الفصل الثامن

الحضارة ٢: التواصل والثقافة

(١) اللغة والأدب

ذكرتُ في المقدمة فرضية روبن دنبار بأن اللغة لدى الإنسان تطورت من عملية التنظيف لدى القِرَدة؛ فهو الوقت الذي يسترخي فيه أفراد الأسرة ويُثرثرون. أما الفيلسوف كارل بوبر، في رفضه للرأي القائل إنَّ اللغة نشأت من صيحات الاستغاثة والتحذيرات من الخطر، فقد اقترح مسبقًا شيئًا مشابهًا؛ فقال: «أنا أقترح أن الجهاز الصوتي الأساسي للغة البشر نشأ … من الثرثرة المَرِحة للأمهات مع أطفالهنَّ الرضع ولمجموعات الأطفال …»١ فتكون مثل هذه اللحظات أيضًا أوقاتًا لسرد القصص، التي تمثِّل أسسًا للأدب. ومن دون اللغة لا وجود للثقافة؛ فيُعتبر التواصُل مكوِّنًا أساسيًّا للحضارة. وعلى حدِّ وصف نيلز بور لهذا فيما يتعلق بالعلم: «ما الذي يعتمد البشر عليه في الأساس؟ نحن نَعتمد على كلماتنا. فنحن عالقون في اللغة؛ فمهمَّتنا هي التواصل … دون خسارة الهدف أو الطبيعة الواضحة [لما نقوله].»٢ إذا كان إنسان نياندرتال لم يتمتَّع بصندوقٍ صوتي متطوِّر جيدًا، ومن ثم كان يفتقر للغة، فإن هذا أحد أسباب عدم احتمال أن تكون هذه المجموعة قد بدأت حضارة، هذا إذا كانت عاشت لفترة طويلة بما يَكفي. من ناحية أخرى، يوجد مَن يعتقدون أن أسلافنا المباشرين كانوا يتواصلون فيما بينهم منذ ٥٠٠ ألف سنة،٣ قبل ظهور الإنسان العاقل بفترة طويلة. وبحلول الوقت الذي بدأت فيه ممارسة الزراعة منذ ١٠ آلاف سنة، ربما كانت معظم المجتمعات حول العالم تتحدث فيما بينها بنوع من الكلام. في الأصل كانت بعض الكلمات على الأرجح تُحاكي الأصوات، كما في كلمات أزيز وحفيف وصرير، وغيرها. من ناحية أخرى، اعتقد كارل بوبر أن اللغة تَدين أكثر للتصريحات المكتملة، كما في الحروف الصينية، أكثر من الأصوات أو الكلمات الفردية.٤ وسأقتصر على وصف اللغات التي تتحدَّث بها المجتمعات التي تطورت لتُصبح حضارة. يؤدِّي التحدث إلى الأدب، لكن هذا ليس مطلبًا أساسيًّا لبدء ثقافة؛ فالإنكا كانوا يفتقرون إلى النصوص المكتوبة، ومع ذلك فقد صنَعوا حضارة متطوِّرة في جوانب أخرى كأي حضارة أخرى. ومن ناحية أخرى، تُساعد الكتابة بالفعل كثيرًا في حكم مجتمع مُتزايد. تبدو أقدم السجلات المكتوبة هي الخاصة بالسومريين منذ ٥٤٠٠ سنة. كان الاستخدام الأساسي للكتابة في المراسيم والنصوص الدينية، رغم أنه سرعان ما تبعها تدوين الحسابات (أو العكس).٥ يُمكننا الإشارة في هذا الشأن إلى أنه رغم عدم اختراع الإنكا للنصوص المكتوبة، فإنهم استخدموا حزمًا من الخيوط مربوطة بأشكال مختلفة لأغراض حسابية (كما فعل الصينيون القدامى).
يَذكر دنبار رقمًا يبلغ نحو ١٥٠ شخصًا بوصفه الحجم الحرج لبدايات اللغة؛ فمعظم الناس يعرفون عددًا من الأصدقاء يَصل إلى هذا الرقم — ونادرًا ما يتخطاه — يمكنهم إقامة حوارٍ جيدٍ معهم. فهو يقارن أحجام مجموعة التنظيف لدى أجناس متنوعة من الرئيسيات (السعادين والقِرَدة) بأبعاد القشرة المخية الجديدة، وهذا جزء من الطبقة الخارجية للمخ (القشرة) يهتم بوظائف دماغية أعلى مثل التفكير والذاكرة والإدراك. ولدى معظم الثدييات تمثِّل القشرة الجديدة من ٣٠ إلى ٤٠٪ من إجمالي حجم المخ، لكن لدى الرئيسيات تكون هذه النسبة أعلى؛ من ٥٠٪ لدى السعالي البدائية (السعادين البدائية) إلى ٨٠٪ لدى البشر. قارَنَ دنبار حجم القشرة الجديدة مع العدد الذي تتكوَّن منه حلقة التنظيف. وبما أن حجم المخ يتناسب مع كتلة الجسم،٦ فإن الثدييات الأكبر حجمًا ستُصبح لديها قشرة جديدة أكبر بصرف النظر عن حجم حلقة التنظيف. وعليه، حسب دنبار نسبة القشرة الجديدة (حجمها مقسومًا على وزن الجسم) في مقابل حجم دائرة التنظيف، وجاء استنتاجه بأن كليهما مُرتبطان. فلدى الشمبانزي، على سبيل المثال، تكون نسبة القشرة الجديدة ٣ وحجم دائرة التنظيف ٧٠. ولدى البشر تكون نسبة القشرة الجديدة ٤، التي يُستدلُّ منها على حجم حلقة تنظيف، أو بالأحرى ثرثرة، يصل إلى ١٥٠.٧
هل نمو القشرة الجديدة هو الذي يَسمح للرئيسيات بتذكُّر عدد مُتزايد من المعارف يُمكنها ممارسة التنظيف أو الثرثرة معها، أم أن هذا النشاط في حدِّ ذاته هو الذي يحثُّ على تكوين المزيد من عصبونات القشرة الدماغية؟ يَميل المرء إلى التفكير في الاحتمال الثاني، وتوجد بعض الأدلة على ذلك. فعلى سبيل المثال، يَبدو أن تواصُل الطيور المغرِّدة مع غيرها أدى إلى زيادة عدد عصبونات القِشرة الدماغية؛ فإذا تُرك ذَكر من الطيور المغردة٨ وحده أو مع أنثى، تحدُث لديه زيادة طفيفة في عدد عصبوناته، أما إذا سُمح له بالاختلاط مع ٤٥ طائرًا مغرِّدًا آخر، فإن الزيادة تتضاعَف.٩ وفيما يتعلَّق بحجم الثرثرة لدى البشر، يذكر دنبار إشارة علماء الآثار إلى اشتراك الإنسان في مجموعات تصل إلى نحو ١٥٠ فردًا في المجتمعات الزراعية القديمة، بينما اقترحتُ أنا — اعتباطيًّا — في بداية الفصل السادس أن المرء قد يحتاج ١٠٠ أسرة لضمان وجود نطاق واسع من المواهب بين أفرادها؛ ومن ثم تكون ١٠٠ أسرة، أو من ٢٠٠ حتى ٤٠٠ فرد، الحجم المطلوب لتَحويل أفكار مجتمع زراعي إلى بناء قرية مُتكاملة، ستنمو لتُصبح مدينة وفي النهاية دولة مدينة، مع زيادة عدد الرجال الذين يتمتَّعون فيها بصفات قيادية. يذكر دنبار كذلك حقيقة أن عدد السكان في بعض القرى البدائية في إندونيسيا والفلبِّين وأمريكا الجنوبية في عصرنا الحاليِّ يصل عادةً إلى نحو ١٥٠ فردًا؛ وهو عدد كافٍ لمجتمع زراعي، لكنه غير كافٍ لصعود هذه الدرجات الإضافية أعلى سُلم الإنجاز الثقافي.
fig15
شكل ٨-١: نصوص قديمة من مِنطقة البحر المتوسط. تشكل العلامات والرموز والحروف الموضحة جزءًا من اللغات الآتية: (a) محدَّدات هيروغليفية (قارن مع صورة ٤)، (b) الكتابة السومرية التصويرية، (c) علامات وادي نهر السند، (d) نظام خطي أ، (e) نظام خطي ب، (f) الكتابة القبرصية، (g) الأبجدية السينائية الأولية (قارن بين شكل ٨-١(h) الفينيقية، (i) الإيبيرية، (j) الإترورية، (k) الإغريقية (الفرع الغربي)، (l) الرومانية، (m) الرونية. تجدر بنا ملاحظة التشابُه بين كافة هذه الرموز، التي استُخدمت على مدى مِنطقة امتدَّت من شبه الجزيرة الإيبيرية حتى وادي نهر السند، والتشابه بينها وبين بعض العلامات التي عُثر عليها على جدران الكهوف والمصنوعات الصغيرة في جنوبيِّ فرنسا وشمالي إسبانيا التي ترجع إلى العصر الحجري (شكل ٩-١). أُعيدت طباعتها من مقال «مشكلة العلامات المجرَّدة الكنتابارية الفرنكية: جدول عمل لأسلوب جديد» لآلن فوربس وتوماس آر كرودر، مجلة وورلد أركيولوجي، المجلد العاشر، العدد ٣: ٣٥٠–٣٦٦، ١٩٧٩، بإذن من مركز التزويد بالوثائق في المكتبة البريطانية، بوسطن سبا، ويذربي، غرب يوركشاير، LS23 7BQ، المملكة المتحدة.
دمَج السومريون، الذين كانوا سلالة هجينة نشأت من مجموعتين مختلفتين، لغاتهم في لغة واحدة، تمثِّل أصول اللغة التركية والمجرية والفنلندية في العصر الحالي، بالإضافة إلى العديد من اللهجات القوقازية. وهي لا تُعتبر سلفًا للغات السامية، مثل العبرية والعربية، ولا للغات الهندية الأوروبية. وتُعرف الكتابة السومرية، المسلَّم بكونها أقدم أشكال الكتابة، بكونها مِسمارية؛ بمعنى كونها وتدية. يَعكس هذا شكل الحروف، التي كانت تُكتب باستخدام عيدان قصب مقسومة من أجل ترك أثرٍ على الطمي اللَّيِّن، وحُفظ شكل الحروف عندما حلَّ نحتُها على الحجر محلَّ رسمها على سطحٍ ليِّن. ظل باقيًّا نحو ألف لوح، يحتوي معظمها على أعدادٍ تُشير إلى نوع من أنظمة المحاسبة القديمة. استخدم الكتابة المسمارية، السلف المحتمل للرموز الموضحة في شكل ٨-١، الأكَّاديون المحتلون، رغم أنهم كانوا يتحدثون لغة مختلفة، أصبحت حاليًّا ما يُعرف باسم الحامِيَّة السامِيَّة (تُسمى أيضًا الأفريقية الآسيوية). يمثل هذا أول استخدام لكتابة مشتركة للغتَين مختلفتين. نقَّح الفرس الكتابة المسمارية وحوَّلوها إلى أبجدية (البهلوية)، وهي التي ظلَّت تُستخدم حتى حلَّت محلها الكتابة العربية عقب فتح المسلمين لبلاد فارس في القرن السابع الميلادي. استخدم الإغريق كتابة أبجدية قبل وقت طويل من غزو الإسكندر لبلاد فارس، وظلَّت مستخدمة، في شكل أبجدية لاتينية وسيريلية، داخل مجموعة اللغات الهندية الأوروبية، وكذلك داخل اللغات الفنلندية والمجَرية والتركية حتى يومنا هذا. يَنسب آخرون أصل الأبجدية للفينيقيِّين في عام ١٤٠٠ قبل الميلاد تقريبًا، التي انتقلت منهم إلى الإغريق. نشأ نوع آخر من الأبجدية في كنعان (يُقال إن الوصايا العشر كُتبت بها على ألواح من الحجارة) في نحو ١٣٠٠ قبل الميلاد.

يُطلق ببساطة على اللغة التي تحدَّث بها المصريون القدماء اللغة المصرية؛ وهي واحدة من مجموعة اللغات الحامِيَّة السامِيَّة، وتُعتبر أحد فروعها اللغة القبطية، التي تحدثت بها طائفة المسيحيين منذ القرن الرابع الميلادي تقريبًا فصاعدًا. ورغم الاستعاضة عنها باللغة العربية إلى حدٍّ كبير بعد القرن السابع، ظلَّت القبطية مُستخدمة لألف سنة أخرى، وما زالت تشكِّل جزءًا من الطقوس الدينية للأقباط، الذين يُمارس نحو ٣٥ مليونًا منهم هذا الشكل من أشكال المسيحية في جميع أنحاء العالم في عصرنا الحالي. ومن هذا المنظور يُمكن القول إن شكلًا من أشكال اللغة المصرية ظلَّ مُستخدمًا على الدوام في الكلام لأكثر من ٥ آلاف سنة، وهذا أطول من أيِّ لغة أخرى. كانت الكتابة التي اخترَعها المصريون هي الهيروغليفية، وتعني استخدام الرموز التصويرية للدلالة على الأشياء والمفاهيم والمقاطع أيضًا. تُعتبر الصينية على النقيض من الهيروغليفية، فيُشير كل رمزٍ فيها إلى كلمة كاملة، بينما تُعتبَر اليابانية الحديثة على نقيضٍ آخر؛ إذ لا يمثِّل أي رمز فيها أكثر من مقطع واحد. استُخدمت نسخٌ مختلفة من الهيروغليفية المصرية في النصوص الدينية (الهيراطيقية)، وفي الوثائق العادية (الديموطيقية). تسجِّل الهيروغليفية المصرية الموجودة على جدران الأهرامات وداخل المقابر حياة الحُكام المسئولين عن بنائها وإنجازاتهم. وقد حُلَّت رموز هذه النصوص نتيجة للحرب.

