الفصل التاسع

التكنولوجيا: الحرب والرخاء

تُعتبر التكنولوجيا نتيجة لسعي الإنسان لتحسين جودة حياته والتغلب على الظروف القاسية للبيئة التي وجد نفسه فيها، سواء أكانت من اختياره أم لا. فقد أنتَج الجمعُ بين المهارة اليدوية والعقل الذكي نتائج مذهلة؛ فلم يكن ممكنًا لأي من التطورات التي ذُكرَت في الفصول الثلاثة السابقة أن تحدُث من دون وجود معرفة فنية. ففي المباني كان تركيبُ الجدران الحجرية، واستخدام السواكف في المداخل والنوافذ، وتشيِيد الدعامات للأسقف وتركيب المزاريب، كلها أمورًا أساسية. ومن أجل صنع الأسلحة والأدوات والمصنوعات، مثل أواني الشرب والحُلي، ظهرت المشغولات المعدِنية؛ فكان صَهْر المعادن التي يُعثَر عليها في الصخور من أجل إنتاج البرونز (مزيج من النُّحاس والقصدير) خطوة كبيرة للأمام.

نادرًا ما يوجد النُّحاس أو القصدير في الطبيعة؛ فغالبًا ما يُعثر عليهما مختلطين بعناصر أخرى.١ ويؤدِّي التسخين في وجود الكربون إلى تحرُّر المعادن. على الأرجح لاحظ الإنسان الأول هذا في يوم ما، حيث ظهر بعد إشعال نار شديدة على بعض الحجارة أو الصخور، بريقُ المعادن. ولدهشته من الأمر كرَّره على نطاق أوسع، واكتشف أنه يستطيع الطَّرْق على المعدِن وتشكيله بأشكال مختلفة. وسُميت الفترة التي حدث فيها هذا الاكتشاف، والتي كانت بين ٣٥٠٠ و٣٠٠٠ مضت، في الهلال الخصيب في بلاد الرافدَيْن ومصر، وفي شرق أوروبا وفي جنوب شرق آسيا، بالعصر البرونزي. وفي أمريكا لم يَظهر استخدام البرونز حتى القرن الخامس عشر، عندما أدخله الآزتيك.

في الأساس تُشكِّل عملية التسخين نفسها في وجود الفحم النباتي أو فحم الكوك أساسًا لعملية إنتاج الحديد، الذي يوجد أيضًا في الطبيعة لكن ليس كمعدِنٍ حر، بل مخلوط بعناصر أخرى مثل الأكسجين أو الكبريت. يتمثَّل الاختلاف الوحيد في ضرورة وجود درجات حرارة أعلى من أجل إنتاج الحديد. بدأ العصر الحديدي في شمال بلاد الرافدَيْن (الأناضول حاليًّا)؛ حيث أدخل الحيثيون صناعته في الفترة بين ١٥٠٠ و١٢٠٠ قبل الميلاد. انتشر غربًا ببطء، وحلَّ بالتدريج محلَّ البرونز في صناعة أقوى الأسلحة والأدوات. وفي الصين، بدأ استخدام البرونز، ثم الحديد، على الأرجح على نحو مُستقلٍّ بعيدًا عن الأحداث في شرق البحر المتوسط. وفي الأمريكتين، لم يحدُث أي استخدام للحديد على الإطلاق حتى وصول الأوروبيين. نتجت التقنيات التي شرحناها حتى الآن، والتي سنتحدث عنها بعد قليل، من التجربة والخطأ فقط، ولم يلعب العلم فعليًّا أي دور على الإطلاق في ظهور أيِّ تقنية جديدة حتى فترة مُتقدمة من القرن الثامن عشر.

على العكس، أثبتَت محاولات مضاهاة التقنيات — التي استخدمها الإنسان الأول لنقل الحجارة الضخمة من مكان لآخر في ظل الإدراك المتأخِّر للعلوم الهندسية في القرن العشرين — أنه أمر صعب؛ فقد حاولت فِرَق من المتحمِّسين إعادة تجسيد مآثر أسلافهم في نقل كُتل الأهرامات المصرية، وقواعد التماثيل في ستونهنج، والتماثيل العملاقة التي شيَّدها الأولمكيون وأهالي جزيرة الفصح، باستخدام المواد التي كانت متاحة في هذه العصور فقط. وقد استَطاعوا في كل حالة بالكاد تحريك النُّسَخ طبق الأصل بضعة أمتار على الأرض.٢ وكانت محاولة نحت ملامح على الجلمود مثلما فعل الأولمكيون وأهالي جزيرة الفصح مُحبِطة تمامًا مثل محاولة نقله وتشييده؛ فلم يَترك النحت ساعة بعد ساعة بالكاد أثرًا. فمن أجل سحب الكتل الحجرية الضخمة (التي نُحتت فيما بعد على شكل حيوانات مخيفة) التي تحيط بدرجات السُّلم المؤدية للمعابد الموجودة داخل المدينة المحرَّمة، توصل الصينيون إلى حلٍّ أكثر إبداعًا؛ فحفروا قناةً تمتد من المحجر حتى بكين ومُلئت بالمياه، وعندما حلَّ الشتاء تجمدت المياه فيها. فلم تتطلَّب دحرجة الكتل على سطحها مجهودًا كبيرًا (فسبقت بذلك شرح مبادئ الاحتكاك بأكثر من ألف سنة).

في القرن الثامن عشر والتاسع عشر قادت بريطانيا وألمانيا العالم في مجال التكنولوجيا البازغ؛ فقد أدَّى اختراع المحرِّك البخاري، على يد الاسكتلندي جيمس واط في عام ١٧٦٩ والمستوحَى من محرِّك العارضة الذي صمَّمه توماس نيوكمان في عام ١٧١٢ لضخِّ الماء من المناجم، إلى ظهور قاطرات بخارية وسفن بخارية في مطلَع القرن التاسع عشر. وفي عام ١٨٢٩ بنى جورج ستيفنسون وابنه روبرت أول قاطرة «ذا روكيت» في لانكشاير. سيطَرت السِّكَك الحديدية على التنقُّل، سواء في أوروبا أو آسيا أو الأمريكتين، على مدى السنوات المِائة التالية. وظهرت أول صبغة اصطناعية — الموفين — بالصدفة في عام ١٨٥٦؛ فقد كان ويليام هنري بيركن — عالم شهير في الكيمياء العضوية — يُحاول تصنيع الكينين المضاد للملاريا (الذي كان يُستخرج في السابق من لحاء شجرة الكينا) من الأنيلين، فظهرت بدلًا من ذلك أمامه فوضى زرقاء داكنة في وعاء التفاعل. أدرك أهمية اكتشافه، ومن هذا الاكتشاف العلمي وُلدت صناعة الصبغات الصناعية.

نرى مثالًا على التكنولوجيا التي نشأت مباشرةً من اكتشاف علمي في اختراع الأسمدة الصناعية؛٣ ففي عام ١٩٠٩ اخترع فريتز هابر، أستاذ الكيمياء الفيزيائية والكيمياء الكهربائية في معهد كارلسروه للتكنولوجيا، مع زميله كارل بوش، أول قطرات صناعية من الأمونيا السائلة. فكان إظهار أن النيتروجين (وهو غاز خامل نسبيًّا يشكل ٨٠٪ من مُناخ الأرض) يمكن خلطه بالهيدروجين في وجود شرارة كهربائية من أجل إنتاج الأمونيا، إنجازًا يعبر عن المهارة. وكان من الممكن لأي بقايا للأكسجين ما زالت مختلطة بالنيتروجين أن تُحدث آثارًا كارثية؛ فكان من الممكن أن ينفجر الجهاز بأكمله. وفعل هابر وبوش أكثر من ذلك؛ فنظرًا لعلمهما بأنه من الأمونيا يمكن إنتاج أسمدة مثل فوسفات الأمونيوم بسهولة، وأنَّ تخصيب التربة على هذا النحو قد يُحدث ثورة في الزراعة، وسَّعوا نطاق العملية بما يَكفي للإشارة إلى إمكانية إنتاجها تِجاريًّا. قدَّم كارل بوش عرضًا لشركة باسف التي قدَّرت أهمية هذه الإمكانية واستثمرت في العملية.
تُنتَج الأمونيا حاليًّا عالميًّا بمعدل ١٥٠ مليون طن في السنة؛ يُستخدم ٨٠٪ منها في الأسمدة التي تحتوي على أملاح الأمونيوم واليوريا (المشتقة من الأمونيا وتمتصُّها النباتات بسهولة). أحدَثَ استخدام هذه الأسمدة ثورة في الزراعة؛ فقبل اختراع عملية هابر وبوش، كان النيتروجين الذي تحتاج إليه النباتات يُشتقُّ من ثلاثة مصادر؛ من تثبيت النيتروجين الموجود في الغِلاف الجوِّي باستخدام الريزوبيا،٤ ومن إعادة تدوير مخلفات المحاصيل، ومن اليوريا الموجودة في السماد الحيواني. وحاليًّا توفِّر هذه المصادر نصف الاحتياج العالمي فقط، ليس في الغرب فحسْب بل في جميع أنحاء العالم. وفي دول مثل الصين وإندونيسيا، تمثِّل الأسمدة الصناعية فعليًّا المصدر الوحيد للنيتروجين في حقولهما.
ومع بزوغ فجر القرن العشرين، انتقل الاستكشاف التكنولوجي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وثمَّة ابتكار يَبرز من بين كل الابتكارات الأخرى وهو إنتاج اللدائن. تتكون هذه البوليمرات٥ من الكربون والهيدروجين والأكسجين، ويَحتوي بعضها على النيتروجين أيضًا. وندين ﻟ «ليو هندريك بكيلاند» البلجيكي الذي هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام ١٨٨٩، بفضل إنتاج البلاستيك الذي سُمي منذ هذا الوقت على اسمه: باكيليت. كان بكيلاند بحقٍّ رائد أعمال مُبدعًا؛ فقبل اختراع اللدائن كان قد اخترع بالفعل نوعًا من ورق التصوير الفوتوغرافي باعه لشركة إيستمان، المبتكرة لكاميرا كوداك. ومن خلال تكييف التفاعلات الاصطناعية المؤدية إلى صنع لدائن صلبة، اخترَع باحثون في مشروعات تِجارية مثل دو بونت أليافًا صناعية، أصبحت جزءًا من كل أنواع الملابس بدايةً من الجوارب القصيرة والطويلة حتى أوشحة الرأس والقبَّعات. ثمة اختراع بارز آخر اعتمَد على احتراق الوقود السائل تمثل في السيارات، التي كان رائد صناعتها هنري فورد من خلال صنعه لسيارة من طراز «موديل تي» في عام ١٩٠٩، والطائرات، التي أظهر أورفيل وويلبر رايت إمكانية استخدامها في عام ١٩٠٣. وربما يكون الإنجليزي فرانك ويتل هو الذي اخترع المحرِّك النفاث في عام ١٩٣٠، لكن الشركات الأمريكية مثل بوينج هي التي جعلَت السفر عبر القارات حدثًا يوميًّا عقب الحرب العالمية الثانية.
حاليًّا بدأت تظهَر ثمار الكيمياء العضوية إلى حدٍّ كبير. فمرةً أخرى نجد أن الكيمياء الفيزيائية، وهي الخط الفاصل بين الفيزياء والكيمياء، هي التي أسهمَت فيما يعتبره الكثيرون أعظم اختراع في القرن العشرين؛ الإلكترونيات وشريحة السليكون. ويتمثَّل العلم الأساسي وراء هذه التقنية في إثبات أن الإلكترونات «تقفز» على طول قِطَع السليكون المعدَّلة كيميائيًّا،٦ بدلًا من أسلوب «دفع» الإلكترونات بعضها بعضًا على طول سلكٍ معدِنيٍّ من أجل إنتاج تيار كهربائي. وكما حدَث في تصنيع الأمونيا، سرعان ما تبع هذا الاختراع إنتاج تِجاري؛ فالشرائح الإلكترونية الصغيرة المعتمِدة على السليكون هي أساس أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني والتليفزيون الرقمي والاتصال عبر الأقمار الصناعية. ربما يكون الإنجليز مثل تشارلز بابيج في عام ١٨٣٥ وآلان تورنج في عام ١٩٣٧ هم الذين وضعوا أسس الحَوسبة، لكن الشركات الأمريكية مثل «آي بي إم» و«مايكروسوفت» هي التي حوَّلت أجهزة الكمبيوتر إلى مشروع تِجاري بمليارات الدولارات. وتُظهر حقيقة قلق مُعظم دول العالم في عام ١٩٩٩ بشأن احتمال تعطُّل الخدمات الأساسية مثل المستشفيات والمتاجر والبنوك والطائرات في لحظة التحول من عام ١٩٩٩ إلى عام ٢٠٠٠، المدى الذي أصبَح به كل جانب في حياتنا يَعتمِد على شرائح السليكون.

