(٣) مغامرةٌ في «بيمليكو»

في أثناء ذلك الوقت، وصلَ شُرطيُّنا إلى حانةٍ صغيرة بالقرب من شارع «ريجنت ستريت». دَخَلها وطَلَب مشروبًا، ثم قَعَد على كرسيٍّ في رُكن الصالة الفسيحة. كان يوجد شخصان أو ثلاثة في أرجاء القاعة، كان ثمَّة رجلَان أو ثلاثة يَحتسُون مشروباتهم عند المشرب ويتحدَّثُون. كانوا يَرتدون حُلَّاتٍ برَّاقة مُبهرَجة ويَختلسُون النظرات إلى كلِّ وافد جديد. عَرَف الشرطي أنَّهم مُجرمون عاديون من النوع الأول ولم يَستحوِذوا على انتباهِه؛ إذ كان يتطلَّع إلى هَدف أهم.

جلس ينتظر في الرُّكن وقد بدا عليه الانهماك في قراءة صحيفة مسائية، وقبع أمامه مشروب الويسكي الممزوج بالمياه الغازية دون أن يُمسَّ تقريبًا. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها إلى هنا، وليست بالمرة الأولى التي يَنتظِر فيها دون أيِّ نتيجة، لكنَّه كان صبورًا مُثابِرًا في السعي إلى هدفه.

كانت عقارب الساعة تشير إلى الساعة العاشرة والربع، حين فُتِح مصراعا الباب المتأرجِح ودَخَل منه رجلان، وقد ظلَّا على مدار نصف ساعة تقريبًا مُنهمِكين في مشاوَراتٍ هامسة. استطاع فرانك أن يرى من فوق صحيفته وجه سباركس. كان سباركس هو مُنفِّذ الأعمال المُعتادة الوضيعة لعصابة بلاك؛ إذ كان متعدِّد المهارات والقدرات. كان يُكلَّف بأداء أحقر مهامِّ بلاك، وكان يخدم سيده بكفاءة. أمَّا الآخر، فقد كان فرانك يعرفه باسم جيكوبس، وهو لصٌّ عادي كان يتقاضى راتب تقاعُد من الكولونيل المُحسِن.

تخلَّلت المحادثة بين الحين والآخر نظرات إمَّا إلى الساعة المُعلَّقة فوق المشرب أو إلى ساعة سباركس، وفي الساعة الحادية عشرة إلا الربع، نَهَض الرجلان وخَرَجا؛ فتبعهما فرانك تاركًا مشروبه لم يَنقص منه شيء تقريبًا.

انعطف الرجلان إلى شارع «ريجنت ستريت»، وسارا فيه قليلًا ثم أوقَفا سيارة أجرة. مرت سيارة أجرة أخرى، فأشار فرانك إلى سائقِها بالوقوف، وقال للسائق: «اتبع سيارة الأجرة الصفراء تلك، وابقَ خلفَها بمَسافةٍ مُناسِبة، وحين تتوقَّف لإنزال راكبيها، تجاوَزْها وأنزلني بعدها بقليل في الشارع نفسه.»

فلَمَس السائق قبَّعته، ثم تحرَّكت سيارتا الأجرة باتجاه حيِّ «فكتوريا»، ومرَّتا بمحطة القطار الكُبرى على اليسار، وانعطفتا إلى شارع «جروفينور رود» على اليَمين، وسرعان ما وصلتا إلى متاهة الشوارع التي تُشكِّل منطقة «بيمليكو». توقَّفَت سيارة الأجرة الأولى عند مبنًى مُقفِر في شارعٍ كان أنيقًا في الماضي لكنَّه صار الآن في حالةٍ لا يُمكن وصفها تتراوح ما بين الأحياء الخَرِبة وبين الطابع الأرستقراطي المتهالك. رأى فرانك الرجلَين يترجَّلان من السيارة، ثم نَزَل هو الآخر بعدهما ببضع مئاتٍ من الياردات على الجانب الآخر من الشارع. كان قد حدَّد المبنى بعلامةٍ مميزة، ولم يكن ذلك صعبًا عليه؛ إذ كان باب المبنى يحمل لوحةً نُحاسية تُشير إلى أنَّه وكالة توظيف، وقد كان كذلك بالفعل.