عندما غزا نابليون مصر في عام ١٧٩٨، كان هدفه منْع الإنجليز من التِّجارة مع الهند (التي كان جزء منها يَحدث برًّا، بالطبع، نظرًا لعدم حفر قناة السويس إلا بعد ٦٠ عامًا من هذا الوقت). فشلت حملة نابليون، لكنه حقَّق هدفًا ثانويًّا. فبجانب جنوده الذين بلغ عددهم ٣٨ ألفًا كان ثمة ١٥٠ عالمًا كانت مَهمَّتهم تفسير الثقافة المصرية. وفي أثناء عمليات التنقيب بالقُرب من مدينة صغيرة في دلتا نهر النيل، عُثر على لوح سميك من البازلت الأسود، يَبلغ طوله مترًا تقريبًا وعرضه ثلاثة أرباع المتر. كان يضمُّ ثلاث مجموعات من النقوش؛ بالهيراطيقية الهيروغليفية، والديموطيقية الهيروغليفية، والرموز الإغريقية (صورة ٤). ظهرت أهمية هذا الاكتشاف على الفور. فإذا كانت النسخة الإغريقية هي ترجمة لأول مجموعتين من الكتابة، فيُمكن من حيث المبدأ فكُّ شفرة الكتابة التي حَيَّرت كل العلماء السابقين. أما من الناحية العمَلية فلم يكن الأمر بهذه السهولة؛ أولًا: تحطَّم قدرٌ كبير من الجزء العلوي للوح وبعضٌ من الجزء الأوسط والجزء السفلي، وفشلت محاولات العثور على الأجزاء المفقودة. وثانيًا: لم يكن واضحًا أيُّ كلمة إغريقية تُقابل أيَّ حرف هيروغليفي بالتحديد. ومع ذلك، كانت ثمَّة أهمية بالغة لهذا اللوح — الذي سُمي حجر رشيد على اسم مدينة رشيد التي عُثر عليه بالقرب منها — فطُبعت الرموز الموجودة عليه بالحِبر على الفور، وأُرسلت إلى علماء في جميع أنحاء أوروبا. وفي هذا الوقت كان نابليون قد ترَك مصر، وسرعان ما وصَل اللوح إلى لندن حيث انتهى به الحال، مثل كثير من البقايا الأثرية الأخرى، في المتحف البريطاني. سرعان ما تُرجمت الكتابة الإغريقية على الحجر على يد الكاهِن ستيفن واطسون؛ فقد اتَّضح أنه مرسوم كُتب في عام ١٩٦ قبل الميلاد، كُرِّم فيه الملك الشاب بطليموس الخامس وأعماله.١٠ كان من بين العلماء الذين جاءوا مع نابليون عالم الرياضيات جان باتيست فورييه،١١ وعند عودته إلى فرنسا عرض فورييه نقوشَ حجر رشيد على دارس صغير سابق لسنِّه وهو جان فرانسوا شامبليون.
في سنِّ الثانية عشرة كان شامبليون يَدرس العبرية والعربية والسورية والكلدانية (لغة استُخدمَت في وقت لاحق في بابل)، وكان يَعرف بالفعل اللاتينية والإغريقية. وفي سن الخامسة عشرة التحَق بمدرسة اللغات الشرقية في باريس، وفي خلال سبع سنوات أصبح أستاذًا للتاريخ القديم في جروبوبل. مثَّلت الحروف الهيروغليفية المصرية تحديًا جديدًا شغَل شامبليون لما بقي من حياته. إلا أنه كان يتنافس ضد عالم إنجليزي له اهتمامات واسعة النطاق، وهو توماس يونج الذي يَحظى باحترام بالغ، والذي كان يَكبُر شامبليون بسبع عشرة سنة. كان يونج قد قدَّم بالفعل إسهامات ملحوظة في دراسة الميكانيكا١٢ وفي علم البصريات،١٣ وكان أول مَن اقترح أن الضوء ينتقل في موجات، وليس في شكل جُسَيمات. وسيُشير فيما بعد إلى أن معيار الطول،١٤ الذي تمثَّل في طول البندول الذي يتأرجح بالضبط مرة واحدة كل ثانية، يَعتمد على الحرارة، وأن هذا لا بد من أخذه في الاعتبار في تعريفه. كذلك أصبح له إسهام كبير في تجميع التقويم البحري. كان يفعل كل هذا في وقت فراغِه؛ فكان يعمل طبيبًا في مستشفى وكلية طب القدِّيس جورج في لندن.١٥ استطاع يونج فك شفرة قدر كبير من النص الديموطيقي الموجود على حجر رشيد، وبدأ في النص الهيراطيقي؛ فحدَّد الرموز التي تعني كلمة بطليموس، وبذلك أظهر أن الكتابة الهيروغليفية كانت إلى حدٍّ ما أبجدية. وتُرك لشامبليون الانتهاء من النص الديموطيقي وفك شفرة الحروف الهيروغليفية الأساسية؛ الهيراطيقية. لم تَكتمل هذه المهمة دون وجود ضغينة بين العلماء البريطانيين والفرنسيين؛ فقد امتدَّ السعي وراء التفوق إلى أبعد من المسائل العسكرية.
تحدَّثت شعوب وادي نهر السند باللغة التي انحدرت منها السنسكريتية على الأرجح؛ ومن ثم كانت واحدة من اللغات الهندية الأوروبية. استُخدمت السنسكريتية في الحديث في الهند، على الأقل من جانب الدارسين، طوال ٣ آلاف سنة، حتى القرن التاسع عشر. حلَّت محلها بالتدريج لغة الإنجليز، عقب وصولهم كتجار١٦ في مدن مدراس وبومباي وكلكتا في ١٧٠٠ تقريبًا. هذا وظلَّت اللغات المحلية، مثل الهندية١٧ والبنغالية والكوجراتية، التي تمثِّل كلٌّ منها لغة مختلفة تمامًا، يتحدَّث بها الأقل تعليمًا لقرون. وفي عصرنا الحالي يُعتبر أحد مقاييس سهولة تنقُّل الذين لا يَملكون موهبة شامبليون في تعلُّم اللغات من أي مكان في العالم إلى غيره، وجود لغات مثل الهندية والبنغالية والكوجراتية — بالإضافة إلى الأردية واللهجات العربية الأخرى — في الوثائق الرسمية مثل طلبات استخراج جواز السفر ووثائق تسجيل دخول المستشفيات في المملكة المتحدة، من أجل مساعدة الجاليات المهاجرة. اخترع الشعب الهندي كتابة هيروغليفية، لكن حتى الآن لم تُفَكَّ شفرتها؛ ومن ثم لا يُمكننا قول الكثير عن أدبهم. من ناحية أخرى، تركت الديانة الهندوسية التي نشأت في هذا المكان أثَرها على النقوش والتماثيل الموجودة في المعابد، خاصةً في جنوب الهند، في أماكن مثل ماهاباليبورام بالقرب من مدينة تشيناي (مدراس سابقًا) وفي مواقع في كارناتاكا جنوب بنجالور.

كانت لغة الشانج الذين استقرُّوا على ضفاف النهر الأصفر هي ما يُشار إليه حاليًّا بشانجو هانيو أو اللغة الصينية القديمة، وتُعتبر هذه واحدة من مجموعة اللغات الصينية التيبتية التي تضمُّ البورمية والصينية والنيبالية والتايلاندية والتيبتية. ورغم ظهور نحو سبع لهجات مختلفة (واحدة في الشمال وست في الجنوب) على مدار آلاف السنين — مختلفة بعضها عن بعض للغاية لدرجة أن متحدِّث الماندرين من بكين لا يستطيع فهم متحدِّث الكانتونية من جوانزو — فإن أصولها جميعًا واحدة. لا توجد إلا طريقة واحدة للكتابة، وكان هذا عنصرًا مهمًّا في الحفاظ على التواصُل والاتساق بين كل أهالي الصين على مدار تاريخها. يرجع تاريخ هذه الكتابة إلى أكثر من ٣ آلاف سنة إلى عصر أسرة شانج. ومقارنةً بالكتابات القديمة — في سومر ومصر والتي أعقبتْها كتابة الشعب الهندي — تُعتبَر حديثة نسبيًّا. ومع ذلك فإنها الكتابة الوحيدة التي يُمكنها زعم استمرار استخدامها حتى عصرنا الحالي، مع بعض التعديلات بمرور الوقت.

fig16
شكل ٨-٢: الكتابات الصينية القديمة. (a) علامات على عظام ترجع إلى أسرة شانج (نحو ١٤٠٠ قبل الميلاد)؛ (b) علامات على مصنوعات خزفية من العصر الحجري الحديث (نحو ٤ آلاف قبل الميلاد). تجدُر بنا ملاحظة التشابه بين هذه العلامات والرموز الموضَّحة في الشكلين ٩-١ و٨-١. أُعيدت طباعتها من مقال «مشكلة العلامات المجرَّدة الكنتابارية الفرنكية: جدول عمل لأسلوب جديد» لآلن فوربس وتوماس آر كرودر، مجلة وورلد أركيولوجي، المجلد العاشر، العدد ٣: ٣٦٦–٣٥٠، ١٩٧٩، بإذن من مركز التزويد بالوثائق في المكتبة البريطانية، بوسطن سبا، ويذربي، غرب يوركشاير، LS23 7BQ، المملكة المتحدة.
ساد الاعتقاد بأن أصول الكتابة الصينية كانت إيدوجرافية بالكامل، مثل الكتابة المسمارية للسومريين والهيروغليفية للمصريين، عن طريق تصوير الأشياء بالصور. ويرجع هذا إلى أن الصور القديمة المنحوتة على الحجارة — التي تصوِّر الصيد والخصوبة وشعائر دينية أخرى، وأشكالًا منمَّقة للرجال والنساء والغزلان والثيران والخيول والثعابين والأيادي والأقدام والأعين والجبال والعربات الحربية — تُشبه الرموز التي تعبر عن هذه الأفعال والأشياء الموجودة على المصنوعات البرونزية والعظام. وبما أن معظم النقوش كانت معتمدةً على العِرافة والكهانة، فإن كلمة «وسيط روحي» عادةً ما تستخدم لوصف الكلمات الموجودة على العظام. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن هذا ليس إلا مصدرًا واحدًا لنشأة الكتابة الصينية؛ فقد لعبت الرموز والأشكال الهندسية التي اخترعها الكُتَّاب والكهَنة المحليون دورًا أيضًا (شكل ٨-٢). وفيما بعد، عندما أُدخلت الكلمات المجردة، أصبحت الحروف رمزية بالكامل. وكما في اللغات الأخرى، كانت الكلمات في الأصل أحادية المقطع — أسماء في الأساس — ولها معنًى واحد. ظلت كلمات مثل الجبل والماء والثور، الأعداد أيضًا من عصر شانج حتى العصر الحالي. ومع ازدهار الثقافة أُضيفت الكلمات متعدِّدة المقاطع. في البداية كان هذا جزءًا من سبع فئات «أساسية» أو «معانٍ».١٨ ومع مرور الوقت، أُضيفت كلمات ذات معانٍ واسعة داخل الفئات الأساسية؛ على سبيل المثال، في الفئة الأولى (الإنسان وأجزاء جسمه) توجد الرموز الخاصة بالفم والأذنين والأنف والعينين واللسان والقلب واليدين والقدمين. بدأتْ هذه الرموز تُستخدم أيضًا في كلمات تتعلق بالأكل والكلام والسمع والشم والرؤية والتذوق، وبالمشاعر والأفعال باستخدام اليدين والقدمين. تظهر في لغات أخرى تعديلات مُماثلة؛ قارن بين كلمة أذن ear والفعل يسمع hear بالإنجليزية. والأرقام الصينية، مثل الأرقام في معظم الحضارات الأخرى، ١٠ في الأساس؛ على افتراض استخدام المرء أصابعه في الأصل للعد. في الأصل كان ثمة ١٣ رمزًا؛ من ١ إلى ٩ و١٠ و١٠٠ و١٠٠٠ و١٠٠٠٠. وعلى الأرجح كانت الأعداد الأكبر تُستخدم في الإشارة إلى مجموعات، مثل تعداد السكان والماشية. يُمكننا مقارنة هذا التوقَ للدقة بالوضع في الثقافات الأقل تقدُّمًا؛ فعلى سبيل المثال، في قبيلة أشانينكا في غابات الأمازون ليس لديهم حتى عصرنا الحالي إلا كلمات للأرقام من ١ إلى ٣، ويُطلق على أي شيء أكبر من هذا إما «أكثر» أو «كثيرًا». في المقابل، كان في عصر أسرة تشو بالفعل كلمات تعبِّر عن ١٠٠ ألف ومليون و١٠ ملايين و١٠٠ مليون ومليار.١٩ والشيء الذي لم تتوصَّل إلى اختراعه أيٌّ من الثقافات القديمة سواء في بلاد الرافدَيْن أو مصر أو الصين أو أوروبا، هو مفهوم الصِّفر؛ هذه الفكرة المذهلة التي نَدين بها للهنود، الذين نقلوه إلى بقية أنحاء العالم عبر العرب بعد توغُّلهم في شبه القارة الهندية بدايةً من القرن السابع.
يرجع سبب فك شفرة رموز شانج إلى حدٍّ كبير إلى العثور على عظامٍ حول مدينة أنيانج في نهاية القرن التاسع عشر. فكان الفلاحون الذين يَحفرون في الحقول يَستخرجون العظام، التي يُطلق عليها «عظام التنين»، ويطحنونها ليستخدموها في الكمادات والمشروبات المنعشة. لاحظ تاجر تُحَف جاء إلى هذه المِنطقة من محافظة شاندونج من أجل شراء المصنوعات البرونزية هذا النشاط، وقرَّر أن هذه العظام ربما تكون لها قيمة معيَّنة. فبدأ الحفر بنفسه، وفي عام ١٨٩٩ بدأ في بيع ما عثر عليه. وفي بكين تواصَل هذا التاجر مع عالم وجامع آثار معروف اسمه وانج يرونج، الذي أدرك على الفور أن الكتابة كانت مُشابهة لتلك الموجودة على المصنوعات البرونزية من عصر أسرة شانج، التي كان يجمعها. وطلب من أحد زملائه، ليو إي، مساعدته في ترجمتها. لم تستمرَّ جهودهما كثيرًا؛ فقد كان وانج يرونج يعمل أيضًا رئيسًا للأكاديمية الملَكية ووافق على مضض تزعُّم قوات الملاكمين التي كانت تُدافع عن بكين ضد هجوم قوات الحلفاء الغربية في حرب الأفيون. وعندما فشلت المقاومة ودخلت القوات الأجنبية بكين، انتحر وانج يرونج، فشرب سمًّا وألقى بنفسه في بئر. باع ابنه فيما بعد العظام لليو، الذي أخذ النسخ المطبوعة بالحَك، ونشَرها في شكل مجموعة في عام ١٩٠٣. وفي عام ١٩٠٨ لفتَت انتباه عالم يُدعى لوه دجينين، الذي أدرك من النقوش أن هذه العظام تُشير إلى موقع مدينة عظيمة، فتحدَّد بذلك مكان آخر عاصمة لأسرة شانج. ومع ذلك، حتى الآن لم تُفك شفرة ٧٠٪ من رموز أسرة شانج.٢٠ ومع بدء إدراج الكلمات المجرَّدة أصبحت الحروف المعروفة باسم هان، المسماة على اسم الأسرة التي حكمتْ من ٢٠٦ قبل الميلاد إلى ٢٠٠ ميلاديًّا، رمزية بالكامل؛ فقد أُدخلت في عهد أسرة تشين التي سبقتها (٢٢١–٢٠٦ قبل الميلاد) كتابة موحَّدة حتى يستطيع الأفراد من المناطق المختلفة — الذين لا يستطيع بعضهم فهم لهجات بعض — التواصُل. وفي عصر أسرة تانج (٦١٨–٩٠٧ ميلاديًّا) اختُرع الورق والطباعة وازدَهر الأدب؛ فقد بقي من هذا العصر أكثر من ٤٨ ألف قصيدة وأكثر من ألفَي مؤلَّف. استمر عدد الرموز في الزيادة، وبحلول عام ١٠٦٦ وصل إلى ٣١٣١٩، ويحتوي حاليًّا قاموس دجونجهوا دزيهاي على ٨٥٥٦٨ رمزًا. إلا أن كثيرًا من هذه الرموز هي مجرد أشكال مختلفة خاصة بالنصوص البوذية والطاوية (تُذكر الكتابة الهيراطيقية في مقابل الديموطيقية في مصر القديمة)، وبدائل أخرى خاصة بهونج كونج وتايوان وسنغافورة وكوريا واليابان؛ كما أن عدد الموضوعات التي تُصنَّف تحتها هذه الرموز التي يقدر عدد بنحو ٨٥ ألف رمز لا يتعدى ٢٠٠ فرع. إذن هل بالفعل تُعتبر الصينية لغة تَصعُب إجادتها؟ كان على المرء حتى يتأهَّل ليُصبح كاتبًا في أسرة هان معرفة ٩ آلاف رمز، وهو تقريبًا نفس عدد الكلمات التي توجد في قاموس إنجليزي أو إيطالي عادي. أما الآن، فيُمكنك تدبُّر أمرك بمعرفة نحو من ألفين إلى ٣ آلاف رمز أساسي، وهي تمثِّل نحو ٧٠٪ من كل الرموز المستخدمة منذ عصر أسرة شانج حتى العصر الحالي. وتذكَّر أنه على عكس اللغات الهندية الأوروبية، تُعتبر الصينية لغة نغْمية؛ فلا يوجد تغيير في صيغ الأسماء أو إعراب أو تصريف للأفعال.
كانت اللغة المينوية، التي اتَّخذها الميسينيون، النموذج الأوَّلي للغة الإغريقية، التي ظلَّ الناس يتحدثون بها في البرِّ الرئيسي للدولة على مدى ثلاث ألفيات. ورغم العثور على نحو ٤٠٠ لوح من الطمي عليها نقوش تُسمى النظام الخطي (أ) يَرجع تاريخها إلى عام ١٧٥٠ قبل الميلاد على جزيرة كريت، فإنَّ شفرتها لم تُفك حتى الآن. ومن ناحية أخرى، حُلَّت شفرة نوع آخر من الكتابة يُعرف باسم النظام الخطي (ب)، عُثر عليه محفورًا على ألواح من الطمي استُخرجت من كنوسوس وبيلوس (في شبه جزيرة بيلوبونيز) يَرجع تاريخها أيضًا إلى ٣٥٠٠ سنة. يرجع هذا الإنجاز إلى حدٍّ كبير إلى العالم مايكل فينتريس، الذي استنتج في عام ١٩٥٢ أن النظام الخطي (ب) نوع من الكتابة المقطعية التي تُعبِّر عن شكل بدائي من الإغريقية. كانت هذه الكتابة في الأساس أبجدية الفينيقيين، التي اتخذها الإغريق في عام ألف قبل الميلاد تقريبًا. انتهج الرومان الأسلوب ذاته، رغم أن الكلمات اللاتينية التي اخترعوها كانت بالطبع مختلفة. وعبر غزوات الرومان انتشر استخدام اللاتينية في معظم أنحاء أوروبا، وشكَّل أساسًا للغات الرومانسية الحالية؛ الإيطالية والرومانية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية، وإليها يُمكن إضافة الكلمات الإنجليزية التي ظهَرت منذ عصر الغزو النورماني. أما اللغات الجرمانية، مثل الألمانية والهولندية والإسكندنافية والإنجليزية، فتشكِّل مجموعة أخرى، تمامًا مثل اللغات السلافية، التي تضمُّ الروسية والأوكرانية والبولندية والتشيكية والسلوفاكية والسلوفينية والصربية والكرواتية والبلغارية؛ وجميعها لغات هندية أوروبية.٢١ يُمكن العثور على خريطة توضِّح كيفية انتشار هذه اللغات بحلول القرن الخامس عشر في كتاب جارد دياموند «ازدهار الشمبانزي الثالث وتدهوره».٢٢ وكما نتوقع، تَتبْع المؤشرات الوراثية الطُّرق نفسها؛ فيوجد ارتباط مُباشر بين انتشار الجينات واللغات.٢٣

