلاثة معابد وقصر وقاعة أعمدة ومبانٍ أخرى توجد كلها داخل مجمع عُرف باسم إيانا. أما تعداد سكانها، الذي كان نحو ١٠ آلاف قبل ثلاثة قرون، فقد زاد إلى ٥٠ ألف بحلول عام ٣٨٠٠ قبل الميلاد. ولم يقلِّل وصول الأكَّاديين من الجنوب في هذا الوقت من أهمية أيٍّ من المدينتين (رغم أن فيضانًا حدث قبل هذا في أور، من مصب النهر عند الوركاء، كاد أن يفعل هذا)، وفي عام ٢١٥٠ قبل الميلاد أصبحت أور عاصمة الإمبراطورية السومرية الجديدة. استولى عليها الكلدان من شبه الجزيرة العربية في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد لكنها استمرت في الازدهار بجانب دول مدينية أخرى؛ كان بعضها، مثل أبو صلابيخ وكيش وبابل، يقع عند منبع النهر على طول نهر الفرات، وبُنيت أخرى مثل لجش وأوما، بالقرب من نهر دجلة في الشرق. خضعت كل هذه المدن في النهاية للفارسيين تحت حكم قورش الكبير في نحو ٥٤٠ قبل الميلاد. لم يتبقَّ حاليًّا الكثير من مدينتَي أور والوركاء، ومعظم ما نعرفه عنهما مستمد من المصنوعات التي عُثر عليها هناك.

لا يَنطبق هذا الأمر على مدينة بابل؛ فقد كشفت عمليات تنقيب مطوَّلة عن حجم المدينة، وقد سرتُ في أزقة المدينة التي أصبحت الآن تحت سطح الأرض وتعجبتُ من المباني المكتشَفة على جانبيها؛ على القارئ أن يتذكر أنه كلما زاد العمق الذي يُكتشف فيه نشاط إنساني، زاد قِدَم عمر هذا النشاط. ومثل مدينتَي أور والوركاء تعرَّضت بابل لاحتلال الأكَّاديين والحيثيين والكاشيين وغيرهم على مدار نحو ألفَي عام. على الأرجح نشأ الأكَّاديون في هذه المِنطقة، التي تتمثَّل حاليًّا في شمال سوريا والعراق، والتي ضمَّت المدن المكتشفَة حديثًا مثل ماري وتوتوي وتل خويرة بالقرب من نهر الفرات، وأشور ونِينوَى على نهر دجلة، ونجار ونبادا على نهر خابور بينهما. ذكرتُ كل هذه المواقع، فقط من أجل توضيح مدى انتشار الحضارة السومرية.٢ جاء الحيثيون من مِنطقة مرتفعة أبعدَ جهة الشمال، كانت عاصمتهم حتوساس (بوغاز كوي حاليًّا، التي تقع على بُعد ٢٢ ميلًا شرق أنقرة). وصلت بابل إلى أوج تطورها الثقافي تحت حكم الكلدان، الذين احتلوها قبل ١٠٠ سنة تقريبًا من اجتياح قورش لها في النهاية. ومثلها مثل أور والمدن الأخرى أصبحت مهجورة فيما بعد. وحاليًّا يُمكن رؤية كثير من البقايا المكتشَفة، بما في ذلك الطوب المصقول الجميل على شكل رأس أسد الذي زين بوابة عشتار إلى المدينة، في متحف بيرجامون في برلين (توجد نسخة منها ترحِّب بالزائرين في عصرنا الحالي على مدخل المدينة). ومن ألواح الطين النضيج، والمنحوتات الحجرية والعاجية، والأختام الأسطوانية والأشياء الأخرى، يُمكن للمرء الحصول على فكرة عن أسلوب الحياة المترف الذي عاش به البابليُّون وسكان المدن المجاورة. وتحت حكم السومريين أصبحَ الطب والعمارة والهندسة تخصُّصات مهنية، وكانوا أول من وحَّد الأوزان والمقاييس، واخترعوا واحدة من أقدم اللغات المكتوبة، ووضعوا أُسس الرياضيات وعلم الفلك. وكان شهرهم القمري الذي يبلغ ٢٩ يومًا و١٢ ساعة و٤٤ دقيقة في نطاق ٠٫٠٠٢٪ من قيمته الحقيقية. كما كانوا يعرفون أن مجموع مساحتَي المربعيْنِ الْمُنشأيْنِ على الجانبيْنِ القصيريْنِ لمثلث قائم الزاوية يساوي مساحة المربع الْمُنشأ على الجانب الثالث الطويل قبل ألف عام من فيثاغورس.

بنَوْا أضرحة صخرية مزخرفة لحكامهم المتوفَّين في شكل أهرامات مدرَّجة تُعرف باسم الزقورات، ما زال النصف السفلي لأحدها الذي بُني في الألفية الثالثة قبل الميلاد موجودًا في بابل، وربما يعبِّر عن برج بابل الأسطوري، وكانت ثمَّة لهجات مختلفة للأكَّاديين والسومريين ولغات أخرى تُستخدم في هذا الوقت. كان السومريون من أوائل الذين زرعوا الأرض لِمُتعتِهم أكثر من مجرد إنتاج الطعام؛ فتشهد حدائق بابل المعلَّقة، التي تُعدُّ واحدة من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، على مهارتهم المبتكَرة في توصيل المياه — ما يقرب من ٣٠٠ طن في اليوم وفقًا للحسابات — إلى أعلى سلسلة من المصاطب، أعلى من نهر الفرات المجاور لها. تعتمد معرفتنا بهذه الحدائق على النصوص الإغريقية التي كُتبت بعد عدة قرون؛ إذ إن موقعها الفعلي، الذي يُفترض أنه كان مجاورًا للقصر الملكي، لم يُعثَر عليه قط. على أنه يوجد احتمال أن الحدائق لم تكن في بابل على الإطلاق، إنما في نينوى التي تبعد ٢٠٠ ميل شمالًا، على ضفاف نهر دجلة (بالقرب من الموصل الحالية). تُعتبر حضارة السومريين بوجه عام واحدة من أقدم الحضارات — ربما أقدمها — التي بدأت في الظهور منذ ٦ آلاف سنة، وهي أبلغ مثال على الكيفية التي يُمكن بها لعدد من المجتمَعات الْمُتفاعلة ابتكار أسلوب حياة رفيع المستوى والحفاظ عليه طوال فترات احتلال طويلة لِمُعتدين خارجيين. بالطبع يعتمد هذا النجاح على رغبة الغازي في استيعاب الثقافة بنفس قدر سعي المنهزمين للحفاظ عليها.

(٢) مصر

لم يُعانِ ميلاد الحضارة المصرية من السيطرة الخارجية بهذه الطريقة؛ فقد حدَث هذا فيما بعد. بدأت منطقتان على طول نهر النيل تَنشآن في الألفيتين الخامسة والرابعة قبل الميلاد؛ واحدة بالقرب من الدلتا (مصر السفلى) والأخرى على بُعد ٤٠٠ ميل جنوبًا (مصر العليا). في عام ٣١٠٠ قبل الميلاد تقريبًا أنشأ مينا، الذي وحَّد مصر العليا والسفلى، عاصمته بالقرب من الدلتا، جنوب القاهرة في عصرنا الحالي، وأطلَق عليها مَنف. وفَّرت مياه النيل وسيلة للتواصل والتِّجارة بين مصر العليا والسفلى، لكنْ شماليَّ مَنف بدأ النهر ينقسم إلى عدة فروع وقنوات شكَّلت دلتاه حتى يومنا هذا؛ يتغير شكلُها وعمقها باستمرار مع انجراف الرمل والطمي أسفل النيل، ولم يكن أيٌّ منها مناسبًا للإبحار؛ ومن ثم لم تكن منف ميناءً، وكانت التِّجارة مع البحر المتوسط تحدث عبر البرِّ، ثم مِن مرافئ على طول ساحل فلسطين. ظهرت المدينة التي نَمت لتُصبح مركزًا تِجاريًّا في أعلى نهر النيل، طيبة، بعد هذا بفترة قصيرة، وأصبحت بحلول عام ١٥٠٠ عاصمة مصر.

بُنيت أقدم الأهرامات في منف، تقريبًا في وقت بناء الزقورات البابلية. ومثل الزقورات، بُنيت الأهرامات بوصفها حجرات لدفن الحاكم وأسرته. لم يُدفن الفراعنة مع مقتنياتهم المفضلة المصنوعة من الذهب والمعادن النفيسة فحسب، ولكن مع الطعام أيضًا لضمان رحلة آمنة إلى الحياة الآخرة. اتَّسم أول هرم، الذي بُني في سقارة للفرعون زوسر على يد مهندسه المعماري إمحوتب في سنة ٢٧٠٠ قبل الميلاد تقريبًا، بقاعدته المدَرَّجة، تمامًا مثل الزقورة. ويُقال إنه كان أقدم بناء يُبنى بالكامل من الحجارة. اشتَهر إمحوتب بسبب أعماله لدرجة أنه أُلِّه وعُبِدَ بوصفه راعي المهندسين المعماريين والكُتَّاب وطُلاب العلم. ويوجد افتراض حديث يقول إن الشكل المميز لهذا الهرم (بالإضافة إلى الأهرامات اللاحقة وأبو الهول في الجيزة) بُني ليعكس شكل تكوينات صخرية طبيعية على بُعد ٣٠٠ ميل جنوبًا في الصحراء بالقرب من الواحات الخارجة. منذ ٥ آلاف سنة كانت هذه الأرض سافانا، وليست صحراء، وربما تجوَّل البدو الذين عاشوا في هذه المِنطقة باتجاه الشمال، وأحضروا معهم وصفًا لمثل هذه الصفات الشكلية المميَّزة إلى سكان منف. إلا أن بعض المؤرخين يَحتفظون باعتقادهم بأن شكل الأهرامات يرمز إلى صعود الفراعنة إلى الجنة على جوانبها المدَرَّجة.