دَخَل طريداه من الباب، ثم تقدَّم فرانك بخُطًى واسعة نحو المنزل. عَبَر الشارع ووقف حيث استطاع مراقبة الباب. رنَّت أجراس كنيسةٍ مُجاوِرة مُعلِنةً بلوغ الساعة الثانية عشرة والنصف قبل أن يحدث أيُّ شيء. ومرَّ شرطيٌّ مُناوب بفرانك رامقًا إيَّاه بنظرةٍ مُمتعضة بطرفِ عينيه، وحتى المُشاة القليلون الذين كانوا في الخارج في ذلك الوقت قد رمَقُوه بارتيابٍ مُماثل.

لم يَكد صوت أجراس الكنيسة المُجاوِرة يَتلاشى حتى اقتربت سيارةٌ خاصة قد قدمت من آخر الشارع بسرعة وتوقَّفت بارتجاجةٍ أمام المبنى. ترجَّل منها رجلٌ، ولم يجد فرانك من موقفه أيَّ صعوبة في معرفة أنَّ ذلك الرجل هو بلاك. وقد تجلَّى ما كان يتوقَّعه من حقيقة أنَّ الباب قد فُتِح له فورًا.

وبعد ثلاث دقائق أخرى، جاءت سيارةٌ أخرى من آخر الشارع وتوقَّفَت على بُعد بضعة مبانٍ من المنزل، وكأنَّ السائق لم يكن مُتيقنًا تمامًا من وجهته. كان ذلك الوافد الجديد غريبًا على فرانك. بدا في الضوء الخافت المتردِّد لأحد مصابيح الشارع أنَّه يَرتدي ثيابًا عصرية؛ فحين استدار ليُعطيَ سائقه بعض التعليمات، لمَح فرانك مُقدِّمة قميصٍ أبيض ناصع تحت المعطف الطويل الداكن. تردَّد الرجل عند أسفل العتبات المُؤدية إلى الباب، ثم صَعَد ببطء وتعثَّر للحظة عند الجرس. فُتِح الباب قبل أن يَلمسه. وكان البيت يشهد نقاشًا قصيرًا حين دخل الوافد الجديد.

وبينما كان فرانك يَنتظِر بصبرٍ على الجانب الآخر من الشارع، رأى ضوءًا يظهر فجأة في الطابق الأول.

ليته كان يعلم أنَّ ذلك التجمُّع كان بمثابة اجتماع مجلس إدارة، اجتماع مجلس إدارة شركة كانت تتلقَّى تَمويلًا أكبر من بعض الشركات الأعلى مكانةً في حي المال في المدينة، ولدَيها فروعها المُنتشِرة في مُختلف أنحاء العالم ووكلاؤها ونظام العمل الخاص بها ودفاترها، هذا إن استطاع أحدٌ أن يَعثر على تلك الدفاتر، وفك ألغاز بياناتها المُشفَّرة.

جلس بلاك عند أحد طرفي الطاولة الطويلة وجلس آخرُ القادمِين عند الطرف الآخر. كان ذلك الرجل متورِّدَ البشرة يبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا، له ذقن صغير وشارب أصفر خفيف. وكان وجهه مألوفًا لكلِّ مَن له علاقة بسباقات الخيول؛ إذ لم يكن ذلك الرجل سوى البارونيت الرياضي السير آيزاك ترامبر. ثمة شيءٌ متعلِّق بالسير آيزاك قد أبقاه على هامش دوائر المُجتمَع الراقي، مع أنَّه كان يَنحدِر من سلالةٍ تَرتبط ارتباطًا راسخًا بتاريخ إنجلترا؛ إذ ابتُكِرَت رتبة البارونيت منذ القِدم في القرن السابع عشر. كان اسم عائلته مدعاةً إلى الفخر، وقد حمله العديد من أسلافه باعتزاز. أما اسمه هو فقد كان من المحرَّمات التي ينأى الناس عن ذكرها؛ فتُرفض دعواته بأدبٍ ولا يُردُّ عليها بمثلها أبدًا.

ثمة فضيحة غير مفهومة قد ارتبطَت باسمه. صحيحٌ أنَّ المجتمع الإنجليزي متساهلٌ جدًّا مع أبنائه. وصحيحٌ أنَّه يَغفر بعض الجرائم والخطايا ويَتجاوز عنها بسهولة، أو يصفح عنها في نهاية المطاف على الأقل، لكنَّه لا يَغفر بعضها ولا يَصفَحُ عنه أبدًا. فحالَما يرتكب المرء أيًّا من هذه الجرائم، أو يقترف أيًّا من هذه الخطايا، تُغلَق في وجهه أبواب حيِّ «مايفير» إلى الأبد. وقد كان الرجل محاطًا بغيمةٍ من الفضائح الصغيرة، لكنَّ تلك التي أقصته عن المجتمع الراقي هي أنَّه امتطى حصانه الخاص في أحد سباقات «ميدلاند». وكان ذلك الحصان واحدًا من أبرز الخيول المُرشَّحة للفوز في بداية السباق، وبلغت نسبة أرباح المُراهنة على فوزه خمسة إلى اثنين.