إذا كنتُ أمضيتُ وقتًا في الحديث عن أصل اللغة الصينية أطول من ذلك الذي أفردتُه للغات الأخرى، فإن هذا لثلاثة أسباب؛ الأول: أن اللغة الصينية تقدِّم مثالًا جيدًا على طريقة تحوُّل الكلمة المنطوقة، عبر الرموز التصويرية، إلى كتابة. والثاني: أنها مثال على كيف تؤدِّي رغبتنا في توصيل قضايا وأفكار أكثر تعقيدًا إلى جيراننا إلى ثراء اللغة. والثالث: أن العناصر الأساسية للكلام والكتابة ظلَّت نفسها لأكثر من ٣ آلاف سنة، وهذا يُعطي الدارسين — وقراء هذا الكتاب — فرصة لتتبُّع تأثير بحث الإنسان عن التجديد في مجالات مثل الأدب والتكنولوجيا في إطار سياق ثقافي واحد، حتى عصرنا الحالي. والمجتمع الوحيد الذي يَقترب من هذا هو اليونان.

يُعتبر أدب اليونانيِّين أسطوريًّا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ. ظهَر سرد القصص بالطبع منذ بدأ الإنسان في الكلام منذ ١٠٠ ألف سنة، لكن لأكثر من ٩٧ ألف سنة تالية لم تكن القصص تَنتقِل إلا شفهيًّا، وبمجرَّد اختراع الكتابة، سرعان ما بدأت أحداث الماضي والحاضر تُسجَّل. في أوروبا، كما رأينا، حدَث هذا في القرن الثامن قبل الميلاد تقريبًا، وكان أحد أوائل الشخصيات الأدبية التي سجَّلت تاريخ بلدها شِعرًا هوميروس؛ ومثل راوٍ آخر ظهر بعد ٢٤٠٠ سنة، وهو الشاعر الإنجليزي جون ميلتون، كان هوميروس ضريرًا على الأرجح، وتمثِّل القصائد الملحمية التي نُسبت إليه، خاصةً الإلياذة والأوديسا، خليطًا متشابكًا ببراعة من الحقيقة والخيال. فالمينوتور الذي كان على أوديسيوس (يوليسيس لدى الرومان) قتاله والتغلُّب عليه أسطوري، لكن على الأرجح كانت كنوسوس هي موقع القصر الذي كان المينوتور يُدافع عنه، حيث يوجد قصر الملك المينوي. كما أن الآلهة والأفراد الذين تفاعَلوا معهم؛ أجاممنون من ناحية والطرواديون من ناحية أخرى، كانوا أسطورِّيين، لكن طروادة كانت موجودة وتشهَد أنقاضها (الموجودة في شمال غرب الأناضول) على مدينة كانت عظيمة في وقت ما. وهكذا، وبعد قرنين أعاد الشعراء نسْج بعضٍ من شخصيات هوميروس ومآثرهم، ويشكِّل إنتاجهم التراث الدرامي لليونان القديمة. وحتى يومنا هذا ربما نرى عروضًا لمآسي إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس، والمسرحيات الكوميدية للكاتب المسرحي أريستوفان الذي جاء فيما بعد وهجا زملاءه من الشعراء والسياسيِّين والفلاسفة على حد سواء، كما أن أسلوبه الفكاهي يتناسب مع عصرنا الحالي تمامًا كما كان منذ ألفيتَين؛ ففي مسرحية «الطيور» ابتكر أريستوفان «أرضًا خيالية للوَقْواق بين السحاب»، وفي مسرحيته «ليسستراتا» تَمتنع النساء عن تقديم خدمات جنسية للرجال في مجتمعهم احتجاجًا على الحرب؛ وهما فكرتان لهما صدًى حديث للغاية. هذا وتعتبر المحاكاة الساخرة، والسخرية من الشخصيات العامة حَجر الزاوية للنُّظُم الديمقراطية، ويؤدِّي قمعهما في النظم الديكتاتورية إلى دفع الدولة بضع درجات أسفل سُلم الإنجاز.

كان الأدب الإغريقي مصدر إلهامٍ لكثير من الثقافات الأوروبية التالية؛ فعلى سبيل المثال، يَظهر أثره واضحًا في القصائد الملحمية مثل «ملحمة السِّيد» في القرن الثاني عشر، أو ملحمة دانتي أليجيري «الكوميديا الإلهية»، التي كُتبت في عام ١٣١٠ تقريبًا. تَحكي الأولى ملحمة الجندي الإسباني «السِّيد»، الذي ساعدتْه مآثرُه في دفع المورسكيين إلى خارج شمال إسبانيا نحو فالنسيا. وتَحكي الثانية عن رحلة خيالية للمؤلِّف؛ عبر الجحيم، ثم في المطهر بين الجنة والنار، ثم أخيرًا في الجنة؛٢٤ فكان في الجحيم بصُحبة فيرجيل، وفي الجنة بصحبة بياتريس بورتيناري؛ حب حياته ومصدر الإلهام في حياته. ترك إرث الدراما الإغريقية أثرَه في الأدب الأوروبي لعدة قرون تالية، ووصَل على الأرجح إلى أوج ذروته في مسرحيات شكسبير في أواخر القرن السادس عشر. بحَث شكسبير عن موضوعات من العصور السابقة، لكن كانت حداثة لغته العامل الذي جعل أعماله تظلُّ باقية. كتب بالشعر مثل معاصريه، لكن لماذا لم يكتب الكُتَّاب المسرحيون والشعراء الغنائيون منذ عهد هوميروس حتى القرن الثامن عشر إلا بقافية؟ هل كانوا يسعَوْن إلى تمييز كلام الآلهة والأبطال الخياليِّين عن الكلام العادي، وإلا ما كان الناس سيشعرون بالراحة؟ لندع علماء الأدب يتناقَشون في هذا الأمر. ومن وجهة نظرنا في هذا السياق، أودُّ الإشارة فقط إلى أن العصر الأوغسطي في منتصف القرن الثامن عشر هو الذي شهد بداية استخدام اللهجة العامية في الدراما ومعها جاء مولد الرواية.

نظرًا لأن أيًّا من حضارات أمريكا الوسطى والجنوبية، بخلاف حضارة المايا، لم تشهد على ما يبدو اختراعَ نصٍّ مكتوبٍ، يصعب قول الكثير عن لغتهم؛ فلم يكن لديهم أدب. ونحن بالطبع نَعرف ما كان يتحدَّث به الناس في وقتِ حدوث الفتْح الإسباني؛ من الآزتيك في المكسيك، وبقايا المايا في يوكاتان، والإنكا في بيرو. وعبر الاحتكاك الذي حدث بينهم وبين الغزاة الإسبان أمكن تسجيل قدر كبير من تاريخهم وأساطيرهم.

إذن من خلال دراسة اللهجة العامية في حضاراتنا الأساسية استطعنا تعقُّب أصل اللغات التي كان الناس يتحدَّثون بها في جميع أنحاء أوروبا وآسيا. تشمل هذه بالطبع اللغات المستخدَمة حاليًّا في أمريكا؛ الإسبانية والبرتغالية والإنجليزية والفرنسية. وفيما يتعلَّق بأفريقيا، كانت اللغات الأساسية المستخدمة في شمال القارة هي اللغات الحامية السامية، أو الأفريقية الآسيوية؛ وتضم: العربية ولغة البربر والتشادية والكوشية والعِبرية والمالطية. يتحدَّث البربر وحدَهم أكثر من ٢٠ لغة مختلفة، وقد كانوا قبل الفتح العربي في القرن السابع يَعيشون في معظم شمال أفريقيا. كانت لغتهم الأصلية النوميدية، التي عُثر على كتابة مميَّزة لها، وكانت تُستخدم في نوميديا (ليبيا حاليًّا) منذ ألفَي سنة، عندما كان جزء كبير من شمال أفريقيا خاضعًا للحكم الروماني. يتحدَّث باللغة التشادية أولئك الذين يعيشون حول بحيرة تشاد، التي تقع على حدود جنوب شرق النيجر، وشمال شرق نيجيريا وحدود التشاد نفسها؛ واللهجة السائدة فيها هي الهوسا. أما الكوشية فيتحدَّث بها الناس في الأغلب في إثيوبيا والصومال. أما المجموعات اللغوية غير المرتبطة بأيٍّ من اللغات المذكورة حتى الآن فهي النيجر والكونغو، وهي أكبر المجموعات وتمثِّل اللغات المستخدمة في غرب أفريقيا ووسطها وجنوبها. والخوسية التي يتحدَّث بها البوشمان والهوتنتوت في شرق أفريقيا وجنوبها. واللغات النيلية الصحراوية المستخدمة في أوغندا وأجزاء من السودان وكينيا وتنزانيا.٢٥ تُثبت حقيقة وجود هذا الكم الكبير من اللغات، كلٌّ منها تختلف عن الأخرى، في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى حقيقة وجود مجموعات عِرقية متفاوتة في هذا المكان أكثر من تلك الموجودة في باقي أنحاء العالم مجتمعة، وأن عملية التواصُل بينها حتى عصرنا الحالي كانت ضئيلة إلى أقصى حد. كما أن هذا التنوع، كما رأينا في فصل سابق، هو الذي يُعطي مصداقية للرأي الذي يَفترض نشأة الإنسان العاقل في أفريقيا.

(٢) العلم والفن

بما أن «الفن» يُعرَّف بوجه عام بأنه مهارة، بما في ذلك المهارة الذهنية، فهو يضمُّ المعرفة العلمية علاوةً على المعرفة العملية. وبما أن الفأس الحجرية من المصنوعات، مثل الخاتم الذهب تمامًا، يُمكننا القول إن الإنسان ظلَّ يُزاول الفن لأكثر من مليون سنة، منذ بدء اكتسابه المهارة اليدوية والفضول المتزايد. لكني اخترتُ استخدام هذه الكلمة بمعناها المحدود أكثر، للإشارة إلى ابتكار الأشياء التي تخدم في حدِّ ذاتها أيَّ هدف مفيد؛ ومن ثم أفصل الفن عن التكنولوجيا (الفصل التاسع). يتطلَّب الفن والعلم بحثًا؛ عن الجمال والكمال في حالة الأول، وعن المعرفة والفهم في حالة الثاني. يَشتمل العلم بالطبع على الفلسفة والعلوم، وسأخصِّص بعض الوقت للحديث عن الأولى لاحقًا (الفصل العاشر)، ووقتًا أكبر للحديث عن الثانية بعد ذلك (الفصل الحادي عشر)، وسنتحدث فيما يلي باختصار عن العلم.

يَعتبر بعض الناس أن الفن لا يَعتمد على الفضول العقلي، لكني لستُ متأكدًا من هذا؛ فمعظم الفنانين العظماء كان ذكاؤهم فوق المتوسط، وكما علَّق عازف البيانو ألفريد برندل في لقاء له مؤخرًا، فإن تفسير الفن — بصرف النظر عن تكوينه — يتطلَّب فضولًا عقليًّا بالإضافة إلى تقنية للوصول إلى أعلى مستوًى. وقد يعكس الفرق بين الحِرَفي والفنان درجة المدخَلات العقلية. وفيما يتعلَّق بجودة الفن — الفن الجيد في مقابل السيِّئ، والرائع في مقابل المبتذَل — فهي مسألة فردية في الأساس ولن أتحدَّث فيها. ما يَعنينا في هذا السياق هو أن مُمارسة كافة الفنون، سواء المدرَكة بالبصر أو السمع أو اللمس، تَنتج من عملية البحث من جانب صانعها.