لم تكن الصدارة دومًا للتكنولوجيا الغربية؛ فطوال أكثر من ألف سنة قبل هذا، هبَّت رياح الابتكار من الشرق، وكانت أقوى ما تكون من الصين. ومع ذلك، حتى قبل هذا كانت ثمار براعة الإنسان تُستخدم بالفعل استخدامًا جيدًا.

(١) تكنولوجيا العصر الحجري

يرجع العصر الحجري، الذي سبق العصرين البرونزي والحديدي، إلى بداية نشأة الإنسان. فقد استخدم الهومو الأدوات الحجرية، المصنوعة عن طريق برْي قطعة بأخرى من أجل صنع رأس أو حافَة مدبَّبة، لنحو مليونَي سنة، من أجل شلِّ حركة الفرائس وذبحها بالإضافة إلى الانقضاض أحيانًا على أبناء جنسِه الآخرين. تمثَّلت أكثر المواد صلابة في الكوارتز أو الحجر الصوَّان أو الصخور البركانية مثل البازلت أو الأوبسيديان؛ وبمجرد وصول الإنسان إلى أوروبا بعد أكثر من مليون سنة، أصبحت أدواته تُصنَع في الغالب من الحجر الصوَّان، وتعلَّم إشعال النار. وسرعان ما بدأ صنع مقابض من الأغصان المتساقطة يُمكن أن توضع بداخلها الحجارة المدبَّبة أو حادة الجوانب، ويُمكن لربط الأغصان المَرِنة حول هذين الجزأين تثبيت مثل هذا الرمح أو الفأس البدائية. وبالطبع من غير المحتمل أن يكون شكل الأغصان وأحيانًا جذوع الأشجار وهي تَطفو على مياه النهر قد مرَّ أمامه دون أن يلاحظه. في البداية ربما يكون قد جلس فحسب على قطعة شجر وجدَّف بيديه حتى يَستطيع عبور النهر. ولم يبدأ إلا في وقت لاحق في ربط قِطَع الشجر بعضها مع بعض لصنع طوف، وفي تجويف قطعة ذات حجم مناسب من الشجر لصنْع زورق. وثمَّة إشارات على فصل الإنسان الأول — على الأرجح الإنسان المنتصب — للصبغة الضاربة للحُمرة المعروفة باسم المُغْرة من المواد الخام المحتوية على الحديد مثل الهيماتيت؛٧ في تيرا أماتا في فرنسا،٨ وفي بيتشوف في جمهورية التشيك،٩ وفي هونسجي في جنوبي الهند.١٠ نحن لا نعلم سواء كان يستخدم هذه المُغْرة في حكِّ جسمه بها كدواء للقرح واللدغات، أم أن اللون الأحمر كان له معنًى رمزي، ربما كان يَرمز للدماء.١١ الواضح أن الإنسان العاقل استخدم فيما بعدُ المُغْرةَ في رسوم الكهوف المُنتشرة في جميع أنحاء جنوبي فرنسا وشمالي إسبانيا، ويرجع تاريخها إلى ما بين ١٥ ألفًا و٣٠ ألف سنة مضت.
تمثَّل التقدم الكبير التالي في استخدام النار في زيادة صلابة أوعية بسيطة تُشكَّل من الطمي الرطب؛ فتَبلغ تقنية صنع الخزف على الأقل ٢٦ ألف سنة. ولم يبدأ انتشار المحاصيل إلا بعد هذا الوقت بنحو ١٥ ألف سنة. يتساءل بعض علماء الأنثروبولوجيا عن سبب استِغراق الأمر كل هذا الوقت؛ هل كانت هذه الفترة التي وصل فيها صندوق الصوت إلى اكتمال نموه وأصبح التواصل عبر اللغة ممكنًا،١٢ أم كانت زيادة تعدُّدية وظيفة المخ، التي مكنت الإنسان من التعبير عن نفسه عبر الفن والدين،١٣ هي الحدث المحوري؟١٤ نحن لا نعلم. لكن، مع ذلك، هل تُعتبر ١٥ ألف سنة وقتًا طويلًا، مع الوضع في الاعتبار أن التطورات التكنولوجية السابقة حدثت على مدار مليون سنة، وليس عشرات الآلاف من السنين؟ وفي رأيي المذهل أن صناعة الخزف والزراعة ظهرتا في أماكن مُتباعدة في الوقت نفسه؛ فتوجد أجزاء من مصنوعات من الطمي من مِنطقة نهر آمور في شرقي سيبيريا ومن موقع في زازاراجي في محافظة مياجي في اليابان على بعد ٩٠٠ ميل، ويَرجع تاريخ كل منها إلى نحو ١٣ ألف سنة؛ كما توجد أدلة على زراعة محاصيل مثل الشعير والقمح في الشرق الأدنى، والأرز في إندونيسيا والصين، والذرة في أمريكا الوسطى وبيرو، كلها في الفترة بين ١٠ آلاف سنة و١١ ألف سنة مضت. وبالتأكيد يحتاج احتمال أن الاحترار العالمي — الذي بدأ يَحدُث منذ نحو ١٥ ألف سنة — له تأثير على هذه الأحداث، إلى مزيد من الدراسة.١٥ تبع هذا استئناس الحيوانات من أجل توفير الطعام والعمل؛ فقد كانت الخِراف والماعز تُربى منذ ٩ آلاف سنة، وبعد هذا بألفَي سنة ظهَر المحراث الذي يجره الثور. ومنذ ٥ آلاف سنة أصبحت المحاصيل تُروى في بابل ومصر ووادي نهر السند والصين. وفي هذا الوقت تقريبًا ظهرت العجلة في جميع أنحاء العالم القديم،١٦ في بلاد الرافدَيْن في الأصل. وكانت تُصنع في البداية من الخشب المتين، وكانت العجلة تُستخدم في الغالب في العربات التي تجرها الثيران. وبعد مرور ألف عام أصبحت العربات بالعجلات ذات البرامق التي تجرُّها الخيول تُستخدم في الأغراض الحربية في بلاد الرافدَيْن والصين واسكندنافيا. وقد أشرنا إلى حقيقة أن الزراعة وبعضًا من مشتقاتها التكنولوجية نشأت في جميع أنحاء العالم؛ في أوروبا وأمريكا الشمالية بالإضافة إلى المناطق التي شهدت مولد الحضارات السبع الأساسية. وعلى العكس من هذا، فإن ثقافة جومون في اليابان، التي أنتجَت آلاف المصنوعات من الطمي، لم تشهَد ممارسات زراعية؛ فظلَّت خاملة حتى وصَلت إليهم من الصين في نحو عام ٤٠٠ قبل الميلاد.
fig17
شكل ٩-١: رموز من العصر الحجري. عُثر على هذه العلامات، مع رسوم لحيوانات، على جدران الكهوف الموجودة في جنوبي فرنسا وشمالي إسبانيا، وكذلك على أشياء صغيرة يسهل حملها. أُعيدت طباعتها من مقال آلن فوربس وتوماس آر كرودر: «مشكلة العلامات المجردة الكنتابارية الفرنكية: جدول عمل لأسلوب جديد»، مجلة وورلد أركيولوجي، المجلد العاشر، العدد ٣: ٣٥٠–٣٦٦، ١٩٧٩، بإذن من مركز التزويد بالوثائق في المكتبة البريطانية، بوسطن سبا، ويذربي، غرب يوركشاير، LS23 7BQ، المملكة المتحدة.
ثمَّة مَن يعتقدون أن الرموز والرسوم المتكررة المنقوشة على بعضٍ من رسوم الكهوف اللاحقة — الموجودة من ١٢ ألفًا إلى ١٧ ألف سنة، مقارنة بالتي يرجع تاريخها إلى ٣٠ ألف سنة — تمثِّل أحد أشكال التواصل التي سبقت الكلمة المكتوبة (شكل ٩-١). فيُقال إن الخطوط والنقاط الموجودة في كهف ألتميرا في إسبانيا تُشير إلى العضو الجنسي الذكري، وأن الأشكال البيضاوية والمثلثات تشير إلى العضو الأنثوي.١٧ وفُسرت الرسوم المتكرِّرة المنقوشة على عظام الحيوانات والمصنوعات الأخرى في هذه الفترة بطريقة مُشابهة؛ فحرف V ونسخته المقلوبة رأسًا على عقب تُشير إلى فَرْج المرأة، والخط المتعرج يشير إلى الماء، وهكذا. وعلينا ألَّا نعجبَ من الإشارة المتكرِّرة إلى الأعضاء التناسلية للإنسان؛ فهي تمثِّل أكثر الاختلافات الواضحة بين الرجال والنساء العراة، وكان لفعل التناسُل من أجل إنتاج حياة جديدة دلالات دينية منذ وقت طويل. وربطت ماريا جيمبوتاس، وهي عالمة آثار ذات خيال واسع، بين مثل هذه الإشارات الظاهرية للأعضاء التناسلية الأنثوية وربة الأرض الكبرى، التي يُقال إن تأثيرها المفيد حمى جزءًا كبيرًا من أوروبا في هذا الوقت.١٨
لكن ألم تكن أقدم النصوص التي عُثر عليها في مدينة الوركاء السومرية عن المحاسَبة وليس عن التراث الشعبي أو الأساطير؟ أحد أشد أنصار وجهة النظر هذه هي دنيس شماندت-بيسرات؛١٩ فقد درست أكثر من ١٠ آلاف قطعة صغيرة أو «عملات» مصنوعة من الطمي عُثر عليها في جميع أنحاء الشرق الأدنى،٢٠ يصل عمر كثير منها حتى ١٠ آلاف سنة. وتفاوتَت أشكال هذه القطع؛ فمنها الأشكال الكُروية والبيضاوية، والأشكال الأسطوانية والأقراص، والأشكال المخروطية والأشكال الهرمية الصغيرة. وتَعتقد شماندت-بيسرات أن كل شكل كان يُشير إلى سلعة مختلفة؛ مثل مكيال من الحبوب، أو وعاء من الزيت، أو رقيق، أو حيوان أليف، وهكذا. وكان عدد العملات، التي كان بعضها مثقوبًا ومربوطًا معًا على شريط، يشير إلى عدد أي شيء ترمُز إليه. تذكر أن الإنكا استخدموا العُقد على الشرائط من أجل الإشارة إلى الكَم (رغم أنهم لم يتوصَّلوا قطُّ إلى اختراع كتابة). إذن ما الصلة بين العملات الطينية وظهور الأرقام المكتوبة؟ إنه اكتشاف أنه منذ نحو ٥٥٠٠ سنة اختُرع نظام آخر للحساب. وفي هذا النظام كانت العملات توضع داخل لوح أكبر من الطمي على شكل مظروف، كان يُغلق عليها بعد ذلك. وبعد ذلك كانت تُنقش صورة ثنائية الأبعاد لنوع الألواح الموجودة داخل أيِّ مظروف — كُروية أو بيضاوية أو مخروطية أو أسطوانية — على الجزء الخارجي من المظروف. وفيما بعدُ رأى المحاسبون في الوركاء عدم وجود حاجة لوضع العملات فعليًّا داخل الوعاء الطيني على الإطلاق. فلماذا لا يُشيرون ببساطة إلى نوع السلعة على اللوح الطيني باستخدام الرمز المعتاد لها ثم يُضيفون علامة أخرى تشير إلى الكم؟ وبالتدريج تغيرت هذه الرموز، وأُضيفت رموز أخرى، لكن في الواقع فإن تسلسل الأحداث الذي افترضته دنيس شماندت-بيسرت ربما يعبر جيدًا عن أصل أول كتابة اخترعها الإنسان؛ الكتابة المسمارية للسومريين.٢١
تجسد ممارسة الطب الابتكار التكنولوجي؛ فكانت قائمة على التجربة والخطأ وليس على العلم.٢٢ كانت ممارسة الإنسان في العصر الحجري لهذا الفن محدودة للغاية؛ فاقتصر علاج الناس من أمراضهم بطريقة أو بأخرى على ثقافات كتلك التي كانت موجودة في مصر والصين. ومن ناحية أخرى، كان الإنسان البدائي يتناول جزيئات ذات خصائص منشطة نفسيًّا ومهدئة، على الأرجح للمتعة وتخفيف الألم أيضًا. وتوجد أدلة على مضغ نبات التنبول (بايبر بيتل) في شمال غرب تايلاند منذ نحو ٧٥٠٠ إلى ٩ آلاف سنة، في الفترة التي بدأت فيها زراعة الخشخاش المنوِّم (بابافير سومنيفيرام) في جنوبي أوروبا. ولم يظهر الكحول إلا بعد عدة ألفيات؛ فبدأ تخمير الجِعَة لأول مرة في مصر في عام ٤٠٠٠ قبل الميلاد تقريبًا، وتبعه استخدام الخميرة كمادة رافعة في الخبز بعد هذا بألفَي عام فقط؛ ونجد إشارات إلى استهلاك الخمر في هذه الفترة.٢٣ ولم يظهر تقطير المشروبات الكحولية من أجل إنتاج مشروبات رُوحية إلا فيما بعد.٢٤ كما نُسبت ممارسة النقب — إزالة قطعة صغيرة من الجمجمة — إلى إنسان العصر الحجري، وتمامًا مثل استخدام النباتات المنشِّطة، استمرت هذه الممارسة بين القبائل البدائية حتى العصور الحديثة. نحن لا نعلم فعليًّا ماذا كان الغرض من هذا؛ ففي الواقع على المرء أن يُعاني من صداع بالغ الشدة قبل السماح لأحد رفاقه بحك جمجمته بحجر مدبَّب.