بُنيت أهرامات الجيزة الثلاثة — وتقع جنوب مدينة القاهرة حاليًّا — في فترة اتسمت بالمهارة الشديدة منذ ٤٥٠٠ سنة (صورة ٢). كان الهرم الأكبر أول هرم يُبنى فيها، وهو أكبر الأهرامات، ويحتوي على أكثر من مليونَي كتلة من الحجارة يزنُ كلٌّ منها في المتوسط ١٠ أطنان؛ ويصل ثقل بعضها إلى ٢٠٠ طن. وحتى ١٠٠ سنة مضت لم يَفُقْه أيُّ مبنًى في العالم وزنًا.٣ وعندما زار المؤرخ الإغريقي هيرودوت الموقع في القرن الخامس قبل الميلاد، قدَّر أن قوة عاملة تبلغ ١٠٠ ألف عبد كانت ضرورية لبناء الهرم الأكبر. اكتُشفت مؤخرًا بقايا كثير من المباني الحجرية بالقرب من الجيزة، ويرجع تاريخها إلى نحو ٢٥٠٠ عام قبل الميلاد، وضمَّت هذه المباني نحو ٦٠٠ قبر صغير. لم تكن هذه مقابر ملَكية؛ فلم تكن تحتوي على أي ذهب، ولم يكن الموتى محنَّطين. أظهرت هذه المقابر أن دَفْن عددٍ كبير من السكان كان أمرًا شائعًا. هل سكن هذه المنازل بُناة الأهرامات الثلاثة؟ يعتقد علماء الآثار هذا، ويَعتبرون هيرودوت مخطئًا في أمرين؛ أولًا: عدد المشاركين في عملية البناء؛ إذ يَحتمِل أنهم لم يتعدَّوْا نحو ٢٠ ألفًا (لكن ربما استغرق منهم الأمر نحو ٢٠ سنة حتى الانتهاء من كل هرم)؛ وثانيًا: أنهم لم يكونوا عبيدًا.

تُشير عظام الحيوانات التي عُثر عليها في الموقع أن الناس كانوا يأكلون طعامًا عالي الجودة، أسماكًا ولحوم الماشية. كما كانوا يخمِّرون الجعة ويَخبزون الخبز. وتُظهر عظامهم نفسها، التي حُفظت جيدًا في كثير من القبور في الموقع، علامات على مكان تعرُّضها للكسر (فيترك نقل حجارة تزن ١٠ أطنان أثره على العمود الفقري)، وإعادتها إلى مكانها بعناية. ومثل الطبقة الحاكمة، يبدو أن هؤلاء الناس كانوا يَحصلون على أفضل رعاية طبية؛ حتى إنه توجد أدلة على إجراء عملياتِ بَتْر بعناية، كانت — على الأرجح — الأقدمَ في العالم. لكن اختلفت حياة هؤلاء عن الأقلية المرفهة؛ فكانوا يموتون في المتوسط قبلهم بعشر سنوات. تُظهر العظام أن نصف السكان كانوا نساءً، وكان في المتوسِّط ثمة طفل واحد لكل زوجين. باختصار، كان سكان هذا المكان أُسَرًا عاملة ميسورة الحال تعيش في منازل حجرية؛ فلم يكونوا عبيدًا. إذن ما الدليل على أنهم شاركوا على الإطلاق في بناء الأهرامات الثلاثة في الجيزة؟ كما ذكرنا، تُظهر بقايا بعض الفقرات التي تشكِّل العمود الفقري علامات على تشوُّهات حادة، تتوافق مع تعرضها لإجهاد جسماني شديد. ثانيًا، تربط النقوش التي عُثر عليها في القبور مباشرةً بين سكانها وبناء الأهرامات. استُخلص الدي إن إيه من العظام الفردية (مع الحرص على منْع تلوثه بأي دي إن إيه من الذين يتعاملون مع العينات). رغم أن الدي إن إيه ليس بحالة جيدة جدًّا — فهو في النهاية يبلغ أكثر من ٤ آلاف سنة — يبدو أن التحليل يُشير إلى وجود علاقة بالمصريين في العصر الحالي الذين يَعيشون في القاهرة وبعيدًا في الجنوب على طول أعالي النيل.

الصورة التي تظهر أمامنا تبدو كما يلي: كان بُناة أهرامات الجيزة عمال بناء جاءوا مع أسرهم من جميع أنحاء وادي النيل، على الأرجح باختيارهم، من أجل المشاركة في هذا المشروع القومي. وكوَّنوا مجتمعًا — مدينة مزدهرة تمثل نحو ٢٪ من المليون مصري الذين كانوا يعيشون في هذا الوقت — مكرَّسًا لهدف واحد؛ بناء أكبر أضرحة مُمكنة لتوضَع فيها جثامين ملوكهم. لحسن الحظ عاش معظم هؤلاء الفراعنة فترة طويلة بما يَكفي لرؤية مثواهم الأخير مُكتمِلًا قبل وفاتهم. بُني الهرم الأكبر — الشمالي من بين الثلاثة — من أجل الملك خوفو (تشيوبس بالإغريقية)، الملك الثاني في الأسرة الرابعة.٤ أما الهرم الثاني الذي بُني فهو الهرم الذي يوجد حاليًّا في المنتصف؛ فقد كلف ببنائه ابن الملك خوفو الثاني خفرع، الذي خلف بعد حكم أخيه الأكبر لفترة قصيرة. هيمنت فترتا حُكم خوفو وخفرع على زمن حُكم الأسرة الرابعة؛ إذ امتد حكمهما ١٠٦ سنوات. أما الهرم الثالث الجنوبي من بين الأهرامات الثلاثة فقد بُني في عهد ابن خفرع؛ منقرع. لم يَعِش طويلًا بما يكفي ليرى قبره منتهيًّا؛ فقد أتم بنائه خليفته شبسس كاف.

كيف بُنيت هذه الآثار؟ على الأرجح بدأت عملية البناء بإتمام القاعدة بالكامل، ثم سحْب الكتل الحجرية بحبال أعلى منحدر صُنع خصوصًا، يمتدُّ على طول الجانب الخارجي للبناء المتزايد، وعند الانتهاء من القمة يُزال المنحدر. يوجد تفسير بديل لرفع الكتل الضخمة من الحجارة عن الأرض اقترحه مؤخرًا علماء أمريكان من معهد كالتيك؛ إذ اقترحوا استخدام طائرات ورقية لتطْيير كُتَل الحجارة حرفيًّا ووضعها في مكانها. رغم أن هذه تبدو فكرة مثيرة للاهتمام، فمِن غير المحتمَل أن تكون هي الطريقة الوحيدة المستخدَمة؛ فمِن المعقول أكثر ربط الحجارة بطائرات ورقية من أجل تخفيف وزنها لا أكثر. بمجرد الانتهاء من وضع الحجارة في مكانها، غُطيت الجوانب بطبقة من الحجارة البيضاء الملساء. سُرق معظم هذه الطبقة الخارجية منذ ذلك الحين، تمامًا مثلما سُرقَت المحتويات الداخلية للمقابر، لكن الطبقة الخارجية بالقرب من قمة الهرم الأوسط لا تزال في مكانها. يُعطي هذا الزائرَ فكرة عما كانت تبدو عليه الأهرامات الثلاثة في الأصل تحت ضوء الشمس الساطع في مصر؛ مشهد مبهر حقًّا (صورة ٢).

كل شيء فعَله المصريون كان مبتكرًا؛ فقد كانوا أول من استخدم الأرقام المكتوبة منذ نحو عام ٣٥٠٠ قبل الميلاد، وكانت في شكل خطوط بسيطة تعبِّر عن أرقام مثل من ١ إلى ١٠. بعد ٥٠٠ سنة استخدم السومريون الأرقام، وفي عام ١٢٠٠ قبل الميلاد استخدمها المينويون. ولم تظهر الأرقام المكتوبة في النقوش الهندية والصينية إلا بعد نحو ألف عام من هذا. وعلى الأرجح اخترع المصريون الزجاج — الذي يتطلَّب درجة حرارة ١٥٠٠ مئوية لصهْر الرمل وكربونات الصوديوم معًا — في عهد الأسر العظيمة في الألفية الثالثة قبل الميلاد. في البداية كانوا يَصنعون خرزًا صغيرًا، لكن في القرن الثالث قبل الميلاد كانوا يَصنعون كل أنواع الأشياء، حتى إنها ضمت أول عدسات. بدأ نفْخ الزجاج بعد هذا بعدة قرون، على الأرجح ليس في مصر نفسها ولكن في مِنطقة أبعد على الساحل الشرقي للبحر المتوسِّط فيما يُعرف الآن بسوريا (رغم تأكيد آخرين على أن المصريين كانوا يُمارسونه طوال الوقت). حتى مصائد الفئران، التي كانت تُعمل في هذا الوقت بزنبرك بسيط كحالها حاليًّا، فنحن نَدين بها للتكنولوجيا المصرية.