سبق الفن الزراعة؛ فثمَّة فكرة طُرحت في القرن الثامن عشر مفادها أن الموسيقى الغنائية هي أقدم أشكال الكلام،٢٦ ويذهب البعض إلى أبعد من هذا ويقولون إنَّ السيمفونية التاسعة لبيتهوفن هي استحضار للأصوات التي تُصدرها مجموعة من البابون.٢٧ استخدم قاطنو الكهوف في العصر الحجري الحديث الحجارة والفحم لتصوير مَشاهِد عديدة على الجدران. ويُذَكِّر الوضوح الذي رُسمت به حيوانات مثل البيسون والماموث ووحيد القرن والحصان في كهف شوفيه في فالون بون دارك بالقرب من إقليم الأرديش في جنوب فرنسا منذ ٣٠ ألف سنة،٢٨ اختصاصيَّ علم النفس نيكولاس همفري بالرسوم التي يَرسمها بعضٌ من الأطفال المصابين بالتأخُّر العقلي الشديد. لم يكن باستطاعة طفلة تبلغ من العمر ٦ أعوام مصابة بالتوحُّد تُدعى نادية الكلام جيدًا، لكن كان رسمها للحيوانات نابضًا بالحياة وواضحًا على نحو مُذهِل. ويتساءل همفري عما إذا كان الفنانون في شوفيه افتقروا للقدرة اللغوية مثل نادية، ويَقترح أن غياب الوصلات العصبية المسئولة عن اللغة ربما «يحرِّر» إلى حدٍّ ما المهارات التصويرية.٢٩ ربما يبدو هذا مناقضًا لما جاء في تعليق برندل، لكن الفضول العقلي يختلف عن الكفاءة اللغوية. والسبب في ذكر أفكار همفري هو أنها تلمِّح إلى أنه منذ ٣٠ ألف سنة لم يكن لدى سكان شوفيه — الذين كانوا يَنتمون إلى فئة الإنسان الحديث وليس إنسان نياندرتال — بعد نظام كلام مُكتمِل. صحيح أن الفن الذي جاء فيما بعد، مثل الذي ظهر في مصر القديمة أو أوروبا في العصور الوسطى، كان خشبيًّا مُقارَنةً برسوم العصر الحجري، لكن مع ذلك علينا توخِّي الحذر، تمامًا مثلما يفعل همفري نفسه، عند محاولة تأريخ ظهور اللغة باختفاء المهارات التصويرية؛ هذا لأن رسوم الكهوف، التي أصبحت آنَذاك تُرسَم بالصبغات الطبيعية، في أماكن مثل ألتميرا بالقرب من سانتاندير في شمال شرق إسبانيا وفي لاسكو في مِنطقة دوردونيي في جنوب غرب فرنسا، ما زالت نابضة بالحياة، رغم أنها تبلغ من العمر من ١٥ ألفًا حتى ١٧ ألفًا فقط، وهو وقت كان التواصُل اللفظي واسع النطاق فيه بالتأكيد. لا يقتصر فن الكهوف على أوروبا فحسب؛ فقد رأيتُ رسومًا نابضة بالحياة لحيوانات في سلاسل الجبال المرتفعة في كاليفورنيا (ولا بد أنَّ عمرها أقل من ١٢ ألف سنة). ويشهد اكتشافُ مثل هذه الرسوم في العالم الجديد مثل اكتشافها في العالم القديم على نشأة الفن بوصفه واحدًا من أكثر الطُّرق البدائية لتعبير الإنسان عن نفسه.
لماذا فعل هذا؟ ربما ظنَّ الإنسان القديم أن هذا يُخيف المفترِسات ويُبعدها، أو يُخيف الأعضاء المغيرين من نفس نوعه. وربما فعل هذا لأنه أقر بالفعل الاعتقاد في أرواح مجهولة كان يُحمِّلها مسئولية الأحداث الغريبة، مثل الزلازل أو الفيَضانات، والتي كان يُريد إرضاءها. يوجد أيضًا عنصر السحر أو الخرافة في هذه الصور، التي ضمَّت موضوعات رمزية ورسومًا تصويرية أيضًا. كان الفن القديم ثلاثيَّ الأبعاد؛ فلم تكن معظم جدران الكهوف مسطَّحة، فتتداخَل الرسوم مع الانحناءات؛ مما يُشير إلى وجود تكامل بين الطبيعة والفن، حتى إن بعض الأشياء الموجودة في الطبيعة، مثل الحجارة والعظام وحتى الفئوس الحجرية، كانت تُشكَّل أيضًا لأسباب أخرى غير المنفعة.٣٠ وربما يَرجع هذا أيضًا إلى أن الفن، المتمثِّل في تزيين الإنسان لمكان سكنه، صفة فطرية في الإنسان مثل التوصُّل إلى تقنيات مفيدة. وربما يشير القراء أيضًا إلى أن كثيرًا من الطيور تزيِّن أعشاشها — تعدُّ طيور التعريشة في غينيا الجديدة مثالًا مذهلًا على هذا — وأن النتيجة قد تكون مُبهرة مثل لوحة أو باقة من الزهور منسَّقة بعناية. قد تفعل الطيور هذا لأسباب التمويه، ولكنها قد تفعل هذا أيضًا بغرض جذب شريك. إذن هل ثمَّة احتمال بأن الفن يَنبع من الرغبة في جذب رفيق، بقدر ما يُعتبَر وسيلة لاسترضاء الآلهة؟ بينما أدَّى السبب الثاني إلى بناء الأهرامات في أمريكا الوسطى، والمعابد والأضرحة في آسيا، والكاتدرائيات التي ظهَرت فيما بعد في أوروبا. من المتعارف عليه أن معظم الكُتَّاب والرسامين والموسيقيِّين يُمارسون فنهم من أجل الحصول على التقدير والاحتفاء من أقرانهم. رغم أن هذه بالتأكيد سمة بشرية بحتة — السعي لتحقيق النجاح — ربما تَكمن أصولها في النهاية في الطقوس التي نمارسها، مثل الحيوانات، من أجل جذب شريك. باختصار، تَنتشِر أصول الفن لدى كثير من الأنواع، لكنها لم تَصِل إلى حدِّ الإنجاز إلا عند البشر فقط؛ فالطاووس يولد بشكل ريشه الرائع، أما الرجال والنساء فظلوا يتأنَّقون، عادةً في محاكاة مباشرة لريش الطاووس، لآلاف السنين. ألم تتحدَّث أقدم القصائد عن الحب، ألم يكن الهدف من الأصوات البدائية للناي (الذي صُنع من عظام الحيوانات منذ نحو ٣٠ ألف سنة) أو القيثارة جذْب شريك؟
توجد نظرية تقول إن الفن والعلم مكمِّلان لظهور الإنسان. وتتمثَّل الحُجة، التي طرحها على وجه الخصوص بشدة العالمُ والكاتبُ ديفيد هوروبين،٣١ فيما يلي: ثمة ارتباط بين الجينات التي تؤدِّي إلى الإبداع وتلك التي تُعرِّض الإنسان للإصابة بمرض الفِصام واضطرابات أخرى أقل خطورة مثل الذُّهان الهوَسي الاكتئابي. يَستشهِد هوروبين بأن نيوتن وفاراداي وأينشتاين وهاندل وبيتهوفن وكانط كانوا جميعًا «شخصيات شبه فصامية»؛ في المنتصف بين الشخصيات الفِصامية والشخصيات الطبيعية. ويقول أيضًا إن في الشعب الأيسلندي، المعروف بالتزاوج الداخلي، يَزيد احتمال إنجاب العائلات التي يكون فيها عضو مُصابٌ بالفِصام ذرية متميِّزة في الفنون أو العلوم عن المستوى المتوسط (غير أنه يفسد هذا الرأي عن طريق إدخال العنصر السياسي فيه). ونظرًا لاعترافه بأن السبب في الإصابة في الفِصام لا يكون وراثيًّا إلا بنسبة تتراوح من ٤٠ إلى ٥٠٪، عرَّف الأسباب غير الوراثية أو البيئية بأنها تَنتج عن استهلاك دهون الحيوانات. ذكرتُ في الفصل الرابع فرضية ليزلي إيلو بأن قدرة العقل البشري بدأت تزيد عندما تحول من النظام الغذائي النباتي بالكامل إلى نظام يَحتوي على اللحم. يرى هوروبين أن احتواء لحوم الحيوانات على أحماض دهنية معينة هو الذي يُقوِّي، مصحوبًا بوراثة جينات معينة، عصبونات الإنسان، بينما يُعرضه في الوقت نفسه لخطر الإصابة بالمرض العقلي. ليس هوروبين وحده الذي يؤمن بهذه الفكرة؛ فيؤيد دانيال نيتل٣٢ في كتاباته حاليًّا العلاقة بين الاضطرابات الذهانية والإبداع، ويَعترف — مع هوروبين — بإسهام هنري مودسلي أحد الآباء المؤسِّسين للطب النفسي. في عام ١٨٧١ كتب مودسلي: «ظلَّ بداخلي شك لوقت طويل … في أن البشرية تدين بكثير من تفرُّدها وأشكال معينة من العبقرية لأفراد يُعانون من نزعة معيَّنة للجنون.»٣٣ صحيح أنَّ روبرت شومان تُوفي في مصحَّة نفسية في سن السادسة والأربعين، وكان قد فكَّر في الانتحار بالفعل وهو في نصف هذا العمر، وألَّف بالفعل واحدة من أعظم المقطوعات الموسيقية على الإطلاق «الكرنفال» بالإضافة إلى أوبرتين و١٩ كورال و٥١ أوركسترا، وأكثر من ١٠٠ مقطوعة للبيانو وأكثر من ٣٠٠ أغنية. لم يجد دانيال نيتل صعوبةً في أن يستحضر سريعًا نحو ٧٠ شاعرًا وكاتبًا وموسيقيًّا وفنانًا مشهورًا، كلٌّ منهم عانى مِن مرض الذهان، ومع ذلك أغفل الحديث عن العلاقات الجزيئية بين الإبداع والمرض العقلي؛ لذا لا خيار أمامنا إلا العودة إلى ديفيد هوروبين. هل يمثِّل الفِصام والأحماض الدهنية المِفتاح لنزعة الإنسان للسعي الفكري؟ إذا كان الأمر كذلك، فسيكون من الجيد أن نَعرف أن قردة الشمبانزي لا تُعاني من مرض فصامي، ويختلف محتوى الأحماض الدهنية في عصبوناتها عن الإنسان. أرى كذلك أن حُجة نيتل، بأن الجينات التي تجعلنا عرضة للإصابة بالفِصام لم تَندثِر بفعل الانتقاء الطبيعي لأنها تَدعم الإبداع، غير مقنعة؛ فمنذ متى كان المبدِعون أكثر خصوبة — أفضل في العثور على شريك — من بقيَّتِنا؟ إذا كانت ثمة علاقة، فطالما بدت لي العكس من هذا تمامًا.
ذكرتُ بإيجاز بعض الإنجازات الفنية والعلمية للحضارات السبعة الرئيسية في هذا الفصل والفصل السابق. فكان لكل حضارة فنٌّ زخرفي؛ على المباني، في شكل رسوم على الجدران وأفاريز منقوشة وتماثيل مَنحوتة؛ وعلى الأدوات المستخدَمة في الحياة اليومية مثل أواني الشرب والسكاكين اليدوية أو الخناجر التي يَستخدمها ذوو الشأن؛ وعلى الملابس التي يَرتديها الأغنياء. ومن هذه الثقافات ظهرت ثقافات أخرى؛ في كوريا واليابان من الثقافة الصينية، وفي جنوب شرق آسيا من مزيج من آثار الثقافة الهندية والصينية (هذا إن لم تكن اقتنعتَ بالفكرة المذكورة في نهاية الفصل السابق، بأن الحضارات المفقودة في جنوب شرق آسيا واليابان سبقَت ظهور الثقافة الصينية والهندية بآلاف السنين). وفي حوض البحر المتوسط، أعقب التنوير الذي ظهر في اليونان وروما ذلك الذي ظهر في جزيرة كريت بسرعة كبيرة، بينما امتدَّت جذور الإنجازات الإسلامية إلى حضارات بلاد سومر ومصر، بالإضافة إلى إرث القيم اليونانية الرومانية، الذي اشتمل بحلول القرن السابع الميلادي على القيم المسيحية. أصبح الفن والمعارف الأوروبية٣٤ في حالة خمول إلى حدٍّ كبير في القرون الستة التالية أو نحو ذلك. وبعد ذلك، أعادت جذورها المسيحية ترسيخ نفسها وأنتجت لوحات وموسيقى كَنَسية، بالإضافة إلى إلهام الشعراء في هذا العصر. لم يظهر إلا فيما بعدُ الفن والمعارف التي ارتبطَت بفرنسا وهولندا وإنجلترا، وبالبندقية وبادوا وفلورنسا، وفيينا ولايبزيج وفايمار، وكراكوف وبراج وسان بطرسبرج. أصبحَتِ الأصول المختلفة للفن الأوروبي ضبابية بالتدريج، لكن ظلَّ تميز منتجاتهم مقارنة بثقافة القارات الأخرى موجودًا. باختصار، لا توجد عمومية في الفن مثلما لا توجد في الدين؛ فالفن الصيني والياباني المعاصر، والموسيقى والرقص الهندي، والمنسوجات والمشغولات المعدِنية العربية، والتماثيل المنحوتة الأفريقية؛ متميزة ولها قيمتها في عصرنا الحالي، تمامًا كأي شيء صُنع في أوروبا أو أمريكا الشمالية (وقد يقول البعض إن قيمتها تكون أكبر بكثير). لكن مثلما يوجد لدينِ مِنطقةٍ معيَّنة أنصار في مِنطقة أخرى — مثل البوذيين في سان دييجو والمسيحيين في سيول — لا يَعترف تفسير الفن بأي حدود؛ فعلى سبيل المثال، بعضٌ من أكبر الموسيقيين في العالم الذين يعزفون الموسيقى الأوروبية حاليًّا جاءوا من الصين وكوريا واليابان بالإضافة إلى العالم الغربي.

أتذكَّر مثالين يوضِّحان شيوع الإنجازات الثقافية. علمتُ الأول من زميل ألماني؛ فقد زار اليابان لأول مرة وهو طالب شاب بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما كانت هذه الدولة ما تزال دولة نامية إلى حدٍّ كبير، تتعافى من ويلات الصراع. وصَل بحقيبة ظهره إلى طوكيو، التي كانت ما تزال العاصمة الثقافية للدولة، وسلك طريقه إلى مساكن الجامعة، حيث كان يأمُل العثور على سرير رخيص. عندما اقترب من الأكواخ البالية التي كان الطلاب يسكنون بها، سمع صوتًا غريبًا. حتمًا كان هذا عزف سوناتا لباخ — وكان جيدًا جدًّا — من شخص يعزف الكمان. تتبَّع الصوت ووصل إلى هذا الموسيقيِّ، وكان طالبًا شابًّا يعزف في الساحة خارج مساكن الطلاب. ونظرًا لعدم معرفة زميلي لأي كلمة باليابانية، وعدم معرفة هذا الطالب للألمانية، لم يتمكَّنا من التواصل إلا بلغة الإشارة. لكن بطريقة ما استطاع الألماني الإشارة إلى أنه هو الآخر يَستطيع العزف على الكمان. في الواقع كان بارعًا إلى حدٍّ كبير؛ نظرًا لأن الموسيقى كانت اختياره الأول للدراسة، ولكنه لم يَقبل بدراسة العلوم في الكلية، كما أخبرني، إلا لأنها بدت الاختيار الأسهل. ذكر الطالب الياباني لنظيره الألماني أن يَبقى في مكانه، وترك المكان. بعد فترة قصيرة ظهر مرة أخرى وهو يَحمل كمانًا آخر. تحدَّث الاثنان بمزيد من لغة الإشارة، ثم بدآ في عزف كونشيرتو لباخ لآلتَي كمان دون مصاحبة، دون نوتة موسيقية ودون خطأ. قال صديقي إنها كانت واحدة من أكثر التجارِب المؤثِّرة في حياته، وظلَّت واضحة في ذاكرته عندما حكاها بعد ٤٠ عامًا مثلما كانت في اليوم الذي حدثَت فيه.