سُطِّرَت ملابسات هذا السباق في سجلَّات نادي «جوكي كلوب» لسباقات الخيل. وقد صوَّر الصحفيون الرياضيون الذين شهدوا هذه الحادثة الاستثنائية، تفاصيل إقدام الجمهور الغاضب على تحطيم الحواجز ومحاولة الوصول إلى هذا الفارس الهاوي؛ تصويرًا بارعًا. بعد ذلك مَثُلَ السير آيزاك أمام مُنظِّمي السباقات المحليِّين وأحيلت القضية إلى منظمي نادي «جوكي كلوب». وتضمَّن العدد التالي من منشور «ريسنج كالندر» الرسمي الذي يُصدرُه النادي، ذلك الإعلان المشئوم بأنَّ السير آيزاك ترامبر قد صار «محظورًا» من دخول منطقة «نيوماركت هيث» المُخصَّصة لسباقات الخيل.

ظلَّ تحت وطأة هذا الحظر طوال أربع سنوات إلى أن سُحِبت تلك المذكرة. صار بإمكانه حضور سلاسل السباقات من جديد وامتلاك الخُيول أيضًا، وقد فعل كلا الأمرين، لكنَّ المَنع الذي فَرَضه عليه المجتمع؛ أي تلك المذكرة غير المكتوبة «بحظره»، لم تُسحَب. أُغلِقَ في وجهه باب كلِّ بيتٍ موقَّر، ولم يَعُد لديه سوى صديقٍ واحد في العالم المتأنِّق، وقد قيل إنَّ إيرل فيرلوند، ذاك الرجل العجوز النَّكِد الذي يقطر لسانه سُمًّا، لم يدافع عن تلميذه المُدلَّل غير الواعد إلَّا بدافعٍ من الشذوذ الخالص، وقد كان هذا الخلاف مفهومًا من رجلٍ كان معروفًا بأنَّ لسانه هو الألذع في أوروبا.

تُضرب الأمثال بسهولة السقوط في هاوية الجحيم، وقد كان ما سهَّل سقوط السير آيزاك ترامبر هو نزعة الانحطاط التي تجلَّت فيه حتى في بدايات شبابه. وحين جلس عند أحد طرفي طاولة الاجتماع، وقد وضع يدَيه في جيبي بنطاله، ومال برأسه على أحد الجانبَين كطائرٍ مبتهج، أثبت أنَّه رجلُ أعمالٍ بارع جدًّا، وهو ما اكتشف بلاك بنفسه في وقتٍ سابق من معرفتهما.

قال بلاك وهو ينظر إلى رفيقه بشيءٍ من المرح: «أظنُّ أننا جميعًا هنا الآن.» إذ كانا قد تركا سباركس وصديقه في غرفةٍ بالأسفل. وتابع قائلًا: «لقد طلبتُ منك أن تأتي الليلة لتسمع تقريرًا عن هذا العمل. يُسعدني إخبارك بأننا جنَينا هذا العام ربحًا أكبر ممَّا جنيناه طوال فترة عملنا منذ بدايته.»

مضى يسرد بعض التفاصيل عن العمل الذي كان مسئولًا عنه، وفعل ذلك بهيئةِ وأسلوبِ مَن يتحدث أمام قاعة اجتماعات مكتظَّة بالحضور.

تحدث الكولونيل بطريقة الكهان فقال: «قد يقول الناس إنَّ عمل السمسار الخارجي يَتضارَب مع وضعي المُهم المُعتَرَف به في عالم المال؛ لذا فأنا أرى أنه من المستحسَن أن أفصل نفسي عن شركتنا الصغيرة. غير أنَّ السمسار الخارجي شخصٌ مُفيد، لا سيما إذا كان لدَيه مائة ألف زبون. إنني أملكُ أسهُمًا يُمكنه أن يُوصي بها مع وجود دليلٍ قاطع على أنَّه ليس له مصلحة في ذلك، وأنا الآن أرغبُ بشدة في أن يُوصَى بهذه الأسهم.»