لفترة وجيزة، بدايةً من القرن السابع قبل الميلاد، تولَّى حكمَ مصر الهكسوسُ (وهي كلمة معناها «حكام بلاد أجنبية»)، لكن المصريين حافظوا على التقاليد الثقافية للعلم والأدب والفن والموسيقى والفلك والطب طوال فترات الاحتلال التالية على يدِ الغزاة الآشوريين والفارسيين والإغريق والرومان والعرب. ومع تزايُد التِّجارة عبر البحر المتوسط، كبر حجم مدينة الإسكندرية، التي سُميت على اسم فاتحها الإغريقي، وأضحَت عاصمةَ مصر حتى القرن السابع. ثم أعاد العرب العاصمة في اتجاه أعلى النهر تحت منف مباشرةً؛ حيث ظلَّت منذ ذلك الحين (وسُميت في البداية مصر، ثم القاهرة). في فترة ازدهارها كانت الإسكندرية المركزَ الثقافي لمِنطقة البحر المتوسط، وكانت منارتها التي تقع على جزيرة فاروس،٥ التي تُعتبر أيضًا إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، على الأرجح الأولى من نوعها؛ فكان البحارة يبحرون بأمان عبر الخط الساحلي الصخري بفضل النار المشتعلة في قمتها التي كانت تستمر طوال الليل. ظلَّت المنارة موجودة حتى القرن الثاني عشر، بعد ١٥٠٠ من إنشائها، وانهارت بعد هذا بقرنين، لأسباب غير واضحة حتى الآن.
ثمَّة اختراع آخر نتَج عن انصهار الثقافة المصرية والإغريقية في الإسكندرية في هذا الوقت وتمثَّل في إقامة مركز للتعلم داخل متحف الإسكندرية. كان يضم المكتبة الشهيرة، وحديقة للنباتات، وأخرى للحيوانات، ومرصدًا وبعض الغرف من أجل تشريح الحيوانات؛ عمل به إقليدس وكذلك إراتوستينس٦ وعالم الفلك هيباروخوس. لم تحتوِ المكتبة على وثائق إغريقية فحسب في شكل بعضٍ من أقدم الكتب التي ظهرت على الإطلاق، ولكنها ضمت على الأرجح ترجمات لنصوص من بلاد الرافدَيْن والهند أيضًا. ومثل نفخ الزجاج، نشأت فكرة تجميع الوثائق معًا في شكل كتاب على الأرجح بعيدًا في الشمال، على السواحل الشرقية للبحر المتوسط؛ ويَدَّعي ميناء جبيل الفينيقي، الذي كانت مصر على تواصُل معه منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، ملكيته لهذا الاختراع بالتحديد.٧ نجا المتحف والمكتبة من الزلزال الذي دمَّر قصر الملكة كليوباترا في خليج الإسكندرية، لكنَّهما دُمرا جزيئًّا في أثناء الحرب الأهلية التي وقعت بعد بنائهما بنحو ٥٠٠ سنة، وأُحرقت بقاياهما في النهاية على يد المُحاربين المسيحيين بعد قرن من الزمن. ومن ثم فُقد إلى الأبد أحد أكثر السجلات المكتملة لحياة الإنسان — ربما ما يصل إلى ٧٠٠ ألف مخطوطة٨ — من أربع أو خمس حضارات في العالم القديم.

تُعتبَر الحضارة المصرية، على عكس الحضارات التي نشأت في بلاد الرافدَيْن، أو في وادي نهر السند، أو في أمريكا الوسطى أو في بيرو، مميَّزة من حيث بقاؤها حية في المكان نفسه — الذي يرى كثيرون أنه أصبح العاصمة الفكرية للإسلام في عصرنا الحالي — لأكثر من ٥ آلاف سنة. تقترب منها الحضارة الصينية، وكذلك المينوية إذا اعتبرنا استيعابها وزراعتها من كريت إلى البر الرئيسي لليونان من جانب الميسينيين أنه استمرار لها.

(٣) الهند

كان الوادي الخصب لنهر السند، على مساحة تمتد نحو ٧٠٠ ميل من لاهور في الشمال الشرقي إلى كاراتشي في الجنوب الغربي، موطنًا لتطورات زراعية منذ الألفية الثامنة قبل الميلاد فصاعدًا. كان القمح والشعير يُزرعان، وكانت الخراف والماعز تُستأنس. وبعد ألف سنة أصبحت الماشية من النوع الهندي المحدَّب تُربَّى من أجل توفيرها للطعام والعمل. وبحلول عام ٥٥٠٠ قبل الميلاد كان هؤلاء الناس، الذين يُشار إليهم بالهنود، يَبنون جدرانًا من الطوب، ويُخزِّنون محاصيلهم من الحبوب في مخازن مصنوعة خصوصًا. كانوا يصنعون الخزف أيضًا، وكانوا يستخدمون النُّحاس والعاج، وكان اللَّازَوَرْد يُستخرَج من نطاق جبل كفارهيه محمد، كما لا يزال يحدث حتى يومنا هذا. وبعد ثلاثة آلاف سنة بدأت مُستوطَنات حضرية مثل الموجودة في هارابا٩ وموهينجو دارو١٠ تظهَر؛ وهي مدن أُنشئت وفقًا لخطة تُشبه الشبكة مع وجود مبانٍ عامة ونظُم صرف صحي مناسبة. اخترع سكان هذه المدن نظامًا معياريًّا للموازين والقياسات، وصنعوا أشياء من البرونز والنُّحاس والعاج والطمي. كذلك مارسوا التِّجارة مع المجتمعات المحيطة بهم، ووسَّعوا روابطهم التِّجارية في النهاية لتصل إلى بلاد الرافدَيْن. إلا أنَّ اقتراح أن الحضارة الهندية هي فرع للسومرية هو غير مبرر على الأرجح؛ فإن لغتها ومعمارها، ودينها وفنها مميَّز، وربما يكون التشابه بين الرموز الهندية والكتابة السومرية بالصور محضَ مصادفة (انظر شكل ٨-١). باختصار، نشأت الحضارة الهندية مستقلة عن الحضارات الأخرى، تمامًا مثل حضارة سومر ومصر وكريت، ولم تبدأ التِّجارة بين هذه المراكز الأربعة جميعها إلا بعدما شكَّلت المجتمعات المزدهرة والحياة في القرى والمدن شخصيتَها المستقلة. ومثل الحضارة السومرية، لم تستمرَّ حضارة وادي نهر السِّند؛ فقد بدأت في التدهور، وفي عام ١٠٥٠ قبل الميلاد سقطت في أيدي المحاربين الآريين، وبعد هذا بدأت في التحلُّل تدريجيًّا. يكون الضعفُ الداخلي عادةً تمهيدًا لغزو غزاة خارجيِّين؛ ومثال على هذا: الفقدان التدريجي للأجزاء الغربية في الإمبراطورية الرومانية لصالح قبائل القوط والفانداليين المحاربة. لكن كما استوعبت المهاراتُ التي ابتكرها السومريون الثقافاتِ الشرقَ الأوسطيةِ اللاحقة، استوعب كثير مِن إنجازات شعب السِّند السلالات الهندية والبوذية التي انتهَت بظهور الإمبراطورية الماورية في شبه القارَّة الهندية في الشرق. فيُمكن لمجتمع أن يَنحدِر إلى أسفل السلَّم بينما يستفيد آخر ويصعد عليه، فتتقدَّم الإنجازات البشرية في مجملها بثبات.