يتعلَّق المثال الثاني بالعلم والمعرفة، وقد حدث لي عندما زرتُ الصين لأول مرة في عام ١٩٩٢ بناءً على دعوة الأكاديمية الصينية للعلوم. كانت بكين مُبهِرة بالفعل، وأخذني المستضيفون اللطفاء لزيارة السور العظيم، والمَقابر القريبة للأباطرة السابقين، والمدينة المحرَّمة ومواقع أخرى في المِنطقة. شاهدتُ أيضًا المساحات الفارغة في بعض المباني حيث أزال الحرس الأحمر في أثناء «الثورة الثقافية» بعناية بالغة كل منحوتة زخرفية ظلَّت لقرون تشهد على وجود ثقافة حقيقية. وتزامنت زيارتي لشنغهاي مع العيد القومي للصين في بداية شهر أكتوبر، فكانت المؤسَّسة التي سأزورها، وغيرها من المباني الأخرى، مغلقة. وبدلًا من تَركي أنتظر دون جدوى في الفندق، رتَّب الشخص المستضيف لي لطفًا منه زيارة إلى هانجتشو، وهي مدينة تبعد عدة ساعات جنوبًا على حافَة بحيرة جميلة؛ مدينة شهر العسل في جنوب شرق الصين (صورة ٥). رافَقني شاب من معهد شنغهاي يتحدَّث بعض الإنجليزية. وصلنا في المساء وتجولنا حتى وصلنا إلى البحيرة في وقت غروب الشمس. لفرحتي لاحظتُ على امتداد الأفق وجود تلال خضراء ومشجرة. ورغم أنني اعتدت مشاهدة ساعة الذروة في مترو أنفاق لندن طول السنوات الخمس عشرة الماضية، وتعرَّفت معرفة عابرة بساعة الذروة في طوكيو وأوساكا، فإن رؤية ١٠٠ دراجة قادمة نحوي، بثبات وبسرعة كبيرة، في كل مرة أُحاول فيها عبور الطريق في بكين، كانت تثير أعصابي إلى حدٍّ ما واشتقتُ إلى السير لبضع ساعات بهدوء في الريف وحدي. وكانت هذه هي فرصتي؛ ففي وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي استطعتُ — بصعوبة بالغة — إقناع مرشدي السياحي بالمجيء معي. قلت له: «أنا أحب السير لمسافات طويلة، ولا أريد أن أثقل عليك بمرافقتي، خاصةً أنك لا تملك حذاءً مُناسبًا.» فرد عليَّ قائلًا: «أنت لا تتحدَّث اللغة ولا تملك أي نقود.» فعارضته قائلًا: «في الواقع لديَّ بعض العملات الصينية، وسأتمكَّن من تدبُّر أمري.» أنا لا أعلم ما العقوبة التي كان مرشدي السياحي سيتلقاها إذا عاد إلى شنغهاي وحده، بعدما فقَد في مِنطقة هانجتشو النائية الأستاذ الذي كان يُفترَض به مرافقته، لكنه فعل هذا. على أيِّ حال تمكَّنتُ من التملُّص منه، مع وعد جاد بأن نلتقي خارج المطعم الموجود في فندقنا لتناول العشاء في هذا المساء (فعلنا هذا، ولم أرَ مثل هذا الارتياح على وجه إنسان منذ اجتزتُ أنا وزملائي امتحاناتنا النهائية في الجامعة منذ ٥٠ عامًا). كنتُ أنظر بإعجاب إلى معبد قريب، وكنت أقترب من بعض الأراضي الوعرة في طريقي إلى التلال، عندما بادرَني بالكلام رجل مُسنٌّ يرتدي ملابس بسيطة له شعر رَمادي مقصوص قصيرًا. فقال لي: «هل أنت ألماني؟» فقلتُ: «في الواقع بريطاني.» فقال لي بعدما تحوَّل إلى الحديث بإنجليزية سليمة: «هلا رافقتني من فضلك إلى منزلي — المتواضع جدًّا للأسف — وشرَّفتني بتناول قدحٍ من القهوة معي.» كان اليوم يُشرف على نهايته، وكنتُ متلهفًا للوصول إلى العزلة الموجودة في التلال، لكن كيف أرفض مثل هذه الدعوة المهذَّبة؟

كانت السعادة بلقائنا متبادَلة؛ فكان مضيفي هذا، الذي اتَّضح أنه جراح للقلب يبلغ من العمر ٨٤ عامًا، سعيدًا بتمكُّنه من الحديث مع أكاديمي زميل من أرض بعيدة، أما أنا فقد كنتُ محظوظًا بلقاء أروع وأكثر شخص مُثقَّف يُمكن لمسافر لقاؤه على الإطلاق. قبل اندلاع الحرب اليابانية الصينية كان يُدير مستشفًى خاصًّا به في بكين، وأصبح في أثناء الحرب أول شخص في الصين — وربما في العالم — يَخِيط بنجاح جرْح طعنة في القلب. لم يكن هذا الجرح من سيف ياباني، وإنما كان جرحًا ذاتيًّا ألحقه أحد السكان الأصليين للمدينة بنفسه لأنه لم يعد يتحمَّل بشاعة الحرب. لكنه اضطُر إلى تحملها؛ إذ أنقذ الدكتور «ما» حياته.٣٥ سألني الدكتور «ما»: «ماذا تعتقد هذا؟» مشيرًا إلى الطاولة القصيرة التي وُضعت عليها أكواب القهوة. تجرَّأت وقلت: «نوع من طاولات القهوة.» فقال: «لا.» وتجعَّد وجهه بابتسامة سرور، وأزال الأكواب ورفع الجزء العُلوي الذي اتَّضح أنه مثبَّت بمفاصل بباقي أجزاء الطاولة. رأيت نوتات موسيقية لبلايل وكوبران وبيتهوفن؛ فقد كنا نتناول قهوة منتصف النهار على مقعد بيانو. كان هذا أحد قطع الأثاث القليلة الموجودة في هذه الغرفة الصغيرة. قال: «كانت زوجتي تَعزف جيدًا للغاية.» أدركتُ الآن أن السيدة الشابة الجميلة التي تعزف البيانو لمجموعة من الأطفال في لوحة زيتية موجودة أمامي كانت المرأة نفسها التي مررتُ بها وهي تغسل الخضراوات في صنبور خارج هذه السقيفة — يُمكنك بالكاد أن تُطلق عليه منزلًا — ونحن ندخل. قال: «عندما جاء الحرس الأحمر — وكنا نعيش في هذا الوقت في مدينة أخرى — حطَّموا كل شيء جميل أو له قيمة، بما في ذلك البيانو، أمام أعيننا. وكانت هذه الصورة ومقعد البيانو وبعض الكتب كل ما استطعنا إنقاذه.» اتضح أن هذه الكتب كانت معاجم في الألمانية والإنجليزية والفرنسية، التي لم يَجمعها الطبيب «ما» فحسب (فقد دُمِّرَ معظم مكتبته العزيزة)، ولكنه ترجمها إلى الصينية أيضًا. وقبل أن أرحل وافقتُ على أن أرسل إليه إحدى المقالات غير المتخصصة التي كتبتها مؤخرًا، وفي المرة التالية التي تواصلتُ معه فيها كان قد ترجَمها إلى الصينية، لمجرَّد المتعة، وعلى حدِّ علمي لم تُنشر قطُّ. إنه رجل رائع وواسع المعرفة، ودليل على حقيقة أن الثقافة عالَمية، وعلى أن الجَلَد عمره أطول من الشَّر.
يتطلَّب صنع عمل فني إجراء بحث؛ فقبل الكتابة بقلم أو فرشاة على الورق، على الكاتب أن يبحث عن الجملة المناسبة، والمؤلِّف الموسيقي عن النغمات المناسبة، والرسام عن المشهد المناسب. ويستمرُّ البحث عند الانتهاء من كل عمل. كم مرة وصَف ديكنز محنة الأطفال وأحوال الفقراء في إنجلترا في النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ في «أوليفر تويست» و«نيكولاس نيكلبي» و«ترنيمة عيد الميلاد» و«مارتن تشزلويت» و«دوريت الصغيرة» و«ديفيد كوبرفيلد» و«أوقات عصيبة»، لكنه كان في كل مرة يَبحث عن جانب مُختلِف ليصوِّر محنتَهم؟ وكم مرة استخدم موتسارت تتابعًا متكرِّرًا لإضفاء نغم أو حركة على السوناتا أو الكونشرتو أو السيمفونية — لكلٍّ منها لحن متميِّز — لإعداد نهاية ناجحة دون وجود تكرار واضح؟ وكم مرة رسم مونيه جسرَي هانجرفورد وويستمنستر فوق نهر التايمز، من الضفة الجنوبية إلى الشمالية ومن الشمالية إلى الجنوبية، في وقت الشروق وعند الغسَق، أو كاتدرائية روان في إضاءات مختلفة — بتجانُس درجات اللون البُني، أو الرَّمادي، أو الأزرق والذهبي، أو الأبيض، أو الأزرق٣٦ — أو الضوء الواقع على بِركة الزنابق في حديقته في جيفرني — من الأعلى أو بزاوية — في بحثه عن أكثر تآلُف مُرضٍ؟ بالطبع يُمكنك القول إن كل فنان كان يُجري فحسْبُ تجارِبَ في الأشكال الفنية التي اختارها، لكن أليست التجرِبة نوعًا من البحث؟ يُمكنك القول أيضًا إن ديكنز اكتشف الموضوع الذي جعله مشهورًا، وأن موتسارت لم يتكبَّد عناء تغيير نهاياته الموسيقية، وأن مونييه أدرك أن مَشاهد نهر التايمز وكاتدرائية روان وبِركة الزنابق تقدِّم صورًا جيدة. إذا كان الأمر كذلك، فإن السعي يُصبح أكثر وضوحًا؛ لضمان ألا يكون كل عمل تمامًا مثل العمل الأخير؛ فالتكرار في الفن لا تكون له جاذبية كبيرة. من ناحية أخرى، يُمكنك القول إن الفنان بمجرد عثوره على نقطة قوته يتوقَّف عن البحث. أليس لهذا السبب يُمكننا التعرف على أعمال المؤلفين الموسيقيِّين المشهورين مثل موتسارت أو شوبرت أو شوبان بعد الاستماع إلى بضعة أجزاء فقط من موسيقاهم؟ لكن لم يتوافر لأيٍّ من هؤلاء الأساتذة الوقت الكافي لصنْع أسلوب جديد؛ فكلٌّ منهم تُوفِّي في الثلاثينيات من عمره. كان بيتهوفن هو الوحيد الذي عاش بما يَكفي (حتى سن السابعة والخمسين) ليتمكَّن من نقل الموسيقى من الأسلوب الكلاسيكي إلى الأسلوب الرومانسي، تمامًا كما سد بيكاسو (الذي تُوفِّي في الثانية والتسعين) الفجوة بين الفن التصويري والفن غير التمثيلي. وقد يَدفعك سخطك الآن وتقول إنني وقعتُ في خطأ التكرار بإشارتي المتكررة إلى عمليات بحث الإنسان طوال هذا الكتاب. إلا أن التكرار يعمل أيضًا على تأكيد وجهة النظر. وفي حالتي أنا أحاول إقناعك بعدم وجود أي نشاط فعليًّا لا يُمكن إرجاعه إلى سعي الإنسان غير المنتهي؛ بحثًا عن الابتكار وعن تفسيرات، وبدافع من الفضول والحاجة أيضًا.
يُشكِّل المجتمعُ الذي يعمل فيه الفنانُ أسلوبَه؛ فقد أدَّت ثقافات العصر الإليزابيثي في إنجلترا أو القرن السابع عشر في هولندا، وثقافات القرن الثامن عشر في فرنسا أو التاسع عشر في ألمانيا، إلى ظهور فنٍّ عظيم. ولو ولد شخص في خيال شكسبير أو موليير منذ ٤ آلاف سنة ما كان استطاع كتابة مسرحيات. وبالتأكيد عاش شخصٌ ما لديه مثل هذه الموهبة في مكان ما في هذا الوقت، وإن كان هذا في وادي النيل، فربما كان له إسهام في الفن الذي ظهَر في مصر القديمة. يعكس عمل الفنان الثقافة التي يعيش فيها. أركز في حديثي هنا على الفنانين الذكور؛ لأنه حتى وقت قريب لم يكن المجتمع داعمًا لمُزاوَلة النساء للفن (أو في الواقع أي وظيفة بخلاف الزواج وإنجاب الأطفال، والعلاقات العاطفية ورعاية المنزل)، ولهذا السبب لم يَظهر إلا عدد قليل للغاية من الفنانات على مدار السنين؛ قال كونفوشيوس:٣٧ «افتقار النساء للموهبة فضيلة.» (لكن لاحَظَ كاتب في القرن السابع عشر أن «النساء تَفوق الرجال بالفعل في الفضائل وفي مواهب عقلية نادرة، وأعتقد أننا سنَجد أن النساء تتفوَّق على الرجال في هذا المَوضع أيضًا».)٣٨ وقد تطلَّب الأمر عزيمةً استثنائية من كُتَّاب مثل جين أوستن وجورج ساند (أمانتين-أورو لوسيل دوبين)، والشقيقتَين برونتي وجورج إليوت (ماري آن إيفانز) لنشر أعمالهنَّ في أوروبا في القرن التاسع عشر.٣٩ رغم هذا، ففي عام ١٨٤٧حظيَت بعض الكاتبات باعترافٍ كافٍ من مجلة أدبية مما دفع أنتوني ترولوب الشاب إلى التفكير في تغيير لقبه حتى يتفادى مقارنته بوالدته الأديبة الشهيرة.٤٠
لا يوجد دليل إطلاقًا على أن القدرة الإبداعية للنساء أقل بأي شكل من الرجال؛ إنما كانت القيود التي فرضتْها المجتمعات على مدى العصور هي التي منعَت السيدات الموهوبات من تحقيق أقصى جهدهن؛ فهنَّ يبذلن جهدًا في السعي بقدر ما يَبذله الرجال. ويبدو أن أي اختلافات عصبية توجد بين الذكر والأنثى تَقتصر على مِنطقة صغيرة في المخ تتعلَّق بالمشاعر الجنسية؛ فنطاق القدرات العقلية، بدايةً من الغباء حتى العبقرية هي نفسها الموجودة لدى الرجال. على العكس، ربما كان أهم تأثير للإنسان في العالم — ممارسة الزراعة — نتيجةً للنساء؛ حيث بدأْنَ في زراعة البذور في محاولة منهنَّ لضمان وجود مصدر موثوق به أكثر للتزود بالطعام. بالطبع تُميِّز معوقات تربية الأطفال بين الجنسين، لكن بخلاف هذا كانت النساء على الأرجح مساوية للرجال في وقت العصر الحجري الحديث، تمامًا كما هو الحال حاليًّا بين الشمبانزي (باستثناء سيادة الذكر المهيمن على كل الآخرين). كان التمييز ضد المرأة، تمامًا مثل تكوين طبقات اجتماعية تسلسُلية وإساءة الطبقة العليا للسفلى، عنصرًا مؤسفًا لمعظم الحضارات. ورغم أن هذه التوجُّهات بدأت تختفي ببطء، فإن التمييز يظلُّ موجودًا؛ ففي الولايات المتحدة قد لا يتعدى الأمر مجرد التزمُّت في إقصاء اليهود والأمريكيين من أصل أفريقي من ملاعب الجولف الباهظة، وفي باكستان مجرد معارضة تعليم النساء، لكن في دول مثل موريتانيا والسودان تستمرُّ سوق العبيد في الازدهار.٤١ ففي المجتمعات البدائية التي ظلَّت باقية في المناطق المنعزلة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، لم يكن لمثل هذه التحيزات وجود قط.
في العصر الحالي يبدو لي أن كثيرًا ممن يَعتبرون أنفسهم فنانين توقفوا عن البحث عن الجمال أو الكمال. ونظرًا لافتقارهم للمهارات اللازمة لتحقيق أيٍّ من النتيجتَين، استبدلوا الوقاحة بالموهبة؛٤٢ فهم يبحثون ببساطة عن طرُق صادمة. وهذا ليس سعيًا شاقًّا؛ فيُمكنك تحقيقه ببساطة عن طريق خلع سروالك أو كشف صدرك على الملأ، أو عن طريق ملء كلامك بكلام بذيء. وهذا بالضبط ما أصبَح الفن في العالم الغربي في خطر التحوُّل إليه؛ في صورة حيوانات وأجنَّة محفوظة، وحصان ميت متدلٍّ من السقف، وكمٍّ هائل من روث الفيل، وسرير غير مرتَّب مليء بواقيات ذكَرية مستعمَلة، وقصيدة عن الاستمناء، ومسرحية مخصَّصة للحديث عن التبادل الصريح للقاءات الجنسية عبر الإنترنت، وأخرى تدور بالكامل حول رجلَين يلويان خصيتَيهما بأشكال مختلفة (أؤكِّد لكم أني لا أختلق أيًّا من هذا). هذا لا بأس به في المحاكاة الساخرة، لكن هل يصحُّ في الفن؟ يَنخدع النقاد، الذين يَكونون هم أنفسهم عادةً فنانين فاشلين، بهذا كله. ولن يَندهش أيُّ شخص عندما يعلم أن الصور التي تُصنع بالكمبيوتر أصبحت الآن تُباع على أنها فن. هل يدلُّ هذا على تدهور الفضول الفكري للإنسان؟ سنعود للحديث في هذا الموضوع في الفصل الرابع عشر.
يَترك الفن الجيد، المُشتمِل على الجمال والمهارة، بالإضافة إلى الأصالة، إرثًا للجيل القادم. قال تولستوي في إحدى المرات لجدِّي:٤٣ «تذكَّر أن كل شيء سيزول، كل شيء. فستزول الممالك والعروش، والثروة والملايين، فسيتغير كل شيء. لن نبقى نحن ولا أحفادنا، ولن يبقى شيء من عظامنا، لكن إذا احتوَتْ أعمالنا على مجرد ذرة من الفن الحقيقي، فإننا سنعيش إلى الأبد.»٤٤ وقال ليوناردو دافينشي في هذا ببلاغة أكثر: «الجمال يَفنى في الحياة، ولكن ليس في الفن.» وهذا صحيح؛ فنحن نزور المتاحف وصالات العرض من أجل الإعجاب بفن عباقرة ماتوا منذ وقت طويل، ونَستمع إلى موسيقى من عصور سابقة، ونقرأ أعمالًا أدبية من قرون ماضية. تُشبه المتعة التي يستمدها شخصٌ ما من الفنِّ العزاءَ الذي يجده آخر في الدين، أو الاستمتاع بالطبيعة. إنه شعورٌ لحظيٌّ، لا يتراكم كما تتراكم المعرفة المستمَدة من الدراسة أو التكنولوجيا أو العلم. إذن ما الإسهام الذي كان للفن في الحضارة والثقافة؟ يتمثل أحد إسهاماته في تحسين جودة الحياة، على الأقل للمتلقِّين له، فحتى النظام السوفييتي شجع مزاولة الفن، شريطة أن يكون وفقًا لميوله؛ وبالطبع أدَّى قمعه للأشكال الأخرى إلى قتله فعليًّا للإبداع الفني. وماذا أيضًا؟ أجد نفسي مُتلعثِمًا.٤٥ رأى المؤرِّخ الفني الإنجليزي كينيث كلارك، منذ نصف قرن في كتابه (وسلسلته التليفزيونية) «الحضارة» أن الفن ركن أساسي — في الواقع الركن الأساسي — للحضارة. إلا أن فكرته عن الحضارة كانت ضيقة إلى حدٍّ ما؛ فكانت بالنسبة له الثقافة الأوروبية التي نشأت من المسيحية. لقد تحدثتُ عن الحضارة بمعناها الحَرفي أكثر، المعنى الذي عرضه جاكوب برونوفسكي في كتابه وسلسلته التليفزيونية عن «ارتقاء الإنسان»، وتحدثتُ عن الفن لمجرد أنه عنصر للمجتمع المتحضِّر. صحيح أن الرجال العباقرة يسعَوْن للتعبير عن موهبتهم الإبداعية، وصحيح أن الرغبة في الجمال رغبة قوية نتشارك فيها مع باقي الكائنات، وصحيح أن هذه العوامل هي أساس لإنجازات الإنسان الفنية. أعتقد أنها تحدُث بفعل الجينات التي نتشارك فيها مع الرئيسيات والحيوانات الأخرى، وعبر تغير طفيف في جينات أخرى نتج عنه مهارة الإنسان اليدوية، وقدرته على الكلام ونسبة ذكائه الأكثر ارتفاعًا. لا تتعدى مزاولة الفن كونها نتيجة للتكوين الجيني للإنسان؛ فتَسمح للبعض لتحقيق نزعتهم الابتكارية، بينما تعطي المتعة ببساطة لآخرين.

