الفصل الثالث

١

ما أحلى ليالي الصيف! وما أسرعها مرًّا! تسري بنا فتنسينا الحياة والوجود، وتبعث لنفوسنا بطيبها أكبر الهناء. ولو أن الأماني تجاب لكانت كبراها استدامة هاته الليالي الزاهرة حيث كل شيء جميل ذاهب في أحلامه، وحيث البدر يحبو في السماء تائهًا هو الآخر في خيالات حبه، والطبيعة الصامتة توحي بأصواتها نجوى الغرام إلى القلب، والفلاح الساهر يرسل في سلاميته في جوف الكون نغمة رقيقة كلها الوجد والجوى.

ولكن الأيام لا تقف عند أمنية، ولا يستحثها قلق الساهر الشيق يشكو آلامه، بل هي هي الدائمة السير المتشابهة الخالدة تجري بنا على غير ما نريد، فتطوي وقت السعيد حتى لا يحس به، وتتمطّى أمام البائس فتزيد بؤسه مضاضة وإيلامًا.

سافر إبراهيم لمنفاه، وكل ذنبه أنه فقير. وجاء الخريف لزينب بالهموم، وودّت بعد ذلك الفراق لو أنها أعطت إبراهيم نفسها حتى يكون لها من ذكرى ذلك عزاء عن لوعتها، ولكنها اليوم تعاني الحسرات من غير عزاء.

أما حامد فقد انتهى بدفن كتاب عزيزة الذي شغله أيامًا، وابتدأ النسيان يجيء على كل أثر لها في نفسه، ولكنه بمقدار ذلك النسيان كان يحس بفراغ في قلبه يزداد كل يوم، ويشعره بالحاجة المطلقة إلى سدّ هذا الفراغ.. فإذا ما رأى فتاة عليها مسحة من الجمال اجتهد ليتقرب منها، وعدَّ فيها محبوبًا جديدًا، وإذا جاء الغد بأخرى نسي تلك وتعلق بهذه. ويتنقل قلبه من واحدة لأخرى كما تتنقل النحلة من زهرة لزهرة، ولا يدري أيًّا يحب وأيًّا يترك، حتى تقلب على أكثر من عشر. أخيرًا رأى فتاة أخذ بلبه حسنها، فعاهد نفسه ألا ما ثبت على الولاء لها، وكل يوم يمرّ يزيده تعلقًا بها، وثقة من قلبه وتقربًا منها. ثم انقلب عنده الظن يقينًا أن أكبر السعادات هو الاجتماع بها، وأن تكون له شريكة الحياة.

ثم غابت عنه أيامًا كان في خلالها الوامق الكثير الذكر القائم الليل يناجي الكواكب، ويسائل البدر عنها، ويرجو السماء ألا ما جمعته بها. فلما تلاقيا شعر ببرد يسري في جسمه ويصيبه من أوله إلى آخره، ورأى كأن قد كان من قبل في حلم كاذب. هنالك شعر بأكبر الألم.

أليست هي هاته التي أحبها وهام بها؟ فأي شيء غيّره عليها وقد كانت إلى آخر يوم من فراقهما أحب الناس إليه؟ ولكن القلوب قُلَّب، والشباب أيام حب من أوله إلى آخره. فإذا ما هامت الروح ورجعت فلم تجد حبيبها إلى جنبها فكثيرًا ما تلجئها الحاجة إلى أن تستبدل به غيره.

ثم جاء على حامد بعد ذلك جمود على كل شيء، وأمام كل شيء، وأصبح الكون أمامه باهتًا، وصار كأنْ لا قلب له. تمرّ الحوادث والناس والأشياء فلا يعبأ بها، ولا يهتم بما تكنه. كل همه أن يبقى مستريحًا ساكنًا، ينام ملء جفنه، ويعمل ما يريد. ويترك ما يريده، ولا يسأله إنسان حسابًا. تطلع الشمس وتغيب وهو قد قضى نهاره متنقلًا من بيته إلى بيت بعض أصحابه أو سارحًا فيما لا حدود له من تيهاء الخيال. ويجيء الليل معه بأخبار المساء وجرائده، فلا يكاد ينتهي الناس من قصص أمور الزرع والماء وأسعار القطن ومن باع ومن لم يبع حتى تنقلهم الجرائد إلى الأخبار العامة. فبعد أن يقرأ قارئ أسعار الكنتراتات الأخيرة يجيء إلى الحوادث المحلية وأخبار اليوم، ثم تتلى أمامهم مقالات من أقلام كتَاب يمجّدون، ثم يذهب هو إلى نومه ليقضي الغد كما قضى الأمس. وهكذا جعلت الأيام تمرّ ولا يزيده مرورها إلا همودًا.

يقلّب في ضميره علّه يجد ما يؤاخذ نفسه به، فلا يجد شيئًا، ويعمل ما كان يأنف منه من قبل فلا يجد الأسف إلى نفسه سبيلًا، ولو أن الكون دُكَّت قوائمه، والقيامة قامت، وجاء النشور، وتجلّى الخالق وعلا حتى بلغ الصراط لهب النار، وأسمعت من قصور الجنة مسمعات الغواني لما كان أمام ذلك كله إلا هازًّا رأسه مستغربًا ما يأخذ الناس من الوجل.

ولقد علاه الدهش لتلك الحال التي هو فيها، دهش ممزوج بشيء من الأسى العَذْب والحزن الهادئ الذي يصيبنا ساعة لا نفهم أنفسنا أو ما يحيط بنا. فإذا جلس وحده وحدق بعينه إلى الفضاء الهائل أمامه غاب فيه، وعلى ثغره الذاهل معنى الاستسلام المطلق، وكأنه يرى غريبًا وجوده على الأرض؛ وإن هو سار ذاهبًا إلى المزارع صاحبه ذلك الذهول عينه، فمشى بخطوة بطيئة رتيبة متخذًا أكثر الطرق انفرادًا ووحدة، وإن صادف وجوده على طريق عامرة راح منها إلى الناحية التي لا يسلكها إنسان. وإذا كلَّم أحدًا كلمة وكله السكينة والهدوء.

ها هو ذا عيشي طيب راض، والحياة أمامي سهلة هينة، ولا أسف عندي على ماضٍ ولا حاضر. ها هي ذي الأيام تنساب أمامي هادئة ساكنة متشابهة، وها هو ذا الوجود من أوله إلى آخره لا يثير مني ذكرًا ولا يحي عندي شجنًا. اللهم لا أمنية أطلب، ولا ذنب أستغفر عنه، ولا حاجة لي إلا أن تبقى الحال كما هي حتى تجيء الساعة التي أترك فيها الأرض وإني لا أستعجلها ولا أراها تسرع نحوي. هي ككل الساعات التي تمر والتي يموت فيها أناس ويولد آخرون وتملؤها الضجة الدائمة التي تحيط بي.

الأمس واليوم والغد كلها واحدة، والسابْق منها دليل اللاحق. ومهما يكن في المستقبل من الغيب فما هو إلا كالذي تقدمه والذي كان غيبًا مثله، وإنما لك الساعة التي أنت فيها.

نعم لنا الساعة التي نحن فيها، وخير ما نقضيها فيه أن نرقبها تمر، ونكون أهدأ منها بالًا. لمَ يشغل الناس أنفسهم بأشياء لا ثبات لها أكثر مما تشغل هي نفسها بها؟ وهل يعتقدون أن اهتمامهم بها وعملهم فيها يزيد حظهم سعادة أو رضًا؟ كلا! وإنما هي الحياة تسحرهم بمشاغلها وتشغلهم حتى لا يروا حقيقة أمرها وشكلها الفظيع.

أما أنا فراض اليوم، لا حبًّا في الحياة، ولا طمعًا في الاستزادة منها، ولكن لأن الفرح بها لا يزيدني سعادة، والغضب عليها لا يخيفها مني، ولا يجعلها تقدم لي شيئًا جديدًا.

أنا راض بها وهي الأخرى راضية بي. وما دمنا على وفاق فإنا نسير معًا حتى تجيء الساعة التي يمل أحدنا صاحبه فيرفضه، وينفصل الآخر عنه، وأروح أنا إلى عالم آخر ساكن لا ضجة فيه ولا حركة ولا حساب فأكون أكثر هدوءًا مني اليوم، وتنتقل حياة هذه الأرض إلى غدها وبعد غدها لينفصل عنها قوم وينضم إلى حزبها آخرون.

بقي حامد على هذه الحال من عدم الاهتمام بما حوله والجمود أمام كل شيء أيامًا طوالا كانت عنده أيام لذة وهناءة حقيقية، لذة غير هاته التي نخلقها لأنفسنا بما نهيجه فيها من العواطف ونثيره من الإحساسات، أو بما ننيلها فيها من لذات الخيال التي تصورها لنا أحلامنا، ثم تنقلنا إليها لتخفف بعض الشيء من بؤسنا ويأسنا، بل لذة تلمسها اليد وتجيء إليه تلفّه هي في ردائها، فيشعر معها بالرضا والنعيم ولكنها لا تهمه أكثر مما يهمه أي شيء آخر.

كان يخرج أحيانًا إلى المزارع ساعات الأصيل، وشمس الخريف مريضة ترنو للكون الذاهل في ذبوله ومشيبه بعين جمعت مع العطف والاسترحام، ومع الإشفاق الوَجَل، ويسير بين زروع القطن الأجرد الأسود والذرة قد خلع أوراقها من يريدها طعامًا لأنعامه، أو هي تدلت إلى جانبه قد أتى عليها الموت، ويسلك طرقًا كانت محبَّبة إليه، ولها عنده من الذكرى ما لا ينساه حياته، فلا يهيج ذلك من نفسه شيئًا، ولا يحدث عنده أثرًا.

ولكن هذه الحال ليس من طبعها أن تستمرّ. ومهما جلبت لنا من السكينة فإنا لا نرضى البقاء الدائم فيها كأنا نساعد الوجود على مضايقتنا. أو أن المرء لا يستطيع أن يعيش من غير آلام وآمال يملأ بها حياته.

أحس حامد كأن أيامه فارغة خيالية، وأن عيشًا كلُّ أمرنا فيه أن نبقى كذلك سكوتًا أحرى به أن يُهجر إلى السكون الأكبر الخالد، سكون الفناء. وبذلك بدأ يجاهد ليخلق لنفسه مشاغل شتّي يتسلّى بها عن ضيقه، فهو يذهب للمزارع ويراقب العمال ويرى الزرع، ثم يرجع إلى الدار فيبدي لناظرهم ملاحظاته، وينّبهه إلى مواضع الخطأ في العمل، وصار يجد في ذلك من السرور ما لم يكن يعرف من قبل. فلما كان في بعض الأيام — وقد ترك البلد لساعتين بعد الزوال، وسار مع أخ له سارحًا إلى المزرعة، والشمس إذ ذاك قوية يتنزل شعاعها تصهر به الأرض — رأى عن بُعدٍ امرأة راجعة، وعلى يدها ما بقي من غداء صاحبها العامل، فسأل أخاه أيعرفها؟ وحدَّدا نظريهما نحوها حتى تبيناها زينب راجعة بعد غداء حسن، فشعر حامد كأن شيئًا يهزّه، وتمهّل في خطاه إلى أن تلاقيا، فأهدته هي التحية مستمرة في طريقها، وردّها عنه أخوه، ثم سارا كما كانا من قبل حتي وصلا صامتين ساكتين.

ثم التفت أخوه نحوه وقال: فاكر يا حامد من قبل زينب متتجوز يا أخي البنت دى زي اللى بترفع وكل البنات لما بيتجوزوا بيتخنوا.

وصلا إلى غايتهما، وجلسا تحت شجرة قائمة على شاطئ الترعة، وجاءهما العامل القائم يسقي هاته الأراضي يعدها للبرسيم، فسلم عليهما، وسألاه إن كان ينتهي من عمله ذلك النهار، فأجابهما إيجابًا، ثم راح لعمله، وبقيا يتحدّثان وينظران للماء ينساب إلى جانبهما، والسماء الصافية منشورة فوقهما، وبعض العصافير تنطّ أو تطير حولهما. ثم جاء عليهما سكوت ذهب كل منهما فيه إلى أحلامه وخيالاته.

«فاكر يا حامد زينب قبل ما تتجوز» — هذه هي الكلمة التي عادت مرارًا إلى نفس حامد، ولم يستطع معها أن يفسر ما تحويه من قديم الذِّكر، أو ما يجول بصدره من الإحساسات. ولم يقدر على البقاء طويلًا بالمزرعة، لأن سكونها واستسلامها يكاد يقتله. فطلب إلى أخيه أن يرجعا حتى إذا كانا في الدار صعد إلى غرفته وأغلق بابها عليه.

زينب متزوجة اليوم، وبهذا تحتجّ كلما ذكَّرها بالماضي. ولكن ماذا يهمَّه لو كانت متزوّجة. لا بد أن يأخذها بين ذراعيه، ويضمّها لصدره، ويقبل كل موضع في جسمها. كلا. إنه لا يستطيع البقاء بعيدًا عنها، وليس في طوقه أن يعيش من غيرها.

إن حياتى مستحيلة إذا لم أحس بها بين يديّ. كفى خيالاتي وآمالي الماضية التي لم أخرج منها بشيء، ولا بد أن أعمل جهدي لمقابلتها وحيدة، ثم أمسكها وأضمها إلىّ وآخذها لنفسي. ما دمت أحبها وهي تحبني فأنا لها وهي لي.

وما الذي يبعدها عنه، أو يمسكه عنها؟ ألأنَّ بينها وبين حسن عقدًا يقال إنه يربط أحدهما بالآخر؟ وهل تستطيع العقود مهما تكن أن تحرم الشخص من التصرف في قلبه، وأن يتركه حرًّا يذهب لمن يشاء؟ وما دامت الطبيعة قد كوَّنت اثنين ليكونا معًا فإن عبثًا وحمقًا أن ينظرا لغير ذلك الاجتماع، أو يهتما بما يكون من نظر غيرهما له، أو أن يعوقهما عن إتمامه عقد لا قيمة له في الواقع، وإن احترمه الناس وقدسوه! وظل زمنًا في غرفته متهيّج الأعصاب، مضطرب النفس، يصمم في كل لحظة على مقابلة زينب، وعلى أن يفتح لها قلبه، ويعترف لها بما يقاسي من أجلها فتقر هي الأخرى بحبها له، ثم يتعانقان ويبكيان، وهكذا يبقيان..

•••

انحدرت الشمس، وابتدأت السماء تعدّ نفسها لرداء الليل، وجعل كل شيء يدخل عالم الظلام رويدًا رويدًا، ثم سمع حامد من ينقر على بابه وينبهه للعشاء. ولكن أيّ طعام ذلك الذي يأخذه؟ وهل يستطيع أن يأكل أو يشرب قبل أن يحقق كل أمانيه؟

ثم سمع والده يسأل عنه، فهدَّأ من نفسه حتى لا يظهر عليه أثر، وخرج فحيَّا الموجودين، وجلس على المائدة وهو لا يكاد يأكل شيئًا. فلما انتهوا من طعامهم انكفأ خارج الدار هائمًا، فأنذره الليل أن تلك ساعة هجود للعمال المتعبين طول نهارهم، وأن زينب هذه اللحظة في أحضان زوجها.

في أحضان زوجها؟! ما أقساك يا ليل! زينب في أحضان زوجها، وفي أحضاني أنا الأسى والألم؟! لمَ يارب جعلت يوم رأيتها بعض أيام حياتي؟! وهل من طريق الآن إليها؟

لا طريق في هذا الليل إلا أن ننتظر صبحه. فلما بزغت الشمس كان حامد نائمًا في مرقده بعد ليل أكدّه وجاء على قواه، ولم يقم إلا والنهار في ساعة الزوال أو يكاد. فأخذ طعامه وحده، ثم خرج إلى جهة المزارع حتى إذا كان على مقربة من أرض أبويا خليل جلس إلى ظل شجرة ينتظر أن تمر زينب كعادتها. جلس ولا تصميم عنده ولا عزم على شيء. ولو أنه رآها هاته اللحظة أمامه لما زاد معها على إلقاء التحية أو ردها، ثم يتبعها بنظره مدة من الزمان. ولكن السكون المطلق المحيط به وتحديقه إلى الجهة التي تجيء منها سمح له لأول ما رآها قادمة من بعيد أن يثبت على شيء، فقام متمهلًا يروح ويجيء في ظل الأشجار حتى إذا كانت عنده، وألقت عليه تحيتها، سار إلى جانبها، ولم يمهلها أن فاتحها الحديث: انت نسيتي يا زينب أيام زمان؟

الله! ما هذا الذي لا تنتظر؟ وأي جديد حدث حتى جاء بحامد هنا يكرر لها هذا الكلام بعد أن تركها الزمان الطويل؟ أوَ لم يسألها مثل هذا السؤال مرة من قبل؟ وماذا عساه يريد منها؟

ثم أجابته: لا ما نسيتش لكن أنا اجوزت.

وقبل أن ينطق حامد بكلمة أخرى أحس بالمضاضة والذلة التي تصيبه من أي اعتراف أمامها بما في قلبه. بل ألا يكون ذلك خبَلًا وجنونًا؟ ثم هل يحتمل ما يقول الناس عنه وما يلفقون من الأكاذيب؟

ومن غير انتظار، وبلا سبب تعلمه زينب، وقف وأمسك يدها كأنه يسلم عليها وقال لها: اقعدي بالعافية يا زينب. وإن شاء الله تكوني مبسوطة مع حسن.

ثم انحرف إلى طريق آخر راجعًا إلى الدار، ودخل غرفته من جديد. ولكن هذه المرة دخل وهم يحس بحزن وسرور في آن واحد، لأنه صمم على ترك كل هذه الإحساسات الفارغة التي تنتابه من ورائها الآلام، ليعيش في نفسه ولنفسه، وأن يكفر عن كل ما فات بكل طريقة ممكنة.