(٢) تراث الصين

كانت ديدان القز تُربى من أجل إنتاج الملابس المصنوعة من المادة التي تُفرزها، في أسرة شانج منذ أكثر من ٣ آلاف سنة. وسرعان ما تبعت هذا معالجة الفَخَّار ليُصبح مصنوعات خزفية فاخرة. وبحلول القرن الثاني قبل الميلاد كان حديد الزهر يُصنع في جميع أنحاء الصين بكَمِّيات لن تصل إليها أوروبا إلا بعد نحو ألفَي سنة؛ فعلى سبيل المثال، في القرن التاسع كانت الصين تُنتج ١٣٥٠٠ طن من الحديد في السنة؛ ففي خلال مائتَي عام تضاعف الإنتاج نحو عشرة أضعاف. زادت السيوف والدروع من قدرة الدولة على الحرب، كما عزَّزت الناتج الزراعي المحاريث والجرافات ذات الرءوس الحديدية (لتقليب الأرض)، والمناجل والمعازق الحادة. وفي هذا الوقت كان الصينيون بالفعل يصنِّعون الصلب (نسخة من الحديد أكثر صلابة)، من خلال نفخ الهواء عبر الفرن من أجل زيادة درجة الحرارة، وظلَّت هذه التقنية مستخدمة في أوروبا حتى اختراع بسمر لفرن الصهر بعد أكثر من ٨٠٠ عام.

اشتَهَر استخدام الصينيين للأدوية العشبية وممارسات مثل الوخز بالإبر، لكن لم يبدأ الممارسون الغربيون يَحذون حَذْوهم إلا في العصر الحالي. ففي عصر أسرة تانج (٦١٨–٩٠٦) استُخدم مزيج من الفِضة مع القصدير من أجل ملء الثقوب الموجودة في الأسنان. ووضعت جرعات صغيرة من الزئبق من أجل منع الالتهابات البكتيرية، وهو إجراء لم يُستخدَم في الغرب ضد مرض الزهري ومرض السيلان، إلا بعد ألف سنة أخرى. وأصبح «التجدير» لمحاربة مرض الجدري٢٥ يُنفَّذ بحلول القرن العاشر. ولم يدخل هذا الإجراء إلى أوروبا إلا بعد ٨٠٠ عام على يد السيدة ماري وورتلي مونتاجيو، التي شاهدت فاعليته في القسطنطينية في الفترة بين عامَي ١٧١٦ و١٧١٨ وأُعجبت به لدرجة جعلتها تُطبِّقه على ابنها.٢٦ فعلت ماري أنطوانيت الأمر ذاته بعد نصف قرن، رغم أنَّ ولي العهد تُوفيَ على أيِّ حال في سنِّ السابعة والنصف.٢٧

يُعتبر حساب الوقت بدقة عنصرًا مهمًّا في أيِّ ثقافة متطوِّرة. فاخترع الصينيون ساعة ميكانيكية تعمل بالمياه في القرن الثاني الميلادي، وسبَقت الساعة المعقدة التي صُنعت من أجل الإمبراطور سو سونج في عام ١٠٨٨ أدوات مشابهة في أوروبا بنحو ٣٠٠ سنة. وكان يستخدمها في الغالب في عمل التنبؤات الفلكية بدقة أكبر من التي كانت متاحة من قبل؛ فتقليديًّا كان التنبؤ بالأحداث المستقبلية أحد الأدوار التي يؤديها إمبراطور الصين. وربما بسبب هذا الاستخدام المحدود، اختفَت الساعات الميكانيكية على ما يبدو في هذا الوقت؛ ولم تعد مرةً أخرى حتى القرن السادس عشر، مع وصول المبشرين المسيحيين.

صُنع الورق أيضًا في القرن الثاني، جزئيًّا من أجل نشر تعاليم كونفوشيوس بكفاءة أكبر، وجزئيًّا من أجل استخدامه في الاختبارات القاسية التي يخوضها الدارس من أجل الالتحاق بالخدمة المدنية الصينية. وكما رأينا في الفصل السابق، كانت النصوص تُنقَش على العظام وأصداف السلاحف، ثم على البرونز والخشب، قبل ألف سنة في عهد أسرة شانج؛ أما في مصر فإن الأحداث التاريخية التي كانت تُنقَش سابقًا على الواجهات الحجرية للأهرامات باتت تُسجَّل في هذا الوقت على أوراق البردي.٢٨ ظهر أحد الأشكال البدائية للمكتبات داخل معبد في مدينة شيان؛ فقد كانت نصوص كونفوشيوس المحفورة على الألواح الحجرية متاحة لمطالعة الدارسين، وكانت توجد إمكانية نقل المطبوعات التي يريدون نسخها على الورق، باستخدام طرق تُشبه أسلوب «حك النُّحاس» أو الطباعة الحجرية. وفي القرن الثامن عُدلت هذه التقنية من أجل إنتاج أول مادة مطبوعة في العالم، وبحلول القرن الثاني عشر كانت الكتب متداولة. ولم تدخل الطباعة إلى أوروبا حتى القرن الخامس عشر، عندما اخترع يوهان جوتنبرج في ألمانيا تقنية الطباعة المتحركة وآلة الطباعة، وكان أول كتاب يُطبع بها هو الإنجيل في عام ١٤٥٥ تقريبًا. ففي الصين كان نشر معرفة كونفوشيوس وحكمته القوة الدافعة وراء اختراع الطباعة، وفي أوروبا كان الدين.٢٩

يُعتبر المِلح عنصرًا مهمًّا في أي اقتصاد مُزدهِر، فمن دونه لا يُمكن حفظ الطعام في شهور الشتاء، عندما تكون المصادر الطازجة غير متوافرة. في القرن الثالث عشر كان المِلح يُستخرَج من عمق ألفَي قدم في أجزاء من الصين. تمثَّلت العملية في الأساس في رفع مِثقاب حديدي نحو ٢٠٠ قدم فوق سطح الأرض باستخدام رافعة ثم إسقاطه بشدة من أجل صنْع بئر على عمقٍ كبير، يُضخُّ منه الماء المالح عبر أنابيب من البامبو إلى راقود. بعد ذلك يَختلط غاز الميثان الموجود تحت سطح الأرض بالهواء، ويَشتعل من أجل تسخين الماء المالح وتبخير محتواه من الماء. وفي غضون ٣٠٠ سنة أصبحت هذه التقنيات تُستخدم في الحفر من أجل استخراج النفط في الصين.