(٣) جودة الحياة

إذا كان الإنسان العاقل ظلَّ يبحث دومًا عن جودة أفضل للحياة، ماذا حقَّق إذن؟ وما المعايير التي تميِّز جودة الحياة في العالم المتقدم عنها في باقي أنحاء العالم؟ لن يحدث اختلاف كبير بين الناس إذا طُلب منهم ذكر قائمة بضروريات الحياة — الصفات التي لا يُمكن للمرء الحياة دونها — ويُعتبر الطعام والماء والمأوى والتحرُّر من الاضطهاد أكثر الصفات الأساسية، وعارٌ على نوعنا أن ثمة أجزاءً في العالم يُحرَم فيها عامة الشعب من هذه الصفات الأربع جميعها دون ضرورة. وبعد التفكير للحظة، يمكن للمرء على الأرجح إضافة التعليم، أو محو الأمية على الأقل،٤٦ والصحة إلى هذه القائمة. وفي حين تعمل حكومات قليلة على إصابة شعبها بالمرض (رغم أن صدام حسين حاول فعل هذا عن طريق تسميم أكراد العراق)، يكون الحِرمان من التعليم أكثر شيوعًا؛ فأكثر من ١٥٪ من الناس في جميع أنحاء العالم غير متعلِّمين، إلا أن هذه النسبة تكون أكبر من ذلك بكثير في مناطق معينة. فعلى سبيل المثال، في الريف الباكستاني ٩٠٪ من السكان غير متعلِّم، وتوجد قرًى لا تبعد ١٠٠ ميل عن مدينة كراتشي الصاخبة وصَلت فيها نسبة الأمية بين الفتيات في الخامسة عشرة من عمرهن إلى ٩٩٫٧٪. يرجع السبب في ذلك إلى حدٍّ كبير إلى عِناد مُلاك الأراضي والوجهاء المحليين الذين يرفضون التخلي عن سيطرتهم على حياة سكان القرى، والسماح للمُعلِّمين التابعين للدولة بأن يكون لهم رأي في الأمر. وفي أفغانستان كانت السياسة المعلَن عنها لطالبان حرمان كل الفتيات من التعليم المدرسي المناسب. علينا الحذر من الرضا بالوضع القائم؛ فأكثر من ٢٠٪ من البالغين في المملكة المتحدة يُعرفون بأنهم أميُّون عمليًّا؛ مما يجعل المملكة المتحدة، مع أيرلندا، في أسفل قائمة رابطة محو الأمية في الدول المتقدمة. ومنذ بضع سنوات عندما طُلب من المدير العام لليونسكو تعريف دورها في أمريكا اللاتينية، لم يتردَّد بأن يقول إن التعليم يمثِّل دورها الأهم، ووضَع فيديريكو مايور العلم والثقافة والأدوار الأخرى لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في المرتبة الثانية. لقد أغفل الصحة، لا لأن الأمم المتحدة أوكلت هذا الدور لمنظمة الصحة العالمية، ولكن لأنه لم يكن بحاجة إلى الإشارة إليها؛ فالصحة نتاج للتعليم.
اتَّضح هذا جليًّا منذ بعض العقود في ولاية كيرلا الهندية؛ فقد قررت حكومة الولاية، التي كان يسيطر عليها الحزب الشيوعي،٤٧ علاج الأمية من جذورها في المدارس الابتدائية القروية؛ فلم يَكتفوا بتعليم الأطفال القراءة والكتابة فقط، وإنما أيضًا أساسيات النظافة، وبذلك ضربوا عصفورين بحجر واحد. علينا أن نتذكر أن الكوليرا والتيفوس والحمى التيفية والدوسِنطاريا والإسهال كلها أمراض يُمكن تفاديها بسهولة إذا توافرت مياه نظيفة وقليل من الصرف الصحي.٤٨ فلقد توقَّف تفشي الكوليرا في لندن في عام ١٨٥٤ إلى حدٍّ كبير عبر طريقةٍ حكيمة نفَّذها الطبيب جون سنو؛ حيث أزال مقبض مضخة المياه في شارع برود ستريت؛ وبذلك منع أي وصول إلى مخزونها من المياه. وأشار وقتها إلى أن المياه الملوثة، وليس الهواء، كانت مصدر المرض.٤٩ فلم يكن غريبًا أن المياه في لندن، التي كانت تؤخذ من نهر التايمز، كانت ذات جودة منخفضة؛ فكان ١٤٠ مصرفًا يُلقون مخلفاتهم في النهر مباشرة في عام ١٨٢٨.
عودة إلى الهند في العصر الحديث؛ فيُمكن لمجرد ثني الساري عشر مرات واستخدامه كمرشح إزالة ٩٠٪ من البكتيريا العصوية المسببة للكوليرا؛ وهي تقنية بسيطة. لكن حتى ينجح المعلمون في كيرلا في مهمَّتهم، عليهم التغلب على قدر كبير من العادات الثقافية والمعتقدات الدينية، فحتى يومنا هذا لا تتقبَّل الفتيات الشابات في راجستان دخول المياه الموزعة في أنابيب؛ فتُحطِّمن أي صنابير تُركب، فهن يُفضِّلْن السير لمسافة طويلة كل يوم إلى أقرب بئر من أجل الحصول على الماء والعودة به في أوعية يَحملْنها على رءوسهن. لماذا؟ أولًا، لأنهن يقلْنَ إن أمهاتهنَّ ستوكل إليهنَّ مهامَّ أصعب إذا لم يَقضين وقتًا في السير إلى البئر. وثانيًا، لأن السير يُعطيهنَّ فرصة للتواصُل مع الرجال؛ فستُقلِّص المياه الموزعة في أنابيب حياتهن العاطفية.٥٠ فلا يكون تحقيق مُستويات معيشة أفضل عادةً مسألة ثروة، بل تكون له خصوصية ثقافية.
يعيش كثير من الموجودين في المناطق الأفقر في العالم حياة تُشبه حياة الفلاحين في أوروبا الغربية منذ ٣٠٠ سنة؛ فهم يفتقرون إلى أسباب الراحة التي يَعتبرها سائرنا من المسلَّمات، ومع ذلك فقد تخطَّوا القرون برغبتهم في الحصول على بعضٍ من أحدث التقنيات. منذ بضع سنوات وافق اثنان من زملائي على إلقاء محاضرات في كلية الطب في إحدى الجامعات في قرية بالقرب من مدينة حيدر آباد في وسط جنوب الهند. كانت المَرافق ضئيلة؛ فلم تكن توجد آلة عرض لعرض الشرائح الإيضاحية والشفافة، وكانت مكتبة الجامعة بأكملها في حجم خزانة كتب كبيرة (وامتنع صديقاي عن تفقُّد الحمامات). دعاهم مضيفهم، الذي كان رجلًا مهذبًا وكريمًا، لتناول وجبة. كان منزله بدائيًّا، ومرَّ فأر عدة مرات أمام أعينهم في أثناء تناولهم للعشاء.٥١ بعد ذلك طلب منهم مضيفهم التقاط صورة له مع زائريه. دعاهم للوقوف خلف أعز مُمتلكاته؛ لا لم تكن زوجته التي ظلَّت في الخلفية طوال الوقت، وإنما جهاز تليفزيونه الضخم. هذا موقف معتاد في كثير من الدول النامية والمتخلفة، خاصةً في نصف الكرة الجنوبي. ففي معظم أنحاء أفريقيا يطالب الناس بصخب بتوصيلهم بالإنترنت؛ وفي كثير من أنحاء العالم يعمل البريد الإلكتروني على نحو أفضل من الهاتف.
وجدتُ نفسي منذ عدة سنوات في جامعة إبادان، في جنوبي نيجيريا. كنتُ قد قدمتُ إليها بصفتي مُمتحنًا خارجيًّا في مادة الكيمياء الحيوية، رغم أنني طوال المدة لم تقع عيني على طالب طب واحد أو على عمله؛ فقد أُغلقَت الجامعة قبل زيارتي بسبب النقص المتكرِّر في المياه والكهرباء. أيُعقَل نقص المياه في قلب الغابة المطيرة، ونقص الكهرباء في واحدة من أغنى الدول بالموارد الطبيعية؟ بدا أن مدينة إبادان المُجاورة تنمو بسرعة فائقة تجعلها تمتص كل قطرة مياه وكل وحدة متاحة من الكهرباء.٥٢ في إحدى حواراتنا — فلم يكن لدينا الكثير لنفعله — سألني مستضيفي إذا كان بإمكاني التفضُّل وإرسال عدة مواد كيميائية إليه لأغراض البحث عند عودتي إلى إنجلترا. قلتُ له: «سيُسعدني ذلك، لكن ألن توجد مشكلة في تخزينها بمجرَّد وصولها؟ فثلاجتك لن تستطيع منْع المركَّبات من الفساد سريعًا إذا لم يوجد حفاظ على الإمداد بالطاقة.» رد عليَّ قائلًا: «صحيح أننا ليس لدينا مُولِّد في قسم الكيمياء الحيوية، لكن يوجد لدينا واحد في قسم الكيمياء. كل ما عليَّ فعله هو إرسال صبي إلى الجانب الآخر، ومعه بضع نايرات في يده، وسيُحوِّل عامل التشغيل الكهرباء إلى هذا القسم.» ما أريد الإشارة إليه هو أمر بسيط؛ أن ثمة رغبة واضحة في جودة حياة أفضل في أكثر الأماكن حِرمانًا في أنحاء العالم؛ وتسمَح القدرات الفكرية للناس بتحقيق أهدافهم بسهولة.٥٣ إن الثقافة، وليس الطموح أو المعرفة، هي التي تُعيقهم، كما تلعب الثروة بالطبع دورًا أيضًا. ورغم أن معظم الأموال التي تُعطى إلى الدول الأكثر فقرًا من الدول الغنية والبنك الدولي تُهدَر أو تُسلَب، علينا الانتباه إلى نقد واشنطن إيرفنج القاسي: «لن تكون الأمم حكيمة أبدًا حتى تُصبح كريمة.»٥٤