(٤) الصين

ربما لم يكن للروابط التِّجارية التي نشأت بين الحضارات الأربعة التي تحدثتُ عنها حتى الآن تأثير مباشر كبير على الثقافة التي ازدهرت على طول نهر هوانج هي، أو النهر الأصفر، في الصين منذ ٣ آلاف سنة. وربما أسهم وصول الهنود الأوروبيين وخيولهم إلى الحدود الشمالية الغربية في هذا الوقت تقريبًا ببعض العناصر،١١ ويمكن للمرء ملاحظة أوجه التشابه في النصوص القديمة (قارن بين شكل ٨-٢ وشكل ٨-١)، لكنَّ الإنجازات الثقافية والتكنولوجية للسكان المحليِّين كانت مميَّزة وفي كثير من الأحيان سبقت اختراعات في أجزاء أخرى من العالم. فبُنيَت مستوطَنات تحيط بها جدران ترابية على طول الروافد العليا والوسطى والسفلى للنهر الأصفر، وأبعد من ذلك جنوبًا على طول نهر اليانجتسي، قبل فترة تصل إلى ٣ آلاف سنة، وتُشير إلى الفترة الزمنية الذي تطورت خلالها تدريجيًّا المجتمعات الزراعية لتُصبح دولًا مدينية. اكتُشفت مواقع مشابهة بعيدًا جهة الشمال عند مقاطعة ليانينج وجيلين وهيلونجيانج،١٢ وبعيدًا في الجنوب عند جوانجشي وجوانجدونج وفوجيان، وحتى في جزيرة تايوان، وتقع كلها على حدود بحر الصين الجنوبي. لذا على الأرجح كان ثمَّة قدْر من الاختلاط عبر التِّجارة على طول ساحل الصين. زرع السكان في الشمال نبات الدُّخْن، وزرع الموجودون في الجنوب الأرز. وكانت الخيل والماشية والخراف الحيوانات الأساسية المستأنَسة في المناطق الشمالية، أما في الجنوب فقد كان الدجاج والخنازير والكلاب. وفقًا للباحثين الصينيين، كانت شيا هي الأسرة الحاكمة الأولى للبلاد، التي يُعتقد أنها حكمت تقريبًا منذ القرن الحادي والعشرين إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد. ويُقال إن إحدى المدن الرئيسية كانت تقع في إيرليتو، بالقرب من مدينة يانشي الحديثة في هينان؛ حيث عُثر على بقايا قصر. تلا حكم أسرة شيا حكم أسرة شانج، الذين بدءوا في التوسُّع شمال أراضي شيا، والذين بدءوا في صنع واحدة من أكثر الثقافات تطورًا في هذا الوقت.
أُتقنت تحتَ حكم أسرة شانج تقنياتٌ مثل استخدام عجلة الفَخَّار،١٣ وسبك البرونز، ونحت حجر اليشم والعاج ونسج الحرير.١٤ زاول الصينيون علم الفلك وعزَفوا الموسيقى، كما أن الأواني المصنوعة من الطمي، التي يرجع تاريخ صناعتها إلى الفترة بين ٦ آلاف و٥ آلاف قبل الميلاد، أصبحت أكثر تعقيدًا في أسلوب صُنعِها وألوانها المميزة لكل مِنطقة. وكان أحد أبرز التطورات في هذا الوقت اختراع النصوص المكتوبة١٥ التي حُفظت في شكل نقوش على البرونز والحجارة وبقايا الحيوانات. وكانت عظام كتف الثيران والخراف والغزلان والخنازير — وحتى البشر أحيانًا — وسطًا مفضلًا، وكانت أصداف السلاحف (التي كان يُزعم أن لها صفات سحرية) وسطًا آخر. تشير هذه الكتابات إلى كثير من جوانب حياة عهد أسرة شانج؛ الزراعة وحياة المدينة، الحملات العسكرية والبعثات الاستكشافية، علم الفلك والتقويم والمُناخ، المعتقدات الدينية والقرابين، الشخصيات والعائلة الملكية. كانت عاصمة أسرة شانج على الأرجح في إيرليجانج، بالقرب من مدينة تشنجتشو الحديثة في مقاطعة هينان. وكانت المدينة، التي بلغت مساحتها نحو ٢٥ كيلومترًا، محاطة بجدار ترابي يبلغ طوله ٧ كيلومترات.
انتهى عهد أسرة شانج بحلول أسرة تشو في عام ١٠٤٥ قبل الميلاد، لكن حضارتهم ظلت باقية، وفي الواقع تطورت الكتابة الصينية أكثر في عصر أسرة تشو، وسُجِّلَت أخيرًا كلمات كونفوشيوس. تشهد المدن والقصور والقبور والتماثيل على إنجازات أسرة تشو. حكمَت أسرة تشو الغربية، التي امتدَّت أقاليمها إلى أبعد من مدينة شيان الحالية، حتى عام ٧٧١ قبل الميلاد. أعقب حكمُهم حكم أسرة تشو الشرقية، التي احتلَّت المِنطقة الساحلية وحكمت حتى عام ٢٢١ قبل الميلاد. طوال هذه الفترة كانت ثمة حروب ومنازعات، وانحسرت الاضطرابات — وإن كان لفترة وجيزة — فقط عند توحيد أراضي أسرة تشو على يد أسرة تشين، وكانت هذه أول سلالة في إمبراطورية الصين، وهي إمبراطورية كان مقدَّرًا لها الاستمرار لأكثر من ألفَي سنة حتى انتهاء أسرة تشينج١٦ في عام ١٩١١ وحلَّت محلها جمهورية سون يات سين. ويُقال إن كلمة الصين بالإنجليزية China، اشتُقت من كلمة تشين، ومنها جاءت أيضًا الصفة «صيني» بالإنجليزية.١٧

ومن جانبه كان الشعب الصيني يُطلق على مملكته اسم العاصمة التي يعيش فيها الحاكم؛ فكانت تشيا عاصمة أسرة تشيا، وكانت تشانج عاصمة أسرة تشانج، وتشو عاصمة أسرة تشو، وهكذا. وتقع وراء المِنطقة المخصصة لعاصمتها أراضي كبار الإقطاعيِّين، وتوجد وراء هذا أراضي البربر. لم يكن أي منهما يَستحقُّ اسم الدولة؛ ففي هذا الوقت كانت أراضي السكان في الجنوب تُسمى هان، الذي له معنًى ازدرائي. ومن جانبهم أُطلق الهان على جيرانهم الشماليين «البربر الضعفاء» أو «الأوغاد الشعث». وعندما خلفت أسرةُ هان أسرةَ شين في عام ٢٠٦ قبل الميلاد، انعكست عبارات الازدراء هذه. وفي أواخر القرن السابع عشر الميلاد فقط، عندما خلفت سلالة تشينج سلالة مينج، سُميت الدولة لفترة وجيزة باسمٍ «عام»: تشونججو، بمعنى المركز الملكي. إذا كان الصينيون اعتَبروا الذين يَعيشون وراء حدودهم برابرة — بالطبع مثلما فعل تمامًا الإغريق والرومان وأمم أخرى كثيرة — فقد كان لديهم سبب وجيه لذلك؛ فطوال العصور الوسطى، بينما كانت الحضارة الأوروبية والشرق أوسطية في حالة خمول، ازدهرت ثقافة الصين وتقدُّمها التكنولوجي؛ فيُظهر تاريخها، من ناحية، كيف أن غياب الحراك البشري من شأنه ألا يقلِّل الأفكار المبتكَرة، ولكن من ناحية أخرى كيف تؤدي العزلة عن التأثير الخارجي في النهاية إلى تدهورها.

(٥) كريت

ترجع الحضارة المينوية إلى نحو ٣ آلاف عام قبل الميلاد؛ مما يجعلها الأقدم في أوروبا. وقد كشفت عنها عمليات التنقيب الأثرية لرجل واحد؛ هو السير أرثر إيفانز، الذي بدأ الحفر في عام ١٨٩٩، واستمر في هذا طول السنوات الست والثلاثين التالية. وهو الذي اخترع كلمة مينوية؛ استنادًا إلى الملك الأسطوري مينوس، الذي يُقال إنه عاش على جزيرة أطلق عليها إيفانز اسم كريت. ابتكر المينويون أسلوبًا مميَّزًا في فن العمارة؛ فكان حكامهم يهتمُّون بحياتهم الحالية أكثر من حياتهم الآخرة؛ فبنَوْا قصورًا وليس أهرامات. فبنَوْا قصورًا في كنوسوس وماليا وفيستوس وزاكرو؛ فقد احتوت القصور الموجودة في كنوسوس، بالقُرب من ميناء هيراكليون الحالي، على نماذج جصِّية لمناظر طبيعية، والحياة الحيوانية وغيرها من الموضوعات. كانت الحضارة المينوية واحدة من أقدم الثقافات في العصر البرونزي؛ فلم تَستخدم المعادن فحسب، بل إنها صنعت أختامًا مزخرفةً وعددًا هائلًا من المصنوعات الخزفية. استمرَّت ثقافتهم بعد قدوم الميسينيون من الأراضي الشمالية في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، رغم أن القصور دُمِّرت في النهاية. وعلى الأرجح تأثير الزلزال الذي تعرَّض له القصر الموجود في كنوسوس لا يقلُّ كثيرًا عن تأثُّره بغزو الميسينيين. لكن في هذا الوقت كان الْمُعتدون استوعبوا ما يَكفي من الثقافة المينوية لإنشاء اليونان، التي انتقلت إليها هذه الثقافة، والتي أصبحت مركزًا للحضارة الأوروبية على مدى الألف سنة التالية.

ذكرتُ مِن قبلُ دمار المكتبة العظيمة في الإسكندرية، وفقدان كثير من المعلومات حول الثقافات القديمة، ومنها ثقافة اليونان وروما. لكن ظلَّت معلومات أخرى؛ فتُعتبَر المكتبة الموجودة في مدينة هركولانيوم مثالًا على مجموعة يُعاد حاليًّا ترميمها. إنها جزء من قصر كانت تَنتمي في وقت ما إلى والد زوجة يوليوس قيصر، وتحتوي على آلاف من لفافات البَرْديِّ. دُفن القصر الصغير، وبقية أجزاء المدينة، تحت الحُمَم البركانية عندما انفجر جبل فيزوف في عام ٧٩ ميلاديًّا، واحترقَت معظم محتوياتها. وفي أثناء عمليات التنقيب الأولى رُمي كثير من البرديات ببساطة لكونها مجرَّد قطع من الفحم، في حين نجت برديات أخرى. يوجد بعض منها في حالة جيدة تكفي لقراءتها؛ فهي تصف حياة الناس في هذا الوقت، وفلسفات الطبقة المثقَّفة فيها، بما في ذلك الحكيم الإغريقي أبيقور. ومع ذلك، كانت معظم البرديات محترقة على نحو سيئ بحيث يصعب ولو فتحها، فضلًا عن قراءتها؛ فيصعب عليك تمييز حروف مكتوبة بالحبر الأسود على خلفية سوداء متفحِّمة. لكن ابتُكرت حاليًّا طرقٌ جديدة لفصل الطبقات برفق، كما أن التقنيات الطيفية — التي طورتها ناسا من أجل استكشاف النجوم البعيدة — تُستخدم في إظهار الحروف حتى الموجودة على خلفية متفحِّمة. ما زالت آلاف من هذه البرديات مدفونة تحت الأنقاض في انتظار العثور عليها وقراءتها.

(٦) أمريكا الوسطى

لا يُضاهي ما نعرفه عن الحضارات التي نشأت في أمريكا الوسطى والجنوبية كمَّ ما نعرفه عن الحضارات التي نشأت في آسيا وشمال أفريقيا وأوروبا. ربما كانت أقدم ثقافة هي ثقافة الأولمكيين، الذين سكنوا الشواطئ الشرقية للمكسيك بالقرب من فيرا كروز منذ ٣ آلاف عام. هذا وتشهد رءوس ضخمة منحوتة باحتراف في صخور يصل وزنها إلى ٣٠ طنًّا على مهارة الأولمكيين كحرفيين ومُهندسين. يبعد الموقع في لافينتا، الموجود حاليًّا في وسط مستنقع بالقرب من الساحل، ١٠٠ ميل عن أقرب مصدر للحجارة. نحن لا نَعرف كيف أمكنهم نقل مثل هذه الجلاميد، تمامًا كما لا نفهم كيف أحضر سكان جزيرة الفصح الرءوس المصنوعة من الحجارة — التي تُشبه رءوس الأولمكيين في نواحٍ معينة — إلى موقعها الحالي. يبدو أن الأولمكيِّين استخدموا القرابين البشرية — أقدم حالة سُجلت في العالم الجديد — بأسلوب مروع للغاية؛ فقد عُثر في هذه المِنطقة على عظام طفلٍ منزوع الذراعين والساقين ورأسه مقطوع، ويبدو أنه انتُزع من رحم أمه، على النحو الذي ظهر في مسرحية ماكبث.