في عهد أسرة مينج في القرن الرابع عشر، استُخدمت دواليب الغزْل التي تَعمل بالماء، وكانت قوالب الطوب تتصلَّب عند درجة حرارة ١١٠٠ درجة مئوية بأساليب تُشبه المستخدَمة في جميع أنحاء العالم في العصر الحالي. إذا كانت كثير من الاختراعات الأوروبية قد اعتمَدت على الاختراعات الصينية، فكيف تسرَّبت هذه التكنولوجيا غربًا؟ كانت السفن الشراعية الضخمة الرومانية تُحضر معها بالفعل الحرير الصيني وهي عائدة في مقابل مُنتجات مصنوعة من الحديد والزجاج. ومنذ عصر أسرة تانج (٦١٨–٩٠٧) كانت ثمَّة حركة تِجارية بين المجتمعات الإسلامية في المدن الصينية الجنوبية، مثل جوانزو، مع إخوانهم العرب في الشرق الأدنى. وخلال القرن الثالث عشر قضى التاجر والمغامر ماركو بولو عامين في السفر في جميع أنحاء الصين في أثناء خدمته للإمبراطور قوبلاي خان. وعند عودته إلى أوروبا وصَف، إلى جمهور متشكِّك دون جدال،٣٠ أساليب الحياة المتطوِّرة التي شهدها. وفي الفترة بين عامَي ١٤٠٥ و١٤٣٣ أجرى القائد البحري الصيني تشنج خه رحلات استكشافية، تهدف إلى إنشاء صلات تِجارية، إلى جنوبيِّ الهند وشبه الجزيرة العربية وشرقي أفريقيا.٣١ ومن هذه المناطق ذاتها وصَلت المعلومات إلى أوروبا عبر البرتغاليِّين، بمجرَّد إبحارهم حول جنوبي أفريقيا، على يد بارثولوميو دياز في عام ١٤٨٨ وفاسكو دا جاما (مع بارثولوميو دياز) في عام ١٤٩٧. على أيِّ حال، كانت الصين في هذا الوقت تُسيطر على أفغانستان وبلاد فارس، وامتدَّت حدودها الغربية جنوبًا من البحر الأسود إلى شبه الجزيرة العربية، ومن هناك انتقَلت التكنولوجيا إلى أوروبا، لتُستخدَم أو لتظلَّ مُهمَلة لعدة قرون. إلا أن طريق الحرير لم يكن ينقل سلعًا ومعرفة فحسب؛ ففي القرن الرابع عشر كان وسيلةً لانتشار الطاعون الدبلي (اليرسينيا الطاعونية) في أوروبا؛ وتُوفي أكثر من ثلث عدد سكانها.

(٣) التكنولوجيا الإسلامية

بينما أقف في شرفة منزلي الموجود في وادٍ أندلسي، وأنا أكتب هذه السطور، أرى آثارًا لمصاطب على كل مُنحدَر حولي؛ فنادرًا ما تجد مترًا من الأرض لم يُزرَع بنشاط وكفاءة في عصر احتلال العرب لهذه الأرض في الفترة بين مطلع القرن الثامن ونهاية القرن الخامس عشر. ورغم ذلك لم تكن الزراعة الركن الأساسي الوحيد في اقتصادهم؛ فكانت التِّجارة مكوِّنًا أساسيًّا. فكانوا يُصَدِّرون إلى بقية العالم — إلى الهند والصين وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأوروبا — مُنتجات اعتمدت في تصنيعها على تكنولوجيا جديدة أو محسَّنة؛ المنسوجات والجلد، والحلوى والحبوب، والعطور والأدوية. لقد حسَّنوا صناعة الزجاج والخزف من خلال اكتشاف القلويات، واختَرعوا طاحونة المد والجزر والساقية وطاحونة الهواء. أنتجوا أيضًا النافثا، وهو وَقود قابل للاشتعال يُشبه الكيروسين، وأدخلوا أيضًا استخدام أمعاء الحيوانات (الوتر)٣٢ في تقطيب الجروح، وكانوا رواد صناعة الأدوات الجراحية؛ المِقصات والحُقن والمسابر والملقط الجراحي. استخدموا كذلك أدوية طبيعية جديدة لمقاوَمة عدد من الأمراض المتنوِّعة، وأدركوا حقيقة أن العدوى هي أساس كثير من الأمراض. كذلك كانوا من أوائل مَن ربط الورق معًا لصُنعِ الكتب، قبل الصينيين بقرنين. وماذا كان محتوى هذه الكتب؟ لم يَقتصر فقط على المحتوى الديني للقرآن، لكن كانت ثمة نصوص في الرياضيات والفلسفة والكيمياء والطب. ظلَّت بعضٌ من هذه النصوص مادة تعليم أساسية في جامعات أوروبا لقرون بعد طرد بقايا العثمانيين من جنوبي الأندلس. وظلَّت كلمات مثل «الجبر» و«قلوي» بالإنجليزية٣٣ مُحتفظةً بنُطقها العربي حتى يومنا هذا. وفيما يتعلق بالرياضيات، أدخل العرب مفهوم الصفر، الذي نشأ في الهند،٣٤ في أكثر نظام عددي مبتكَر عرفه العالم على الإطلاق. ويُمكننا بحقٍّ القولُ إن المِعداد كان سلفًا لكل ماكينة عدِّ نقود، ناهيك عن كل جهاز كمبيوتر، محل استخدام حاليًّا.
يوجد مَن يُقللون من شأن إسهام الحضارة الإسلامية في النهضة التي حدثَت في أوروبا. ألم تُحفَظ أعمال الدارسين الإغريق والرومان الرهبان المنتشِرين في جميع أنحاء أوروبا بعد سقوط روما؟ لا شكَّ أن هذا حدَث بدرجة ما. إلا أن هؤلاء الرهبان حافظوا بالأساس على بقاء المسيحية حيَّة في الأذهان، التي دخلت في الحياة الرومانية بالفعل قبل قرن تقريبًا من بدء غزوات الفانداليِّين والقوط والهون. وكان إسهام التراث الإسلامي أكثر بكثير من مجرَّد حفظ المبادئ الإغريقية الرومانية في الطب والفلسفة والفن. فأنتجت مدينة قرطبة الأندلسية٣٥ وحدها اثنين من أكبر الفلاسفة في هذا العصر: ابن رشد (١١٢٦–١١٩٨) وموسى بن ميمون (١١٣٥–١٢٠٤)، وكلاهما من المفكِّرين أتباع الفكر الأرسطي. وكما ذكرنا في الفقرة السابقة، لم تكن الثقافة العربية موصِّلة جيدة للابتكارات فحسب؛٣٦ فقد كانت تدعم بنشاطٍ التكنولوجيا الجديدة. وأصبحَت هذه الثقافة جزءًا من الحياة المعاصرة في أوروبا وما وراءها، تمامًا كما حدَث مع ثقافة الصين. وبينما لم يَخرُج من العرب أي علماء، فلم يخرج أيضًا علماء من الصين أو من أي ثقافة أخرى، فيما عدا اليونان، قبل القرن السادس عشر.

(٤) أدوات الحرب

عندما توحَّدتِ الصين تحت حكم أسرة تشين في عام ٢٢٠ قبل الميلاد، وبدأ بناء سورها العظيم — الذي صُمِّمَ من أجل الحماية من المعتدين الشماليِّين الذين يَمتطون الخيول — كانت جيوشها تُحارب بالقوس والسهام وسيوف من الصلب. لم تظهَر مثل هذه الأسلحة في أوروبا إلا بعد مُضيِّ ١٣٠٠ سنة. اخترع الصينيون البارود،٣٧ لكن افتراض أنهم لم يَستخدموه إلا في الألعاب النارية (يُذكِّرنا هذا باستخدام المايا للعجلة فقط بوصفها جزءًا ملحقًا بألعاب الأطفال) غير صحيح. وبحلول القرن الحادي عشر كان البارود يُستخدَم في إطلاق قذيفة من مدفع، وفي صنْع القنابل الصغيرة، وربما صنْع الأسهُم المتفجِّرة أيضًا، في محاولة لمنْع دخول الخيالة الغزاة من الشمال. ثبَت فشل هذه الأسلحة تمامًا مثل فشل السور العظيم؛ ففي عام ١٢٧٩ حصل المغول العدوانيون على هذه التكنولوجيا وتمكَّن قوبلاي خان من السيطرة بالكامل على الصين. ومع ذلك، صحيح أن الصينيين اكتشفوا مفهوم منطاد الهواء الساخن — فتسخين الهواء يَعمل على تمدُّده بحيث يُصبح أخفَّ وزنًا — فإنهم لم يُطبِّقوه إلا في شكل مصابيح صغيرة تُضاء بالشموع وتطير إلى الأعلى في الأعياد. وفي الغرب، استُخدمت مناطيد الهواء الساخن (التي كان أول مَن اخترعها مونجولفييه في عام ١٧٨٣) في الاستطلاع العسكري، ولوقتٍ قصير في الحرب العالمية الأولى في شكل مناطيد زبلين التي تُملأ بالغاز، من أجل إلقاء القنابل على العدو. إلا أن الفوز في المعارك لا يَحدث بالعتاد فحسب؛ فالاستراتيجية بالمثْل تكون عاملًا مهمًّا.
كان صَن تزو قائدًا في مملكة وو لعَقدَين من الزمن بدءًا من عام ٥١٢ قبل الميلاد، وفي هذه الفترة تمكن جيش مملكة وو من هزيمة جيوش أعدائه القدامى؛ ولاية يو وولاية تشو. حقَّقت خطط صَن تزو نجاحًا بالغًا لدرجة جعلته يُسجِّلها في كتاب «فن الحرب» في عام ٤٩٠ قبل الميلاد تقريبًا.٣٨ وباستثناء ماو تسي تونج والجيش السوفييتي، الذي كان هذا الكتاب كتابًا مرجعيًّا لهما، لم يكن معظم القادة عبر القرون مدركين لقواعده الفعالة مع بساطتها، رغم تطبيقهم فطريًّا في كثير من الأحيان لخُطط عسكرية مشابهة. ونقلًا عن صَن تزو تمكَّنتُ من تلخيص استراتيجيات القادة الناجحين على مدار ٢٥٠٠ سنة مضت:

استعِدَّ في السلم للحرب، واستعِدَّ في الحرب للسلم … إن فن الحرب له أهمية بالغة للدولة؛ فهي مسألة حياة أو موت، سبيل إما للسلامة أو الدمار؛ ومن ثم فإنه مجال للتقصِّي لا يُمكن إغفاله نهائيًّا بأي حال من الأحوال … الهدف من الحرب هو السلام … فالغرض من إجراء الحرب هو إخضاع العدو دون قتال … وتَعتمِد كل الحروب على الخداع؛ وعليه، فعندما نكون قادِرين على الهجوم، علينا أن نبدو عكس ذلك، وعندما نَستخدم قواتنا علينا أن نبدو خاملين، وعندما نكون قريبين علينا أن نجعَل العدو يظنُّ أننا بَعيدون للغاية، وعندما نكون بعيدين علينا أن نجعله يظن أننا قريبون … قدِّم طُعمًا لخداع العدو؛ فعليك أن تتظاهَر بالاضطراب، وتسحَقه … وإذا كان آمنًا من كافة النواحي فكُن مُستعدًّا له، وإن كانت قوته تفوق قوتك فعليك بتجنُّبه … وإن كان خصمك سريع الغضب، فاسعَ إلى إثارة غضبه، تظاهَر بأنك ضعيف، حتى يغترَّ بنفسه … وإن كان يَنعم بالراحة، فلا تجعله يهنأ بها، إذا كانت قواته موحَّدةً، فاعمل على فصلها … انقضَّ عليه عندما يكون غير مُستعِد، واظهَرْ له في مكان لا يتوقَّعُك فيه …

يُجري القائد الذي يكسب المعركة كثيرًا من الحسابات في مَعقله قبل خوض القتال. أما القائد الذي يَخسر المعركة فلا يُجري إلا القليل من الحسابات مسبقًا؛ ومن ثم تؤدي الحسابات الكثيرة إلى النصر، بينما تؤدِّي قلة الحسابات إلى الهزيمة.٣٩ وفي الفن العمَلي للحرب يكون أفضل شيء على الإطلاق هو الاستيلاء على دولة العدو كاملةً سليمة؛ فالتحطيم والتدمير ليس أمرًا جيدًا؛ ومن ثم يكون من الأفضل أيضًا أسْرُ جيش بأكمله بدلًا من تدميره، وأسْر فوج أو سرية أو فرقة كاملةً بدلًا من تدميرها، وعليه لا يتمثَّل التميُّز والتفوق في القتال والفوز في كل المعارك التي تخوضها؛ وإنما يتمثل التميز والتفوق في تقويض مقاومة العدو من دون قتال …

وتستمرُّ النصائح على هذا المنوال.

في شرحه لأطروحة صَن تزو في عام ١٩٨١، وصَل الحال بالكاتب الأمريكي جيمس كلافيل إلى أن يقول «أنا أعتقد فعليًّا أن القادة العسكريين والسياسيِّين في الفترة الأخيرة إذا كانوا درسوا هذا العمل العبقري، لم تكن حرب فيتنام لتقع على النحو الذي وقعَت به، وما كنا خسرنا الحرب في كوريا … وما كانت حملة خليج الخنازير لتحدُث، وما كانت أزمة الرهائن في إيران لتحدُث، وما كانت الإمبراطورية البريطانية تعرَّضت للتفكُّك، وعلى الأرجح كان من الممكن تجنُّب وقوع الحرب العالمية الأولى والثانية …» حسنًا، ربما تجد، مثلي، في هذا قدرًا من المبالغة، لكن كلمات صَن تزو بها قدْر من المصداقية.

هل أثَّرت التكنولوجيا في تعطُّش الإنسان لتدمير جيرانه؟ لا؛ فكما أكدتُ من قبل، تكون الطبيعة العُدوانية التي تظهَر لدى البعض دون البعض الآخر، موجودة في الجينات؛ فلم يكن للتطوُّرات التكنولوجية التي حدثت على مدار آخر ١٠ آلاف سنة إلا تأثيرٌ طفيفٌ على سلوك الإنسان. وماذا عن تأثير التكنولوجيا على أدوات الحرب؟ بالنسبة لي لا يوجد فرْق كبير بين أن تُقتَل بضربة من فأسٍ يدويٍّ أو من سهم أو رمح أو رصاصة، ولا يهمُّ كثيرًا إذا مات المرء على الأرض أو في البحر أو في الهواء. فالأمر الذي تغير هو مدى تأثُّر الأفراد غير المحاربين. فمنذ وقت قريب يرجع إلى عصر نابليون استطاع رجال مثل شخصية تولستوي بيير بيزوكوف مُشاهَدة معركة بورودينو من الخطوط الجانبية، وفي أثناء معركة ووترلو استمرَّ الحفل الراقص المقام في بروكسل المجاورة دون انقطاع. فلم تكن التكنولوجيا الحديثة هي التي قتَلت المواطنين في لندن وكوفنتري، ولا في برلين ودرسدن في الحرب العالمية الثانية (أو، إضافةً إلى هذا، الفلاحين في فيتنام ولاوس وكامبوديا منذ بضعة عقود). فلقد حدَث هذا بسبب تغير الاستراتيجية؛ فأصبحت تتمثَّل في الضغط بشدة على المدنيين لدرجة تجعلهم يتوسَّلون لقادتهم للمطالبة بتحقيق السلام. تمثَّل تأثير التكنولوجيا على أدوات الحرب في اختراع أسلحة الدمار الشامل. بدأ الأمر منذ ٦٠ عامًا؛ فكان استخدام الطاقة الصادرة من التحلُّل النووي عملية مبتكَرة للغاية، لدرجة أنه قبل هذا بنحو ١٢ سنة أطلَق إرنست رذرفورد — أول عالم فيزياء ينجَح في شطر الذرة — على مثل هذه التقنية اسم «ضوء القمر». ولم يكن هذا من طبع ألبرت أينشتاين. ففي شهر أغسطس عام ١٩٣٩ كتب للرئيس روزفلت يحثُّه على إصدار أمر باختراع قنبلة ذرية دون تأخير؛ فقد كان أينشتاين مدركًا أن العلماء الألمان ربما كانوا يسعَوْن وراء الهدف نفسه. اقتنع روزفلت وبدأ مشروع منهاتن. وفي مارس عام ١٩٤٥ كتَب أينشتاين مرة أخرى للرئيس يحثُّه الآن على التخلِّي عن المشروع؛ نظرًا لهزيمة ألمانيا فعليًّا، وفي هذه المرة لم يلقَ التماس أينشتاين آذانًا مُصغية.٤٠
منذ انفجار أول قنبلة ذرية في عام ١٩٤٥، أصبحت الطاقة النووية تُستخدَم لأغراض سلمية تمامًا مثل استخدامها في الأغراض الحربية، وفي الواقع تظلُّ أحد الخيارات الرئيسية لإمداد العالم بالطاقة بعد نفاد البترول والغاز. أما العثور على طريقة لنشر الجراثيم المسبِّبة للأمراض على أكبر مساحة سكانية ممكنة فليس له أي تطبيق نافع؛ فلم يكن للتكنولوجيا الموجودة وراء الحرب الجرثومية إلا تطبيق تدميري فحسْب، وهي حتى الآن محدودة الاستخدام. استخدمها اليابانيون ضد الصين في الحرب العالمية الثانية، كما استخدمها صدام حسين في حرب العراق ضد إيران في ثمانينيات القرن العشرين،٤١ ولكنه لم يكن أول مَن يبني مخزونًا من الجراثيم المسبِّبة للعدوى.
في أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تُجري عمليات البحث والتطوير على أبواغ الجمرة الخبيثة ومادة توكسين البوتولينيوم؛ من أجل احتمال استخدامهما ضد ألمانيا. وفي عام ١٩٤٤ وُضِعت ١٢ حاوية من كائنات التخمير سعة الواحد منها ٢٠ ألف جالون في مقاطعة فيجو، بولاية إنديانا، قادرة على إنتاج أكثر من مليون قنبلة جمرة خبيثة في الشهر، حجم الواحدة منها ٤ أرطال. وطلبت بريطانيا وحدها شحنة مبدئية قدرها ٥٠٠ ألف قنبلة. في هذا الوقت لم يُستخدم أيٌّ منها. وفي الفترة التي تلتْها في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، جرَت الاستعاضة عن الجمرة الخبيثة بجرثومة الفرنسيسيلة التولارية؛ وهي جرثومة أخرى يكون لها تأثير فتاك مُحتمَل عند استِنشاقها، وأُضيفت إليها بكتيريا أخرى تُسبِّب العجز لكنَّها أقل فتكًا، مثل تلك المسئولة عن الإصابة بداء البروسيلات وحمى كيو، بالإضافة إلى فيروس التهاب الدماغ الخيلي الفنزويلي، كما أُدخل الفُطْر الذي يدمِّر القمح والأرز إضافةً إلى كل هذا. مرةً أخرى لم تُستخدَم هذه الأسلحة قط؛ لسبب بسيط وهو أن الاتحاد السوفييتي كان يَبني ترسانته الخاصة من أجل شن حرب جرثومية؛ فلم يكن يستخدم البكتيريا المسبِّبة للجمرة الخبيثة وداء التولارمية، بل أيضًا البكتيريا المسئولة عن الإصابة بأمراضٍ شديدة العدوى مثل الطاعون والجدري.٤٢ وكما في حالة الأسلحة النووية، فقد أدرك الجانبان أن الردْع أفضل من الاشتباك، وبالتأكيد كان صَن تزو سيُوافق على هذا.