ماذا إذن عن معيار التحرُّر من الاضطهاد بوصفه أحد ضروريات الحياة؟ إنه مثل مفهوم الحرية أو التحرر في حد ذاته — طموح إنساني بحت — لا يقتصر الافتقار إليه على العالم النامي فقط. على العكس، فسيُخبرك علماء الاجتماع أن «السكان الأصليِّين في مانيابور في غابات الأمازون يتمتَّعون بحرية أكبر من المُواطن مُثقَل الكاهل بالضرائب الذي يعيش في ستوكهولم أو شيكاجو.» وأنه «ثمة حرية أقل في سنغافورة (دولة متقدمة) حيث تُعتقَل بسبب إلقاء علكة في الشارع، من الموجودة على الجانب الآخر من المياه في جوهر بهرو (في ماليزيا، دولة نامية).» وأن «الطلاب يتمتَّعون بحقوق أقل في التظاهر في اليابان أو كوريا الجنوبية (كلتاهما دولتان متقدمتان) من الهند أو البرازيل (اللتَين ما زالتا ناميتين).» يَنتشر الاضطهاد في معظم أنحاء العالم؛ فربما أدى سقوط الشيوعية إلى استعادة الحرية الفردية في أوروبا الشرقية، لكنها فُقدت فيها مرةً أخرى مؤقتًا في جمهورية يوغوسلافيا السابقة، كما جعَل انتهاء إرث ماو تسي تونج الشعب الصيني يتذوَّق لأول مرة الحرية المحدودة منذ قرون (فلم يكن لديهم قدر كبير منها في المقام الأول). ومع ذلك يعيش الناس في كثير من الدول الأفريقية — يتبادر إلى الذهن منها: إثيوبيا والصومال، وبوروندي ورواندا، والكونغو وسيراليون — في خوف من الاضطهاد الوحشي غير المُبرَّر الذي يصل إلى حدِّ الإبادة الجماعية. فسواء كان هذا بسبب زعمائهم الذين يَحرِمونهم من الحد الأدنى للحياة الكريمة بسبب طموحاتهم السياسية السخيفة، أو نتيجةً لإغارة أحد جيرانهم عليهم، فإن هذا لا يهم؛ إذ يَضمن التدمير المتعمَّد لمحاصيلهم الرديئة وسلب معظم المساعدات التي تُرسَل إليهم تعرُّضهم للمجاعة. فالشعب ليس هو الذي بحاجة إلى تعليم بل الحُكام. لكن كيف نغرس شعورًا بالفضيلة في طاغية عديم الرحمة؟ أخشى أنه أمر مستحيل؛ فإن تنوع الصفات البشرية، الذي أعود للإشارة إليه مرةً أخرى، يَعني أنه في مقابل كل ألبرت شفايتزر يُنتجه العالم، يظهر جوزيف ستالين؛ وأمام كل أم تريزا يوجد أدولف هتلر. فلا تفرِّق الصفات التي تحدد قدرة الإنسان الفائقة على السعي بين الفضيلة والخسة، ويكون الحل الوحيد هو احتواء الأشرار.

خاتمة

دعني أتوقف قليلًا قبل الانتقال إلى الفصل التالي. فإنَّ الإنجازات التي تحدثتُ عنها على مدار الفصول الثلاثة السابقة تُظهر وحدة مُذهِلة وفي الوقت نفسه تنوعًا كبيرًا. فقد بنى السومريون معابد للعبادة وكذلك المايا، لكن الأبنية لم تكن واحدة؛ كما بنى المينويون قصورًا لحكامهم تمامًا كما فعل المصريون، لكن كان للزخارف تصميم مختلف، وكانت معظم الأشكال البدائية للكتابة ذات حروف هيروغليفية، لكن الحروف الهيروغليفية المصرية لم تكن تُشبه الرموز التصويرية الصينية، كما اختلفَت الكتابة المسمارية السومرية عن الحروف «الخطية» للمينويين (انظر شكل ٨-١). كما اعتمد علم الرياضيات الذي اختَرَعه السومريون على الرقم ٦٠ (الذي اشتقَقْنا منه الساعة المكونة من ٦٠ دقيقة والدقيقة المكونة من ٦٠ ثانية)، واعتمد العلم الذي اخترعه المايا على الرقم ٢٠، بينما اعتمد علم الرياضيات في معظم الثقافات الأخرى على الرقم ١٠، رغم استخدام بعضٍ من أقدم القبائل في أستراليا وبابوا غينيا الجديدة وأفريقيا وأمريكا الجنوبية نظامًا قائمًا على الرقم اثنين حتى يومنا هذا. نحت الفنانون على الحجارة في كل مكان، لكن الأشكال التي صوَّروها كانت مختلفة؛ كما أن كافة الحضارات تعرَّفت على فن المشغولات المعدِنية، لكن أشكال الأشياء التي صنعوها اختلفت من ثقافة لأخرى.٥٥ كذلك اعتز المصريون بالذهب والفضة، بينما اعتز الصينيون بالبرونز واليشم. يجب ألا تُثير فكرة الوحدة والتنوع في الإنجازات البشرية دهشة أي شخص؛ فهي نتيجة لوحدة الصفات البشرية — من مهارة يدوية وكلام وتفكير — مصحوبة بالقُدرة المتفاوتة للناس في استخدامها. لكن لماذا أنتجت سبع حضارات منفصلة نتائج متشابهة؟
ثمة مَن يعتقدون في وجود حضارة قديمة سبقَتْ كل الحضارات الأخرى وكانت مصدر وحي لها جميعًا؛ قارة أطلنتس المفقودة، فكان بها أهرامات وقصور ومدن وموانئ، وعاش بها شعب يتمتَّع بذكاء استثنائي ونزعة سلمية. اعتقد أفلاطون أن هذه الأرض توجد في المحيط الأطلنطي، وحدد آخرون مكانها في أمريكا الجنوبية — ربما كانت القارة كلها أطلنتس — وفي المِنطقة القطبية الجنوبية وفي اسكندنافيا. ويعتقد البعض بأنها كانت تقع في بحر إيجة، ودُمِّرت منذ ٣٥٠٠ عام فقط بفعل انفجار بركاني عملاق، يساوي في قوته انفجار ١٠٠ قنبلة هيدروجينية، على جزيرة سانتوريني (ثيرا).٥٦ لا يشكُّ أحد في أن الحضارة المينوية، التي امتدت على الأرجح إلى سانتوريني، أثَّرت فيما بعدُ في الثقافة الميسينية على البر الرئيسي لليونان. إلا أن فكرة وجود حضارة في مكان آخر، في فترة زمنية أقدم بكثير، ازدهرت وكانت ثمَّة صلات بينها وبين الثقافات البدائية في كل من العالم القديم والحديث، لا تزيد عن كونها مجرد خيال؛ فببساطة لا يوجد دليل على هذا. على الأرجح كان أفلاطون متأثِّرًا بما حدث لمدينة تُدعى هيلايك، تقع غرب أثينا في خليج كورنث. اختفت هذه المدينة دون أن تترك أي أثر عندما ضربها زلزال في عام ٣٧٣ قبل الميلاد. فربما صنعت موجة مديَّة تلَتْ وقوع الزلزال بحيرةٌ داخلية — تبخَّرت فيما بعد — غمرت كل الأجزاء المتبقية منها؛ ولم تُكتشف العملات والمصنوعات الخزفية وأجزاء من الجدران والمباني إلا في عصرنا الحالي.٥٧ وبشأن أوجه التشابه بين نتاج حضارات العالم القديم والجديد أقترحُ تفسيرًا أبسط؛ فلا توجد إلا طرق محدودة لبناء قارب يَطفو أو مبنًى مقاوم للعوامل البيئية، وكذلك لصنع إبريق يحتفظ بالماء أو وعاء لحمل الأرز، كما لا توجد إلا حيوانات معينة فقط يمكن استئناسها،٥٨ ولا توجد إلا بعض النباتات التي تنمو بسرعة كافية حتى يُمكن حصادها في خلال الفصل، كما يوجد عدد محدود من الطرق لصيد سمكة. وبالمثل لا يوجد إلا عدد محدود من الطُّرق يمكن من خلاله الحفاظ على النظام داخل المجتمع — النظام الاستبدادي أو الديمقراطي، الإقطاعي أو البيروقراطي — أو يُمكن للرعايا إظهار احترامهم لحكامهم؛ بالانحناء أو الكياسة أو السير للخلْف، أو بالسَّير على الركبتَين، أو بالسجود على الأرض.٥٩ ومع ذلك، يستمر التشابه بين الأهرامات في مصر وفي الأمريكتَين — رغم أن الأولى بُنيت لتخليد ذكرى حكامها، والثانية من أجل استرضاء الآلهة — في جذب انتباه المفكِّرين الثقافيين.
كرَّر ثور هايردال رحلته الاستكشافية «كونتيكي» التي قام بها من بيرو حتى تاهيتي، ومن شواطئ أفريقيا حتى أمريكا؛ حتى يُثبت أن القارب المصنوع من عيدان القصب — الذي يستخدمه الصيادون حاليًّا في أفريقيا وأمريكا الجنوبية، ووفقًا لوجهة نظره كان شائعًا لدى المصريين والإنكا والآزتيك — كان بإمكانه الصمود في الرحلة عبر المحيط الأطلنطي. وقد درس هايردال القوارب المصنوعة من عيدان القصب في بحيرات موجودة في أفريقيا٦٠ وفي بحيرة تيتيكاكا، التي تقع بين بوليفيا وبيرو، واستنتج وجود تشابه ليس فقط بين النُّسخ المستخدمة حاليًّا، بل أيضًا بين المصوَّرة على الصور الجدارية والنقوش البارزة لمصر القديمة. وإذا نجح في مهمته، فإن هذا سيكون دليلًا قويًّا في صالح نظرية إمكانية وصول المستكشِفين من العالم القديم إلى العالم الجديد منذ آلاف السنين، وبذلك أدخلوا مفهوم الأهرامات عبر المحيط الأطلنطي. في عام ١٩٦٩ بنى هيردال بنفسه قاربًا من ورق البردي على غرار القوارب التي كان المصريون يَستخدمونها منذ أكثر من ٤ آلاف سنة؛ أطلق عليه اسم «رع»٦١ وانطلق مع طاقم دولي من ستة أفراد (وقرد) من مدينة آسفي في المغرب. أبحروا في جهة الجنوب الغربي على طول الساحل الأفريقي حتى وصلوا إلى جزر الرأس الأخضر، ثم تحوَّلوا إجبارًا نحو الغرب للاستفادة من التيار السائد. تمكنوا من الوصول إلى البحر الكاريبي قرابة ساحل باربادوس بعد قضاء ٨ أسابيع في البحر،٦٢ فشعَر هيردال بأنه أثبت وجهة نظره. لكن مع الأسف تُشير الأدلة الجزيئية٦٣ إلى أنه كان مخطئًا في اقتراحه هذا تمامًا مثلما كان مخطئًا في اقتراحه السابق الذي أشار فيه إلى حدوث هجرة نحو الغرب من ساحل أمريكا الجنوبية حتى بولينيزيا. فما أثبته هو أنه كان رجلًا مُبتكرًا ومُثابرًا وجريئًا إلى أقصى حد، ويتمتع برغبة قوية في السعي المستمر.
يذهب آخرون إلى أبعد من هيردال في تخميناتهم؛ فيُشير شكل الأهرامات، وكذلك مواقعها الدقيقة بالنسبة لبعضها في كل من العالم القديم والجديد، إلى وجود أصل مشترك يَشتمل على وجود صورة لتكوينات نجمية معيَّنة؛ فيُقال إن بناة هذه النُّصب التذكارية ينتمون إلى قبيلة «مفقودة» للأفراد المُبتكرين. فنعود مرةً أخرى إلى أطلنتس. وإجابتي عن هذا بسيطة للغاية؛ فإذا أردت بناء نصب تذكاري من الحجارة بأقصى ارتفاع ممكن من خلال وضع واحدة فوق الأخرى فماذا سيكون شكله في النهاية؟ شكل مخروط؛ فالهرم هو مجرَّد مخروط له جوانب مستقيمة. أعود لأكرر نقطة أشرتُ إليها من قبل؛ فلقد كان محورُ تركيز الهرم المصري القبرَ الملكي الذي يقع أسفله، أما النقطةُ المحورية في الهرم الأمريكي فكانت المنصةَ الموجودة أعلاه (انظر صورة ٣)، التي كانت تُبنى عليها التماثيل وتقام عليها الشعائر الدينية؛ فلم يكن الهدف الأساسي منها هو دفن الحُكام داخل مقبرة. تمثَّل وجه الشبه بين الاثنين في الغرض من الشكل الهرمي؛ الارتفاع نحو الشمس، مانحة الضوء والحياة. أحيل القارئ أيضًا إلى تعليقي السابق على العجَلة؛ فإذا كان بعض المسافرين الأوائل عازِمين على نقل معرفة العالم القديم إلى العالم الجديد، فلماذا لم يُخبروهم عن الاستخدام المُمكن للعجلة؟٦٤ ومن المتعارف عليه أن الزراعة نشأت على نحوٍ مُستقِل، رغم أنها سارت على النهج نفسه، في العالم القديم والجديد؛ إذن لماذا لا يُمكن أن ينطبق هذا على بناء المدن والقصور، وتشييد المعابد والأهرامات، وتطور اللغة والكتابة، ونشأة علم الفلك والرياضيات؟

على مدار هذه الفصول الثلاثة شهدنا تفاعلًا بين صفات المهارة اليدوية والكلام وقدرة الخلايا العصبية. فمِن أجل بناء المباني وصناعة الأدوات، ومن أجل الرسم والنحت واستخدام الآلات الموسيقية، يكون الإبهام القابل للانحناء وقبضة الدقة أمورًا ضرورية. ومن أجل استخدام اللغة وصنْع الأدب والغناء تكون الأحبال الصوتية ذات أهمية قصوى. ومن أجل علم الرياضيات والفلك، والقانون والحُكْم، تكون للصِّلات بين الخلايا العصبية في القشرة الدماغية أهمية بالغة. لكن كما أكدتُ في بداية هذا الفصل من الكتاب، إن ما يُحدِّد الفرق بين البشر والشمبانزي، وما يؤدِّي إلى وجود قدرة أكبر على السعي الدائم، لا يتمثَّل في واحدة من هذه الصفات دون الأخرى، ولكن في مزيج من الثلاث كلها؛ فقد استَطاع الإنسان من خلال التفاعل بين يديه وصوته وعقله صعود سلم الإنجازات.