توجد على الأرجح أكبر وأقدم المستوطنات في أمريكا كلها في تيوتيهواكان، على بُعد ٣٥ ميلًا شمال شرق مكسيكو سيتي. ربما كانت موطنًا لما يصل إلى ٢٠٠ ألف مواطن. ومثل المدن الأخرى التي نشأت في أمريكا الوسطى — شمالًا في تولتيك، والأولمك على الساحل الشرقي والمايا في شبه جزيرة يوكاتان — تمركزَت الحياة حول الساحات الاحتفالية التي ضمَّت أهرامات، بالإضافة إلى مناطق من أجل ممارسة الرياضة المفضلة؛ لعبة الكرة. كان ثمَّة نشاط تِجاري واسع النطاق بين هذه المدن، وكانت ثقافة كل مجموعة من الأفراد الذين ذكرتُهم متشابهة. كانت الأهرامات مدرَّجة، مثل الزقورات لدى السومريين والأهرامات البدائية للمصريين، لكنها كانت أصغر حجمًا. وكان يُبنى معبد على قمة كل هرم، وتُوضع أمامَه تماثيلُ منحوتة مزخرفة. كانت المعابد تُستخدم في الشعائر الدينية (ومنها القرابين البشرية) إجلالًا للآلهة، التي كان زعيمهم كيتزالكواتل، الأفعى ذات الريش. وفي تيوتيهواكان يمكن للمرء تسلُّق المعبد المعاد بناؤه الذي كان مخصصًا لكيتزالكواتل، بالإضافة إلى المعابد التي بُنيت تعظيمًا للشمس والقمر. ظلت هذه المدينة لمدة ألف عام حتى نهَبها أهالي تولتيك في عام ٧٥٠ ميلاديًّا. أُعيد اكتشاف بقاياها على يد الآزتيك في القرن الخامس عشر، قبل ١٠٠ عام من قدوم الإسبان. في هذا الوقت كان الآزتيك سادةَ معظم الأجزاء المأهولة بالسكان في أمريكا الوسطى. وأدخلوا كثيرًا من الأشياء التي عثَروا عليها في تيوتيهواكان في عاصمتهم، التي بنَوها على جزيرةٍ في مكان مرتفع على تلَّة في الجنوب؛ وأطلقوا عليها تينوتشتيتلان. وبعد هزيمتهم على يد هرناندو كورتيس في عام ١٥٢١، تمَّ تجفيف البحيرة وأصبحت المِنطقة موقعًا للعاصمة الحالية؛ مكسيكو سيتي.

نشأت ثقافة رفيعة، هي ثقافة الزابوتيك، في هذه المِنطقة التي أصبحت حاليًّا ولاية أواكساكا. وقد وصلت إلى أوج ازدهارها في الفترة بين ٣٠٠ و٩٠٠ ميلاديًّا (صورة ٣)، وبعدها بدأت تَضمحِل. لم يَمنع وصول الميكستيك إلى هذه المِنطقة عملية التدهور، وكان مجتمع الزابوتيك في حالة تدهور حاد عند وصول الإسبان في القرن السادس عشر. هذا وقد نشأت واحدة من أكثر الثقافات تطورًا في أمريكا؛ وهي ثقافة المايا، في يوكاتان التي تضمُّ حاليًّا دول بليز وجواتيمالا وهندوراس، بالإضافة إلى أجزاء من المكسيك، ويُشار عادةً إلى المِنطقة بأكملها التي تشمَل يوكاتان ووسط المكسيك بوسط أمريكا. وصلت حضارة المايا، مثل حضارة الزابوتيك، إلى ذروة إنجازاتها في الفترة بين القرنين الرابع والثامن الميلاديَين، لكنها كانت أكثر اتساعًا؛ حيث وصل عدد سكانها إلى ١٦ مليونًا. ومثل تدهور ثقافة الزابوتيك، انهارت ثقافة المايا، لأسباب ليست واضحة على الإطلاق،١٨ عند وصول الفاتحين. ومع ذلك ظلَّت مجموعات صغيرة متفرقة من المتحدِّثين بلغة المايا على قيد الحياة، وما زال ٤ ملايين من أحفادهم يتحدثون هذه اللغة في يومنا هذا. ويُواصلون زراعة المحاصيل نفسها التي زرعها أجدادهم منذ ٣٥٠٠ سنة؛ الذرة (الذرة الصفراء)، والفاصولياء والقَرع. وفي جنوب هذه المِنطقة، حيث الأرض كثيرة التلال، كانت الزراعة تحدُث عبر نظام ري وإنشاء مصاطب متطور. كان شعب المايا سادة الرصد الفلكي؛ فكان تقويمهم أكثر دقة من التقويم اليولياني الذي استحدثه يوليوس قيصر. كذلك بنَوْا معابد وأهرامات وقصورًا وساحات للعب الكرة وميادين. تزيِّن صروحهم النقوش الحجرية المتداخلة والنقوش البارزة، التي استمددنا منها كثيرًا من معرفتنا بحضارة المايا. ولأن كثيرًا من الصروح التي شيدها المايا أحدث من تلك الموجودة في مواقع في العالم القديم، لم تُدفن مع مرور الزمن، ويوجد معظمها فوق سطح الأرض. بالإضافة إلى ذلك، حُفظت بشكل جيد نسبيًّا كثير من المباني، مثل الموجودة في مدينة تشيتشن إيتزا وماتابان وبالينكي وأوشمال، رغم زحف نباتات الغابة بمجرَّد هجر البشر لها. استخدم المايا النُّحاس والذهب وصنَعوا الورق، الذي وضعوه في كتب، من اللحاء الداخلي لشجرة التين البرية. ومِن بين كل الحضارات التي نشأت في الأمريكتين، تُعتبر حضارة المايا فريدةً؛ فيبدو أنها الوحيدة التي أنتجَت نصوصًا مكتوبة. كانت نصوصًا هيروغليفية، وفُكَّت شفرتها إلى حدٍّ كبير، ونتيجةً لها نعرف كثيرًا عن المايا أكثر من أيِّ ثقافة أخرى انهارت قبل مجيء الإسبان في القرن السادس عشر.