(٥) ليوناردو دافينشي

لا تَرتبط الابتكارات التكنولوجية بوجهٍ عام بشخص معيَّن، على عكس الأعمال الفنية أو النظريات العملية. لماذا أستطرد إذن لأسلِّط الضوء على شخص واحد، وهو رجل عُرف باسم ليوناردو دافينشي (١٤٥٢–١٥١٩)؟ سيتعجَّب البعض دون شك عندما يجدون إنجازاته مُدرَجة في فصل عن التكنولوجيا. ألم يكن أحدَ أعظم الفنانين في العالم الغربي؟ ألا يعتبره آخرون عالِمًا — في الواقع «أول عالِم»٤٣ — ومن ثم يستحقُّ إدراجه في فصل مكرَّس خصوصًا لهذا الموضوع؟ أنا أتَّفق مع الرد الأول، لكني أميل إلى الاتفاق مع ستيفن جاي جولد٤٤ في الاختلاف مع الثاني؛ فليوناردو لم يكن عالِمًا؛ فربما كان مجرِّبًا كبيرًا، لكنه لم يقدِّم تفسيرات للظواهر الموجودة من حوله.٤٥
صحيح أنه أجرى تجارِب مُعَدة جيدًا في مجال علم البصريات، لكنه لم يفسِّرها بمثل بصيرة إسحاق نيوتن. وصحيح أنه قدم ملاحظات فَطِنة، مثل أن «القمر ليس جسمًا مضيئًا؛ فهو لا يضيء دون وجود الشمس»، وأن «القمر يعمَل مثل مرآة كروية»، لكنه لم يكن أول مَن قال هذا.٤٦ كما أن التعليق الذي قال فيه «لا يُمكن أن نرى في الكون جِرمًا أكبر حجمًا وأكثر قوة من الشمس؛ فنورها يُضيء كل الأجسام السماوية المنتشرة في جميع أنحاء الكون»؛ خاطئ، ورغم أن تعليقه الذي تلا ذلك بأن «قوى الحياة تَنحدر جميعًا منها (الشمس)؛ لأن الحرارة الموجودة في الحيوانات الحية تأتي من قوى الحياة ولا توجد حرارة غيرها في الكون.»٤٧ تعليق ذكي على نحو مذهل، ويَسبق عصره بقرون، فإنه لا يقدِّم لنا فكرة عن احتمال كيفية حدوث هذا.٤٨ ومع ذلك كان لزامًا عليَّ إدراج إنجازاته في كتاب يتحدَّث عن السعي، حتى إن لم يكن لأي سبب آخر سوى تكرار كلمات مؤرِّخ الفن كينيث كلارك، بأنه كان «الرجل الأشد فضولًا في التاريخ.»٤٩

لم يكن لدى كثيرين قبل ليوناردو دافنشي الشجاعة أو الحماس لتشريح جثة الإنسان بمثل هذه التفاصيل؛ فقد كان هذا نشاطًا محظورًا. فمن خلال عرضه لكلِّ عضو ونسيج في الجسم بعناية — العين والمخ، والحنجرة والقصبة الهوائية، والقلب والرئتين، والجهازين الهضمي والتناسلي، والعضلات، والعظام وأعصاب الوجه واليدين، والذراعين والساقين — ثم تسجيله لكل مجموعة من الأعضاء بدقَّة شبه ثلاثية الأبعاد من خلال رسومه الرائعة، استطاع ليوناردو الكشف عن سمات التكوين التشريحي التي لن يظهر ما يفوقُها حتى اختراع المِجهَر الإلكتروني. لقد أدرك أن القلب مكوَّنٌ في الأساس من عضلات، تُشبه تلك التي تحرِّك الأطراف؛ كذلك وصَف الشرايين والأوردة، رغم عدم قدرته على رؤيتها، كما توقَّع وجود الشُّعيرات الدموية (لم يُخترع المِجهَر الضوئي إلا بعد مِائة سنة أخرى). ومن خلال مقارنة شرايين رجلٍ مُسنٍّ تُوفي على الأرجح جراء أزمة قلبية، بشرايين طفل في الثانية من عمره تُوفي حديثًا، استنتج أن تصلُّب الشرايين في الحالة الأولى — لدرجة أدَّت إلى توقُّف تدفُّق الدم — كان سبب الوفاة. اقترح بالإضافة إلى ذلك أن الضيق التدريجي للشرايين كان نتيجة لامتصاص عناصر غذائية من الدم؛ ستمرُّ ٤٥٠ سنة قبل اكتشاف أن الصفائح المحتوية على الكوليسترول هي السبب الرئيسي في مرض تصلُّب الشرايين وما يتبعه من قصور الشريان التاجي. عرف أيضًا وظيفة الصمام الأورطي — دفْع الدم إلى الرئتين من خلال تعاقُب الفتح والإغلاق — عن طريق إجراء تجارِب باستخدام بذور نبات الدُّخن، مرةً أخرى قبل خمسة قرون من تكرار هذه التجربة على يد علماء الفسيولوجيا باستخدام تقنيات متطورة. تضعه كل هذه الإنجازات بالطبع ضمن فئة تضمُّ مجربين مثل ويليام هارفي الذي جاء بعده بقرنين. وبعد إمعان التفكير ربما علينا الاعتراف بليوناردو دافنشي بوصفه عالمًا في الأحياء، إن لم يكن في الفيزياء.

fig18
شكل ٩-٢: تصميم لهليكوبتر من رسم ليوناردو دافنشي. أُعيد نشرها بإذن من شيلا تيري/مكتبة الصور العلمية، لندن.
كانت تصميمات ليوناردو دافنشي للأجهزة العسكرية سابقة بقرون لعَصرها هي الأخرى؛ مظلَّة الهبوط وبذلة الغطس (فيستطيع مُرتديها السير على قاع النهر وإحداث فتحات في الجانب السُّفلي من قوارب المهاجمين)، وكذلك الدبابة والهليكوبتر (شكل ٩-٢). لم تُختَبر اختراعاته قط، كما لم يعمل معظمها،٥٠ لكن هذا لا يَعنينا. فخلال تصميم أدوات الحرب توقَّع ليوناردو أنها ستُصبح مُستخدَمة في الحياة اليومية بمجرد اختراع التكنولوجيا المطلوبة المصاحبة لها؛ مثل محرك الاحتراق الداخلي. صمَّم كذلك مبانيَ ومدنًا — لتُقسَّم إلى أقسام إدارية تقتصر على ٣٠ ألف شخص — مع التركيز على الحياة الرغدة. فكان «… يُقسِّم جموع البشر، الذين يَعيشون (الآن) معًا في ازدحام مثل قطعان الماعز، يملئون الهواء برائحة كريهة ويَنشرون بذور الوباء والموت.»٥١ خطَّط لإدخال الصرف الصحي في المنازل، ولوجود الحدائق والشوارع الواسعة على مستويَين؛ مستوًى للمُشاة في الأعلى ومستوًى للمَركبات في الأسفل. كذلك رأى أن ماكينات الغسيل الآلية ستُساعد في الحفاظ على نظافة البيئة (كانت النُّفايات والفضلات البشرية ما زالت تُلقى من المنازل في الشوارع مباشرةً).
ثم تأتي رسومه؛ ففي واحدة من أوائل أعماله، التي أصبحَت تُعرف حاليًّا باسم «عذراء الصخور»، كان أسلوبه مبتكَرًا للغاية، خاصةً في تصويره لطريقة سقوط الضوء على أجزاء مختلفة من وجه الإنسان، لدرجة أن أَخَوية «الحَبَل بلا دَنَس لمريم العذراء»، التي فوَّضته بهذا، رفعت عليه دعوى قضائية؛ فلم يكن هذا ما توقَّعته. كذلك لم تكن لوحة «العشاء الأخير»، التي يَعتبرها كثيرون أعظم لوحات ليوناردو دافنشي،٥٢ أفضل حالًا؛ فاشتكى رعاتها بمرارة بسبب تأخيره المبالَغ فيه في الانتهاء منها؛ والسبب في ذلك قضاء ليوناردو وقتًا في صنع ألوانه، والبحث في شوارع ميلان من أجل العثور على أفراد يتمتَّعون بما يَعتبره ملامح الوجه المناسبة لتصوير المشاركين في الحدث؛ ثم كان يدعو هؤلاء الناس ليَجلسوا أمامه حتى يَرسمهم إلى أن ينتهي من لوحته الجصية. وحتى آخر لوحاته، «الموناليزا» (الجيوكاندا)، وهي العمل الوحيد الموقَّع منه والمعروف بانتمائه له وحده، والذي يعكس سنوات من ممارسة الرسم، كانت ثورية في أسلوبها لدرجة أنها أصبحت الصورة الأكثر إثارة للجدل على مدار آخر ٥٠٠ سنة. يجسِّد ليوناردو دافنشي، بوصفه فنانًا ومهندسًا معماريًّا ومجرِّبًا ومخترعًا، أفضل من أي شخص آخر؛ الصفات التي تُسهم في سعي الإنسان؛ فقد أصبح معروفًا بأنه «أعظم عبقري عرَفه العالم على الإطلاق» لسبب وجيه.٥٣