فسأله البارونيت بلا مبالاة: «هل نفقد أيَّ شيء بموت فانكس؟ كان حظًّا عاثرًا، أليس كذلك؟ لكنَّه كان سمينًا للغاية.»

فحدَّق الكولونيل إلى السائل بنظرةٍ هادئة، وقال بهدوء: «دعنا لا نتطرَّق إلى الحديث عن فانكس. لقد أحزنَني موت فانكس بشدَّة، ولا أرغب في الحديث عن ذلك.»

أومأ البارونيت. وقال: «لم أكن أثقُ بذلك المسكين قط، ولم أَثق أيضًا بذلك المسكين الآخر الذي أحدَثَ جَلَبةً فظيعة هنا منذ عام، في شهر فبراير على ما أظن، أليس كذلك؟»

قال الكولونيل باقتضاب: «بلى.»

فقال الأرستقراطي الذي تُعوِزُه اللباقة: «من حُسن حظِّنا أنَّه مات هو الآخر؛ لأنَّ …»

فقال الكولونيل بنبرة أقرب إلى الزمجرة: «فلنُواصِل العمل.» غير أنَّ البارونيت كان لديه شيءٌ يريد قوله؛ إذ كان قلقًا على أمنِه الشخصي. وحالَما أبدى بلاك أمارةً على إنهاء العمل، اتَّكأ السير آيزاك إلى الأمام بنفادِ صبر.

قال له: «تتبقَّى مسألةٌ واحدة لم نُناقِشها يا بلاك.»

كان بلاك يعرف ماهية هذه المسألة، وكان يتجنَّب التطرُّق إلى الموضوع بحرصٍ شديد. سأله ببراءة: «ما هي؟»

فسأله الآخر ببعض القلق: «هؤلاء الرجال الذين يُهدِّدوننا، أو بالأحرى يُهدِّدونك، إنهم لا يعرفون أيَّ شيء عن هُوية مَن يتولَّى زمام عملنا، أليسوا كذلك؟»

هزَّ بلاك رأسه مبتسمًا، وقال: «أظنُّهم لا يعرفون. أنت تقصدُ رجال العدالة الأربعة بالطبع.»

أومأ السير آيزاك إيماءةً قصيرة، ثم أضاف بلاك مُتظاهرًا باللامبالاة: «نعم. لقد تلقَّيت رسالةً معتمة الهوية من هؤلاء الرجال. والحق يا عزيزي السير آيزاك، أنني مُتيقِّنٌ تمامًا من أنَّ المسألة برمتها مجرد خدعة.»

فسأله الآخر: «ماذا تعني بأنَّها خدعة؟»

هزَّ بلاك كتفيه. وقال: «أعني أنَّه لا توجد جماعةٌ باسم رجال العدالة الأربعة أو أيُّ جماعةٍ من هذا القَبيل. إنَّهم محض خرافة. لا وجود لهم؛ فذلك أشدُّ إثارةً من أن تصفه الكلمات. تخيَّل أنَّ أربعة رجال قد اجتمعوا لتصحيح قوانين إنجلترا. إنَّ ذلك يبدو أقرب إلى الروايات المثيرة منه إلى الحياة الواقعية.» ضحك بهدوءٍ ظاهري، ثم أضاف وهو يهُزُّ إصبعه يمينًا ويسارًا بشيءٍ من الممازحة أمام وجه البارونيت القَلِق: «هذه الأشياء لا تحدث في «بيمليكو». كلا، فأنا أظنُّ أن شُرطيَّنا، ذاك الرجل الذي حدَّثتُك عنه، هو أصلُ كلِّ هذا. الأرجح أنَّه هو هؤلاء المتآمرون اليائسون الأربعة كُلهم.» وضحك مجددًا.

بَرَم السير آيزاك شاربه بعصبية. وقال متذمرًا: «من الهُراء القولُ إنَّهم غير موجودين؛ فنحن نعرف ما فعلوه قبل ستِّ سنوات، وأنا لا أحبُّ هذا الرجل الآخر بعض الشيء.»

«أيُّ رجلٍ آخر ذاك الذي لا تحبه؟»

أجاب بانفعال: «هذا الشرطي المُتطفِّل. ألا يُمكن رشوته؟»

«الشرطي؟»

«نعم، أظنُّك تستطيع رشوة الشرطيين، ما دُمت تستطيع رشوة الرقباء.» كان السير آيزاك ترامبر يتمتع بموهبة السُّخرية اللاذعة.