(٧) أمريكا الجنوبية

لم يكن ثمَّة تواصُل كبير بين حضارة الإنكا، بعاصمتها كوزكو التي تقع على ارتفاع ١١ ألف قدم فوق جبال الأنديز في بيرو، مع ثقافات أمريكا الوسطى، وثقافتهم متميِّزة عن ثقافة الأزتيك والمايا. يوجد وجه تشابه فقط في حقيقة أن حضارات الإنكا والآزتيك كانتا في أوج ازدهارهما عندما وصَل الفاتحون في القرن السادس عشر. لم يكن الإنكا بالتأكيد أقدم حضارة في أمريكا الجنوبية. فكشفَت عمليات التنقيب الحديثة على طول الخط الساحلي الجاف لبيرو مدينة من الأهرامات كانت عظيمة في السابق،١٩ ويرجع تاريخها إلى ٢٦٠٠ قبل الميلاد؛ وهو من قبيل المصادفة الوقت ذاته الذي كان خوفو يبني فيه هرمه الأكبر في الجيزة. كانت ثمَّة مجتمعات مستقرة في أماكن أخرى؛ فعاش شعب التشافين في المرتفعات الشمالية الشرقية في بيرو منذ نحو ٩٠٠ حتى ٢٠٠ قبل الميلاد؛ بُني في موقع تشافين دي هوانتار مجمع ضخم من المعابد مُتقَن النحت. بعيدًا في الجنوب على طول السهل الساحلي، على بُعد ١٠٠ ميل جنوب مدينة ليما الحالية، ظهرت حضارة باراكاس بالتزامن مع حضارة تشافين بعيدًا في الشمال؛ استمرَّت حضارتهم أكثر، حتى ٤٠٠ ميلاديًّا تقريبًا. كان الباراكاس يَدفنون موتاهم في الأصل داخل الكهوف، وفي وقت لاحق أصبحوا يُدفنون في جَبَّانات مبنية خصوصًا، وكانت الجثامين تُلَفُّ في ملابس فاخرة، بعضٌ منها ظلَّ على حاله حتى يومنا هذا بسبب التربة الجافة. ومثل التشافين، صنع الباراكاس منسوجات مُزخرَفة للغاية، بالإضافة إلى أوانٍ فَخارية وأشياء مصنوعة من الذهب. ثمة شعب ساحلي آخر أقام ثقافة منذ نحو ٢٠٠ حتى ٦٠٠ ميلاديًّا، وهم الموشيكا في شمال بيرو. ويتمثَّل ميراثهم المتميز في مجموعة من المباني في موشي تضمُّ بقايا أكبر مبنى شُيد في أمريكا الجنوبية قبل مجيء كريستوفر كولومبوس، يُسمَّى هرم الشمس. عاش في شمال بيرو أيضًا الشيمو، الذين كانت عاصمتهم في مدينة تشان تشان، والذين صنعوا مصنوعات معدِنية معقَّدة بالفضة والذهب، في الواقع تمامًا مثل معظم هذه الثقافات الأنديزية. في النهاية استوعب الإنكا ثقافة الشيمو وبقايا كافة الثقافات الأخرى؛ حيث سيطروا الآن على كل الأراضي الغربية في قارة أمريكا الجنوبية.
استمرَّ حكم الإنكا ٣٠٠ عام منذ نحو ١٢٠٠ ميلاديًّا، لكنَّهم أقاموا في هذا الوقت أكبر إمبراطورية في أمريكا الجنوبية. وبحلول عام ١٥٢٨ امتدَّت الإمبراطورية من شمالي الإكوادور، عبر كامل أجزاء بيرو، حتى بوليفيا ونزولًا إلى أجزاء من شمالي الأرجنتين وتشيلي، على مساحة ٣ آلاف ميل. ومِن أجل الربط بين أراضيهم الشاسعة بنَوْا نظامًا للطرق يضاهي في تطوره ذلك الخاص بالرومان. لكن لم تَسِر أيُّ عربة في هذه الطرق السريعة؛ فكانوا يسيرون أو يَركبون على ظهر اللاما. ضاهى الإنكا الرومان أيضًا في الري والزراعة المائية، وتمكَّنوا من إطعام نحو ٧ ملايين فرد، وتلقَّى الفقراء رعاية اجتماعية من الضرائب التي كان يدفعها الميسورون. وكشفت الأبحاث الأخيرة التي أُجريت في مِنطقة بوريز في غابات الأمازون البوليفية٢٠ عن شبكة هيدروليكية شاسعة من الجسور الأرضية في شكل متعرِّج، بالإضافة إلى بِرَك تغطي مساحة أكثر من ٥٠٠ كيلومتر مربع. وحتى يومنا هذا تعجُّ هذه الممرات المائية المهجورة بعدد يتراوح بين ١٠٠ ألف و٤٠٠ ألف سمكة في الهكتار؛ من نوع بوشر ويالو وكوناري وبلميطة وسبالو وبنتون. في الأوقات السابقة على قدوم الإسبان كانت هذه المزارع السمكية الصناعية تُنتج مئات الأطنان من القواقع القابلة للأكل أيضًا. وعلى جانبَي المياه ما زال النخيل (نخل البوريتي) ينمو أيضًا. وكان ثمة ٥ آلاف نوع مختلف من الفاكهة الغنية بفيتامينات «أ» و«د» والزيت والبروتين يمكن جنْيُها من شجرة واحدة سنة بعد سنة. وكانت ألياف سعف النخيل تُستخدم — كما هو الحال في عصرنا الحالي — لصُنعِ السلال والحصير والأرجوحات الشبكية والأوتار وقش الأسقُف. باختصار، اخترع الإنكا تقنية مكَّنتهم، عبر الاحتفاظ ببراعة بمياه الأمطار، من الحفاظ على عدد هائل من السكان الذين يَعيشون في بيئة من السافانا. ومثل كل الحضارات التي نشأت في أمريكا الوسطى والجنوبية، لم تَفتقر إلا إلى سبيل واحد للراحة؛ العجلة. تجعل هذه الحقيقة وحدها المرء يُساوره شكٌّ عميق بشأن أولئك الذين يَقترحون وجود صلة ثقافية بين العالم القديم والجديد؛ فمن بين كل أوجه التشابه الموجودة لتُشير إلى دخول الأشياء من الشرق إلى الغرب — مثل الأهرامات الحجرية والجثث المحنَّطة وزوارق القصب — من المؤكَّد أن العنصر التكنولوجي الوحيد الذي يُمكن لدخيل مزعوم من العالم القديم أن يَفتقده ويعوِّضه على الفور هو استخدام العجلة.
بخلاف هذا كانت تكنولوجيا الإنكا واسعة النطاق؛ فكانت وِرَش العمل تُقام من أجل إنتاج مصنوعات خزفية فاخرة، ومنسوجات وأشياء معدِنية مصنوعة من الفضة والذهب والبرونز. واشتمل فنُّ المعمار لديهم على إتقان تركيب المباني الحجرية، التي تُقام عادةً في أكثر الأماكن صعوبة. هذا وتشهد المباني الموجودة في ماتشو بيتشو، التي تضمُّ قصرًا ومعبدًا للشمس قابعَين على سفح تل مُنحدِر في الغابة الأنديزية أسفل كوزكو، على المهارات المعمارية للإنكا. وللعجب لم يَعثر الإسبان قطُّ على ماتشو بيتشو، ولم تُكتشَف إلا في عام ١٩١١ على يد عالم آثار أمريكي يُدعى حيرام بينجهام.٢١ وبعدما ظلَّت سليمة وقبعَت دون تدخل فيها طوال ٤٠٠ عام، لم يكن تأثير الحضارة الحديثة عليها حميدًا؛ فقد سقطت رافعة استُخدمت في تصوير إعلان جِعَة مؤخرًا وأحدثت ضررًا لساعة الإنكا الشمسية الحجرية في ١٠ ثوانٍ يفوق الضرر الذي استطاع الطقس إحداثه لها في نصف ألفية.

للأسف لم يكن مقدَّرًا لعِلم الإنكا وثقافتهم البقاء؛ فقد دمَّرها فرد إسباني غير متعلِّم من الطبقة الدنيا في المجتمع؛ فقد ترك فرانثيسكو بيثارو إسبانيا في سن الثالثة والعشرين ليقضي السنوات الخمس والعشرين التالية فيما يُعرف حاليًّا ببنما، في قتل السكان المحليِّين والبحث عن الذهب. وعندما فشِل في العثور على الذهب، أبحر جنوبًا على طول ساحل المحيط الهادئ ووصل إلى حدود إمبراطورية الإنكا. في الواقع قيل إنه سيجدُ الثروات التي يبحث عنها في هذا المكان. لكن في هذا الوقت كان طبع بيثارو السيِّئ قد تسبَّب في ترك معظم جيشه له، وفي عام ١٥٢٨ عاد إلى إسبانيا لإحضار مزيد من الرجال. وبدعم من كارلوس الخامس عاد إلى بيرو بعد أربع سنوات. وفي العام التالي قبض على زعيم الإنكا أتاوالبا في مدينة كاخاماركا. حاول أتاوالبا رِشوة الإسبان بذهب وفضة يَكفيان لملء حجرتين. أخذ بيثارو هذه المعادن النفيسة وأذابها، ودمَّر بهذا قرونًا من المهارة الحرفية. وبعد ذلك خان أتاوالبا من خلال اتهامه بالخيانة وحرقه على عمود. وأصبح مانكو ابن الزعيم المتوفَّى حاكمًا دُميةً للإنكا. بعد ذلك زحف بيثارو بجيشه ألف ميل جنوبًا نحو العاصمة كوزكو. في هذه المرحلة، مثل حال الإسكندر الأكبر في آسيا بعد ١٨٠٠ سنة، كان متوغِّلًا في أراضي العدو ومعزولًا عن أيِّ تعزيزات ممكنة. فاقت قواتُ العدو عددَ قواته بنحو ١٠٠ إلى واحد، لكن كان ثمة اختلاف؛ ففي عام ٣٠٠ قبل الميلاد دار القتال بين قوات الإسكندر وقوات داريوس بأسلحة متشابهة، لكن في عام ١٥٣٧ كان الإسبان يَمتطون الخيول ويستخدمون البارود، بينما كان الإنكا يَعتمدون على اللاما ويستخدمون أسلحة العصر البرونزي. وعليه، فازت التكنولوجيا الحديثة؛ فهُزم جيش مانكو وسقطَت كوزكو في يد الغزاة، وبذلك اختفت إمبراطورية الإنكا.

اعتبر توينبي حضارتي المايا والإنكا حضارتين أساسيتين. وفي ضوء كثير من الاكتشافات الأثرية التي حدثت منذ عصره، ربما يكون من المناسب أكثر اعتبار حضارة الأولمك في أمريكا الوسطى والتشافين في أمريكا الجنوبية حضارتين أساسيتَين بالمثل، واعتبار الحضارات التالية عليها، وإن كانت أكثر اتساعًا، مثل حضارات المايا والإنكا، ثانوية، تمامًا مثلما تكون الثقافة المينوية سلفًا لحضارة اليونان الأكثر تطورًا. وهذا الأمر متروك حسمه للمؤرخين. الواضح أن حضارات العالم الجديد تركتْ أثرها على المجتمعات التالية لها، تمامًا كما فعلت حضارات العالم القديم؛ السومرية والمصرية والهندية والصينية والمينوية، فربما تلاشت ثقافة المايا، لكن ليس قبل أن تُلهم بعض إنجازاتهم الآزتيك. ورغم أنهم تعرَّضوا، مثل الإنكا، للإبادة إلى حدٍّ كبير على يد الفاتحين في القرن السادس عشر، فإن ثمَّة سمات معينة في حياتهم، مرتبطة تحديدًا بالمنتجات الزراعية، أُدخلت في الأساليب الإسبانية وسرعان ما انتشرت في بقية أنحاء أوروبا، والأمثلة الواضحة على هذا البطاطس والأفوكادو والشوكولاتة والتبغ.