(٦) التكنولوجيا والثروة

تُحسِّن التكنولوجيا، سواء من خلال تحسين المسكن أو الطعام أو الدواء، ظروف حياة البشر وبهذا تزيد من متوسِّط العمر المتوقَّع. منذ ١٠ آلاف سنة كان تعداد السكان في العالم يُقدر بنحو ٦ ملايين، أما بعد ٧ آلاف سنة فارتفع إلى ٤٠ مليونًا؛٥٤ لا بد أن ظهور الزراعة في جميع أنحاء العالم في هذا الوقت كان عاملًا مُساعدًا في هذا الأمر. وبين عامَي ١٧٥٠ و١٨٥٠، عندما وصلت الثورة الصناعية إلى أوج ذروتها، بدأت الزيادة السكانية في أوروبا الغربية تتخطى مثيلتها في الهند والصين؛ فزاد السكان في إنجلترا ثلاثة أضعاف (من ٥٫٧ ملايين إلى ١٦٫٥ مليونًا)، بينما لم يتضاعَف حتى عدد السكان في الصين (من ٢١٥ مليونًا إلى ٤٢٠ مليونًا).٥٥ تُحقِّق التكنولوجيا أيضًا الثروة؛ جزئيًّا من خلال وجود فائض في الطعام، مما يَسمح لبعض أعضاء المجتمع بتكريس أنفسهم لمهامَّ أخرى بخلاف إنتاج الطعام (مثل اختراع تكنولوجيا جديدة، مما يجعلها عملية ذاتية التحفيز)،٥٦ وجزئيًّا من خلال زيادة عدد السكان.٥٧ إلا أن تخصيص ثمار التكنولوجيا للحرب يقلِّل الثروة (من خلال تقليل عدد السكان وإهدار الخامات). وفقط عندما تحدُث تسوية سياسية بين الطرفين المتحاربين يستقر الوضع ويُستأنف جمع الثروة. يُشبِّه عالم الاقتصاد بيتر جاي هذه العملية ذات الخطوات الثلاث بنغمات الفالس المتكرِّرة، فالس يكمن وراء التراكم التدريجي للثروة في جميع أنحاء العالم.٥٨ دعونا نتوقف قليلًا لدراسة هذه النقاط.
أولًا: هل تؤدِّي فعليًّا الزيادة في عدد السكان إلى تكوين ثروة؟ على أساس أن كل أسرة في المتوسِّط تملك خنزيرًا واحدًا — أو ما يُوازي قيمته بالنقود — فإن الدولة التي توجد بها ١٠ ملايين أسرة تكون أغنى بعشر مرات من الدولة التي توجد بها مليون أسرة فقط. لكن إن كانت نسبة كبيرة من الأُسَر لا تملك فعليًّا أي شيء، والأسوأ من هذا تحتاج إلى دعم الأيسر حالًا، فإن الفرق بين الثروة التي يُحقِّقها الأغنياء وتلك التي يستهلكها الفقراء يكون العامل الحاسم. ولا يُمكنني التفكير في حالة انخفضَت فيها فعليًّا ثروة الدولة بسبب سخائها مع الفقراء فيها (ربما اقتربت بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية من هذا). يكون الوضع المعاكس — المتمثل في استخدام الفقراء في تكوين الثروة — مألوفًا أكثر، وأوضَحُ مثالٍ عليه استخدام العبودية. ففي ذروة ازدهار الإمبراطورية الرومانية، كان نصف شعبها عبيدًا؛ وازدهرت روما. من ناحية أخرى، لا يُسهم العبيد في اختراع تكنولوجيا جديدة، ويرى جاي هذا على أنه عامل مُساعد في انهيار الإمبراطورية في النهاية. لذلك فإن العلاقة بين الثروة وحجم السكان ليست مُباشرة. في الواقع، ربما تكون هذه العلاقة المتبادَلة في عصرنا الحالي معكوسة؛ فنجد أن سويسرا وسنغافورة وبروناي كلها دول صغيرة لكن غنية (علينا أن نقول إن هذا نتيجة لتكنولوجيا شعوب أخرى، وللنظام المصرفي، واستخدام حاويات في نقل البضائع، والتنقيب من أجل استخراج البترول، على الترتيب)؛ كما أن عدد سكان اليابان عُشر عدد سكان الصين، لكن إجمالي ثروتها أكبر.٥٩
ثانيًا: يَعتمد مدى استعادة الدولة لثروتها بعد الحرب على كمِّ ما استُنزف في أثناء الصراع، ومدى سرعة قدرة الدولة على العودة إلى النمو في فترة الاستقرار. تعافَت كافة الدول التي شاركت في الحروب النابليونية في النهاية، إلا أنَّ القرن التاسع عشر كان على وجه الخصوص قرنًا مناسبًا لاختراع التكنولوجيا الجديدة في أوروبا. ومن ناحية أخرى، أدَّى المال الذي أنفَقه الاتحاد السوفييتي على الأسلحة في النصف الثاني من القرن العشرين، مع عدم إطلاق طلقة واحدة فعليًّا، إلى جعله على وشك الإفلاس بنهاية الحرب الباردة. وبعد مرور أكثر من عقد بدأ بالكاد يتعافى. بدأتُ أُعجب ببيتر جاي مع أول اقتراح من اقتراحاته الأربعة التي عرَّف بها النجاح الاقتصادي للدولة: «… عند إعطائه نصف فرصة فإنه [الإنسان] سيسعى إلى الحفاظ على حالته المادية، وإن أمكَن إلى تحسينها.»٦٠ أليس هذا ما يَعتمد عليه جوهر حجتي بشأن السعي وراء تكنولوجيا جديدة؟
ترتبط التكنولوجيا بالثروة بطريقة مباشرة أكثر حين ندخل استبدال المال (المعادن والفضة والذهب) بالمقايضة ضمن الابتكارات التكنولوجية. يُعتبَر السند التِّجاري نتيجة لاستخدام النقود المعدِنية. إنه ما يَرتكز عليه إصدار البنوك للعملات الورقية، وكان أمرًا مهمًّا للتجارة عند التعامل مع مبالغ كبيرة. كان الصينيون يتاجرون باستخدام عملات ورقية من نوعٍ ما في القرن السابع. ورغم أن البيوت المصرفية أُقيمت في إيطاليا في القرن الثالث عشر، فلم يبدأ تداول الأوراق المالية كما نعرفها إلا في العصور الحديثة. بدأ إصدار العملات الورقية في أمستردام في عام ١٦٠٩، وفي ستوكهولم في عام ١٦٦١، وفي شركة خليج ماساتشوستس في عام ١٦٩٠، وفي لندن في عام ١٦٩٤.٦١ بالطبع كانت السندات الخاصة أو «الكمبيالات» موجودة قبل هذا بكثير، لكن استخدامها اعتمد على مقدار ما يُمكن ائتمان المستدين عليه. ويَكمُن جوهر النظام المصرفي في أن الثقة يُمكن اعتبارها أمرًا مسلَّمًا به. فكان نظام المحاسبة، الذي ظهر في عهد الإمبراطورية العثمانية، وأسلوب «القيد المزدوَج» في إمساك الدفاتر، الذي ابتُكر في إيطاليا بين نهاية القرن الثالث عشر وبداية الرابع عشر (ما يظهر وجود تغيُّرات في الأصول والنفقات والدخل)، تطورات أساسية في توليد هذه الثقة. وعندما سألتُ عالم الاقتصاد الإنجليزي سير آلن والترز منذ بضع سنوات إلى أيِّ مدًى تُسهم التكنولوجيا في قوة اقتصاد الدولة، ردَّ قائلًا: «إلى حدٍّ قليل نسبيًّا؛ فانظر إلى سنغافورة وهونج كونج، كلتاهما من الدول الغنية، ومع ذلك لا تَملك أيٌّ منهما أي تكنولوجيا.» وتتمثَّل العوامل الرئيسية في رأيه في سيادة القانون ودرجة الثقة التي قد يضعها المرء في بنوك دولته ومؤسَّساتها التِّجارية الأخرى.٦٢
أُنهي هذا الفصل بملاحظة مختلفة؛ أن بعض الابتكارات التكنولوجية — وأنا لا أشير إلى التي تُستخدم في الحرب — لا تَنتُج منها منفعة بل كارثة. وما استخدام الثياليدومايد لمنْع الشعور «بالغثيان الصباحي» لدى السيدات الحوامل ومصير محطة تشرنوبل للطاقة النووية إلا مثالين من أبرز الأمثلة على هذا. هل يجب على الدولة التدخُّل في بحث الإنسان عن التكنولوجيا الحديثة إذا رأتْ أن له نتائج عكسية؟ المشكلة أن الحكومات عادةً ما تفهم الأمر على نحو خاطئ (وفي حالة تشرنوبل كانت هي نفسها مسئولة عن إنشاء هذه المحطة).٦٣ سأعود للحديث عن هذا الموضوع في الجزء الثالث، عند حديثي عن ثمار التكنولوجيا الحديثة. أنا أرى أن المخترعين أناسٌ محترمون؛ فمعظم الأشرار لا يَختارون قضاء وقتهم في الرحلة المضنية من التجربة والخطأ التي يقوم عليها أي اختراع جديد. كان فرانكنشتاين ابتكارًا وليد قريحة ماري شيلي؛ فلا وجود لكثير منه في العالم الواقعي. أما فيما يتعلق بالابتكار في حدِّ ذاته، فعلينا أن نشكَّ في نتيجته. وبالطبع يجب على الحكومات منْع اختراع التقنيات التي تبدو متهوِّرة أو بغيضة. إلا أنَّ الجانب السلبي لإضاعة اختراع مثل معالجة مياه الصرف أو استخدام البنسيلين، التي أنقذت حياة الملايين، يفوق بالتأكيد أي خطر محتمل.