إنه قضى سنيه الأخيرة بين آمال وأحلام كاذبة مشوبة بأطماع أحرى بمثله أن يكون أكبر منها. وهل إنسان يبلغ به الأمر أن يكون أكبر غاياته مقابلة فتاة أو الجلوس إليها ومحادثتها لأنها أعجبته إلا إنسان صغير النفس والعقل معًا؟ وأدهى من هذا وأمرّ أنه يتنقل كل يوم من واحدة لصاحبتها، وينسى الأولى لمرأى الأخرى، فإذا غابت رجع إليها، وإن رأى غيرهما من بنات جنسهما هان عليه أن يرتمي في أحضانها ويسلم وجوده إليها.

تأتي عزيزة إلى البلد فيعدّ لقاءها أكبر الأماني، ويتغنّى بذكراها ويأتي على محاسنها، ثم يكتب إليها خطابات كلها الحب، ويشكو ما عنده من الجوى واللوعة. فإذا هي تركت البلد رجع إلى زينب والتغزل بها ومقابلتها وسؤالها عن الأيام القديمة. وإذا قابلته في العاصمة فتاة حسب فيها محبوبًا جديدًا، فتمشي إلى صدره هواها، ووجد من العذوبة في سماع ألفاظها وفي النظر إليها ما ينسيه كل شجن… ما هذا كله؟ وأي قلب قلبه الذي يسع حب كل هاتيك الفتيات الناضرات والزهرات اليانعات أمام عينيه؟ أم أن لكل شهر من شهور السنة، بل لكل يوم من أيامها من الأثر فيه ما يوجّه إحساسه إلى جهة جديدة؟.. كلا. ذلك مرض عالق به متأصلة جذوره في نفسه. وأعماله تلك مظهر من مظاهر مرضه العضال.

… أو أن عاطفة الحب التي تتمشى في صدور الشبان والشابات، ولا تني عن إقلاقهم جميعًا، وعن أن تدفعهم للبحث عن تلك الروح التي كانت أخت روحهم في الأزل ثم فارقتها أول الخليقة، وتبحث عنها هي الأخرى من غير كلل ولا ملال، هي التي تعذّب هذا الشاب المسكين أغلقت أخت روحه وراء الحجب لتنال نصيبها من العذاب في سجنها.. نعم هو هذا!.. إذ أن شخصًا كحامد، هادئ الطبع ميال إلى السكون ثابتٌ رزينٌ، لا يمكن أن تعبث بنفسه الدوافع وتتلاعب بها الأهواء إلا إذا كانت عاصفة قوية. وعاصف الحب أقوى الرياح التي تثير القلوب وتلهب الصدور، وتخفق معها الأفئدة بين الجوانح. هو العاصف الوحيد الذي يملك على الشاب حياته، فإما بعث إليها الهناء والسرور يحملها المحبوب في كفه الناعمة وفي الابتسامة الطاهرة التي تطوق ثغره وفي نظراته البريئة كلها الحنان والعشق، وإما جعلها عذابًا ونقمة بأن يكون بحثها عن المحبوب غير ذي جدوى.

لكن حامدًا لم يسائل نفسه عن سبب قلقها، ولا هو أراد أن يلتمس لها هذه المرة عذرًا كفى ما فات حتى يستطيع أن يكفّر عنه. وإلا فإذا كان يزيد في كفّة ذنوبه، ويندفع مع تيار غيه، فليودّع من الساعة ماضيه وعمله، وليستعدّ لمستقبل مخجل مخزٍ يقضي فيه حياته على مثال من النذالة والضياع، ويكون فيه كالح الوجه ميت الضمير مقفل القلب، حتى إذا أتى عليه الموت أتى على شخص ضئيل القيمة عاش ومات ولم يعمل شيئًا. ولا شيء أشد إيلامًا لنفس حامد وأصعب وقعًا عليها من أن يتصور نفسه خارجًا من باب الحياة وحيدًا منفردًا لا ينظر إليه أحد ولا يعلم بأمره إنسان، بل مر بهذا الوجود الأرضي من طرف لطرف واختفى في التراب ولم يترك بعده أثرًا.

والواقع أن أحلام حامد وآماله في المستقبل كانت كبيرة جدًّا، ومهما يكن مخلصًا في قوله أحيانًا إن خير عملنا أن نغنم الحاضر، فإن قضية المستقبل كانت تشغل باله وتهاوده في أوقات مختلفة، وكأنه كان يدين بمذهب أستاذه قاسم أمين: «اللذة التي تجعل للحياة قيمة هي أن يكون الإنسان قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم». فلم يكن يمر به وقت ييأس فيه من المستقبل، بل كان هو الشيء الوحيد الذي يجعله يستبقي حياته. فإذا كان قد أسقط في يده أحيانًا حين أراد أن يحبّ، وإذا كانت قد مرت به ساعات سوداء نغصَّت عليه أحلامه، وجعلته يسائل نفسه عن معنى الحياة، وعما يدفعنا لأن نعيش، فإن ما كان ينتظره من السنين الآتية، وأنها ستعوض عليه كل هذا، كان يجعله يحتمل مضض الحاضر وآلامه.

لم يسائل نفسه اليوم عن سبب قلقها، بل كان ما أراد أن يعرف هو الطريقة التي يكفر بها عما سلف… أيصلّي ويبتهل إلى الله ويطلب غفرانه؟ ولكن لمَ وأي جريمة اقترف؟.. وهل ذنبه أن أودع الخالق في نفسه إحساس الحب كما أودعه في نفس كل شاب؟! وإذا كانت الطبيعة قد اقترفت هذه الخطيئة من إغراء الشبان فهي وحدها المسئولة عن عملها، وأن تكفر عن خطيئتها. وإن كان ذلك من أمر الله لطفًا بخلقه فالله لا يسأل عما يفعل.

ولكنه كان يحس أن خطيئته أكبر من ساعة لساعة، وأن أعماله الماضية كلها اجتمعت حملًا فوق أكتافه… وفي هذه اللحظة أحسّ بضعف عظيم وحاجة متناهية إلى المعونة، وأحس كأن دافعًا يدفعه للابتهال إلى الله، فرفع إلى السماء نظراته، وبعيون حزينة يكاد يتساقط منها الدمع رنا للقبة الزرقاء الهائلة في صفائها، ثم لم يتمالك أن جثا على قدميه، وطلب بكل خضوع وخشوع أن يغفر له ربه زلته. وفتح كفّيه حتى إذا انتهى من دعاءه رفعهما إلى وجهه كأنما يحمل إليه رحمة الله وعزاءه للمصاب المحزون.

ما أعجب الإنسان في أطواره وأحواله!.. يسير رزينًا ثابتًا في عمله، ويعمل كل شيء يوحي له به عقله، حتى إذا ما جاءه الضعف، وتناوبه الحزن، وخارت عزيمته، وانحطت قواه، وشعر كأن خطرًا محدقًا به، نادى طالبًا العون من خالق السماء والأرض، ومن كل ما يصوّره له خياله. ويستمر ساجدًا أمام هاته القوة معترفًا بعجزه المتناهي ما دام الضعف مستحوذًا عليه غير سامح لقواه أن تتوازن وترجع إلى معتادها. فإذا ما انقضت تلك الساعة وعاوده صوابه نسي كل ذلك، أو على الأقل خزنه إلى جانب حتى تأتي فرصة أخرى تحوجه إليه.

جثا حامد أمام السماء، وحدق إليها، كأنه يرى فيها ملجأ اليائس، ومستقر من جنحت به سفينة الحياة، وإن هي إلا حاوية بعض السرّ الهائل الكامن حولنا في كل موجود. جثا خاشع القلب كسير الطرف خجلًا من خطيئته، ثم رفع يديه يريد أن يعترف بكل ما جنى، ويتوب إلى الله عما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويسترشد سبيلًا في تلك الحلكة المظلمة أمامه حيث كل شيء أشد سوادًا من القار.

ولكن السماء زرقاء كما هي لا يؤثر فيها دعاؤه ولا يرققها أساه، والبنيان القائم أمام نافذته هو هو كما يراه كل يوم ولا شيء جاءت عليه الغِيَر. وإن المتغير هو القلب، والإنسان يرى الأشياء كل يوم كما تصوِّرها أمامه حواسه، فهي إما ضاحكة فرحة إن كان هو ضاحكًا فرحًا، وإما قائمة حزينة إن كان الحزن قد وجد إلى نفسه السبيل. والحقيقة أنها لا تبسم ولا تعبس بل هي تسير في دورتها الدائمة متفاعلة يؤثر بعضها في بعضها الآخر، والإنسان يسير عليها يعمل فيها وتعمل فيه وإن ظن أن له عليها السلطان وأن بيده تصريفها.

في اليوم الثاني جاء إلى القرية الشيخ مسعود، أحد أشراف المديرية ومن مشايخ الطرق المعدودين فيها. جاء وفي انتظاره أبناؤه الكثيرون، وكلهم فرح بمجيء عمه، منتظر أن يقبل يده الطاهرة، وإن كان متوجّسًا خيفة أن يكاشفه هذا الوليّ الصالح المقرب إلى ربه المستنير القلب، ببعض ما فرَّط في واجبه. وقد عزمه الشيخ عامر أحد أعيان البلد الموسرين ومن الآخذين عليه الحافظين عهده المتعصبين له ضد كل شيخ آخر، وأعدّ له وليمة فاخرة جاء فيها بذبح عظيم، وطلب الطباخ من بعض المدن القريبة ليطهي طعام الشيخ الداعي إلى الله الزاهد في دنياه الفانية. وما لبث أن نزل في المندرة الكبيرة من دار الشيخ عامر المبنية حديثًا بالطوب الأحمر، والمنقوشة حيطانها وسقفها بأنواع النقوش، والملأى بالكنبات والكراسي حتى التفَّ حوله جمع عظيم جلسوا باحترام، وظلوا يتوافدون تباعًا، فيلثمون يد الشيخ ثم يأخذون مجالسهم، حتى لم يبق في المكان مجلس. بل لقد وقف كثيرون في الأركان وإلى جانب الباب ليمتّعوا طرفهم بمرأى الشيخ الذي بقي ساكتًا أو يسارُّ بعض جيرانه تاركًا يده متاعًا لمن يلثمها، مملسًا أحيانًا على بعض المسلمين عليه، داعيًا للجميع دعوات الخير والبركة.

مُدَّت الموائد، ووضعت أمام الشيخ ومن حوله من الناس الطيبين صينية قدم عليها أشهى الأصناف. وصاحب الدار قد أخذ مكانه إلى جنب ضيفه المقدس يقدم له من كل طبق، ويسأله ما بين حين وآخر أن يبارك من حوله بدعواته الصالحة، ويظهر له عظيم امتنانه وكبير سروره بمقدم الشيخ الطاهر.. والشيخ يجيب عن ذلك كله بتواضع يليق بمكانته وعظمته، ويرفع عينه فيرى قريبًا منهم مائدة أخرى معتادة، لا شيء يجذب النظر مما عليها وقد التف حولها جماعة من أبنائه الفقراء والفلاحين. ولو أن له نفسًا بين جنبيه، أو ضميرًا يحس، لكلله الخجل أن يرى نفسه وهو الداعي إلى الله ونعيم الآخرة وإلى الزهد في هذه الدنيا الفانية جالسًا في مقعد وثير وعلى طعام شهيّ في حين يجلس هؤلاء العمال الطيبو القلوب على حصير ناشف يأكلون الرديء مما لم يقدّم له، ولازداد خجلًا أن يعلم أنه عاطل لا عمل له إلا هذا الطواف في البلاد لا لغرض إلا أن يأكل ويشرب وينطق بكلمات لا قيمة لها، وهم عمال يجدّون ليل نهار ليطعموا الناس بفضل عملهم… ولكن أَي ضمير يسكن قلب مُدَّعٍ لا تربية له ولا أصل عنده، وإنما اتخذ هذه طريقة احتيال يعيش من ورائها. وهل الشيخ مسعود إلا ذلك الرجل الذي صرف بين جدران الأزهر عشر سنين لم يعرف فيها شيئًا، فلما يئس من النجاح، ووجد أباه قد قصر عن أن يمدَّه بمعونة، ترك العلم لمن يفقه العلم، وخرج هائمًا على وجهه، فلبس ما يشبه المسوح، وأرخى شعره واستوحش؟! ولكن هذه الحرفة لم تجده شيئًا، فنظّف نفسه بعض الشيء، ولبس فوق رأسه عقالا، وراح بعد ذلك مدعيًا العمومة يعطي عهودًا للمساكين الذين يعتقدون أن «من لا عم له عمه الشيطان»!

وبعد العشاء نصبت حلقة ذكر في ميدان أمام دار العمدة، والتف الناس حول شيخهم، وابتدأوا يهتزّون ببطء يمينًا ويسارًا. ومن بينهم منشد يرفع صوته بشيء لا هو بالغناء ولا بالحداء ولكنه مرتب يتفق مع حركات الذاكرين. ويكَّررون جميعًا وسط هدأة الليل وفي لجة نور القمر اسم الله، يقولونه ببطء مقدار بطئهم في اهتزازهم. ويسرعون بعد ذلك قليلًا حتى يأتي وقت لا تتميز كلماتهم، ويعرو بعضهم ذهول، ويدور رأسه فهو يميل كالثمل لا يكاد يعي ما يقول، ولا يعرف ما يعمل، ولكنه مسوق وسط هذه الضجة ليقلد من حوله من غير عقل ولا تفكر. ويصبح ذكر اسم الله أنفاسًا تتصعد في الجو مقذوفة بقوة وحنق كأنما هم يقذفون بها في وجوه أعدائهم. وتزداد حركتهم حتى ليقول عنهم من لا يفهم أمرهم إنهم جمع من المجانين أو سكارى يرقصون غير واعين. وصوت المنشد يرن على جنبات الليل من غير انقطاع، ويحرض هؤلاء الثملين على الاستمرار في جِنَّتهم. فإذا ما خرج بعضهم عن صوابه صاح ببعض كلمات متقطعة لا معنى لها، ونطق إذ ذاك بلسان الحال، ثم يتبعه آخر وآخر، فيهدئهم الشيخ بصيحات من جانبه. والقمر فوق الجميع ينظر إليهم بعينه الهادئة كأنه يبتسم ساخرًا منهم هازئًا من جنونهم. والليل الصامت يردَّد تلك الزفرات التي يصعدونها. وهم جميعًا ينادون الله حتى يبحَّ صوتهم فلا تجيبهم السماء ولا الأرض ويروح تعبهم سدى.

فإذا ما أحس الشيخ أن قد نهكت قواهم أمرهم بالسكوت، ثم ألقى إليهم اسمًا آخر من أسماء الله الحسنى، فيأخذونه ويصيحون به من جديد حتى تجف حلوقهم ويضيع صوابهم، فيلقي إليهم اسمًا ثالثًا ثم رابعًا. فإذا انتهى الليل من غير جدوى انصرفوا شاكرين منتظرين أن يعيدوا الكرة علهم يصلون يومًا إلى ما يطلبون.

كان حامد جالسًا في السلملك ساعة الذكر. ولقد أحس بدافع يدفعه إلى الانضمام والصياح مع الصائحين عله بذلك يكفر عن ذنبه. وإذا كان قد اعتقد قبل اليوم أن عمل هؤلاء الناس وأتباعهم لشيخهم المخرف جنون في جنون، فإن الضعف الذي استولى عليه، والحزن والهم اللذين ركباه تركاه قابلًا للإيمان بكل شيء والتصديق بما لايصدق به عاقل. بل إنه ليذهب غدًا ليرى الشيخ، ويلثم هو الآخر يده، وينضم إلى حزبه، ويعترف إليه بكل ما في نفسه ليخفف بذلك بعض ألمه. نعم. غدًا يأخذ هو الآخر عهدًا، ويصبح أخًا لهؤلاء الذين يخافون أن يكون عمهم الشيطان!

فلما كان الغد ذهب إلى مستقرّ الرجل الصالح، فقدّمه الشيخ عامر إليه، وبإشارة عمه ترك الشاب معه وانصرف. فابتدأ حامد معه حديثًا طويلًا يقصّ به حكايته وما دفعه للمجيء إليه والإنضمام لحزبه:

– لي ابنة عم قيل وأنا لا أزال في السادسة من عمري إني سأتزوجها متى كبرت. وعلى هذا كنت أحس في نفسي لها بعاطفة غير التي أحس بها نحو بنات عمي الأخريات. فأقاسمها ما بيدي، وأحنو عليها، وأدافع عنها. فلما جاء اليوم الذي افترقنا فيه تركتها وكلي شوق للمستقبل القريب الذي نرجع فيه لنعيش معًا دائمًا. وبقيت تعاودني ذكراها، وأشعر معها بعذوبة وهناء يسريان إلى أعماق قلبي. ولما بلغت السادسة عشرة من عمري ابتدأت أحس بغير هذا الإحساس القديم نحوها، وازداد شوقي لها، وقضيت الليالي الطوال يصحبني خيالها. في هاته الأيام قابلتني فتاة ريفية أظن سيدي الشيخ يعافيني من ذكر اسمها أو أى شيء عن شخصها.

– نعم، نعم.

– قابلتني، فأخذ بعيني جمالها، وبهرني منها عيون نجل، وخدود متوردة في لون قمحي جذاب، وجسم خصب، وقوام غض، وخصر دقيق، وبنان رخص، ومنطق عذب، ونظرات تسيل لها النفس. لكن هيهات لفتاة أيُّا تكن أن تصل لفؤاد مقفل كفؤادي يومئذ حين كنت لا أعرف إلا الفضيلة المجردة. غير أني كنت أشعر بقلق كلما طالت غيبتي عنها، وأحس بدافع لا قبل لي في دفعه يجعلني أذهب إلى المزرعة التي تكون فيها، وأن أساعدها في عملها، ثم أن أرجع معها جنبًا لجنب نتحدث في كل شيء وفي لا شيء. وجاء اليوم الذي زُوِّجت فيه هذه الفتاة والذي عاهدت نفسي فيه أن أنساها إلى الأبد إذ مادامت لغيري فمن الغدر الذي لا يليق بي أن أفكر فيها مجرد تفكير. ورجعت بذلك لابنة عمي التي وعدت، وجعلت أتخيل لها كل شيء حسن، وتبادلت معها كلمات قليلة. ولكنها انتهت هي الأخرى بأن تزوّجت فعراني لذلك حزن عظيم. ثم سرعان ما سقطت عن كتفي أحماله حتي لقد عرتني الغرابة كيف يمكن أن يكون ذلك شأني. ورحت بعدها في شيء من عدم الإهتمام بكل ما حولي أو الأسف على كل شيء حصل أو التفكير فيما سيكون. ولكن ذلك على ما كان من لذته لم يستمر طويلًا بل غادرني وأسلمني بعده إلى نوبة فظيعة هي التي دفعتني إليك. نوبة أحسست معها بالحاجة المطلقة أن أملك هاته الفتاة الريفية رغمًا عن أنها متزوجة، ورغمًا عن كل ما سيقوله أو يتقوله الناس عنا. لكن الله سلم، واستطعت أن أملك نفسي في الساعة التي كنت سأضيع فيها.