(٨) أماكن أخرى

لم أتحدَّث حتى الآن عن أي ثقافات وُجدت في جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، لنفس سبب تجاهُلي لتلك الموجودة في شمال أوروبا أو أمريكا الشمالية؛ عدم انطباق المعايير التي اخترتُها بناءً عليها؛ وهي: بناء القرى والمدن، والأهرامات والمعابد، والموانئ والطرق، وإنتاج الأدب والفن، والتكنولوجيا والتِّجارة.٢٢ إنَّ هدفي هو إظهار كيف أدَّى تفاعُل الإنسان مع التحدي، وسعْيه المستمر للبحث عن جودة حياة أفضل، إلى تغيير العالم الذي يعيش فيه؛ فإن الدوائر الحجَرية في ستونهنج وأفيبري في جنوبي إنجلترا، وممرات الميغاليث في كارناك في بريتاني، والأكروبوليس في زيمبابوي العظمى، وسُبح هنود البومو في كاليفورنيا، والمنازل الكهفية التي يبلغ ارتفاعها خمسة طوابق لهنود الأناسازي في شاكو كانيون في ولاية نيو مكسيكو؛٢٣ لا تسهم إلا بقدر قليل نسبيًّا في هذا السعي، أما بناء المباني العامة، ومبادئ ري المحاصيل وصرف الفضلات في المناطق الحضرية، واختراع النص المكتوب، وفن استخدام المعادن النفيسة ومَخازن الحبوب في كوزكو وموهينجو دارو، فله إسهامٌ واضح. أنا أدرك أن الأهرامات والقصور لم تؤثِّر كثيرًا في حياة الإنسان العادي، الذي ظلَّ يعيش في أكواخ بسيطة طوال هذه الأوقات المبكِّرة؛ لكنها سرعان ما أصبحت تُبنى من الخشب ثم من الحجارة. فإذا لم يسعَ الحُكام لتعظيم ذاتهم، لظلَّت حياة رعاياهم ساكنةً إلى الأبد. والأمر نفسه يحدث في عصرنا الحالي؛ فالأشياء التي كانت في الأصل دُمًى للأغنياء — مثل الهاتف والسيارة والثلاجة وجهاز التليفزيون — أصبحت أدوات الحياة اليومية لعامة الشعب. وإذا كان انتشار سبُل الرفاهية من القلَّة إلى العامة فشل في دول مثل بنجلاديش أو البرازيل، فإن المشكلة تَكمن في الاقتصاد الداخلي الجائر، وليس في رُوح الابتكار لدى الإنسان.
قد تتساءل ماذا عن الكلت، ألم يكن لديهم غُرَف للدفن — بالقرب من هالشتات في ألمانيا ولاتين في سويسرا — على القدر نفسه من تطوُّر غُرَف المصريين؟ ألم يكن حكامهم يُدفنون مع حُلي متقَنة الصُّنع من الذهب وعتاد حربي من البرونز، ومع أسلحتهم المصنوعة من الحديد في وقت — بين ١٠٠٠ و٥٠٠ قبل الميلاد — كانت فيه أوروبا ما زال يغلب عليها الصيادون جامعو النباتات؟ ألم يَعِشِ الكلت الذين هاجروا إلى الجزر البريطانية وأيرلندا داخل أبنية مسقوفة جيدًا بالقش ومصنوعة من العيدان المجدولة والطمي، تميَّزت عن تلك التي انتشرت في جميع أنحاء أوروبا من حيث كونها مستديرة وليست مربعة أو مستطيلة؟ ألم تكن الزراعة في بريطانيا متقدمة للغاية حتى إنهم في عام ٢٠٠ قبل الميلاد كانوا يحقِّقون المحصول نفسه من محاصيل الحبوب الذي تمكَّن أحفادهم من تحقيقه في منتصف القرن العشرين؟ أولم يخترعوا لغة تُستخدم في الحديث حتى يومنا هذا، لها أشكال مختلفة قليلًا في إيرلندا واسكتلندا، وفي كورنوال وويلز؟ كذلك ألم يكن الكلت في إنجلترا في القرن الأول قبل الميلاد يعيشون حياة أكثر تطوُّرًا من الجيش الروماني الذي أغار عليهم؟ هذا صحيح، ومع ذلك يظهر تأثير روما واليونان في النهاية جليًّا في حليِّهم وأسلحتهم، وفي جوانب أخرى من حياتهم. يجب ألا ننسى أن ثقافة شرق البحر المتوسط ظلَّت تنتشر غربًا من خلال تجار السلع التِّجارية لعدة قرون قبل زحْف جنود مشاة يوليوس قيصر على شمال أوروبا. ما أريد توضيحه أنني كما لا أعتبر حضارة روما أساسية، يَنطبق الأمر نفسه على حضارة الكلت أيضًا التي تَدين بالكثير للتأثير السابق للحضارتين المينوية والمصرية.٢٤
توجد أدلة على صعود الإنسان بضع درجات أعلى السلم، لكنه يَفشل في الاستمرار في الصعود، في جميع أنحاء العالم.٢٥ وقد ذكرنا بعض الأمثلة على هذا بالفعل. تسبق البقايا التي اكتُشفت مؤخَّرًا في شرق أوروبا وتركيا حضارات بلاد الرافدَيْن ومصر. فالمباني في مدينة شاتال هويوك بالقرب من مدينة قونية في جنوبي تركيا، التي يُقال إن ٧ آلاف شخص كانوا يعيشون بها، يبلغ عمرها ٨ آلاف سنة؛ وعُثر على مصنوعات من الفترة نفسها في قرية بورودين في مقدونيا وفي ليبينسكي فير على ضفاف نهر الدانوب في صربيا، كما استُخدمت مقبرة في مدينة نيترا في سلوفاكيا منذ ٧ آلاف سنة. عُثر كذلك على مواقع أكثر حداثةً في جنوب شرق آسيا وجنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. فكانت تقع بالقُرب من معابد أنكور وات في كمبوديا مدينة في حجم لندن، يُقال إنها تشكِّل أكبر أثر ديني في العالم.٢٦ توجد أدلة على نظام ريٍّ واسع من بحيرات كان يُعاد ملؤها بفعل الأمطار الموسمية السنوية. بدأت التِّجارة مع اليابان، لكن لأسباب غير واضحة تمامًا مثل أسباب زوال حضارة المايا، زالت ثقافة الخمير ببطء.
يوجد بالقرب من بحيرة فيكتوريا أبنية يرجع تاريخها إلى عام ٧٠٠ قبل الميلاد تقدِّم دليلًا على أعمال العصر الحديدي، ولم تظهر هذه التقنية في الشرق الأوسط إلا في عام ٥٠٠ قبل الميلاد تقريبًا. كما عُثر على مخطوطات في مدينة تمبكتو تَسبق وصول القوافل العربية في القرن الحادي عشر بنحو ٢٠٠ سنة. واكتُشف نحو ١٠٠ موقع بقايا لمبانٍ حجرية في جميع أنحاء شرق آسيا وجنوبها؛ في مابونجوبوي في جنوب أفريقيا،٢٧ وفي زيمبابوي العظمى في الدولة التي تحمل حاليًّا اسمها،٢٨ وفي جزيرة كيلوا على ساحل تنزانيا.٢٩ كانت ثمَّة تجارة مع الصين (جلب الأفارقة الزَّرافة إلى هذه الأراضي)، ومع الهند وفارس؛ فكان الذهب والعاج يُصدَّران في مقابل الحرير والسَّجاد. إذن لماذا توقَّف كل هذا النشاط قبل وقت طويل من وصول المستكشفين الأوروبيين في القرن التاسع عشر إلى هذه القارة العظيمة (وتقسيمها بينهم)؟ لماذا تلاشى سعي هؤلاء الناس؟٣٠ نحن لا نعلم، فربما لعب تغيُّر المُناخ، كما حدث في أماكن أخرى، دورًا في هذا. وربما نهَب البرتغاليون في القرن السادس عشر مجتمعات مُزدهِرة، مثلما فعَل الإسبان في أمريكا الوسطى والجنوبية.
يوجد أيضًا احتمال وجود حضارات كاملة مفقودة في البحر المتوسط وجنوب شرق آسيا سبقت تاريخ ظهور الحضارات الخمسة الأساسية في العالم القديم كلها. الدليل على هذا ضعيف، لكن يَعرضه بحماس كُتَّابٌ مثل ستيفن أوبنهايمر٣١ وجراهام هانكوك.٣٢ وتتمثَّل الحُجة تقريبًا فيما يلي: توجد أدلة على زراعة الأرز في تايلاند قبل أكثر من ٧ آلاف سنة، وهو ما يَسبق تاريخ استخدامه في الصين. يَنطبق الأمر نفسه على خزف ثقافة جومون في اليابان؛ فقد عُثر على ملايين القطع، كثير منها به تماثيل بشرية. صُنع بعضٌ من هذه القطع قبل أكثر من ١٢ ألف سنة، أقدم من أي مكان آخر في العالم، وهكذا. لماذا لم تُكتشَف المزيد من آثار مثل هذه الحَضارات القديمة؟ لأن معظم الأراضي التي حدثَت عليها مثل هذه التطورات أصبحت الآن تحت الماء؛ إذ غمرتها الفيضانات التي صاحبَت ذوَبان الألواح الجليدية في نهاية آخر عصر جليدي. ومنذ أكثر من ١٠ آلاف عام كانت كتلة أرضية واحدة تُسمى ساندالاند تُغطِّي معظم المِنطقة المعروفة حاليًّا بخليج تايلاند وبحر جاوة وبحر الصين الجنوبي والبحر الأصفر وبحر الصين الشرقي. ولم يدمِّر ارتفاع المياه فحسب — النظير الآسيوي لطوفان نوح — الأدلة على نشاط الإنسان في هذه المِنطقة، بل إنه دفَع بعضًا من سلالته غربًا نحو الهند، وبلاد الرافدَيْن ومصر، وشمالًا إلى الصين. وتشهد العلامات الوراثية واللغوية على مثل هذه الهجرات البشرية، وتسهم في تأييد حجة عدم انبثاق أقدم الحضارات في الهلال الخصيب في الشرق الأوسط، وعلى ضفاف نهر السند والنهر الأصفر، بل في جنوب شرق آسيا.
حدثت مثل هذه الفيضانات الكبرى في جميع أنحاء العالم منذ نحو ١٤ ألف سنة، و١١٥٠٠ سنة، و٨ آلاف سنة، مع بدء كَمِّيات ضخمة من الجليد المحيط بالأرض في الذوبان، ويوجد توثيق جيد لها. كما أن الباحثين عن المدن المفقودة التي توجد حاليًّا غارقة تحت سطح البحر يَعثرون عليها ليس في جنوب شرق آسيا فحسب،٣٣ بل في البحر المتوسط أيضًا، على ساحل مالطا،٣٤ على سبيل المثال. وربما انطلَق الناجون من الفيضان التالي للعثور على مدينة أخرى في الجوار؛ إذ يوجد على مالطا حاليًّا دوائر حجَرية أقدم بنحو ألف سنة من الموجودة في ستونهنج. وربما كان أفلاطون يتمتَّع ببصيرة نافذة على نحوٍ مُذهل عندما وصَف أرض أطلنتس بأنها دُمِّرت قبل عصره بتسعمِائة سنة، وبما أنه عاش منذ ٢٤٠٠ سنة، فإن هذا يجعل دمار أطلنتس حدث في وقت الطوفان العظيم الثاني.