هوامش

(١) كارل بوبر، من مقال في عام ١٩٨٢، استشهد به أرني فريموث بيترسون، بعنوان «عن ظهور ما قبل اللغة وتطور اللغة والتغذية الفائقة لإنتاج اللغة لإدراك الإنسان الأول ومشاعره»، في كتاب «أصل اللغة: أسلوب متعدد المجالات» لجيه ويند وآخرين (تحريرًا)، كلوفر أكاديميك، دوردريخت، الصفحات من ٤٤٩ إلى ٤٦٤، ١٩٩٢.
(٢) انظر فيليب موريسون، مجلة نيتشر العدد ٤١٣: ٤٦١، ٢٠٠١.
(٣) من أجل الحصول على تحليل رياضي أوسع عن العلاقة بين اللغة والقواعد النحوية، انظر مقال مارتن نوفاك وآخرين «الجوانب الحسابية والتطورية للغة»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٧: ٦١١–٦٦١، ٢٠٠٢.
(٤) كارل بوبر، من مقال في عام ١٩٨٢، استشهد به أرني فريموث بيترسون، بعنوان «عن ظهور ما قبل اللغة وتطور اللغة والتغذية الفائقة لإنتاج اللغة لإدراك الإنسان الأول ومشاعره»، في كتاب «أصل اللغة: أسلوب متعدد المجالات» لجيه ويند وآخرين (تحريرًا)، كلوفر أكاديميك، دوردريخت، الصفحات من ٤٤٩ إلى ٤٦٤، ١٩٩٢.
(٥) انظر الفصل التاسع والملاحظتين ١٩ و٢١ في هذه المسألة.
(٦) مخ الفيل أكبر من مخ الإنسان.
(٧) روبن دنبار، المرجع السابق، الصفحات من ٥٥ إلى ٨٠، ومن ١٠٦ إلى ١٣١.
(٨) الذكور هم الذين يقومون بالغناء.
(٩) أورد علماء من جامعة روكفلر في نيويورك في الجمعية الأمريكية لتقدُّم العلوم في شهر فبراير عام ٢٠٠٢ بأنهم توصَّلوا إلى طريقة لتعقب تكوُّن الخلايا العصبية الجديدة في الطيور المغرِّدة.
(١٠) في هذا الوقت كانت مصر جزءًا من الإمبراطورية الإغريقية.
(١١) ابتكر فيما بعد نظامًا رياضيًّا يُعرف باسم تحويل فورييه، يُستخدم حاليًّا في تفسير بيانات تصوير البلورات بالأشعة السينية من أجل معرفة تركيب جزيئات مثل الدي إن إيه والبروتينات.
(١٢) معامل يونج.
(١٣) نظرية يونج لرؤية اللون.
(١٤) الياردة في إنجلترا والمتر في فرنسا.
(١٥) قَبِل في البداية بمنصب أستاذية الفيزياء في المؤسسة الملكية في لندن، ثم استقال؛ فقد شعر بأن هذا سيضرُّ بحياته المهنية. أما مرضاه وطلابه فقد كانت لهم عقلية مختلفة؛ فكانوا يفضِّلون لو أنه جعَل الفيزياء، وليس الطب، مهنته الأساسية.
(١٦) حسنًا، هذا ما كانوا عليه في بادئ الأمر.
(١٧) لغة هندية أوروبية أخرى.
(١٨) تمثلت في: (١) الإنسان وأجزاء جسمه. (٢) الحيوانات والحشرات والزواحف ذوات الأربع الأقدام وفرائها وجلودها. (٣) الأشجار والنباتات والخمر والطعام. (٤) المساكن والملابس والأواني والمعدات والأسلحة. (٥) الشمس والقمر وعلم التضاريس والعوامل البيئية. (٦) الآلهة والتنجيم. (٧) وحدات علم القياس.
(١٩) من الصعب تخيُّل سبب وضع الأرقام الثلاثة الأخيرة؛ إذ كان إجمالي عدد السكان أقل من ١٠ ملايين. قد يظنُّ المرء أنهم بدءوا في تسجيل عدد النجوم في السماء، لولا حقيقة أن التليسكوب لم يكن ليُخترَع إلا بعد ألفَي عام. وبالتأكيد لم يكونوا يعدُّون حبات الأرز.
(٢٠) جرى التعرف على ٤ آلاف إلى ٥ آلاف رمز شانج في أكثر من ١٥٠ ألف نقش.
(٢١) للاطلاع على «شجرة» تُظهر العلاقات بين اللغات الهندية الأوروبية، انظر كافالي سفورزا، المرجع السابق ص١٦٤.
(٢٢) جارد دياموند، المرجع السابق، ص٢٢٨، وانظر أيضًا ص٢٤٣.
(٢٣) انظر على سبيل المثال كافالي سفورزا، المرجع السابق، الصفحات ١٣٣–١٧٢.
(٢٤) لاحظ أن كلمة «جنَّة» بالإنجليزية من الكلمة الفارسية التي تعني «حديقة ذات أسوار»؛ فقد أحب الملك كورش، الذي بنى برسبوليس في القرن السادس قبل الميلاد وجعَلها أروع مدينة في هذا الوقت، حديقته ذات أشجار الفاكهة والمياه الباردة المتدفِّقة لدرجة أنه استخدم الكلمة للتعبير عن أعلى درجات السعادة. وظلَّ هذا المعنى ملازمًا للكلمة في الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام حتى يومنا هذا.
(٢٥) انظر ريتشارد رادجلي، المرجع السابق، ص٣٧، وكافالي سفورزا، المرجع السابق ص١٣٥، للاطلاع على خرائط تُظهر توزيع اللغات المستخدمة في جميع أنحاء العالم.
(٢٦) تشارلز روزين «مستقبل الموسيقى» في مجلة ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس، في ٢٠ ديسمبر ٢٠٠١. وناقشت العلاقة بين الموسيقى والكلام (يدرك معظم الناس الموسيقى في النصف الأيمن من المخ، بينما يُعالَج الكلام في الغالب في النصف الأيسر) أليسون أبوت في مجلة نيتشر، العدد ٤١٦، ١٢–١٤، ٢٠٠٢.
(٢٧) ويليام بينزون، «سندان بيتهوفن: الموسيقى في العقل والثقافة»، بيزيك بوكس، نيويورك، ٢٠٠١.
(٢٨) إتش فالاداس وآخرون «تطور فن الكهوف ما قبل التاريخ»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٣: ٤٧٩، ٢٠٠١.
(٢٩) نيكولاس همفري، المرجع السابق، الصفحات ١٣٢–١٦١. انظر أيضًا الملحوظة رقم ٣٠ في الفصل الرابع.
(٣٠) التواصل الشخصي من مرجع ريتشارد رادجلي، وانظر أيضًا لويس ويليامز، المرجع السابق.
(٣١) ديفيد هوروبين، المرجع السابق.
(٣٢) دانيال نيتل، المرجع السابق.
(٣٣) المرجع نفسه، ص١٣٥.
(٣٤) حاول كتاب مثل ماريا جيمبوتاس (المرجع السابق) إقناعنا بأن الحضارة الأوروبية لا تَدين إلا بالقليل لتأثير بلاد الرافدَيْن ومصر وكريت؛ فقد نشأت مستقلة، مع الزراعة، منذ ٩ آلاف سنة لكنها دُمرت بعد ٣ آلاف سنة بسبب الغزو المستمر من الشرق. وفيما عدا الحكايات الشعبية والأساطير لم يبقَ إلا القليل.
(٣٥) هذا ليس اسمه الحقيقي، لكنه طلب مني عدم ذكر اسمه أو زيارتي لأي إنسان في المِنطقة؛ فحتى عام ١٩٩٢ كان لا يزال خائفًا من عواقب زيارة شخص أجنبي مثلي، وأنا أحترم رغبته حتى يومنا هذا.
(٣٦) يُشير هذا فقط إلى الصور الموجودة في متحف أورسيه؛ فقد رسم مونييه كاتدرائية روان ٣٠ مرةً، أما الرسوم الأخرى فموزَّعة على المعارض الفنية في جميع أنحاء العالم. وتحدَّث عن دور عقل مونييه في معالجة تأثير كاتدرائية روان على عينيه سمير زكي، المرجع السابق، الصفحات ٢٠٩–٢١٥.
(٣٧) اقتبسها جورج والدن في تقريره عن كتاب «سيدات الصين الصالحات» في مجلة ذا سنداي تليجراف في ٢١ يوليو ٢٠٠٢.
(٣٨) من مخطوطة بعنوان «قيمة المرأة» ظهَرت مؤخرًا (انظر ذا ديلي تليجراف، ٢٠ أبريل ٢٠٠٢).
(٣٩) لجأت جين أوستن وتشارلوت برونتي في البداية أيضًا إلى استخدام أسماء مستعارة ذكورية. أما أمانتين أورو لوسيل دوبين (التي تزوَّجت البارون دودفان) وماري آن إيفانز (التي عاشت مع الكاتب جي إتش ليوز) فقد احتفَظتا بهما طوال حياتهما.
(٤٠) فيكتوريا جليندينينج، كتاب «ترولوب»، بيمليكو برس، لندن، ١٩٩٣، ص١٦٦.
(٤١) انظر تقرير جون آدمسون عن كتاب «الرقيق الأسود في الإسلام: تاريخ عن شتات أسود آخر في أفريقيا» لرونالد سيجال في مجلة ذا سنداي تليجراف، في ١٤ فبراير ٢٠٠٢.
(٤٢) الصفاقة.
(٤٣) الرسام الانطباعي الروسي ليونيد باسترناك، الذي رسم بعضًا من أعمال تولستوي؛ وأُعجب تولستوي كثيرًا بإحدى صور روايته «البعث»، وقرَّر تغيير القصة قليلًا حتى تعكس الصورة التي رسَمها هذا الفنان على أكمل وجه.
(٤٤) ذُكرت على الغِلاف الخلفي لكتاب «مذكرات ليونيد باسترناك»، ترجمة جنيفر برادشو، كوارتيت للنشر، لندن، ١٩٨٢.
(٤٥) لم تكن لدى بوريس باسترناك مثل هذه التحفُّظات؛ «يخدم الفن دائمًا الجمال، والجمال هو متعة امتلاك هيئة، والهيئة هي مِفتاح حياة الكائنات نظرًا لاستحالة حياة أي كائن حي دونها» (من رواية «دكتور زيفاجو»، الجزء الثاني الفصل الرابع عشر، ١٩٥٨، ترجمة ماكس هايوارد ومانيا هاراري).
(٤٦) أُشير بالطبع إلى الثقافات التي امتلكَت تقليد الكتابة.
(٤٧) يعزو آخرون نجاحها إلى حقيقة أن الدين يتميز في كونه أموميًّا.
(٤٨) عالميًّا يفتقر مليار شخص لمياه الشرب النظيفة و٣ مليارات لمرافق صرف صحي مناسبة (من كتاب «الكتاب السنوي لرجل سياسة ٢٠٠٣»، تحرير باري ترنر، بالجراف ماكميلان، بازينجستوك، ٢٠٠٢).
(٤٩) توصل سنو إلى هذا الاستنتاج لأنه لاحظ أن معظم الضحايا الذين يموتون بسبب الكوليرا في هذا الجزء من لندن (سوهو) كانوا يَحصلون على المياه من المضخة الموجودة في شارع برود ستريت؛ فقد شهد السجناء الموجودون في سجن مُجاور، والذين كان لديهم بئر خاص بهم، حالات وفاة أقل رغم حقيقة وجود تلوث أكثر في الظروف المحيطة في الهواء.
(٥٠) انظر كيه إس جاييارامان، مجلة نيتشر العدد ٣٩٧، ص٩، ١٩٩٩.
(٥١) يفتقر كثير من الآسيويين إلى الهلَع الأوروبي المعتاد من القوارض.
(٥٢) أعتقد أن الفساد لعب دورًا أيضًا؛ ففي معهد بحثي قريب يحصل على تمويل دولي أخذني إليه مضيفي كانت توجد مياه وطاقة كهربائية وافرة. كما كانت مياه الأمطار تُحفَظ بكفاءة، وكانت قوة اندفاع المياه في النهر المجاور تحوِّل الطاقة إلى كهرباء.
(٥٣) افتتحتُ من أجل مساعدة العلماء الطامحين إلى استغلال خبرتهم الفكرية على نحو نافع فيما يتعلق بتحسين الصحة في العالم النامي مركزَ أكسفورد الدولي للطب الحيوي منذ عشر سنوات. انظر موقع www.oibc.org.uk.
(٥٤) واشنطن إيرفنج، من كتابه «مذكرات ودفاتر»، ١٨٢٤.
(٥٥) قد تكون الفروق الثقافية ثابتة على نحو ملحوظ؛ فحتى يومنا هذا تتناول المجتمعات الصينية طعامها بالعيدان الخشبية، وتتناول المجتمعات الأوروبية طعامها بالشوكة والسكِّين.
(٥٦) لا جدال في وقوع مثل هذا الحدث؛ فقد دفن مدينة تحت قرية أكروتيري الحالية، كما دمِّرت الزلازل المصاحبة له أجزاء من كنوسوس ومواقع أخرى على جزيرة كريت على بُعد ٧٠ ميلًا جنوبًا.
(٥٧) برنامج «هوريزون» الذي عُرض على تليفزيون المملكة المتحدة (بي بي سي ٢)، في التاسعة مساءً، الخميس ١٠ يناير ٢٠٠٢.
(٥٨) يفتقر ٩٠٪ من الثدييات الضخمة محتملة النفع للصفات الضرورية.
(٥٩) تُستخدم كلها حتى يومنا هذا في أجزاء مختلفة من العالم.
(٦٠) بحيرة تشاد، وبحيرتي زواي وتانا (منبع النيل الأزرق) وبحيرة في إثيوبيا.
(٦١) كلمة تعني «الشمس» في اللغة المصرية، وتعني أيضًا ملك الشمس الذي يُقال إن الفراعنة انحدروا منه.
(٦٢) لكن بشِقِّ الأنفُس؛ فقد كُسرت دفَّة رع، وكاد القارب ينقسم إلى نصفين، وفي النهاية كان عليهم ترك الإبحار والانجراف مع التيار فحسب.
(٦٣) قيل دومًا إن كل الهنود الحمر الأصليين — من ألاسكا حتى باتاجونيا — من فصيلة الدم أوه. فرغم أن بقايا بعض الهنود الحمر من عصور ما قبل التاريخ التي عُثر عليها اتضح أنها تنتمي إلى الفصيلة إيه أيضًا، لا شك في أن الفصيلة الغالبة في الهنود الحمْر الحاليِّين هي أوه (٦٧–٨٠٪) مع وجود قدر ضئيل من الفصيلة بي. إلا أنَّ الفصيلة بي كانت موزَّعة في مصر جيدًا بالتساوي طوال ٥ آلاف سنة على الأقل، كما يتضح من تحليل المومياوات. انظر بي جيه دادامو «تعدُّد أشكال فصائل الدم إيه بي أوه» (في مجلة ذا تاونسيند ليتر فور دكتورز آند بيشنتس، كونسوليديتد برس، سياتل، واشنطن، ١٩٩٠)، وموقع www.dadamo.com (الذي يقدم تحديثات مستمرة بشأن هذه الأمور) من أجل الحصول على المزيد من التفاصيل.
(٦٤) كانت تُربط فحسب بألعاب الأطفال في أمريكا الوسطى قبل مجيء كولومبوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