– نعم …

– وهأنذا قد قصصت عليك كل شيء وأريد أن آخذ عليك عهدًا.

– نعم …

وهنا سكت حامد فمدَّ له الشيخ يده واستتلاه من بعده الكلمات التي يصبح معها عمه. ثم ودّعه حامد وكله سرور والاقتناع بأن سيجيء له ذلك بالخير الجمّ. ودخل توًّا غرفته، وجلس أمام النافذة، وعلى ثغره ابتسامة من أطلق سراح آلامه، وبقي زمنًا لا يفكر في شيء ولا يسأل عن شيء.

ولكن ما كاد يتقلص ظل النهار حتى راجع حامدًا كلُّ الألم الذي كان عنده، وفوقه ألم جديد أنه اعترف بها لمن لا يفهمها، ومن لا يجيبه عنها إلا بكلمة «نعم»، ولا يقدر له على شيء. ثم أليس عارًا أن يتعهد لإنسان مثل هذا الأبله بأن يعمل خيرًا؟ أوَ لم يدسّ في ذلك شرف نفسه وضميره؟! أفّ لهذا الرجل الأبكم الكذاب!.. وبلغ به الحنق ضد الشيخ مسعود، فلو أنه كان واقفًا أمامه لهان عليه أن يقتله، ولكنه رجع فهدأ من حدته وعاد باللائمة على نفسه.

أصاب حامدًا ما أصابه، واعتراه من الهمّ ما ضاق به صدره. ومع ذلك فقلبه لا يزال شابًّا، ويريد القلب الذي يضمّه إليه، وشفتاه المتقدتان بنار الحب تبحثان في الهواء عن الشفتين وعن الخد وعن الصدغ الذي يقبلان.. ورغمًا عن موت الأشياء الذي يجيء به الخريف، فإن الشمس النازلة وما تبعث به على السماء من لونها الوردى البديع جعلت حامدًا يبحث عن قبلات الحب وعناقه. وإذا كان رأسه كله ملآن بالأسف على الماضي وحب التكفير عن ذنوبه فإن إحساساته كلها تتقد تريد المحبوب الذي يقدم لها سعادتها. وحيث يقتتل الإحساس والتفكير يكون النصر لأيهما ساعدته الطبيعة.

جاء الليل ينشر خيمته رويدًا رويدًا فوق النهار، فيصيب الأشياء كلها بظلمته، ويبعث للناس بساعة المغرب اللذيذة ونسيمها. فخرج حامد من مخبئه وهو حيران لا يدري ماذا يصنع، ولا أي طريق من طرق الحياة يسلك!

وبعد ذلك بأيام ترك قريته الصغيرة المحبوبة إلى العاصمة الكبيرة، وعنده أمل أن يجد في هذا التغيير ما يريح باله، ويهدأ معه ضميره، ويدخل إلى حياة طيبة ساكنة.

٢

بعد شهر من سفر حامد إلى القاهرة رجع إخوته يومًا إلى الدار فلم يجدوه، وانتظروا عسى أن يحضر للعشاء فلم يحضر، ومضى الليل واليوم الثاني على غير جدوى. فعلاهم القلق، وأرسلوا إلى أبيهم يخبرونه الخبر، فأسرع إليهم، واستفسرهم عن أمر أخيهم، ولكنهم لا يعلمون من أمره شيئًا، فدقّ الرجل يدًا بيد، ودخل غرفة ابنه وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وجلس مكتئبًا حزينًا يندب الحظ المنكود الذي اختطف منه أعزّ أبنائه.. ياترى أين هو اليوم؟ انتحر؟ ولكن لماذا؟ لا سبب يدعوه للانتحار! وكيف يترك إخوته وأهله من غير كلمة ولغير شيء؟..

وأظلمت الدنيا في وجه هذا الأب، وفاضت بالحزن نفسه. وتلفت فإذا عن يمينه صورة ولده تنظر إليه بعين مطمئنة ساكنة، ولا يروعها هلعه ولا يؤثر فيها أساه. فقام نحوها ووقف يحدق إليها، ثم لم يتمالك نفسه أن أخذها من مكانها وقبلها وضمها لصدره، ثم سقط باكيًا على مقعد إلى جانبه.

لكن الحزن والبكاء لا يجديان، ولا بد أن يبحث عن حامد، فإما وجده حيًا أو ميتًا. وقبل أن يخبر أي إنسان بالأمر جعل يفتش في أوراق ولده فإذا بينها غلاف مكتوب عليه:

إلى والدى المحترم

فلم يكن بأسرع من أن فضه وقرأه فإذا فيه:

إلى أبي وأمي. إلى إخوتي وأهلي

من أيام مضت كشفت عن نفسي لشيخ سوء من مشايخ الطرق، اعتقدت أن أجد فيما يدّعيه من القدسية ما يريح ضميري فلم أزد إلا عناء وألمًا. وهأنذا أفتح قلبي لكم لأنكم الذين أحب، وحتي تعذروا بائسًا أضنته الفكرة فخرج هائمًا على وجهه لا يعرف سبيله، وقد ترونه بعد اليوم وقد تكون هذه الكلمة آخر أثر عندكم عنه.

من سنتين مضتا أحسست كأن صوتًا دائبًا في قلبي يحدّثني عن الحب ولذته، ويصوّر لي جَنَّته اليانعة وطيورها المغردة، ولا يكاد يجد فرصة يبين لي عن جمال المرأة والسعادة التي تمسك بيدها إلا خاطبني بلسان عذب فصيح يملك عليَّ قواي، وأظهر لي أن حياة لا حبَّ فيها حياة باهتة لا قيمة لها. فشرد لبي يبحث عن الملاك الذي عنده سعادتي؛ وحلَّقت آمالي في الجو علها تجد المحبوب الذي يكنّ بين جوانحه سر الهناء ومعنى الوجود، ولكن ما كانت عيني تقع إلا على بلقع خربة متنائية الأطراف أحار فيها، ثم أرجع بخفي حنين. وأخيرًا في ركن منها هناك لا تصل إليه الشمس ولا الهواء رأيت كأن فتاة واقفة حيرى هي الأخرى لا تدري لنفسها سبيلًا في الصحراء الهائلة أمامها، فترفع طرفها نحوي أحيانًا وكلها الحياء والخجل. ثم حدقت إليها أتثبتها فإذا هي ابنة عم لي قذف بها القضاء الذي قذف بي في بيداء الحياة، وتبحث من ركنها عمن تهبه روحها وقلبها. فلما عرفتها قلت: وحيدان يؤنس كل منهما صاحبه. لكن هيهات! وأنا محلق في الجو وهي مختبئة في كنّها. غير أني قنعت من بحثي بما وصلت إليه، وكنت كلما رحت إلى عالم الخيال نضدت لها معي فيه آمال الهناء ومددت لها بسط السعادة.

وبينما أنا في بلدنا الصغير بين العمال والعاملات قابلتني ريفية منهن كأنما أرسلت بها السماء في وقت صفوها إلى الأرض رسول الحب. وهل رأيت في حياتي كعينيها تقوس فوقهما حاجبان أشد نفاذًا من السهم. وعلى صدرها ثديان يوحيان رغمًا عن الثوب الذي يسترهما بكل ما تكنّه فتاة في ثدييها من الشباب والرغبة، وخصر رقيق فوق أرداف تزين عبل ساقيها، ومع ذلك نظرات تشف عن قلب طاهر مليء حبًا. فأخذ بعينى جمالها، وودت أن أجدها لجانبي كل ساعة. بل وددت أن آخذها لنفسي، وأن أجعلها موضع سرورى. وبقي إعجابي بها يزداد يومًا عن يوم، فبدل أن كنت أذهب للمزارع بطريق المصادفة أحسست بعدها كأن شيئًا يدفعني نحوها وإلى حيث توجد تلك الفتاة.

كنت أجدها في عملها ساعة أصل، فأذهب فأقف إلى جانبها بعد أن أهدي الآخرين تحيتي. وكانوا في هذه الأيام ينقلون طوبًا أخضر من مفارشه فيضعونه فوق بعضه. واتخذوا لذلك وسيلة سهلة أن يقف شخصان أو ثلاثة مابين المفرش والطوب المكوم ويقذف جار المفرش القالب ليلقفه من بعده ومن بعده حتى يصل إلى مكانه سالمًا، فكان من أكبر سروري أن أقف بعدها لألقف القالب الذي تقذف، وأن أبقى كذلك حتى ينتهي النهار أو حتى يكدّني التعب. ولم أدر السبب الذي كنت أحب من أجله هذا العمل: ألأن يدها لامست هذا القالب يصبح عزيزًا إلىّ ومحببًا عندي؟ أم لأنها أخذته إلى صدرها ساعة رفعته فأودعت فيه من حرارة جسمها ما يصل إليّ، وأجد من اللذة أن أضمه أنا الآخر إلى صدري؟ أم لسبب غير هذين؟ لا أعلم. إلا أن هذا الإحساس الذي أحسست به لابنة عمي، وكنت أسميه الحب، لم يكن يجول في صدري لهذه الفتاة، وكان منتهى ما أريد منها إلى جانبي فأمسك بيدها أو أقبلها أو أضمها لصدري. وإذا ما رجعت إلى البلد واختلطت بإخوتي وأهلي نسيت ذلك ونسيت كل شيء من مثله.

ثم جاءت الأيام بابنة عمي، فأنساني مجيئها المزارع والعاملات، وبقيت أحتال لأجد ساعة أكون أنا وإياها وحيدين، فلم تسمح لي بذلك فرصة، وبقيت أقضي وقتي بين جنات الأمل ونيران اليأس منتظرًا من غير جدوى.

كان أكبر أمانيّ من يوم فكرت في الحب ومن ساعة عثرت على ابنة عمي أن أتزوج بها. فجعلت في أوقات فراغي أنضد الآمال لحياتنا المقبلة، وأخلق من أحلامي عالمًا أرتب فيه سعادتنا. وكنت أحسب هذا الزواج أمرًا مقضيًا، لأني وعدت أن أزوَّج هاته البنيّة وأنا لا أزال صغيرًا.

وكان لذلك من الأثر علّي أن كنت أعاملها وهي طفلة بحنان وعطف زائدين.. فلما رأيتها ورأيت إخفاقي في أن أجد الفرصة لأحادثها منفردين أتى لنفسي ضيق شديد، وصرت أشد حنقًا على الجمعية وعاداتها ممن ذاقوا ألم عقوباتها. فرفضت كل ما وضعت، ونفيت كل ما أثبتت، وجعلت فكرة الزواج التي يتباهى بها الخلف عن سلفهم ويدعونها أحسن ما أظهرت على الأرض عقول بني آدم موضع النقد المر. (ولا أنكر إلى اليوم أني أعدّها نقصًا، خصوصًا على ما هي عليه، وأعدّ الزواج الذي لم يُبْنَ على الحب ويستمر مع الحب زواجًا خسيسًا).

مرت الأيام وأنا أتقلب على مهاد أليم من أفكار سوداء وأحلام فظيعة. ثم جاء النسيان على كل شيء، وهل في الوجود شيء لا يجيء عليه النسيان؟!

أقبل الربيع يحيي القلوب ويبعث الشباب إلى كل موجود، فنبه قلبي من غفلته. وذكرت ريفيتي التي تزوجت أيام الشتاء فتمنّيت لها الهناء. ثم راجعني ذكر ابنة عمي واستولى على نفسي وكل حواسي، وصرت لا أعرف غيرها ولا أحب إلا هي ولا مطمع لي إلا أن تكون معي، ففكرت بعد عام مضى على آمالي الأولى أن أقابلها. وتبادلنا كلمات جاءت بعدها الساعة التي نرجو، ولكنها كانت أشد الساعات صمتًا في جوف الليل الأخرس.

وتزوجت ابنة عمي هي الأخرى، وأرسلت لي ورقة تودّعني بها، فعراني حزن كبير، ثم ما أسرع أن استولت صاحبتي الفلاحة على فؤادي، وأخذت بمجامع قلبي، ومازجت كل نفسي، وكادت تخرجني عن صوابي، وصممت أن أراها وآخذها لصدري وأعانقها وأقبلها، وأفعل كل الجِنّات التي يفعلها محبّ واله.

ولكن شيئًا من ذلك لم يكن. قابلتها وذكّرتها القديم. فكفى ليبعدني عنها أن ذكرتني هي أنها متزوجة.

أحسست بعد هذه المقابلة الأخيرة مع فتاتي وجوابها لي أنها متزوجة، بشيء من الألم يعمل في قلبي وينوء به صدري. ألم شديد لم أقدر على تكييفه ولا على فهم سببه. وأوقعني هذا الألم في حزن أسود قلب علىّ الخير شرًّا، والسعادة بؤسًّا، والأمل يأسًّا. ولو أني وجدت في تلك اللحظة أحضانًا مفتوحة ألجأ إليها وأحتمي بها لفعلت. لكني لم أجد عزاء إلا في نفسي، وأنا أكتم ما يداخلني من الهم عن كل الناس مهما كلفني هذا من مضاعفة ألمي وزيادة شقائي. غير أن الساعات كانت تزيد همي وتجعلني أشد إحساسًا به من لحظة للحظة. فلما نفد صبرى وحلك ما أمامي ولم يبقَ سبيل لرؤية شعاع من نور الأمل يخرق هذه الظلمات بدأت أيأس من الحياة.

جاء إلى بلدنا الشيخ مسعود، شيخ الطريق، بعد مقابلتي الفتاة، وأنا أقطّع نفسي همًّا وأسفًّا، ونصب مجلس ذكره، وجلست أرقب هؤلاء الناس الكثيرين اللذين يصيحون في جوف الليل ينادون ربّهم تضرعًّا وخشية. فراق في عيني منظرهم وقلت في سري: لئن كان هذا الرجل يخفف الهموم لأكونن أول تابع له. ولم أتمهل أن قابلته بعد الظهر وكلمته، وأخبرته بمجمل من حالي فأقرأني بعده الكلمات التي يقرؤها كل من يأخذ عليه عهدًا، وخرجت من عنده مسرورًا. ولكن لم تكد تطوح شمس النهار حتى ضاعف هذا العمل بقية آلامي علّى وأحياها، لأني أحسست بالجناية التي ارتكبت.. وبعد أيام جئت هنا إلى العاصمة.

من يومها وأنا أفكر في حالي والحوادث التي وقعت لي في حبي، وانتهى تفكيري وحوادث جديدة حصلت بأن أغادر إخوتي وأهلي محملًا بالألم لفراقهم وبالشفقة عليهم ساعة لا يجدونني.. من أجل هذا كتبت كلمتي هذه لك يا سيدي الوالد علك تجد فيها عزاء. ولأقوم إلى النهاية بوظيفتي فإني ذاكر حالي الفكرية والحوادث التي جرت في هذه المدة الأخيرة التي انتجت هجرتي إلى حيث لا أعلم.

تركت البلد إلى العاصمة وأنا حامل همومًا يعلم الله شدة وقعها، فكنت أجاهد طول النهار لأجد من العمل ما ينسيني كل ما سوى العمل. ولكن ما إن يشتملني الليل حتى يجد الذكر سبيله إلى نفسي، وأرى أمامي عالمًا كبيرًا من دولة الماضي مرسومًا كله بعضه مع بعض من غير ترتيب في الزمان. وكان هذا الذاكر نتيجة ما أوقعني فيه الحب من اليأس، وما جائتني به حالي الجديدة من اللوعة. وليقدر أي انسان مقدار ما يخالط نفس شاب من سني حين يجد أنه أسقط في يده في كل ما أراد، سواء في ابنة عمه أو العاملة الفلاحة أو كل ما يسلي القلب ويزيل الغمة، ليقدر كم تكون حال هذا الشاب التعس! وعلى أي شوك تتقلب نفسه؟!.. غير أن آخر الهم المبرح إن لم يقتلنا فهو حريٌّ أن يردَّ إلينا شيئًا من صوابنا ويدع لنا بعض الحرية في التفكير، فأعملت ذهني قصد أن اقف على دقائق حبي وإخفاقي فيه.

وأول ما سألت نفسي: لمَ احببت ابنة عمي؟ إنني عرفتها في صغرها، وكنا معًا طول وقتنا، ثم افترقنا للمرة الأخيرة حين قُدِّر عليها أن تلبس السواد. ثم بعد ذلك وفي لحظة لم نكن فيها معًا ولا جاءت مناسبة خاصة، إذا بي أحببتها. أذلك لما توحي الذكرى الناعمة، ذكرى الطفولة من رقيق المعنى وعذب الأثر؟ أم أني قدرت لها من الجمال أن تكون بحيث أحبها حبًّا يجعل خيالها شريكي الدائم؟ أم أن ذلك لما كان يكرر أمامي وأنا صغير من أني سأتزوجها؟!.. لا يمكنني أن أجزم لأي هذه الأسباب أحببتها، وقد يكون لكل منها في ذلك الحب أثر.