فرك بلاك ذقنه وقد بدا عليه الانهماك في التفكير، ثم قال: «من الغريب أنَّ ذلك لم يَخطر ببالي قَط. أعتقد أننا نَستطيع المحاولة.» ألقى بعد ذلك نظرةً خاطفة على ساعته، وقال: «سأطلب منك الرحيل الآن، فأنا لديَّ موعدٌ في الساعة الواحدة والنصف.»

ابتسم السير آيزاك ببطء، وقال: «من الغريب أن يكون لديك موعدٌ في هذه الساعة.»

رَدَّ الكولونيل بلاك قائلًا: «عملنا غريب.»

فنهضا، والتفت السير آيزاك إلى بلاك. وسأله: «بخصوص ماذا ذلك الموعد؟»

ابتسم بلاك ابتسامة غامضة. واستهلَّ الإجابة قائلًا: «إنها مسألة خاصَّة بعض الشيء.»

سَكَت فجأة؛ إذ سمع صوت خُطى أقدام مُتسارعة على الدَّرَج خارج الغرفة. وبعد ذلك بثانية، فُتِح الباب واندفع سباركس إلى داخل الغرفة، وقال لاهثًا: «سيدي الزعيم، إنهم يُراقبون المنزل.»

«مَن ذا الذي يُراقبه؟»

أجاب مفصِّلًا: «كان ثمة رجلٌ مُتطفِّل يقف على الجانب الآخر من الشارع. لقد رأيته، وفور أن أدرك هو ذلك، بدأ يَبتعِد، ثم عاد الآن مرة أخرى. لقد ظللنا نُراقبه أنا وويلي.»

تَبِع الرجلان سباركس المُنفعِل إلى الطابق السُّفلي؛ حيث كانا يستطيعان عَبر النظر من نافذة مُنخفِضة، أن يُشاهِدا ذلك الرجل الذي تجرَّأ على التجسُّس على أفعالهما، دون أن يُلاحظهما.

قال بلاك غاضبًا: «إذ كان هذا الرجل من الشرطة؛ فقَد خذَلني ذلك الكلب جوردن. لقد قال لي إنَّ «سكوتلانديارد» لا يتأهَّبون لاتخاذ أيِّ إجراء.»

أدرك فرانك من مكان مراقبته أنَّه قد أثار قدرًا من الانزعاج؛ إذ رأى سباركس يرجع على عَجَلٍ مع جيكوبس ويدخلان المنزل مرةً أخرى. ولاحظ أنَّ الضوء أُطفئ فجأةً في الطابق الأول؛ فأدرك حينذاك أنَّهم كانوا يُراقبونه عَبر اللوح الزجاجي الموجود بمَدخل المنزل.

لم يكن يوجد المزيد ممَّا يُمكن أن يعرفه. وقد باء بالفشل حتى هذه اللحظة؛ إذ لم يكن يَخفى عليه أنَّ السير آيزاك ترامبر شريك لبلاك، ولا أنَّ جيكوبس وسباركس المُحترَم مُنخرِطان في هذا الشأن كذلك. ولم يَعرف ما كان يَتطلَّع إلى معرفته ولم يبلغ ما كان يأمل تحقيقه.

كان يَستدير مُبتعدًا باتجاه «فكتوريا» حين استرعت انتباهه قامةُ شابٍّ كان يتقدَّم ببطءٍ على الرصيف المقابل ويُلقي بين الحين والآخر نظراتٍ خاطفة على أرقام البيوت المنقوشة على شُرَّاعات الأبواب. راح يُراقبه بدافع الفضول، وسرعان ما رآه يتوقَّف أمام البيت رقم ٦٣.

عَبَر الشارع إلى الاتجاه الذي كان يَسير فيه في ستِّ خطوات. فاستدار الصبي — الذي كان أكثر قليلًا من مجرَّد صبي عادي — وقد ارتعب بعض الشيء من ظهور فرانك المفاجئ. اقترب منه فرانك فيلو وعَرَف هويته، ثم قال له: «لا داعيَ إلى الخوف. أنا ضابط شرطة. أأنت ذاهبٌ إلى ذلك المنزل؟»

نظر إليه الشاب لحظةً ولم يَرُد، ثم قال بصوتٍ مرتجف: «نعم.»