هوامش

(١) مثل كبريتيد النُّحاس والحديد CuFeS2 في حالة النُّحاس، وأكسيد القصدير SnO2 في حالة القصدير.
(٢) عند محاولتهم تقليد بُناة ستونهنج منذ ٣ آلاف سنة عن طريق إجراء الجزء الأول من الرحلة من تلال برسيلي في ويلز إلى ويلتشاير بحرًا، فقَدَ فريق من الشباب المتحمِّسين الحجارة تمامًا؛ فقد انقلبت في الماء وغرقت بمجرد وضعها في القارب.
(٣) فاتسلاف سميل، كتاب «تخصيب الأرض: فريتز هابر، كارل بوش، وتحويل الغذاء في العالم»، مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بوسطن، ماساتشوستس، ٢٠٠١.
(٤) بكتيريا تَستعمر البقوليات تكافليًّا وتنفِّذ عملية تُشبه عملية هابر-بوش باستخدام إنزيمات ذات صلة.
(٥) البوليمر هو عبارة عن جزَيْء كبير مكوَّن من وحدات متكرِّرة، ويُشبه في هذا الشأن البروتينات والأحماض النووية. وتُعتبَر اللدائن بوليمرات مصنَّعة من مركَّبات طليعية توجد في الغالب في البتروكيماويات أو الغاز الطبيعي أو الفحم.
(٦) طُرد جيمس ماكنيل ويسلر من الأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت بسبب إجابته على سؤال في امتحان الكيمياء قائلًا إن «السليكون غاز.» ربما يكون الجيش الأمريكي فقَد بذلك قائدًا محتملًا، لكن العالم كسب فنانًا بارعًا.
(٧) انظر ريتشارد رادجلي، المرجع السابق، الصفحات ١٧٦–١٨٣.
(٨) منذ ٣٠٠ ألف سنة.
(٩) منذ ٢٥٠ ألف سنة.
(١٠) بين ٣٠٠ ألف و٢٠٠ ألف سنة مضت.
(١١) تُستخدم المُغرة في عصرنا الحالي لأغراض متنوِّعة. فيقوم أفراد قبيلة الهيمبا في أفريقيا بتلطيخ أنفسهم بخليط من المُغْرة ومادة دهنية للوقاية من حروق الشمس ولدغات الحشرات، واستخدمها الجواجادجا في شمال غرب أستراليا في علاج القُرَح والحروق، بينما كان سكان جزر أندمان الشهيرة يَدهنون بها الأطفال حديثي الولادة كنوع من الوقاية. انظر ريتشارد رادجلي، المرجع السابق، الصفحات ١٧٦–١٨٣.
(١٢) ما يُطلِق عليه جارد دياموند، في المرجع السابق، الصفحات ٢٧–٤٨، «القفزة الكبيرة إلى الأمام».
(١٣) انظر ستيفن ميثن، المرجع السابق.
(١٤) كما أشرنا في الفصل الثامن، يبدو تطور اللغة ونمو المخ في مِنطقة القشرة المخية الجديدة مرتبطان على أيِّ حال.
(١٥) يُقال إن درجات الحرارة العالمية ارتفعت بنحو ٧ درجات مئوية، انظر ستيفن جيه ميثن، المرجع السابق، ص٢١٩.
(١٦) في الأمريكتين لم تكن العجَلة أكثر من مجرد أداة جديدة.
(١٧) ريتشارد رادجلي، المرجع السابق، الصفحات ٧٢–٨٥.
(١٨) ماريا جيمبوتاس، المرجع السابق.
(١٩) ريتشارد رادجلي، المرجع السابق، الصفحات من ٤٨–٥٧، ودنيس شماندت- بيسرت، المرجع السابق.
(٢٠) في تركيا والعراق وإيران وسوريا وإسرائيل.
(٢١) يوافق آخرون، مثل ستيفن فيشر، على أن الكتابة بدأت باستخدام رموز حسابية. إلا أنه يذهب إلى أبعد من ذلك ويقدم اقتراحًا صادمًا بأن كافة أشكال الكتابة تعتمد على بعضها، وانتشرت من الشرق الأوسط إلى كافة أنحاء العالم، بما في ذلك الصين وأمريكا الوسطى. انظر كتاب ستيفن روجر فيشر «تاريخ الكتابة»، المرجع السابق. وعند إلقاء نظرة على الأشكال ٨-١ و٨-٢ و٩-١ قد يميل المرء إلى الاتفاق معه. إلا أنني سأذكُر مرةً أخرى النقطة التي ذكرتُها في نهاية الفصل الثامن؛ وهي وجود طرُق محدودة وحسْب لبناء قارب أو صنع وعاء للشرب، ويشمل هذا الكتابة الرمزية.
(٢٢) على الأقل ليس حتى مؤخرًا، كما سنوضِّح في الفصل الحادي عشر.
(٢٣) يَذكر العهد القديم (سفر التكوين ٩: ٢٠) الخمر عند ذكر نوح.
(٢٤) كان مشروب «تودي» المصنوع من الأرز ودبس السكر يُقطَّر لصنع مشروب العرق المُسْكِر في الهند وسيلان في عام ٨٠٠ قبل الميلاد.
(٢٥) باستنشاق قَيح حيٍّ من إحدى الضحايا من أجل التحصُّن ضد أيِّ عدوى لاحقة.
(٢٦) كانت السيدة ماري شخصية مُبتكِرة حقًّا، وكانت سابقة لعصرها بعدة قرون في نواحٍ كثيرة. فكانت ترى أن الزيجات يجب أن تدوم لسبع سنوات فقط، وتكون قابلة للتجديد في نهاية كل مدة باتفاق مُشترك. صحيح أنها كانت متزوجة من رجل كئيب إلى حدٍّ ما (و«التصقت بها رائحة الفضيحة مثل رائحة العطر غالي الثمن»)، لكن النتيجة كانت بالتأكيد صدور أول اعتراف مُسجَّل «بحكة السنة السابعة». مُقتبَس من تقرير جون آدمسون لكتاب إيزابيل جروندي «السيدة ماري ورتلي منتاجو: مذنب للتنوير»، أكسفورد، ١٩٩٩، في صحيفة ذا صنداي تليجراف، ٢ مايو ١٩٩٩.
(٢٧) إنما من السُّل وليس من الجدري.
(٢٨) كان البردي، المأخوذ من نبات «السعد البردي» — «نبات الورق» — يُستخدم في مصر لصنْع الكتب والوثائق على يد المصريين القدماء، وعلى يد الإغريق والرومان حتى القرن الثامن عندما استُبدل به الورق الذي أدخَله العرب. وفي أوروبا، بدأ ورق الرَّق (جِلْد رقيق) يحل محل البردي بالفعل في القرن الثالث.
(٢٩) رغم أن ويليام كاكستون عمل على طباعة كتاب مالوري «وفاة الملك آرثر» وكتاب «حكايات كانتربري» لتشوسر في إنجلترا في وقت لاحق من هذا القرن.
(٣٠) ماركو بولو في كتابه «عجائب العالم» (أو «وصف العالم»، الذي أُطلق عليه فيما بعد «المليون» لأسباب غير واضحة). ورغم ترحيب البعض به بسعادة (على أنه وصْف خيالي بقدر ما فيه من واقعية)، لم يُعرْه آخرون، منهم الشاعر دانتي أليجيري، أيَّ اهتمام.
(٣١) اختُرعت نسخة قديمة من البوصلة في عصر أسرة هان قبل هذا بألف سنة.
(٣٢) من الخراف والماعز وحيوانات أخرى، وليس معروفًا إذا كانت أُخذت فعليًّا من القطط أم لا. كما كانت الأحشاء المجفَّفة المجدولة أيضًا تُستخدم كأوتار لقوس إطلاق السهام وفي الأدوات الموسيقية.
(٣٣) «الجبر» و«القلوي» (لكن الألف واللام في كلمة «الكيمياء» هي المأخوذة فقط من العربية، فباقي الكلمة مأخوذ من الكلمة الإغريقية «شيميا» بمعنى تحويل).
(٣٤) الذي يُقال إن أول مَن استخدمه — مع الأعداد السالبة — عالم الفلك براهما جوبتا في القرن السابع.
(٣٥) يُشير الاسم إلى احتلال الفانداليِّين لها في القرن الرابع: «أندلوسيا»، أما «الأندلس» فكان المصطلح الذي استُخدم لوصف السلالة الأموية في إسبانيا (٧٣٦–١٠٣١).
(٣٦) في هذا الوقت كان القرآن ما يزال يُفسَّر في إطار القيم الليبرالية التي نص عليها النبي محمد بنفسه، ولم تكن تلوَّثتْ بعدُ بتعصُّب ومبادئ بعض الذين انتموا إليه لاحقًا.
(٣٧) يُقال إن الصينيين استخدموا خليطًا من نترات البوتاسيوم والفحم والكبريت، يُسمى «البارود الأسود»، منذ فترة بعيدة ترجع إلى القرن التاسع، بينما ينسب آخرون اختراعه للعرب.
(٣٨) صَن تزو، المرجع السابق.
(٣٩) رفض الجنرال برنارد مونتجومري قتال القائد إرفين رومل في العلمين في أكتوبر عام ١٩٤٢ حتى تأكد من أن لديه ما يَكفي من الرجال والمؤن وفقًا لحساباته، ومنذ هذا الوقت فصاعدًا نادرًا ما كان يخسر معركة بسبب المؤن غير الكافية. وكانت عملية «ماركت جاردن» — الهجوم الجوِّي على مدينة آرنم من أجل تأمين الجسور عبر نهر الراين قبل وصول الجيش الأساسي — كارثة بسبب عدم قضاء وقت كافٍ في التحضير لها.
(٤٠) انظر لويس ولبرت، المرجع السابق، الصفحات ١٥٤-١٥٥.
(٤١) استخدم هو أيضًا أسلحة كيميائية.
(٤٢) انظر ماثيو ميسيلسون، مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس، العدد رقم ٤٨ (٢٠،٢٠ ديسمبر): ٣٨، ٢٠٠١.
(٤٣) مايكل وايت، المرجع السابق.
(٤٤) المرجع نفسه، الصفحات ٢٩٠-٢٩١.
(٤٥) باستثناء تعليقاته عن تصلُّب الشرايين وتجارِبه عن وظيفة الصمام الأورطي، مثلما شُرح في الفقرة ذات الصلة.
(٤٦) المرجع نفسه، الصفحات ٢٩٣-٢٩٤؛ منذ فترة طويلة ترجع إلى القرن الأول، كتب عالم الفلك الصيني زانج هينج، في وصف دقيق لخسوف القمر: «… نظرًا لأن القمر يعكس أشعة الشمس، فإنه يَختفي عندما يصل إلى مِنطقة الظل الذي تُلقيه الأرض.» اقتبسها جون ميرسون، المرجع السابق، ص٣٨.
(٤٧) المرجع نفسه، الصفحات ١٩٤–٢٩٥.
(٤٨) لن يُفسَّر تحوُّل أحد أشكال الطاقة (الضوئية) إلى أشكال أخرى (طاقة كيميائية وحرارية) — عِلم الديناميكا الحرارية — رياضيًّا إلا بعد عدة قرون.
(٤٩) شيروين بي نولاند، المرجع السابق، ص٤.
(٥٠) على سبيل المثال، لم يكن لدى أي إنسان طاقة كافية لتشغيل «مروحة» هذه الهليكوبتر.
(٥١) المرجع نفسه، ص٥١.
(٥٢) «حجر أساس الفن الأوروبي» في رأي الراحل كينيث (اللورد) كلارك.
(٥٣) المرجع نفسه، ص١٢.
(٥٤) ماسيمو ليفي-باتشي، «تاريخ دقيق لسكان العالم»، بلاكويل، أكسفورد، ١٩٩٧، ص٣١.
(٥٥) بيتر جاي، المرجع السابق، ص١٨٠.
(٥٦) انظر كتاب إس إيه كوفمان «أصل النظام»، مطبعة جامعة أكسفورد، أكسفورد، ١٩٩٣.
(٥٧) بيتر جاي، المرجع السابق، ص٢٩.
(٥٨) المرجع نفسه، ص٣٦.
(٥٩) ولا تَشتهِر الصين بسخائها على الفقراء (ولا اليابان أيضًا).
(٦٠) المرجع نفسه، ص٣٠٩.
(٦١) انظر جانيت جليسون «صانع المال»، مطبعة بانتام، لندن، ١٩٩٩.
(٦٢) التواصُل الشخصي، نوفمبر ١٩٩٩. لكن يرى آخرون، مثل جيفري ساكس، مدير مركز التنمية الدولية في جامعة هارفرد فعليًّا «… التغيُّر التكنولوجي [بوصفه] المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي.» انظر مجلة نيتشر العدد ٤٠٧، ٢٧٦، ٢٠٠٠.
(٦٣) ثمَّة رأي يُعرَض بحماس عن هذه الفكرة، رغم أنه أصبح الآن قديمًا، يُقدمه نايجل كالدر في كتابه «تكنوبوليس: التحكم الاجتماعي في استخدامات العلم» [يعني التكنولوجيا]، ماكجيبون وكي، لندن، ١٩٦٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