ولكن الذي لاحظته أني بعد الشهور الأولى نسيتها كل النسيان، فلم يكن يراجعني حبها إلا عند حدوث حادثة معينة كأن تذكر أمامي، أو أن تأتي أيام الصيف إلى القرية.. وما أظن أن قلبًا سريع التأثر والتقلب إلى هذا الحد يكون قد بلغ منه الحب مبلغًا عظيمًا. بل إني أشك الآن كل الشك فيما لو كان لقلبي دخل في هذه المسألة، وأحسب ذلك مجرد خيال كان يجيئني لأني كنت محتاجًا إليه.. ولكن.. أليس الحب في ذاته خيالا يجعلنا نتصور امرأة بشكل نعتقده الجمال كله، ونود لو تكون لنا، ونعيش سعيدين معًا؟ وذلك كل الذي كنت أتمنى أن أصل إليه من ابنة عمي فلمَ لا يكون حبًّا؟ ولكن! لو أنه كان حبًّا حقيقيًّا ومتينًا فلمَ انحلت عراه اليوم، وأصبحت لا أحس معه بشيء؟! أم الأمر على غير هذا، وأني كنت مسوقًا بدافع من دوافع الطبيعة إلى جهة المرأة التي تستطيع معي أن تخلّد النوع وتحسّنه؟ وكانت تلك المرأة في تلك الساعة هي ابنة عمي! وإذا كنت قد تغيرت اليوم فلأني لم أعد أصلح للقيام معها بهذه الوظيفة الطبيعية من تخليد النوع وتحسينه؟.

وردت هذه الأفكار إلى نفسي ولم أستطع معها أن أجيب بشيء عن سؤالي: لمَ احببت ابنة عمي؟ فانتقلت أريد أن أعلم اى شيء كان ذلك الإحساس الذي شعرت به نحو الفلاحة الجميلة التي أخذت بناظري، وملكت جوارحي، فجعلتني أهاجر إلى حيث تقيم، لأمتع النفس بمشاهدتها والحديث معها، ومصاحبتها ساعة رجوعها إلى الدار. ليت شعري! هل كان ذلك هو الآخر حبًّا مني لها؟ أو أنها صيحة الجيل المقبل في أحشاء جيلنا الحاضر يريد أن يخرج إلى الوجود؟ لو كان حبًّا لما نسيتها ونسيت المزارع التي هي فيها لمجرد حضور ابنة عمي إلى البلد. وإن كان الجيل المقبل ودافع الطبيعة لتخليد النوع هو الذي دفعني نحوها، فإني لم أشعر يومًا بالحاجة ولا بالرغبة في أن تكون لي معها علائق تناسلية مطلقًا كلا! بل أنا لا أشعر به اليوم.. وإنما كان غرضي أن أحادثها أو أنفرد بها أو أقبلها، وأن أجد من جانبها ما يقابل العطف الذي أحس به عندي لها.. إذن ماذا؟!

عرتني هنا كذلك حيرة كالأولى، ولم أستطع أن أفهم ما كان في نفسي لواحدة من هاتين الفتاتين.. وبعد زمن بقيته مستسلمًا لآلامي جائتني فكرة ارتعدت لها، فشعرت أولًا كأني أستجمع قواي لأمر ذي بال وأهيء نفسي لعمل خطير.. ولا أرى بدًّا من أن أذكر هنا مقدار مراجعتي لنفسي حين شعرت منها بالتصميم على الإقدام مراجعة تبلغ أقصى درجات التخوف والحذر.. وبعد أن ثبت منها ومن يقينها بما ستقول تركت لها العنان لتذهب من جديد في تفكيرها وأحلامها.

نعم كانت كل غايتي أن أحادث تلك العاملة وأكون معها وحيدين، أو أن أقبلها. ولكن لمَ كل هذا؟ وأية نتيجة بعده كنت أبغي؟ أليس أن أبلغ أكثر من هذا فأقع في أحبولة الطبيعة، وأصل بخداع نفسي ومراوغتها إلى تخليد النوع وتحسينه؟! نعم، هو هذا. إنها فتاة بديعة الخلق والتكوين، قوية الجسم يفوح منها شذا الشباب؛ فالابن الذي ينتج من بيننا لا بد أن يجمع هذه الصفات ويضيف إليها غيرها ويرقى بالجمعية الإنسانية درجة في سلم التقدم.

هنا جاءتني الرعشة وشعرت كأن كل وجودي يصرخ في وجه عقلي يريد أن يقف عند حدوده: كفى من هذه الفلسفة التي يقذفنا بها مفكرو الإفرنج والألمان، ولنبق عند ما خلفه لنا آباؤنا لنسير فيه بالخطى المتمهلة التي نضمن معها ثباته. هل تريد أن أخرق سياج القانون والعادة وأستمع لهوى نفسي وأتبع في الحياة العملية ما توحي به النظريات، والأولى مرتبة من قبل متبعة والثانية لا تزال في حيز الفكر؟!

رغمًا من هذه الصيحة فإن عقلي انتصر على اعتقاداتي التي كسبت من التربية والوسط، وراح يفكر حرًّا مطلقًا ضاحكًا من الأشياء التي تعوقه ضحكة جمعت ما بين الإغضاء عنها وعدم العناية بها ومرارة الأسف عليها والأسى من أجل ما فيها من فساد، واستمر في طريقه غير هياب ولا وجل.

وفي الوقت عينه استلفته إلى مسألة كان فكر فيها قديمًا — مسألة الزواج والعائلة — ولم يقف لها على حل أن غطى عليه إحساسي المتأَثر يومئذ ضد ظلامات الجمعية. فبدأ اليوم يريد حلها بعيدًا عما يهيجه أو يفسد عليه عمله.

والواقع أن هاته المسألة شغلتني طويلًا أي من أيام جاءني الشباب وبدأت أفكر فيمن أحب. وكان من أشد ما ساعد هذا التفكير الوسط الذي عشت فيه، والذي يرى كل صلة بين الرجل والمرأة فيما عدا الزواج أو ما ينتج الزواج صلة خسيسةً سافلة. لتكن أيًّا ما تكون! لتكن حبًّا طاهرًا أو مجرد صداقة أو إعجابًا، فهي مادامت خارجة عن دائرة الزواج وما يستتبعه مقرونة بفكرة سيئة من الناس.

ساعدني ذلك الوسط لأن فساده ظاهر، من السهل اكتشافه خصوصًا إذا كان الناظر فيه مثلي يومئذ من جماعة الذين يحتقرون الصلات التناسلية بين الرجل والمرأة، ويعدون كل ما خرج عن سرور القلب ولذة الروح من حب طاهر أو قبلات متبادلة، تدلّ علي عظيم صلة ما بين شخصين تدنيا إلى الحيوانية. وإجرامًا ضد الأبرياء الذين ننزلهم من أجل قضاء شهواتنا من أوج سعادتهم وسرورهم. فقلت حينذاك: إنما يجري الناس وراء الزواج لقضاء مطامعهم الشهوانية الصرفة.

أما هذه المرة الأخيرة فكان تفكيري غير هذا حيث أخرجته من أن يكون نظريًّا صرفًا ليطابق العالم الخارجي ويسير فيه.

الكون عجلة تدور لا ندري أين أولها. وكل نقطة في المحيط ليست إلا جزءًا تكميليًّا في هذه العجلة. كذلك ليس الجيل الحاضر إلا تكميليًّا في محيط الكون الأزلي الخالد لا نعرف متى ابتدأ ولا نتصور كيف ينتهي. من أجل الوصول إلى هذا الخلود ركبت في طبيعة الإنسان، كما ركبت في طبيعة كل حيوان آخر، بل في أصل كل موجود، عملية التوالد. ودفعته لها القدرة القاهرة السائر على نظامها كوننا. من أجل هذا رتبها الناس على الشكل الذي يحفظون به مصلحتهم الشخصية، كما أنهم يقدمون به للطبيعة غرضها الأول من تخليد النوع. وأحسب العائلة كانت في الأيام القديمة أكثر قيامًا بواجبها نحو الفرد ونحو المجموع مما هي اليوم. إذ أن العبودية السائدة يومئذ كانت تسمح للشخص العظيم ذي الجاه، والذي كان بطبيعة تلك الأيام من الأشداء في الحرب والقوة البدنية، وبالتالي من القديرين على إخراج أفراد أقوياء للجمعية، أن يشتري من الموالي من تعجبه. وإذا كان هذا الشكل من التشريع لا يساعد على نماء الحب المتين المتبادل بين رجل وامرأة فإنه كان يسدّ حاجة الأغلبية ذات الحب المتنقل. ولولا ما بهذه الطريقة من الخسف بحق المرأة لقلت إنها أقرب الطرق للطبيعة وللحق في آن واحد. أما اليوم — مع ما يدّعي الناس من الإصلاح — فليست الحالة أقل بلاء إن لم تكن أشد ضررًا، شاب يزوج من فتاة لا يعرفها ولا تعرفه ليعيشا معًا طول الحياة.

ولما وصلت بتفكيري إلى هنا انحلت أمامي المسألة الأولى، مسألة حبي لابنة عمي. أنا مسوق بفطرتي للحب من أجل أن أسعد نفسي إن كان في الحياة سعادة، ولأن أخلد النوع بما أتركه من الخلف، كما أن الطبيعة تعمل جهدها لتجعلني أقع على من تستطيع بإجتماعها بي أن تكون معي أم أحسن أولاد تقدم للجمعية. وكل ركن من هذه الأركان قائم بنفسه مستقل بذاته. وأنا أميل دائمًا لمن تجتمع فيها شروط أكثر من غيرها، فإذا لم أحصل على من جمعت ثلاثة هذه الأركان لجأت إلى من كان عندها الأولان. ولذا ترى الشخص أول ما يطلب من الفتاة أن تكون مقبولة الطعم عنده، ثم أن تكون ولودًا وذات نتاج حسن. فإن لم يكن هناك موضع للاختيار وقعت النفس على أول من تجد من الأشخاص الذين يقفون معها على سلم واحد من طبقات الجمعية. وذلك لأن ما أصبح بين الطبقات من الفروق صار فظيعًا لدرجة أن يعدّ الكثيرون من دونهم من جنس أحط، ومن فوقهم من جنس أرقى. هذه كانت حالتي في اختيار ابنة عمي.

صحيح أنني إلى يوم اخترتها لم أكن خالطت من دوني من الطبقات، ولا كلفت نفسي مخالطة من يحسبون أعلى مني. ولكني أقر اليوم، وأنا خجل من إقراري، بأني — بالرغم من كل ما وجدته في الوسط الذي أنا منه من العيوب الكثيرة — لا أزال أنظر للطبقات التي ظلمنا نظرة تعاظم فارغ. وإذا كنت قد رأيت من بين الفلاحين من أعجبني شكله وحديثه وخفة نفسه، ومن الفلاحات من هن أفضل بلا شك جمالًا وعقلًا وأدبًا من أكثر فتيات الطبقات الأخرى، فإني اليوم أحس بأن بين الطبقات المختلفة فواصل صعبة الاجتياز (اللهم إلا إذا أردنا أن نتخذ من هذه الطبقات محلًا للهونا. هناك نلتصق جسمًا ونكون وإياهم على مستوى واحد فيما نعمل، ثم نحن مع هذا وفي هذه اللحظة نحتقرهم دائمًا).

وقع اختياري على ابنة عمي، لأنها من بين من أعرف أصلح من تستطيع أن تجلب لي السعادة، وأن تقوم معي بوفاء غرض الطبيعة. ثم عرفت تلك الفلاحة التي أعجبتني، وحملت نفسي من أجلها عناء، فنازعت الأولى مركزها، وأصبحت هي أقرب للذكر منها إلا إذا ألجأني الوسط إلى أن أرجع إلى فكرة الزواج.

هنا بدأت أفهم شيئًا من ماهية الصلة التي كانت تربطني بصاحبتي الفلاحة، أنا لم أكن مسوقًا نحوها بدافع طلب الاقتران بها والمعيشة معها ولكن بدوافع أخرى: أولها الإعجاب بها وذلك هو الذي كان يسوقني نحوها ولمجاراتها، وحب التمتع بالنظر إليها أطول زمن ممكن، فكنت في ذلك أعدها تمثالًا حيًّا محكم الصنع. وإذا كنت قد أعجبت بصورة لأنها جميلة، وحرصت على أن أراها أكثر ما يمكن فلا بدع إذا بلغ بي الإعجاب بفتاة أن يدفعني نحوها كل هذا الطريق الذي كنت أقطع بين القرية والمزرعة.

والثاني لذتي الشخصية في أن أنال منها قبلة أو أضمها لصدري، والسعادة الوقتية التي أجد في استسلامها لي، والسرور الذي يجيئني به أن أرى الدم يصعد إلى خدودها وعيونها المستعطفة العذبة النظرات، وشفاهها المرتعشة كأنها تهمهم بشيء لا تجد القوة كي تقوله علنًا. أما ثالث هذه الدوافع فأحسبه إتمام غرض الطبيعة من تخليد النوع، حقًّا إنني لم أفكر في شيء من هذا مطلقًا، ولكن سبب ذلك أني جعلت الفكرة فيه مقرونة عندي بفكرة الزواج. ولما كانت الطبيعة لا تهتم بكل هاته الوسائل التي أقمنا لحفظ كيان العائلة والجمعية كما يقال، بل هي تهزأ بها، أرادت أن تعمي علىّ فتدفعني لكل المقدمات وتجعلني أجد فيها ما يحرضني عليها ثم هي توقعني حتمًا في شباكها، وتبتز مني ومن هاته الفتاة الابن الذي تريد أن يكون الجيل المقبل.

في هاته الساعات التي كنت أقترب فيها من صاحبتي كان يقتتل في داخلي عاملان من غير أن أحس بقتالهما: الطبيعة وأغراضها، والوسط وما يوحي به من الأنانية. وبرغم أن الطبيعة سارت في طريقها إلى حدّ شاسع فإنها لم تبلغ النتيجة التي كانت تطلب، لأني لم أتزوج الفتاة حتى أكون انسكبت في القالب الذي يريده الوسط، ولا أنا أرخيت لنفسي العنان خشية أن يمس ذلك أنانيتي بسوء.

بعد أن وصلت إلى هذا الحد من التفكير تجلى أمامي أنه لا ابنة عمي ولا صاحبتي الفلاحة كانت تنفع زوجة أو محبوبة لي… وإن تكن الثانية أحق من الأولى، لأنها حازت إعجابي، وكانت موضع اختياري. ولذا يجب أن أبحث عن غيرهما.

من حين خطر في فكري أن أبحث عن غيرهما بدأت أفكر في الانفراد بنفسي وترك الناس والتجوال حتى أقع على بغيتي، ولكني لم أتم ذلك إلا بعد عناء أيامي الفائتة. إذ رأيت كأن وجودي كله يصرخ: لمَ تبحث عن زوج؟ أولا تجد فيمن أعجبتك الرفيقة التي تسعدك وتسعد الجنس بأبناء أقوياء أصحاء… ولكني شعرت في اللحظة عينها بما في تلك الصيحة من معنى الاستهزاء بالزواج الذي تقدس على الزمان. كيف يصح وفي أي شرع يسوغ لي أن ارافق فتاة لم أتعاقد معها على الزواج، ولا نحن أمضينا صيغة العقد أمام المأذون؟ أليس في ذلك هدم العائلة والقضاء على شرف هذه الصلة؟

هدم العائلة! وما العائلة؟ وما معناها؟ ألا أستطيع أن أتزوج اليوم وأطلق بعد شهر، ثم أتزوج أخرى وأخرى، ويولد لي من جميع زوجاتي أولاد؟ فما هي العائلة التي بنيت والتي يخشى أن تهدم؟ كما أني لو شئت أن أقيم عائلة فليس بضائري شيئًا أن تكون شريكتي في إقامتها فلاحة عاملة، وإذا كانت الفلاحة وغيرها كلهن متساويات في الجهالة فالعائلة التي تقوم على أساس حسن من الحب لا شك هي أحسن من غيرها. كما أنه متى خرجت المرأة من دار أبيها إلى دار زوجها أصبحت امرأة فلان تعلو بعلوه، وينالها من العظمة ما يناله. تكون هي معه شيئًا واحدًا يصيبه مايصيب النصف الآخر.

لكل ذلك أرى أنه لم يكن من عيب عليّ أن أتزوج بالفلاحة التي أعجبتني! ولكني لم أتزوج بها، وتزوج بها غيري ورأيت أنا من الأمانة أن أذرها من فكري، وحافظت هي الأخرى على عهدها لزوجها بأحسن ما تحافظ به زوجة.

واليوم ماذا عساني أعمل؟ ها أنا حرمت من ابنة عمي ومن الأخرى، ولم يبق لي منهما نصيب، فماذا عسى أن أعمل؟ هذا هو السؤال الذي سألته نفسي بعد تفكير طويل لم ينتج كثيرًا …

.. ماذا أعمل؟ رباه! إنك تعلم ما بنفسي من الألم، لأني أعتقد أن حياة لا يخالطها الحب من أولها إلى آخرها حياة ضائعة. فإذا هي فقدت هاته العاطفة في الشباب أيام الربيع حيث القلب متقد والوجود أمامنا ناضر فهل نستعيض عنها شيئًا بعد؟

اللهم هداك وسط هاته الظلمات الحالكة التي تحيط بي! لم يبق من سبيل للمقام مع أهلي الذين أعز. ويلاه! ويلاه!! يجب من أجل أن أعثر على المحبوب أن أذر ورائي كل شيء وأهيم حتى أجده. وبذلك يمكنني أن أعيش سعيدًا.

إنني أحب أبوي وأهلي، ولكن أخشى أن يكون بقائي بينهم — بعد الخوالج التي أراها قائمة بنفسي وذلك التقزز من الحياة الذي أصابني — همًّا في هم وحزنًّا لي ولهم، فخير أن أنزع إلى الوحدة فإما بلغت غايتي ووجدت المحبوب الذي يسعدني وأرجع به يومًا ما بين يدي لنعيش جميعًا مع أبي وأمي، وإما لم أجده فأرفض الحياة رفض النواة غير آسف عليها، لأن الحياة التي لا تحوي السعادة لشخصينا أولى بها أن ترفض.

أنا عليم بصعوبة العمل الذي أخذت على عاتقي، ولكني إنما احتملته بعد أن سئمت العيش ورغبت عنه. بل لم يكن تصميمي هذا إلا تخفبفًا من حكم هو أشد وقعًا وأقسى على نفس كل من يحبني.