هل كنتُ مخطئًا في وصْف الحضارات منذ ٦ آلاف سنة بأنها أساسية؟ ربما، لكن بسبب عدم بقاء الحضارات الأقدم المحتملة، لا يُمكننا قياس نجاحها بالمعايير التي طبَّقتُها على تلك التي ظلت باقية لآلاف السنين على الأرض الجافة. فقد تسلَّق بناة ستونهنج والكارناك في شاتال هيويوك وليبينسكي فير، ومابونجوبوي وزيمبابوي العظمى، وقصر كليف في حديقة ماسا فيردي الوطنية (كولورادو)، وبيبلو بونيتو في شاكو كانيون؛ عدة درجات أعلى سُلَّم الإنجاز، لكنهم سقطوا بعد ذلك. كذلك بدأ المهندسون المعماريون للمدن التي طمَرها ارتفاع منسوب مياه البحر المتوسط والبحار الموجودة على ساحل جنوب شرق آسيا، عملية الصعود هذه، لكن في حالتهم ببساطة انكسر السُّلم.

هوامش

(١) منذ نحو ٦ آلاف إلى ألف سنة مضت.
(٢) خواكيم بريتز شنايدر، مجلة ساينتيفيك أمريكا، عدد ٢٨٣ (أكتوبر): ٦٢–٦٩، ٢٠٠٠.
(٣) إن برج إيفل، الذي يبلغ ارتفاعه ٣٠٠ متر واكتمل في عام ١٨٨٩، يبلغ ضعف ارتفاعه.
(٤) ٢٥٧٥–٢٤٦٥ قبل الميلاد.
(٥) ظلَّ اسم هذا المكان يعني منارة في اللغة اليونانية (فاروس)، وفي اللغات الرومانسية؛ كلمة «فار» في الفرنسية، وكلمة «فارو» في الإيطالية والبرتغالية والإسبانية.
(٦) انظر الملحوظة رقم ٢١ في الفصل الخامس.
(٧) جبيل = بيبلوس = كتاب.
(٨) انظر مقال أليسون آبوت «معبد المعرفة»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٩: ٥٥٦-٥٥٧، ٢٠٠٢.
(٩) ٣٠٠ ميل جنوب غرب لاهور.
(١٠) ٢٠٠ ميل شمال شرق كراتشي.
(١١) مثل استخدام الحصان، الذي ربما كان أيضًا من البرونز.
(١٢) تسمَّى أيضًا منشوريا.
(١٣) كان أحد أوائل استخداماتها في العربات الحربية في المعارك.
(١٤) كان إنتاجه من ديدان الحرير سرًّا يُحفظ بحرص، وظلَّ خفيًّا عن العالم الخارجي لقرون.
(١٥) ربما تكون فكرته نشأت من وادي السند.
(١٦) يجب عدم الخلط بينها وبين تشين؛ وتُعرف أسرة تشينج أيضًا باسم مانشو على اسم شعب التتار الذي استولى على الصين في عام ١٦٤٤.
(١٧) إلا أن هذا مشكوك فيه؛ فلم تدخل اللغة الصينية، التي كانت معروفةً من قبل باسم كاثاي، ضمن اللغات الأوروبية إلا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وعلى الأرجح جاءت الكلمة نفسها من الكلمة الفارسية «شيني»، التي ربما تكون هي نفسها مشتقة من الكلمة السنسكريتية «تشينا»، التي تَعني مفكر أو مثقَّف. ومِن المؤكَّد أن كلمة «تشينا» كانت تُستخدم بالفعل في الهند للإشارة إلى هذا الجار في الشمال الشرقي في عصر تانج (٦١٨–٩٠٧ ميلاديًّا)، ومن غير المرجَّح أن تكون كلمة «تشينا» مشتقة من كلمة تشين، مع الوضع في الاعتبار أن كلمة تشين تُنطق «تسين» في الصينية القديمة. واستُخدمت كلمة «تشيني» في الأصل لمجرَّد وصف المصنوعات الخزفية الدقيقة الذي جاءت من كاثاي، ولم تُستخدم الكلمة للإشارة إلى الدولة نفسها حتى القرن التاسع عشر.
(١٨) يَعتبر إريك طومسون أن انهيار ثقافة المايا «الكلاسيكية» في يوكاتان كان نتيجةً لغزو واحتلال البوتون (المعروفين أيضًا باسم شونتال مايا) من الجنوب، الذين يعيشون فيما يُعرف حاليًّا باسم ولايات كامبيتشي وتاباسكو. كان البوتون تجارًا أبحروا، في زوارق طويلة، حول ساحل يوكاتان. وقد أقاموا قاعدة على جزيرة كوزوميل، شنوا منها الهجوم على البر الرئيسي في الغرب، وفي عام ٩١٨ ميلاديًّا استولَوْا على تشيتشن إيتزا. انظر جيه إريك إس طومسون، المرجع السابق، ص٣–٤٧. لكن ربما يكون الجفاف الممتد سببًا آخر، انظر مقال دانيال جروسمان «معركة المرج الجاف»، مجلة ساينتيفيك أمريكان، العدد ٢٨٧ (ديسمبر): ١٤-١٥، ٢٠٠٢.
(١٩) برنامج «هوريزون»، الذي عُرض في تليفزيون المملكة المتحدة (بي بي سي ٢) في يوم الخميس ١٠ يناير عام ٢٠٠٢.
(٢٠) كلارك إل إريكسون، «مصائد أسماك صناعية على نطاق المشهد الطبيعي في مِنطقة الأمازون البوليفية»، مجلة نيتشر، العدد ٤٠٨: ١٩٠–١٩٣، ٢٠٠٠.
(٢١) انظر كتاب ماكس ميليجان «عالم الإنكا»، هاربر كولينز، لندن، ٢٠٠١.
(٢٢) أنا أفضل اتباع توماس هوبز، المرجع السابق، الذي اعتبر أن صفات الحضارة تضمُّ الفنون والآداب والمجتمع.
(٢٣) انظر مقال جارد دياموند «الطريق إلى شاكو كانيون»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٣: ٦٨٧–٦٩٠، ٢٠٠١.
(٢٤) لكن تجدر بنا الإشارة إلى آراء كُتَّاب مثل ماريا جيمبوتاس، انظر الملحوظة رقم ٣٤ في الفصل الثامن.
(٢٥) أو على حدِّ قول فرنان بروديل: «الثقافة هي حضارة لم تصل بعد إلى مرحلة النضج، أو تُحقِّق أعلى إمكانياتها، أو تَدعم نموها» (المرجع السابق، المجلد الأول، ص١٠١).
(٢٦) في العصر الحالي، فضلًا عن القرن الثالث عشر عندما كانت حضارة خمير في أوج ازدهارها.
(٢٧) من القرن العاشر حتى القرن الثاني عشر.
(٢٨) من القرن الثاني عشر حتى الرابع عشر، وبلغ تعداد سكانها ١٨ ألفًا مع وجود أدلة على وجود مُستوطنات يرجع تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد.
(٢٩) القرن الخامس عشر.
(٣٠) لعدة قرون منذ اكتشاف زيمبابوي العظمى على يد البرتغاليين في عام ١٤٨٨، ساد اعتقاد بأن المواقع في جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا لم تُبنَ على يد أشخاص محليين؛ فربما كانت الملكة بِلْقِيس أو أهالي البندقية، ولكن ليس شعب شونو المحلي أو أسلافه هم الذين بنَوْ ا هذه المباني. وتُظهر الأدلة الأخيرة ضرورة عدم أخذ الآراء الأنانية لعلماء الآثار البِيض على محمل الجدِّ بعد الآن (برنامج «أسرار القدماء»، تقديم بيتاني هيوز، وعُرض في تليفزيون المملكة المتحدة (القناة ٥)، في الثامنة مساءً في ٢٤ يونيو عام ٢٠٠٢).
(٣١) ستيفن أوبنهايمر، المرجع السابق.
(٣٢) جراهام هانكوك، المرجع السابق.
(٣٣) الدوائر الحجرية على ساحل أوكيناوا والتكوينات الأخرى بالقرب من تايوان.
(٣٤) كانت مالطا متصلة بصقلية والبر الرئيسي لإيطاليا منذ ١٢ ألف سنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