«هل ستذهب إلى هناك لإعطاء الكولونيل بلاك معلوماتٍ معيَّنة عن أعمال رَبِّ عملك؟» أومأ الشاب برأسه بالإيجاب، وقد بدا وكأنه تحت تأثير التنويم المغناطيسي من شدة الخوف. «أيعرف ربُّ عملك بذلك؟»

فهزَّ الفتى رأسه ببطء، وسأل فجأةً بنبرةٍ مُرتعِدة لاحظها فرانك في صوته: «هل أرسلك؟»

فابتسم فرانك مُتسائلًا في طيَّات نفسه عن هوية ربِّ العمل ذاك، وقال: «كلا، بل أتيتُ إلى هنا من تلقاء نفسي، وأريدُ أن أحذرك من الوثوق بالكولونيل بلاك.»

فنَفَض الفتى رأسه، ورأى فرانك الحُمرة التي اعتلَت وجهَه، ثم قال فجأة: «أنت الشرطي فيلو.»

وإذا قيل إنَّ فرانك لم يُدهش حينها إلا قليلًا، فإنَّ ذلك يكون تهوينًا لشعوره في ذلك الموقف. كرَّر العبارة قائلًا: «نعم. أنا الشرطي فيلو.»

وبينما كان يتكلَّم، فُتِح باب البيت، لكنَّ فرانك لم يستطع من وضعية وقوفه أن يرى ذلك. خَرَج بلاك من الباب خلسةً ونَزل على الدَّرجات الخارجية متجهًا ناحيته.

ولم يكن السمسار يرغب في أيِّ شيء حينئذٍ سوى معرفة هوية الرجل الذي كان يُراقبه خلسة. وكان قريبًا بالدرجة التي تكفي لأن يسمع ما قاله الفتى.

فصاح قائلًا: «فيلو!» ونَزَل بقية الدرجات راكضًا، ثم قال مُزمجرًا: «إذن، فهذا أنت، أليس كذلك؟ هذا أنت الذي تتطفَّل على عملي مجددًا.»

قال فرانك ببرود: «شيءٌ من هذا القبيل.»

والتفت إلى الفتى مرَّة أخرى.

قال له بنبرةٍ آمرة: «أقول لك إنَّك إذا دخلت هذا البيت، أو كانت لك أي صلة بهذا الرجل، فستندم على ذلك إلى آخر يومٍ في حياتك.»

قال بلاك وهو يَستشيط غضبًا: «ستدفع ثمن ذلك! سوف أنزع مِعطفَك عن ظهرك أيها الشرطي. سوف أُسلمك إلى الشرطة. سوف … سوف …»

قال فرانك وقد رأى بعينَيه السريعتَين خيالَ شُرطيٍ على الجانب الآخر من الطريق يسير ناحيتهم ببطء: «لديك فرصةٌ ممتازة إذن؛ فثمة شرطي هناك، نادِه الآن وسلِّمني إليه. لا سبب يمنعك من ذلك، لا سبب يجعلك ترغب في تجنُّب إشهار هذا التصرُّف.»

وهنا قال الفتى: «آه، لا لا! أيها الكولونيل بلاك، يجب أن آتي في وقتٍ آخر.» وتوجه إلى فرانك غاضبًا؛ فتحدث إليه مستمدًّا الشجاعة من وجود بلاك وقال: «أمَّا أنت …»

فقاطعه فرانك قائلًا بالكلمات نفسها: «أمَّا أنت، فتجنَّب الرفقة السيئة!»

تردَّد الفتى، ثم استدار ومشى بعيدًا بسرعة، تاركًا الرجلَين وحدهما على الرصيف.

كان المشاهدون الثلاثة في صالة المنزل يتابعون المشهد بفضول، وكان اثنان منهم على الأقل يترقَّبان من بلاك تعليماتٍ لن تكون عاقبتها حسنةً على فرانك.

غير أنَّ بلاك تمالك أعصابه ببعض الصعوبة؛ فهو أيضًا قد رأى خيال الشرطي على الجانب الآخر من الطريق.

قال بلُطفٍ اضطراري: «أصغِ إليَّ أيها الشرطي فيلو. أعرف أنك مُخطئ، وأنت تَظنُّ أنَّك مُحِق. فلتأتِ معي إلى الداخل ولنُناقش هذه المسألة.»

انتظر الرد بينما كان عقله يحيك خطةً للتعامل مع هذا العدو الخَطِر. لم يتخيَّل أنَّ فرانك سيقبل الدعوة، وقد دُهِش حقًّا حين رأى الشرطي يستدير دون أن يتفوَّه بكلمةٍ أخرى، ويصعَد الدرجات المؤدية إلى الباب ببطء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