وهنا أودعك والدي وأودع أمي وإخوتي وأهلي. وكل ما أطلب إليهم ألا يصيبهم جزع من أجلي، فإن الحياة أقصر من أن نقضيها في آلام وأحزان. ولكم جميعًا الاعتراف بسابغ فضلكم على. والسلام.

حامد

•••

لم يكد السيد محمود يتم قراءة هذا الخطاب حتى عراه الذهول، وحدق إلى ما حوله مبهوتًا لا يفهم شيئًا. وشمس العصر الضعيفة في هذه الأيام يتلألأ نورها على حافات النوافذ وتنساب بعض أشعتها على أرض الغرفة، وكلما هبطت من علوها زادت أشعتها امتدادًا، واندلع بعضها إلى المكتبة كأنها تشير للأب اليائس إلى غريمه، وتخبره عن سبب أسى ولده. إنه قد صرف همه إلى قراءة أشعار العشاق فأخذت بنفسه رقتها، ورشقت قلبه عذوبتها، فأصابت منه الفؤاد، وأدمت الجوارح، واحتلت النفس وتمكنت من كل وجوده. ثم تأثر قصصهم وأخبارهم، ومن يموت منهم إلى جوار محبوبته، ومن يموت من أجلها، فتجلى أمامه سخف الحياة الباهتة القليلة القيمة التي يقضيها الكثيرون وهمهم منها كفاية بطنهم وسدّ مطامعهم المادية، وتجلّى له جمال تلك الحياة العاشقة تقضى بين الخيالات والأحلام وإلى جوار المحبوب الذي يملك بيده سعادتنا. ولكن الأب منصرف بهمومه عن الشمس وعن المكتبة، يطرق ساعة، ويرمي بنظره إلى السماء أخرى، ينتظر أن يفتح الله عليه بأمر أو يرد إليه ولده. وبقي في مقامه حتى ولَّى النهار، واحتل الليل أرجاء السماوات والأرض، وجاء أولاده الذين تأخروا في المدرسة يتفرجون على لعب الكرة، ونادوا بالعشاء فجلس السيد محمود من بينهم مشتت النفس حائر الفكر لا يطعم شيئًا ولا ينبس ببنت شفة.

وبعد أيام كان فيها حائرًا لا يدرى ماذا يعمل وصل إليه من حامد الكتاب الآتي:

والدي المحترم

إني أحس الساعة بمقدار ما سببته لك من الألم. ولكن بالله إلا ما خففت عن نفسك وأزلت همك، وتركت جانبًا التفكير في أمري. إنني أعيش اليوم عيشًا رغدًا، وأعمل فأجني من جبيني ما يقيم حياتي، ولا أفتر ساعة عن شكركم على ما قدمتم لي. وإني كبير الأمل أن يجيء اليوم الذي ألقي بنفسي فيه بين أحضانك وأحضان أمي. وهل الفرق بين الأمس واليوم إلا أنكم كنتم من قبل تعرفون مستقري وأنتم اليوم لا تعرفونه.

ألوم نفسي حين أعتقد أنكم محزونون من أجلي، ولكني لا أزال على قيد الحياة، ناعم العيش.. وإلى ملتقى قريب أو بعيد أهديكم جميعًا تحياتي.

حامد

ولكن أنَّى لأب أن يتعزَّى بكلمة كهذه من ولده، بل لقد زادته أسى على أساه وشجنًا على شجنه. ولو علم أن ابنه ترك الحياة لاعتراه اليأس، واليأس إحدى الراحتين، ولكنه يعلم أن حامدًا بين الأحياء هائم لا صديق له يكدّ لمعيشته. ولا شيء أشد على نفس والده من هذا.

حامد اليوم بين الأحياء يريد من يحبّ فلا يجد، وقد ضرب دونه ودون كل فتاة حجاب. وأبوه في الدار كمد من أجله يتلقى قسوة القضاء، وهو ما بين الجزع والصبر تتناوبه هموم الخطوب من كل جانب. والجمعية الظالمة حولهما في شغل عن الأب وابنه لا تحس بما في نفسيهما، ولا يهمها أمات الأول هيامًا أم قضى الثاني نحبه ألمًا. وفي الخدور من هي أشد وجدًا من حامد، ولكنها لا تجد إقدامه، ولا تستطيع — وقد ربيت في النعيم، أن تذر دار أبيها لتبحث هي الأخرى عمن تحب، فيطفئان بحبهما لوعة قاتلة، ويحييان عاطفة شريفة، ويمدان أمامهما من آمال السعادة مايهون عليهما حياتهما وما فيها من مصائب ومتاعب.

٣

بعد ثلاثة أيام من سفر إبراهيم جلست زينب في القاعة التي ودعته فيها، وأمسكت بيدها المنديل الذي وجدته بعد خروجه، ثم نظرت إليه، وجاء إلى نفسها أن محبوبها الساعة في أبعاد نائية لا يعرف أحد مقرّه، فانهملت على خدها تلك الدمعة الحارة التي تسيل هادئة من عيونها من غير أن نحس بها والتي تحكي الآلام المحتلة كل وجودنا.

ومن ثلاثة أيام لا يكاد النوم يعرف إلى عيونها سبيلًا. فكلما أرخى الليل سدوله أحيت هي موتَه وظُلمته بدموعها المنسجمة وتنهّدات يكاد ينشق معها صدرها، وبقيت في مرقدها تعاني الآلام أنواعًا وضروبًا. فإذا صادف أن سألها حسن عن سبب ألمها شكت دوخة أو مغصًا تنتظر أن ينقضي مع الصباح. والصباح — ومعه ضجّة الكون — يعزّيها بعض الشيء عن مصابها وينسيها حزنها، وإن كانت تجد أحيانًا في ساعات الوحدة ما يكاد يقتلها ألمًا.

جاء حسن وتناول الطعام كعادته، وصعد إلى الغرفة في حين بقيت هي في القاعة تحدق إلى منديل إبراهيم. فلما استبطأها سأل أمه عنها. ولكن أمه لا تعرف أين هي، فَعَلَتْه غرابة! أين عساها تكون في هذه الساعة من الليل، وقد صلّى الناس العشاء، ورجعوا إلى دورهم؟ وانقلبت الغرابة قلقًا في وقت قصير، وبقي مكانه حيران لا يفهم من ذلك الأمر شيئًا.

ثم زاده قلقًا وحيرة أن صعدت زينب إلى الغرفة، فلما سألها لم تجبه بشيء لأنها لم تُرِدْ أن يعرف أين تقضي ساعات ذكراها وألمها. فألحّ في مسألته وطلب إليها إلا ما أخبرته من أين هي آتية. وكلما زادت إصرارًا على سكوتها زاد هو إلحاحًا وظهر على صوته شيء من أثر الحنق والغيظ. وأخيرًا وقد ملكه الغضب صاح في وجهها:

– لازم تقولي إنت كنت فين.. أني ما عرفش كدب النسوان الفارغ ده.. قولي لي كنت فين الليلة دي وإلا كلّ حيّ يعرف شغله.

ولكن ماذا عساها تقول له؟ إنها كانت في القاعة كل هذا الزمن الطويل! وإن سأل عما كانت تعمل فماذا تجيب؟ أتخترع من عقلها شيئًا تداري به ما كانت فيه من ألم وحزن؟! أي أنها تكذب غير كذب النسوان الذي يقول حسن!. إنها بذلك تريحه من التفكير ومن اتهامها. ولكن ألا يصح أن يتخذ من كلامها دليلًا على المراوغة وقول الباطل؟ ولمَ لا تقول له إنها كانت في القاعة تبكي؟ وإن سألها لِمَ تبكين؟ وهل أساء إليها أحد؟

وأخيرًا فضّلت الصمت المطلق، وأن تترك له أن يظن بها ما يشاء، فما دامت هي مرتاحة الضمير فلا شيء عليها.

لكن أنَّى لها راحة الضمير؟!.. إنها ما عتمت أن تمطَّت في فراشها حتى راجعتها أحلام كل ليلة بشكل أفظع. ولم تستطع إمساك البكاء في قلبها بل علا بالشهيق صوتها. وذلك الألم الذي يخنقها كل ليلة وتعمل لبقائه مكتومًا ظهر ووصل إلى سمع زوجها، فأطار من عينه النوم الذي كان قد بدأ يناوشه، وجعله يتسمّع إلى تلك التنهّدات التي تتمشّى في صدر زوجته. وبعد أن كان ذلك الرجل الغضوب القاسي صار قلبه يلين، كأنما تصبَ عليه زينب من دمعها ما يخمد نار غضبه، أم كأنما يَسْرِي إليه وسط الظلمة الحالكة المحيطة به شعاعٌ من رحمة الله. وأمست كل زفرة تبوح بها زينب سكِّينًا تقدّ بها مهجته فلم يقدر على السكوت عن أن يسألها: مالك يا زينب؟

وما كاد ينطق بهذه الكلمة حتى أسلمت زينب نفسها للبكاء كأنها رضيع فقد أمه. بكاء ينهلّ من عينيها، ويودع في جوف الليل أحزانها ومخاوفها. ثم علا صوتها بالنحيب يتخلله أحيانًا أنين مؤلم يصل إلى القلب ويحرق الفؤاد. فقام حسن من مرقده وأوقد المصباح وجاء إلى جانبها يملّس عليها كما تملّس الأم على صغيرها، ويسألها عما أصابها، ويتودّد لها يحسب أن قد أثرت فيها شدته، فعزَّت عليها نفسها، أن رأته يغلظ لها القول، وما عرف عنها إلا الرزانة والوقار، ولا سمع من سيرتها إلا الحشمة والقيام بالواجب.

مع ما في الاعتراف بالخطأ من الصعوبة بحيث نلجأ أغلب الأحيان إلى إصلاحه بكل وسيلة من غير أن نقرّ أنْ قد وقعنا فيه، فإن من الأشخاص من لهم علينا من الأثر وفي نفوسنا من المنزلة ما يسهل معه أن نبالغ في هذا الإقرار. بل لقد يبلغ حبنا لهم أن نتّهم أنفسنا بأمر لم نجنه ما دمنا نعلم أن في ذلك رضاهم. كان هذا الموقف الأخير موقف حسن يوم رجعت زينب من السوق وسألها عما قضت فيه نهارها. وها هو ذا الآن في الموقف الأول يقرّ لها بخشونته فيما قال، ويعتذر لها عما قدَم، ويطلب عفوها، فلا يزيدها بذلك إلا إيلامًا، لأنه يزيد مركزها حرجًا، ويجعلها تضيف على أسفها لفراق إبراهيم أسفًا آخر كبيرًا أنْ لم تستطع أن تهب قلبها لزوج طيب حليم.

ليه مالك يا زينب؟. إحنا حا نفضل صغار كده نعيط من كلمه ونعيط من مفيش.. علشان إيه بس بتعيطي يا أختي.. الحق عليّ أنا يا زينب، وإن كان كلامي زعلك ما بقتش أعيده أبدًا. انت مش عارفه إن الواحد يقلق لما بتغيبي بيخاف تكوني رحتي الغيط والّا هنا والّا هنا والأيام دي الدنيا بتبقّى سقعة في الليل.. ما تعيطيش أمّال.

هيه!.. إنه يخشى عليها برد الليل، ويؤلمه أن يراها تبكي.. لمَ يارب حين أردت أن تهبها حسن لم تهيء قلبها لحبه؟ ولمَ تضعه في طريقها حين بدأت تجد في كل إنسان محبوبها، لعله كانت تجد فيه من يملأ وجودها ويكون معها سعيدًا في هذه اللحظات، فبدل أن تذرف الدمع ويبقى هو بين يدي الألم يكونان في هناء ورغد؟. وهل بعد جهادها العنيف الذي عملت لتعطي ما تستطيع أن تتصرف فيه من وجودها إلى الشخص الذي يعدّ نفسه وتعدّه هي ويعدّه الناس صاحبها الشرعي، هل بقي عليها من لوم، أو هل لأحد أن يتهمها بشيء، أو أن يسدي إليها غير كلمات الإعجاب بثباتها؟! وإذا كانت قد جاهدت طاقتها لتعطي زوجها قلبها، فإذا هذا القلب في ملك غيرها من قبل، هل ينبغي إلا أن نعذرها أكبر العذر ونلقي التبعة على الزمان القاسي؟!

لو أن إنسانًا رأى في هذه الساعة من الليل وجه هذه المحزونة البائسة، أو سمع تنهداتها تشقّ السكون والصمت المحيطين بها، لأخذته الرحمة بها وبكى معها. ولو أنه دخل إلى قلبها ورأى فيه مبلغ ما يتشاجر الإحساس والواجب لعدّها من كبار المجاهدات إزاء قوى الطبيعة العاتية. لذلك لم يستطع حسن البقاء إلى جانبها من غير أن تنهلّ من عينيه دمعة ليست أقل حرارة من دموع زوجته.

بقي الزوجان كذلك: أحدهما يبكي في صمت جزعًا على صاحبه، وصاحبه تتجاذبه العوامل فلا يجد في طريق الحياة رشدًا، ويذرف الدمع على حيرته وضيعته.

ثم مدّ حسن يده إلى كتفي زينب فأجلسها، وطوقها من بعد ذلك بذراعه، وضمها إليه ضمة كلها الحنان والعطف، وجعل يلاطفها ويداعبها كما تلاطف الأم المحزونة ولدها المريض، ويتودّد إليها بكلامه الرقيق: برضه تزعلي مني أنا يا زينب؟! دا مش كان عشمي.. ولو كنت عارف إنك حاتخدي على خاطرك من كلمة والا اتنين كنت عملت زي الناس اللي يفضلوا يخزنوا لما تيجي عبارة كده ولا كده يطلعوا خلقهم على نسوانهم. ولكن أنا قلت علشان عارف إنك عاقله وتفهمي أن كلامي ده خايف عليكي وبدي لما تروحي هنا والا هنا في الليل تبقي تقولي لي.

وصل هذا الكلام إلى أعماق نفس زينب، وأحست بموقفها أمام زوجها، وأنها وحدها الأثيمة الخاطئة. غير أن ما رُكِّب في الإنسان من حب تبرير عمله والدفاع عنه وخوفها السكوت الذي يزيد حسن ألمًا دفعها إلى أن تجيب: وإذا كنت قاعده في القاعة من ساعة العشا لساعة ما طلعت.

فنظر إليها حسن، وهي لا تزال تبكي، وقد علاه لجوابها الدهش والاستغراب!.. في القاعة؟! ولِمَ لمْ تقل؟ وماذا كانت تعمل هناك؟ ولكن ثقته المتناهية بزوجته جعلته يغضي عن كل هذه الأسئلة وكثير مما ورد إلى خاطره، وبقي يعاتبها على سكوتها المطلق الذي لزمته أولًا، ثم يضمها إليه ضمة كلها الاقتناع والارتياح.

وبقي إلى جانبها يحادثها ويلاطفها حتى عاد إليها سكونها، ثم أطفأ النور من جديد، واضطجع في مرقده قريبًا منها، وجعل يسألها في أمور بسيطة لا قيمة لها، وكل أمله أن يذهب بها النوم إلى هدوئها. ولكن لم تكن إلا لحظة حتى غلبه التعب من عمل النهار وانقطع حديثه ونام. أما هي فلم تغمض عينًا، بل باتت بحال أشد من حالها من ثلاثة أيام، وهي تلوم نفسها آونة على إيلام زوجها ببكائها، وأخرى تريد أن تهب له قلبها. وتجاهد لتقطع بكلمة أخيرة من إرادة ثابتة كل صلة بينها وبين إبراهيم، فتسمع كأن صوتًا داخليًّا يسألها: «وهل تستطيعين؟»، وتتصور حبيبها واقفًا إلى جانبها يبسم لها عن قلب طيب، ويرسل يده حول خصرها النحيل، ويقول لها: «أنا أحبك».

ما أكبر سلطان خيال المحبوب على النفس! يجعلنا ننسى كل شيء سواه، وننسى همومنا وأحزاننًا، وننسى العالم وما فيه فلا يبقى إلا هو وابتساماته وكلماته، وإذا كان وجود من نحب إلى جانبنا، يعانقنا ونعانقه ويرشف ثغرنا ونقبله في درر وجناته، سعادة ليس بعدها سعادة، فإن خياله وذكراه، وذكر ما عمل وما قال، حلم هو ألذّ الأحلام.

ارتفعت زينب من مضجعها متكئة على رسغيها كأنما تريد أن تأخذ إلى صدرها هذا الخيال العزيز إلى جانبها، وتجيء به معها تحت غطاء واحد تعانقه وتقبله. وبقيت كذلك حتى لم تعد رسغاها قادرتين على حملها، فوضعت رأسها من جديد على وسادتها، وهامت روحها في عالم غير محدود، وداخل جسمها همود، وراحت بكلها في نوم هادئ عميق.

لكن نومها هذا لم يطل أمده. إذ ما لبث الديك أن صاح على شرفة الدار، فانتبهت كعادتها وكلها النشاط والعزيمة، فكأن هاته الأحلام المحسنة التي قضت فيها أكثر ليلها أعطتها من الراحة ما عوضها عن قصر ليلها. وفي الساعة عينها قام حسن فذهب إلى الجامع لصلاة الفجر، فوجد أباه قد سبقه إليه ليقرأ الورد مع إخوانه الفانين. ولم يكد ينتهي من الوضوء حتى سمع المؤذن ينادي من أعلى الجامع أذانه، ويدعو لبيت الله جماعة عباده، فتنشر الظلمة صداه في كل الأنحاء. وبعد أن أسمع النوَّام أن الصلاة خير من النوم انحدر من عليته وسط سلم المئذنة الضيق، ولولا اعتياده رقيّه وهبوطه لما سلم رأسه مما يصيبه. ثم أمَّ جماعة المتقين لركعتي الفرض، وخرج إلى بيته آملًا أن يجد لقمة ساخنة يأكلها لتغيير ريقه ليذهب من بعد ذلك إلى الكتّاب لتعليم الأولاد. وخرج من جماعة الفلاحين من انصرف إلى داره، وبقي آخرون يسبحون بحمد ربهم ويقدّسونه. وكان حسن مع الأولين قد خرج وذهب إلى الدار، فوجد زينب قد أعدت له لقمة الصباح ثم راحت «للملية».

•••

راحت للملية والنهار يجاهد الليل ويطوي خيمته العظيمة، والطرق مختفية تحت رداء من الطَل لا تزال وسنى يبين عليها أثر الكرى، والسماء بعث عليها النور الوليد لباسها الأزرق تطوق المزارع يقوم فوقها شجر الذرة، وهو أشد ما يكون همودًا وسكوتًا، والجو رطب عذب ينعش النفس ويبعث للقلب السرور، وكأنه يلاطف الموجودات كلها لتقوم من نومها. وكلها في صمتها سعيدة بما نالته من الراحة والهدوء.

سلكت زينب طريقها وحيدة منفردة، فلما انتصف أمامها ابتدأت تستعيد ما حصل ليلة الأمس بينها وبين حسن، فما كادت تذكر ذلك حتى أحست في نفسها بحاجة إلى رؤيته، كأن دافعًا يدفعها للإسراع إليه، فأسرعت حتى وصلت إلى الترعة وملأت جرتها ورجعت عجلى ولا تدرى لذلك سببًا. فلما بلغت الدار وجدته قد سرح وأخذ التملي معه، فأفرغت جرّتها وأخذتها لترجع للدور الثاني، ولكنها دهشت حين سألت نفسها: لمَ تريد أن ترى حسنًا؟ وماذا كانت ستقول له لو أنها وجدته؟ حقيقة ليس هناك من جديد يدعوها لذلك، لكنها النفس الإنسانية تتنبه فيها أحيانًا عواطف غريبة لا يفهمها الإنسان، ويظنها نزعات غير مسببة في حين أنها نتيجة لحوادث سابقة كانت كلها سببًا لها.

ووجدت الطريق قد ابتدأ يعمره السارحون والذاهبات للملية، فقابلت بعضهن سارحات والآخرين سارحين، وكان من بين هؤلاء أم السعد وقشطة أم إبراهيم ونفيسة أم أحمد ذاهبات جميعًا لدورهن الأول، وهن يمشين على مهل. فلما مرت بهن زينب، وأهدتهن صباح الخير، استوقفنها، وقصصن عليها حديثًا سمعنه بالأمس أن الشيخ مسعودًا طالع للحج هذا العام، وسألنها: هل حقًّا أن عمي خليل طالع معه؟ أما هي فلم تكن تعلم عن هذا الأمر شيئًا ولا سمعت أحدًا عندهم يطلب عمل زوادة أو غيرها، على أنه إن صح هذا الخبر فالوقت لا يزال بعيدًا على السفر.

وبينما هن في حديثهن إذ سمعن من ورائهن: صباح الخير يا بنات ثم رأين الحاجة زهرة إلى صفهن. واستمر الكلام، فلما علمت أنه دائر حول الحجاز راجعتها عادة جميع العجائز اللاتي يحججن، لا يكدن يجدن الفرصة حتى يخرجن من أعماق حافظتهن الحوادث والأماكن التي رأت عيونهن، ويضفن إلى ذلك من واسع خيالهن ما بذلك تظن نفسك في بلاد السحر بين قوم كل كلامهم إلهام وكل ما عندهم خيرات تنزل من السماء.

حكت لهم عن حجّها، وعن عمود النور الذي رأته فوق المدينة المنورة، وعن العرب، وعن المطوفين. حكت ذلك من غير ترتيب، وجاءت بأحاديثها التي تقص عند كل مناسبة. والبنات مبهوتات يردّدن من حين لآخر (يابخت من زار النبي) وينصتن إنصات مستفيد لخيالات الحاجة زهرة، وهكذا قطعن طريقهن، ونسيت زينب ما كان يشغل بالها.

طلع قرص الشمس في الشرق، فأدخل الحياة واليقظة إلى الكون، وتورّد لمطلعه الشفق، ووصل صاحباتنا والترعة يسيل ماؤها هادئًا، وقد انطرح عليها غطاء خفيف من نور النهار الجديد، وقامت إلى جانبها الأشجار أنذرها الخريف فهي كاسفة حزينة، وغيرهن يملأن أوعيتهن، وأخريات يغسلن أثوابهن، ويمر من حين لآخر فلاح معه بقرته أو جاموسته.

لما رجعت زينب لآخر أدوارها كان النهار قد عَمَّ نوره الأنحاء، والشمس تسبح في الجو العظيم، وتبعث على عيدان الحشيش وأوراق الذرة من أشعتها يتلألأ تحتها الطلّ الباقي من أثر الليل، وتسطع بأشعتها فوق سطح الماء الهاديء الساكن. وبينا هي تغسل الإناء بعد أن ملأته إذا هي تسمع خوار ثور طالما سمعت خواره من قبل. والتفتت فإذا الحيوان نائم تحت الشجرة التي كان يربطه تحتها إبراهيم أيام كان عنتر صديقه وصاحبه، متى ابتدأ علقته في التابوت لا يقف أبدًا بالرغم من مشيته البطيئة، وإن هو علقه إلى جانب ثور آخر في المحراث لم يناكف ولم يتعبه. فلما رأته خيل إليها أنه في ندائه يسألها عن صاحبه فأرادت أن تجري نحوه لتقبله، ولتجد فيه من أثر المحبوب ما يهدئ نفسها التي هاجت لهذا النداء. ثم رنقت النظر إلى الشجرة العزيزة التي طالما جلسا تحتها قبل وداعه، وهي الأخرى تَصفرّ أوراقها حزنًا على فراقه وأسى من أجله. والبقعة التي كانا يجلسان فوقها، وشجيرة التوت الصغيرة التي عندها، وعيدان الغاب المحيطة بها!.. ألا تندب هذه الأشياء صديقًا كإبراهيم؟ حقًّا كل هذه الأشياء غارقة في أسى كالذي أصاب زينب، ولولا ذلك لما كلمتها جميعها وكلها الرقة والحزن.

وجعلت هذه الهموم تعتاد زينب كلما وجدت أثرًا من آثار محبوبها، فيعروها الأسى وتظهر على وجهها علامات الحزن وتنقبض نفسها فتنقطع عن الطعام، وتلزم الوحدة، وتطيل التفكير، ويشتد بها الحال من حين لحين، فيحنق قلبها، ويرتعد بدنها، ويذهب لونها، ثم تترقرق ما بين محاجرها دمعة تسيل على خدها ولا يبصرها أحد.

تتابعت الأيام تفنى واحدًا بعد الآخر، وكل يوم يمر يزيدها شجنًا وتطلبًا للوحدة. فإذا ما خلت إلى نفسها أسلمتها للبكاء حتى تذهل عن نفسها وعن الوجود، وبدأت تحس بوحدة فظيعة تزداد من يوم ليوم، ولا تجد في مخلوق مؤنسًا. بل لكأن سكون الكون أو نداء الحيوان آنس لها من كلام الناس وجلبتهم.

تقدم الخريف، وظهرت على الأشياء وحشة. فكنت ترى مزارع القطن ولم يبق على أشجارها ورقة، تمتد سوداء فوق أرض لا نبات فيها ولا شجر. والذرة جاء عليه الهرم، وقد خلع كل أثوابه، وبقي واقفًا منكمشًا ينتظر الموت القريب. والترع غاض ماؤها، ولم يبق بقاعها الناشف إلا وشل ينهل منه الناس والدواب. والشمس يؤذن مطلعها بمغيبها القريب، وينتظرها الناس وكلهم الشوق لها بعد ليلهم الطويل البارد. والهواء يهب من الشمال فترتعد له أجسام المترفين، ويستقبله من الفلاحين عاري الصدر عاري الساقين فرح بما يجيء وراءه من أيام الراحة. وكل شيء يؤذن بالأقوال أم بسنته السنوية يأخذها أيام الشتاء حين لا سعي ولا عمل.

وكلما قطب الوجود ازدادت زينب حزنًا وأسى، وظهر عليها من أثر ذلك ما يكاد يميزه من رآها من قبل.

اعتقدت أن قد أصابها البرد حين أحسّت بسعال يناوشها من حين لحين، ومع ذلك لم ترض أن تلزم الدار وتحتفظ بنفسها وتطلب الدفء، لأنها كانت تعلم ما في ذلك من حرمانها مشاهدة آثار إبراهيم وما خلف، والشجرة الشهيدة على ما كان بينهما. وبالرغم من ريح الصباح القارسة التي تهز الأبدان وترعد الأسنان كانت تذهب إلى الترعة لأول خيط تبعثه الشمس من شعاعها على البسيطة متخذة لذلك حجة أيًّا ما كانت. فلما غيض الماء ولم يبق للملية من سبيل إلا أن يذهب الناس ظهر النهار لمحطة السكة الحديد ينالون مما يحمله الوابور معه، كانت تذهب لترى بعض أمر يخص أبويها وأختها، وإذا ما جاء الظهر لم تنس أن تروح إلى المحطة لترسل هي الأخرى لأسود الوجه فاحم القلب الذي أبعد عنها محبوبها نظرة حقد وكراهية.

وكلما رأت الشجرة أو الوابور أو أي أثر من آثار محبوبها انتشر في جو أفكارها سحاب من الهم ولم تستطع إلا أن تستسلم للتنهد ثم للبكاء المر. وفي وسط بكائها يعاودها السعال فيرجّ صدرها ويهزّها جميعًا، ثم يرسل إلى خدّها الشاحب الناحل ما يرد إليه بعض تورّده الذي لا يلبث أن يغادرها بعد لحظة. وتدخل الدار فتحبس نفسها في الغرفة أو القاعة، وتبقى هناك الساعات الطوال المتوالية. وكلما سألها حسن عما تعالج من الحزن أجابت أن أصابها برد وسعال لا ينفكّان يضايقانها.

انقضى العام وجاء يناير وفصل الشتاء معه، وعمل الفلاحون لتقطيع الهندي والشامي، وأصبحت المزارع مسطوحة تقوم عليها النباتات الصغيرة إن فولًا أو برسيمًا أو غلالًا، فإذا ما أرسلت بنظرك راحت أمامك الأرض خضراء حتى يقصمها الأفق. والترع فيما بينها ناشفة تنتظر التطهير في هذه الأيام أيام الجفاف، وقد بدا عليها من الضعف والاستسلام ما يجذب القلب نحوها. والدواب الراتعة في مرابعها تزعق أحيانًا فتملأ الجو الساكن بزعيقها. وعلى مقربة منها انتشرت فوق البساط السندسي جماعة القبرات تصفر وتنط، فتبعث شيئًا من الفرح إلى جو الشتاء الحزين.

كانت أم زينب تراها من حين لآخر، وكثيرًا ما تصادفها عند الموردة ساعات الملية فتسألها عن حالها مع حسن ومع حماتها كذلك. كانت تذهب عندهم في الدار ومعها بعض الشيء من سمك أو خيار أو نحوه حسب فصل السنة. ولا تفتأ — كلما وجدت من زينب ما تحسبه يؤخذ على مثلها — تكرر لها النصيحة. ثم إذا رجعت إلى دارهم ورأت زوجها قصت عليه، وكلها السرور والرضا، مبلغ حب أم حسن لزينب وإعزاز أخواته وميلهم جميعًا لها. حتى خليل كان كلما رآها سألها عن شأنها ثم طمأنها على ابنتها وسيرها ومدحها أمامها بما هي أهل له، وأكّد لها أنه في كلامه غير مغال ولا مبالغ.

فلما رأتها في هذه الأيام الأخيرة وقد ظهرت عليها علامات الألم بهتها شحوب ابنتها وذهولها، وجعلت تسأل نفسها: ماذا عساه قد أصابها. وهذا السعال وإن يك بسيطًا فإن تقدمه كل يوم عن الذي قبله جعلها تقلق بعض الشيء على صحتها. لذلك رأت من الواجب عليها أن تنبهها حتى لا تخرج إلا محتاطة لنفسها من البرد… ولكن هيهات أن ينفع التنبيه بعد أن استحكم الداء من صدر الفتاة، ولم يبق إلا القليل حتى تظهر عليها كل آثار السل القاتل.

٤

بهيّ الشيم أخينا المحترم حسن أبو خليل دام بقاه آمين

بعد إهداء مزيد السلام على حضرتكم نخبركم أننا هذه الأيام في أم درمان، ونحن طيبون بخير، ولا نسأل إلا عن صحة سلامتكم التي هي غاية المراد من رب العباد. وفي تاريخه أخبرني الشاويش أنه ستقوم أورطة إلى جهة سواكن ولا أعلم إذا كان منها بلكنا. وإن شاء الله متى قامت نخبركم إن كنا منها ونبعث لكم بجواب من سواكن. ولا تؤاخذنا في تأخير الخطابات إلى الآن، فإنهم نقلوني كثيرًا فما كنت أعرف إذا كنا سنبقى أو سنرسل. ولكن هنا في أم درمان يمكن دائمًا إرسال جوابات باسمي فأستلمها، وإذا ذهبت إلى سواكن يبعثوها لي. قد قابلت هنا أحمد أبو خضر وهو من بلدياتنا ابن أبو خضر أبو اسماعيل وهو يهديك السلام. وقابلت سعد البرهمتوشي وهو يهديك السلام. وقابلت خليل أبو عوض الله وسعد الدين الحبشي وعلي أبو محجوب وكلهم يهدوك السلام. ثم تسلم لنا على أبوي خليل وعلى حسين أبو مسعود وعلي أبو أحمد وعلى والدتنا وعلى والدتكم وإخوانكم، وتسلم لنا على الحاج هنداوي أبو عطية وعلى إبراهيم أبو سعيد ثم تسلم لنا على جميع من بطرفكم وجميع من يسأل عنا ودمتم.

حاشية: تسلم لنا على جميع عائلتكم ودمتم.
إبراهيم أحمد

من يوم أن سافر إبراهيم لم يقف له أحد على خبر. فلما وصلت هذه الرسالة إلى حسن، وعلم منها أن صديقه ممتع بالصحة، وأن كل آماله أن يكون جميع معارفه مسرورين أصحاء، سارع فأبلغ الخبر إلى والدة إبراهيم التي لم تلبث حين سمعته، أن طوقته بذراعيها الناشفتين، وجعلت تقبله من غير حساب، وقد عرتها رعدة عصبية، وانهلت من عينها دمعة لم يدر حسن إن كانت دمعة فرح على صحة ابنها أو دمعة حزن وألم على فراقه. والواقع أنها لما ذكرته وذكرت منفاه البعيد عاودها الحزن الذي استولى عليها من يوم سفره! لكنها في الوقت عينه سُرَّت بالخبر الطيب الذي يحمله إليها صديقه، وحمدت الله على صحة ابنها المحبوب. وبين هذين العاملين — وقد ارتفع قلبها في صدرها، وعاودتها القشعريرة مرات تهز جسمها النحيف البالي — هملت دمعتها على وجهها الأسمر قد عملت فيه الأيام فتركت فيه آثار التجعد الظاهر.

هذه أول كلمة بلغتها بعد ستة أشهر عن إبراهيم الذي قام من بلده إلى بندر المديرية ثم القاهرة حيث أقام بعض شهور بقشلاقات العباسية ومنها انتقل مع إخوانه وبلدياته إلى السودان ومجاهله إلى تلك البلاد القفر التي بابها فوهة القبر والعذاب والجحيم ينال فيها كل فقير صحيح البدن حظه من الشقاء. ثم هو يرد إلى بلاده وكل ما كسبه أنه لبس طربوشًا ثلث متر في الطول وسترة وبنطلونًا تجعله يزدهي على أقرانه أيامًا بعد رجوعه، ثم يصبح من الأعطال الذين يقضون حياتهم نومًا وحديثًا ويلبسون مركوبًا أو بلغة وجلابية بيضاء وعمامة ملفوفة على طاقية مزهرة، أو تلجئه الحاجة إلى أن يرجع إلى صف العمال الفقراء التعساء فيعمل كما كان ويأكل من عرق جبينه.

بلّغ حسن الخبر لأم إبراهيم لساعة ما وصله الكتاب، وقرأه عليه بعض من كان حاضرًا في دار العمدة. ثم رجع إلى بيتهم وقص عليهم الحديث، وأخبرهم بما لا يزال عالقًا في ذهنه منه، وأن إبراهيم يسلم عليهم جميعًا. فتشوقت زينب أن تسمع كلماته، وتمنّت لو وجد من يقرؤه أمامهم. ولكنها لم تستطع التصريح بما في نفسها لما تحيطها به من الحذر دائمًا ومن أن حسن مطلع على خفايا قلبها وأنه ينتظر منها كلمة كهذه ليبرق لها ويرعد ويظهر لها مخبوء ما في نفسه.

ترى ماذا يقول عنها إبراهيم في جوابه وهل ذكر اسمها؟.. رباه! وهل يتذكرها وهو بعيد لا يعرف شيئًا من أمرها ولا ما يدور في نفسها؟ أو أنه قد نسيها وراحت من باله كما راحت البارحة؟ ألا يوجد أحد يقترح على حسن أن يقرأ الجواب! عمي خليل.. أمي جازية.. أحد أيًّا كان؟.. انقضت الأيام التي كان يجلس فيها إبراهيم تحت الشجرة ينتظر مجيء زينب!.. لكن كيف ينساها؟.. ومن يدري؟.. قد يكون نسي كل شيء.. إذن أفلا أحد يريد أن يسمع جواب إبراهيم؟..؟.. آه.. أمي جازية لا تريد هي الأخرى …

بعد برهة من سكونهم جميعًا سأل عمي خليل: هو مش مبسوط كده.. إبراهيم أبو أحمد.

– دا مبسوط خالص.. وبيقول يمكن يروح سواكن ويمكن ما يروحش لسه ما هوش عارف إن كان بلوكهم مسافر والا لأ.

– هيه.. بلا سواكن بلا طوكر.. إياك دنه قاعد. كتر التنقل يلخبط اللي ما يتلخبطش.

وفيما هم في حديثهم دخل عليهم صغير من أولاد جيرانهم يسأل إن كانت أمه هناك، لأنها ليست عندهم وهو خائف أن يبقى وحده فقالت له أمي جازية: اقعد وكمان شويه هي تجيء تسأل عليك.

ولما جلس سألوه عما يعمل في المكتب هذه الأيام. ومن أجل أن يعرفوا قوته في المطالعة أخرج إليه حسن جواب إبراهيم ليقرأ وأنصتوا جميعًا له. أما زينب فاقتربت منه بقدر ما يسمح لها به المكان، ووجهت إليه كل سمعها. ومن لحظة لأخرى يرده حسن في بعض الكلمات التي يلحن في النطق بها بعد ما سمعها صحيحة من قارئ المضيفة.

في وسط الجواب دخلت أم الغلام تسأل عنه، فلما رأته يقرأ وقفت هي الأخرى ساكنة تسمع، وقد امتلأ صدرها بالسرور والإعجاب الذي ينال الأم أن تعتقد نفسها أنجبت. فلما قرأ كاتبه إبراهيم أحمد بذلك الصوت المسموع الذي اعتاد أن يقرأ به القرآن في مكتبه وسكت، عندها أحست زينب كأن قلبها يتمشى في صدرها أن سمعت كل هذا ولم تجد لاسمها بين من ذكر إبراهيم أثرًا، فطلب إلى حسن أن يسلم حتى على أخواته، ولم يدر في باله أن يقول وعلى زينب أيضًا. لكن الغلام قطع عليها طريق أحلامها أن أدار الصحيفة في يده ثم قرأ الحاشية التي لم تتعزَّ بها زينب كثيرًا. وحينذاك أخذته أمه وخرجت راجعة إلى دارهم.

وذهب بعد ذلك كل إلى مكان نومه. فلما دخلا معًا قاعتهما، وفتحا بابها أحسّا بالدفء يقابلهما آتيًا من فرنها المتقد تحميه زينب أصيل كل نهار. ثم راح حسن إلى مضجعه ونشر فوقه عباءته ونام، واضطجعت هي قريبًا منه بعد أن أطفأت النور، وبقيت هي الأخرى لا تبوح بنفس إلا أن يهزّها السعال أحيانًا وتتنهد بعده لما تحس به من الحرقان يشرخ صدرها. لكن ذلك كله لم يكن ليقطع على زوجها طريق نومه، إذ أنه قد اعتاده من نحو شهرين مضيا، كما أن تعبه المفرط طول النهار كان يجعله متى توسد فرشه لا يقيمه إلا الصباح.

•••

من شهرين مضيا كان ذلك أول ما اعتاد السعال زينب، وكانت لا تكاد تحسّ من ورائه بألم، ولا يعقبه إلا ما يعقب السعال البسيط من بلغم تقذفه فتخفّف به عن صدرها. وبعد أسابيع من ذلك أحست من السعال بشيء من التعب العام وانحطاط القوى، فإذا عملت عملًا أحسّت بعده كأنها مجهودة لاغبة. وابتدأت مع ذلك تحس بشيء من الألم يصحب السعال، وغادر وجهها تورده، فأصبحت بعد أن كانت خمرية اللون تكاد تكون شاحبة. وظهر على وجهها من أثر الحزن، وفي نظراتها من معنى الشجن، ما جعلها جذابة تنال ميل كل من رآها، وهذا الضعف الذي كان يزداد يومًا بعد يوم يذر الناظر إليها المأخوذ بحسنها يعتقدها مكسالًا نؤوم الضحى.. لكنها جاهدت ما استطاعت لتمحو أثر كل هذا من أعمالها، فهى تقوم بكل شيء، كما كانت تقوم به من قبل، مهما كلفها ذلك من الجهد واللغوب.

وسط ظلمة القاعة الدافئة جعلت زينب تفكر في خطاب إبراهيم، وكيف لم يذكر اسمها في حين ذكر الآخرين. أليس هو النسيان الأكبر أن يجيء إلى باله أبو حسن وأمه وإخوته وتكون هي نسيًا منسيًاّ؟ لقد وجد في هذه البلاد الجديدة ما شغله عنها، ومن فتياتها من أعطاها قلبه، ولم يبق عنده منها حتى ولا مجرد الذكر!.. ألا.. إنه.. إنه..

لكن زينب لا تستطيع ذكر اسمه أمام زوجها، فلم تطالبه هو بذكر اسمها؟ ألا يكون سكوته أنه دائم الاشتغال بذكرها يخشى ماتخشاه من أن يطلع أحد على ما في ضميره؟ أوَ لم يذكر في السطر الذي قرأه الولد حين قلب الجواب، والسلام على عائلتكم، بعد أن قال من قبل السلام على من بطرفكم؟.. ألا يمكن مع هذا أن يكون دائم الذكر حافظ العهد؟..

أهو في سواكن الآن أم في أم درمان؟.. ترى متى يرجع فيتمتعا معًا بهناء الحب، ويتلاقيا كل يوم، ويذكرا هذه الأيام أيام الفراق، وما لاقيا فيها من أسى ولوعة؟!.. ثم تصورت إبراهيم بعد رجوعه ومقابلته لها بالحضن ودموع الفرح التي ستفيض بها عيون كل منهما، ثم حين يذهبان تحت شجرتهما المباركة يستعيدان اللحظات الفائتة وما فيها من لذة وسعادة.

جاءتها هذه الأفكار الطيبة فأبدلت حزنها وهمها سرورًا. وبين جنّات أحلامها نسيت الألم ونسيت الوجود.

لكنها في الأيام التالية لم تكن حسنة الظن بهذا المقدار، بل كان يراجعها الخوف من حين لحين. وتأتي معه ساعات سوداء ملأى بالأحزان والهموم، فتخلو زينب إلى نفسها، وتجلس إلى مكان أرسلت عليه شمس الشتاء من ضعيف أشعتها ما أطار شديد برده. ثم تذكر إبراهيم وجوابه، وتألم لهذا الفراق الأليم القاسي. فإذا ما أرادت أن تقوم أحسّت بهمود وتعب واعتراها ضعف تكاد تسقط معه إلى مكانها من جديد. وكثيرًا ما كان يعاودها السعال في هاته الساعات المتعبة يهزّ كل جسمها وتشعر معه بشيء يتمشى في صدرها.

أخيرًا وقد أحس حسن من زوجه هذا الضعف، ولاحظ عندها هذا السعال، رأى ألا تخرج إلا عند الحاجة الماسّة، وأن تلزم السكن والدفء حتى لا يزيد البرد في آلامها، وحرم عليها أن تذهب للملية لما في هذه المسافة البعيدة مما يجهدها ويتعبها خصوصًا بعد أن نضبت الترعة ولم يبق من سبيل إلا الذهاب لمحطة السكة الحديد. وكل ما سمح به لها أن تخرج في البلد إن أرادت، وإن كان هو يفضل بقاءها المطلق في الدار.

لكن هذه الآراء لم ترق زينب في شيء.. صحيح أنها تحسّ بالتعب، وتألم حين يأتيها السعال فتبصق الدم بعده، كما أنها تشعر بانحطاط قواها هذا الانحطاط السريع، غير أنها تريد أن ترى دائمًا الأماكن التي تقدس وتحب، وتريد أن تجلس عندها كلما سمح بذلك وقتها، فعارضت جهدها قائلة إنها لا تريد أن تزيد من نصيب أختى حسن من العمل، فما عندهما يكفيهما. لكن حسن متمسك برأيه، ويريد أن ينفذه لا بد. وإن أحوجت الحال وكان حقًّا أن أختيه لا تستطيعان القيام بالعمل فأية أجيرة تقدر على القيام به وأن تحل محلها حتى يأتيها الشفاء.

بقيت بعد هذا الأمر لا تبرح الدار أسبوعًا من الزمان. لكن تلك الأماكن لم تغب عن خاطرها بل كانت تحس دائمًا كأن دافعًا يدفعها نحوها، أو كأن هاته الجمادات تناديها بأعلى صوتها تريد منها أن تشاركها في إقامة ذكر صاحبها. وكم جاهدت أم جازية لتسرّي عن خاطرها كل هم، ولتجعلها تضحك، فذهب جهادها هباء، واضطرت أن تلجأ إلى السكوت حين رأت أن الابتسامة التي تسمح زينب بها لنفسها أحيانًا تزيد منظرها حزنًا، وكأن القضاء المخيم عليها والذي يلعب بروحها يوحي لها أن هاته الأشياء المحيطة بها ستنفصل عنها قريبًا.

نفد صبرها آخر هذا الأسبوع، فبعد أن تناولت طعام الغذاء مع حماتها وأخوات حسن خرجت من غير أن تخبر أحدًا إلى أين تذهب. خرجت من بين جدران القرية، فانبسطت أمامها المزارع الواسعة يفرشها النبات الأخضر من برسيم وغلة وفول يزينها زهره الجميل وما ينط فوقها من القبرات والعصافير وأبي فصادة. وبعيدًا تقوم الأشجار وعليها شيء من الحزن الذي يعلو الطبيعة في فصل الشتاء. واتخذت طريقها المعتاد إلى الموردة، وهناك وجدت الترعة ناشفًا قاعها وطمي النيلية يكاد يملؤه، وعن يسارها قريبًا الشجرة وتحتها المدود ينط على حافته ثلاث فصادات وعصفور. وقريب من المدود التابوت قد غطيت علبته بعيدان القنيش وأميل كبيره ليستريح راحته الطويلة، وحول ذلك كله تمتد الغيطان الواسعة.

وقفت وحدقت بالشجرة فوجدتها سوداء حزينة أشد اكتئابًا من غيرها، وحولها صمت مهيب كأنه صمت الموت. وكل الأشياء كاسفة حزينة.

ولم تطق الوقوف طويلًا، بل اعتراها التعب وخانتها رجلاها، فراحت إلى مكانها وارتمت فيه هامدة، وجلست تستنطق هذه الأشياء عما بقي عندها من الذكر لإبراهيم. وفيما هي نائمة في أحلامها نط العصفور حذرًا يقترب منها رويدًا حتى إذا كان إلى جانبها نقر في الأرض والتقط بمنقاره دودة وطار فوقع حيث كان. ولما أكلها واستقرت في جوفه نط من جديد حتى وصل عندها ثم رفّ جناحه رفة كان بها فوق ركبتها. وحين رآها لا تسأله زايلة ذلك الخوف الذي يعتاد كل هذه الأحياء الصغيرة حذر أن يفتك بها من تقع تحت يده، وجعل يرفع رأسه ويحدق بعينيه الصغيرتين لها. وبعد لحظة أخرى طار إلى كتفها، ومن فوقه انتقل إلى يدها، فلما أحست به لم ترتع له بل أدنته منها، وبنظرات مِراض كلها العطف والرحمة رمقت هذا الذي جاء إليها يسألها عن حزنها وضناها. أدنته من فمها تريد أن تقبل جبينه. لكن العصفور طار إلى المدود من جديد وقد تركته الفصادات له.

حجبت السحب الشمس في السماء، وانقطعت حركة الهواء، وداخل الجو من الظلمة ما جعله أشد مهابة وأكثر عبوسًا، واعترى النباتات الخضراء من أثر ذلك أن قتم لونها وسكنت حركتها وأصبحت جامدة في مكانها كأنما تنتظر أمرًا. ووافق ذلك كله ما في نفس زينب من الحزن، ووجدت فيه عزاء ومسرحًا لأفكارها.

ترى متى يعود إبراهيم؟ ومتى يتلاقيان؟ ويوم يرجع ويصل في قطار قبيل الغروب، ثم يدخل البلد محاطًا بإخوانه، يجاهد للتخلص منهم ثم يجيء إليها ويرتمي بين أحضانها، ما أسعد تلك الساعة! وما أشدهما فيها هناء! ثم يأتيان إلى هذه الشجرة من جديد، ويجلسان، فيقصّ عليها حديث أيام العسكرية ورحلة سواكن، ويحكي لها عن أم درمان وما فيها.. وهنا تخيلت المكان الذي يقيم فيه الآن محبوبها، وما يحيط به من الناس والأشياء، وتصورته في ردائه العسكرى واقفًا مع صديق من بلدياته يحدثه، ثم يجيء نحوهما آخر، ويتذاكرون من تركوا وراءهم، فتكون هي ذكر إبراهيم والإنسان الذي لا ينسى.

من بضعة أشهر كانا معًا تحت هذه الشجرة ينظران معًا لهاته الأشياء التي حولها، وهى الآن تنظر إليها وحدها فتجدها عابسة حزينة. وبدل ما كان يقوم فوق الأرض من الذرة والقطن أصبحت تكسوها النباتات الصغيرة، نباتات الشتاء، والأشجار التي كانت مكللة بالورق أصبحت قطوبًا جرداء.

وفيما هي في أفكارها اكفهر الجو، وتراكم الغمام، وكاد النهار يظلم، ثم ابتدأ يتساقط الرذاذ خفيفًا، والهواء الساكن قد ابتدأ يغادره سكونه، فاهتزت تحته عيدان النباتات التي استقبلت المطر وكلها الشوق له.. ثم تزايد الريح والمطر، وصار يقع فوق هاته اللا نهايات الخضراء من الأرض، وقد نام نبتها بعضه فوق بعض، والسماء تسحّ من غير انقطاع، والجو دائم الاكفهرار، والغمام متراكم لا يتحول من مكانه، وزينب قد جاءت وراء الشجرة تتّقي بها بعض هذا الماء الهتون. لكن الريح التي كانت تتقلب من ناحية ومن أخرى لم تدع لها من الحظ أن تبقى من غير أن ينالها نصيبها من المطر، وبقيت كذلك ربع ساعة، ثم ابتدأ الجو تنفرج غمته والسحب تتبدد، والنهار يأخذ حكمه. ومن بين كسف السحاب المتسابقة في السماء كانت الشمس تنتهز كل فرصة فتبعث بشعاعها على الأرض، وينساب من نورها على المزارع والطرق لجة تكسوها حياة وجمالًا. لكنها لا تلبث أن تحتجب ثانية ويرجع كل شيء مستسلمًا إلى ما كان فيه من الحزن، وتبقى وقد زادها المطر سوادًا كأنها لابسة ثوب حزن وألم.

•••

وأخيرًا رجع كل شيء إلى ما كان عليه من قبل، وصفت السماء فصارت صحيفة زرقاء، ولمعت الشمس فوق المزارع، وعاد الكون إلى حالته الطبيعية، فأخذت زينب طريقها إلى الدار من جديد وثيابها مبلولة، وهي أشد حزنًا وسكونًا من ذي قبل. وفيما هي سائرة ثارت إحدى ثوائر الريح فارتعدت هي أمامها وراجعها سعالها، ثم وصلت إلى الدار وأسرعت إلى القاعة لتبدل ما عليها.

دخلت فإذا حسن جالس ينظر من الباب المفتوح أمامه وهو مبهوت لمرأى زوجته وما هي عليه من سوء الحال. ولم يمهلها حين دخلت أن سألها أين كانت؟ فأجابته أنها كانت «برا». ورغمًا عن إلحاحه في المسألة ليعلم منها المكان الذي كانت فيه، أو ما عساها كانت تعمل هناك، فقد ذهب تعبه هباء، فهزّ كتفه علامة العجز، وهزّ رأسه علامة الاستغراب، ثم سكت. أما هي فعراها انقباض شديد أمام هذه الأسئلة اهتزّ لها كل جسمها حتى لم تتمالك أن تقاوم السعال الذي جاءها. وجاءتها نوبة استمرت زمنًا احمر فيه صدغها وعيناها، وكانت في كل هزّة من هزات جسمها مثار الألم لمن يراها. ثم لما انتهت من هذا أعقبه أن بصقت دمًا. فنظر إليها حسن بعين ترقرقت فيها الدمعة أو كادت، وثغر يطوقه ألم ظاهر، ووجه جمع في شبابه بين الحزن والحنان وقال: انت مش شايفه يازينب البرد عامل وياكِ إيه. يعني إذا كنت يا أختي تسمعي الكلام وتفضلي في الدار اليومين اللي انت عيانه فيهم مش أحسن. والا يعني انت عايزاني أحبسك. لأ.. أنا عارف انك ما تحبيش كده، وعارف إن الحبس والتستيت والكلام الفارغ ده مايجيش من وراه حاجة طيبة. لكن بس تقعدي على ما تفوقي من البرد والسعلة.

وزينب أيضًا كانت تعتقد أن ما أصابها من السعال والتحول نتيجة البرد. ولكنهما كانا مخطئين جميعًا. إنه داء ينخر في صدر الفتاة أشد وأقوى من كل ما يتصوران.. إنه سل فظيع يناوشها الحياة.

في هاته القرى المصرية حيث الهواء الطلق والشمس الدائمة والحياة الهادئة قلَّ أن يتصور إنسان مرضًا كالسل. وغاية ما يصل إليه خيالهم أن يحسبوا المصاب به محسودًا من عين خبيثة، أو ناله برد أو نحو ذلك. ويزيدهم بعدًا عن تصور هذا المرض ندرته حتى لا يكاد يرى. كما أن ترك المصاب به حتى آخر ساعاته، أو حتى يموت من غير أن يراه طبيب أو يعرف أمره أحد، يزيدهم به جهلًا. من أجل هذا لم يتصور حسن، ولم تتصور زينب نفسها، أن ما بها شيء سوى البرد ونظرة خبيثة، فكانا يعزوان ما هي فيه من ضعف ومن نحول إلى حسد حاسد. ومن وقت لآخر كانت أم جازية تبخر زينب، وتضع لها في النار قطعة من الشبة، فتحترق وتتحول إلى شكل آخر يتصورون فيه إنسانًا ممن يعرفون، ويعتقدون أنه الحاسد اللعين، ومن أجل أن تبطلا حسده تتفلان عليه، لكن ذلك كله لم يكن يجدي، والمرض الذي وقعت فيه زينب نتيجة أشجانها الطويلة وأحزانها، وبعد أن قضت الليالي الطوال ساهرة بين يدى الألم، واستمر يحل في قواها ويفتُّ في أعصابها ويزيدها ضعفًا يومًا بعد يوم.

في آخر نهار، وقد كانتا معًا، دخل عمي خليل داره وهو مهموم عليه شيء من أثر الحزن، فأسرعت إليه امرأته، تاركة زينب، تسأله عما هنالك. ولما أجابها أن الحاج سعيد شيخ البلد متأخر، وقد يموت هذه الليلة، سرى عنها وعاودها هدوءُها أن علمت أن لا شيء يمسهم عن قرب. لكنها لم تنس أن تحسب للمأتم والقروة، وأن ترجع لزينب فتكلمها في هذا الشأن غير منتبهة لصحة زوج ابنها إلا فيما يتعلق بمقدرتها على القيام بالطبخ والخدمة. وفيما هما يتحادثان دخل حسن، وسمع ما تقولان، وأخبرهما أن بعض من قد رأى في الجامع يقول إن الحاج سعيد يرسل آخر أنفاسه.

ولما أتموا العشاء إذا صراخ علا في جو القرية الساكن آتيًا من جهة دار شيخ البلد: صريخ متقطع ترسل به امرأته وهي محروقة القلب على فقده. وفي أثناء صراخها عوت الكلاب من أعالي السطوح عواء محزون كأنما تحس هي الأخرى بفراق ذلك الراحل إلى ربه. ثم انقطع الصوت وَعَرَا البلدة صمت الموت، كأنما نشر عزرائيل فوقها جناحه. وتكلم حسن وأهله، وعلى كلامهم أثر الخشوع والخشية، وكأنما ذكروا الساعة التي سيرحلون جميعًا فيها.. الساعة التي يذرون فيها ظهر الأرض ليسكنوا بطنها.. الساعة التي يخرجون فيها من عالمنا المحسوس حيث نعرف ما يحل بنا إلى فناء مظلم لا نهاية له، أو إلى عالم آخر مملوء بالمخاوف والأحلام.

والسماء يلمع فيها قليل من النجوم، والليل الأخرس يزيد ذكرى الموت مهابة، ويبعث إلى النفوس ما يهزّها ويرعدها.

ثم في جوف الظلمة علا الصوت من جديد، وقد صحبته أصوات أخرى. ثم تلا ذلك صمت أصمّ.

جعلت أم جازية تسائل عن كل شيء مما هو لازم في الصباح. ولما علمت أنهم يحتاجون إلى شيء من عيش القمح يخرجونه في صنيتهم طلبت إلى بناتها وزوج ابنها أن يقمن بتجهيز هذا، ثم أن يبادر حسن من الصباح إلى دار عوض الله الجزار ليحجز لهم من البقرة التي ستذبح ما يكفيهم. وطلبت إلى التملي أن يقوم مبكرًا فيذهب مع صغرى الفتيات يجمع لها خضار الغيط. وعلى هذا صارت مطمئنة معتقدة أنها في الغد ستكون منتظمة الحال.

ودارت في الدار حركة كبيرة، فصعد «تمليهم» إلى أعلى السطح يرمي حطبًا، ونزلت الفتاتان تجهزان الماء والدقيق، ثم ذهبت زينب بعد أن جهزوا ذلك كله تقدح الفرن. لكن ما كانت تحس به من الجهد والتعب لكل حركة تأتيها، والسعال الذي يعاودها دائبًا، جعلها تطلب معونة أخوات زوجها. وانتهوا من عملهم، وذهبوا إلى مضاجعهم، فلم يمكنها السعال من النوم، وبقيت تفكر في أمر هذا الميت بقي على الأرض حتى عمر، ثم هو غادرها كما غادرها غيره من قبله. وهي الأخرى ستقضي قبل أن ترى إبراهيم وتنسى بذلك إلى الأبد.

ولما كان الصباح عادت الحركة، وقامت زينب مضناة مكدودة شاحبة اللون قد تغير منها كل شيء، وعيناها المتعبتان قد اتسعتا بعد هذا النحول الذي أصابها، تنظر إلى الدار كأنها مبهوتة أو كأن الأشياء التي ترى ليست هي أشياء كل يوم. وجلست إلى جانب النار ترى أمر هذه القروة في حين نزل حسن وأبوه ليسيرا في المشهد الذي مر طويلًا بطيئًا حتى وصل إلى الجامع حيث صلى عليه، ثم سار إلى الجبانة حيث ووري الميت التراب.

خرجت «الطبالي» قليلة ساعة الظهر، لكنك كنت ترى ساعة المغرب قريبًا من الخيمة المنصوبة جيشًا عرمرمًا من النساء والفتيات وكل تحمل طبليتها أو صنيتها على رأسها. وصاحبات الصواني قد حملن في أيديهن كراسي العشاء، وبقين جميعًا ينتظرن أن تخرج صواني جماعة الميت. وفي الخيمة الصامتة يتميز صوت قارئ القرآن يرتله ويتغنى به، فيرسل مع كل آية يقرأ ما يزيد الناس شعورًا بالحزن المحيط بهم. ولما اختتم سورته جاءت الصواني، وتسابق النسوة بما معهن إلى الخيمة داخلات كأنهن للسيل المنهمر، ومن بينهم دخلت كبرى أخوات حسن تحمل صنيتهم.

ولكن ما إن انتهت أيام المأتم حتى شعرت زينب بحمى شديدة ترعدها اضطرت معها لأم تلزم مرقدها. وزاد ضعفها تأثرًا بهذا الطارئ، فهي لا تزال في قشعريرة مستمرة تحس بالبرودة والسخونة تتعاورانها. وإذا ما خفّ أثر ذلك جاءها السعال يهزّ جسمها النحيل، فكان منظرها أشد المناظر إيلامًا. وما عتمت أمها أن سمعت بخبرها حتى هرولت مسرعة إليها، فجلست إلى جانبها، وجعلت تسألها عن أمرها. ولكن ماذا عساها تعرف؟ وهل هو إلا هذا السعال المستمر يقلقها ويكاد يقتلها؟

جلست أمها إلى جانبها وقد أحرقت البخور والشبة مرات لم تنتفع من ورائها بشيء، وهي في كل لحظة عرضة لآلام لا قبل لها بها. فإذا ما رأت زينب تبصق بعد السعال دمًا يخالطه شيء من الصديد نظرت إلى هذا الوجه الناحل اليوم وذكرت ما كانت عليه ابنتها من صحة وجمال من قبل. ثم وسط القاعة المظلمة التي هم فيها أرسلت مع زفراتها الدمعات الحارة مخفية وجهها بين يديها مجاهدة ألاّ يعلم بأمرها أحد.

وكل يوم تشعر بانحطاط قوى ابنتها أكثر من اليوم الذي قبله فتزداد حزنًا وألمًا. وابنتها لا تجيب بشيء عما عساه يكون سبب مرضها إلا تنهدات وزفرات تصعدها. وإذا ما أحست بشيء من السكون والقوة، خرجت إلى صحن الدار وبيدها منديل محلاوي تضعه على فمها من حين لحين وتقبله حين تعلم أن ليس عليها من رقيب، فتجد فيه من أثر إبراهيم ما يزيدها لوعة، ثم يزيدها حزنًا أنها تود لو تقف من أخباره على شيء فلا تجد إلى ذلك من سبيل ولا يعلم بما يدور في نفسها أحد.

٥

كانت أم زينب تقضي أكثر الوقت إلى جانبها، فلا تتركها إلا لقضاء أمور منزلهم، وأبوها يتعرف الأخبار من زوجته، ويذهب إليها أحيانًا يسألها عن صحتها. فإذا ما رأته لم تستطع دون أن توجه إليه نظرة فيها من الألم والعتاب ما يصل إلى قلبه ويكاد يفهمه. وجازية قد انقطعت عن كل شيء إلا العناية بزينب، فلا تتركها إلا ساعات الفرض حين تذهب للصلاة في غرفتها، ثم ساعات الليل حين يبيت حسن إلى جنب زوجته ويغنيها عن كل من سواه.

ولقد ظهرت على الدار غبرة من الحزن، فلا تلمح خارجًا منها ولا داخلا إليها إلا عليه سيما الأسى. وتبعث الشمس إليها بلجة أشعتها فتظهر بلونها الترابي كاسفة كأنما تحس بما تحويه من قلوب جازعة. وشجر السنط الذي أمامها دائم السواد، فإذا هزته الريح أحيانًا تحركت أغصانه حركة المفجوع الذي يهز رأسه آسفًا.

كان يعود زينب أحيانًا صاحبات لها خلع عليهم الشباب والربيع من حلته ما يزهين به، فإذا ما رأتهن تذكرت أيامها الخالية، وما أمرها على النفس أن نرى في أيام سقوطنا وضعفنا ما يذكرنا قوتنا السالفة وجمالنا! لذلك كن متى فارقنها خلفن ورائهن لوعة، وبقيت بعدهن تذرف من عيونها الواسعة على خدودها المصفرة دمعات يرسلها الحزن والأسى.

وكل يوم يعاودها سعالها وتزداد ضعفًا حتى بلغ بها النحول أن كانت متى دخلت فرشها لا تكاد ترى لولا أن ينمَّ عنها وجهها.

فلما بلغ بحسن اليأس، ولم يعد يرى في الجو المحيط به إلا ألمًا، ذهب إلى دار العمدة فوجده وقص عليه الخبر فأنكر عليه العمدة أن تركها حتى الساعة من غير أن يراها طبيب. لكن الذنب في ذلك ذنب أبويه اللذين كانا يكرران كلما أشار حسن إلى هذا: «الحكيم ربنا.. ربنا يشفي» وتطلق العجوز بخورها وتحرق شبتها وتقنع نفسها والآخرين أن البنت محسودة وأن ذلك سيزول قريبًا إن شاء الله.

لكن الله لم يشأ. وبقيت زينب في ضعفها حتى لم يبق لحسن إلا أن يلجأ للعمدة، وأن يشكو إليه استبداد أبويه. ولم يتمهل العمدة، بل أمر كاتب التليفون أن يطلب طبيب المركز أن يحضر، ووعد حسن متى حضر الطبيب أن يبعث إليه من يناديه.

جاء الطبيب في أقرب قطار أمكنه اللحاق به، ووصل إلى البلدة والشمس لا تزال في الربع الأخير من حياتها، فقابله العمدة مرحبًا به، ونادى بالخادم أن يأتيهم بالقهوة، وجعل يحييه ويسأله عن حاله ويمزح معه. والدكتور لطيف خفيف قد أعطاه الشباب من ذلك ما حببه إلى نفوس أهل المركز فحيث حَلَّ يلقاه الناس بالترحيب والبشر ووجوه طلقة وثغور باسمة. ولما أتما واجب التحية، وشربوا القهوة، ابتدءوا حديثهم في السياسة حديثًا طويلًا، ووافق كلٌّ صاحبه في المذهب الذي يتعصب له، والجريدة التي يقدس، والأشخاص الذين يعتقدهم معصومين. فجعلوا يمدحون هؤلاء ويقصون أصغر الحكايات عنهم، ويضيفون لقصصهم كلمات الإعجاب والإطراء، ثم يذكرون آخر المقالات التي كتب، وأخذت بنفوسهم، وأنحوا على الآخرين من سياسي البلد باللائمة، وتدرجوا إلى الحكم عليهم بأنهم مخطئون، ثم حكموا عليهم بالجنون:

– وإلا لو كان في دماغ أى واحد منهم شوية عقل كان خلوا مقالة أول امبارح تظهر.. دول جماعة شاطرين في التهييص الفارغ.

– لأ.. وكل عبارة يفضلوا يزعقوا لها ليحيى وليسقط لما يدوشوا دماغهم ودماغ الناس معاهم. والإنجليز قاعدين والخديو فاضل زي ما هوه.

وهكذا استمروا في حديث طويل، انتقلوا معه من رؤساء الأحزاب إلى نظار الحكومة، ثم إلى الموظفين، وخصوصًا موظفي الإدارة. وهنا قص الدكتور من أخبار المأمور الذي معه ومن نفاقه للمدير ما أطرب العمدة حتى جعله يقوم إلى الطبيب وينحني عليه ويقبله. أوَلا يعد ذلك أقل جزاء له على انتقاصه من شأن هذا الفاجر الذي يضطر العمدة في جمعياته إلى دفع إعانات لا معنى لها، وشراء كتب لا يحتاجون إليها، والاشتراك في جرائد هم أشد الناس احتقارًا لها. وإذا كان أحدهم لا يستطيع إلا الرضا بحكم سعادة المأمور وقبول قوله فإنه على الأقل يجد في الطعن عليه ما يخفّف بعض لوعته. لذلك جعل يتبادل القصص مع صديقه الدكتور ويتناوبان الحكايات واحدًا بعد الآخر. فلما شفوا من ذلك غلتهم سأل الطبيب عن سبب استدعاءه لأنه على عجل، ويريد أن يقوم بقطار الساعة الثامنة، فنادى العمدة بخفير من عنده ليستدعي إليه حسن أبو خليل.

تدلى قرص الشمس في السماء، ولا يكاد يمسك نفسه، فهو يهبط سريعًا، والهواء يهزّ أغصان الشجر وفروع النخل فيسمع من بعد حفيفها؛ والبركة تتتابع فيها الموجات الصغيرة التي تكبر كلما اقتربت من الشاطئ حتى تفنى عنده. والطرق حتى مرمى العين خالية أو تكاد إلا سكة الوسط المشغولة بالذاهبات والآتيات يحملن على رؤوسهن بلاليصهن، ويمشين بتؤدة وتأنّ يهتز مع كل خطوة جسمهن ويتثنى قوامهن، فإذا ما ابتعدن لفهن الشك في ردائه وأظهرهن كأنهن ملكات هذا الفضاء العظيم يتهادين فوقه، والسكون الذي يلزم الأرياف شامل القرية تحت حكمه.

•••

جاء حسن بعد أن بقي ساعات يتلظى على جمر من الصبر، وهو مطرق الرأس كاسف البال ظاهر عليه من أثر الحزن ما ذهب إلى أعماق نفس العمدة والطبيب، ووقف بينهما ينظر لكل نظرة، فإذا ما وقعت عينه على الطبيب امتلأت من الاستنجاد والأمل ما يترك هذا الأخير وكله الرحمة بهذا البائس أمامه. وطلب إليه العمدة أن يجلس، وأن يقص على الدكتور أمره. لكن أي أمر يقص؟ وأي شيء يقول؟ إن زينب مريضة، وحالها يرثى له، ومنظرها يستدرّ العين ويبكي القلب، وإنها تضعف كل يوم عما قبله، وصارت تلك التي كانت علم الصحة والقوة والجمال مستنزل الضعف والمرض والنحول!. تلك كل قصته، وذلك ما يبكيه ويبكي أهل بيته. فهل في يد هذا الجالس يلعب بأصابعه وينظر إليه نظرة مشفق عليه أن يخفف من أوصابها، ويعيد إلى نفوسهم جميعًا من السكون الذي هجرها ما يستطيعون معه أن يطعموا العيش وأن يجدوا للحياة معنى؟!

قام الطبيب معه فذهبا إلى المريضة وقد هجرها كل من كان عندها إلا أم زينب بقيت إلى جانبها، فكان أول ما سألها عنه: أكان من أهلها من أصيب بهذا المرض من قبل؟ ولكن أمها أمامه قوية صحيحة، وأبوها ليس أقل قوة ولا أضعف صحة. وسألها عما تريد فأجابت: لا شيء. وعن أشياء أخرى كثيرة لم يأخذ عنها ردًّا مقنعًا. وأخيرًا طلب إلى من معها أن يتركوه وإياها وحيدين، وجعل يضاحكها كما تضحك الأم طفلها يريد أن يقف منها على شيء من خفيِّ أمرها. لكنه كان أبعد من أن يقنع بما تجيبه به. والواقع أنه كان يتطلب منها فوق طاقتها. إذ مهما يكن من ثقتنا بالطبيب وطبّه فلسنا نرضى أن نذيع عن أنفسنا شيئًا يأخذه علينا أحد مهما قوي يقيننا أن لن يطلع عليه غيره.

ولما يئس من جوابها سألها أن تكح. ولم تكد تحرك نفسها لإجابة أمره حتى جاءتها نوبة السعال كأشد ما تكون.. ورأى الطبيب بعده الصديد الذي تبصق، فرفع حاجبيه وهزّ كتفه كأنما يريد أن يقول: لا ضرورة لعلاج وقد بلغ الحال أشده. ولكنما عَرَتْه للحال رعشة أن رأى هذا الشخص ولا تزال بقاياه تنمّ عن قديم جماله الباهر، وهو يذبل إلى الموت ويسري مسرعًا نحوه.

ثم نظر إليها متعطفًا شارحًا أن الأمل في الشفاء لا يزال كبيرًا بعد، ولكن ذلك متوقف على أن تخبره بما يدور في نفسها، وخفيِّ ما يجيش بصدرها. فتنّهدت زينب ونظرت إليه هي الأخرى وقد جمعت في عيونها الواسعة من الاستغاثة به والاعتماد عليه ما رقّ هو له. ثم ابتدأت تريد أن تقص له من حديثها ما يريد، لكنها رجعت فترددت، كأنما ترى في قصتها من القداسة ما لا يجوز معه أن يطلع عليها إنسان. وفهم الطبيب ما في نفسها من التردد، فجعل يشجعها بكل ما يستطيع حتى رضيت أن تقصّ عليه أطرافًا من قصتها. ولم يك محتاجًا لكثير، فطمأنها على نفسها، وأذن لأهلها أن يرجعوا، وخرج وتبعه حسن، وقطع الفسيح من الأرض الذي يفصل دار العمدة عن بقية دور البلد، وقد غابت عنه الشمس، فأرسلت إليه المباني ظلالها. والسماء قد ابتدأ الليل يرسل إليها طلائعه، فبدت لا تزال زرقتها صافية بديعة، والبركة عن يمينهم تعكس ما فوقها وتتابع موجاتها يلعب بها النسيم.

دخلا دار العمدة، فلما استقر بهما المقام أخرج الطبيب من جيبه أوراقه وقلمه وكتب تذكرته وأعطاها حسنًا، ثم طلب إليه أن يجعل زوجته تخرج كل يوم قبل مغيب الشمس بساعتين وأن تتبع بالدقة النظام الذي كتبه لها، ثم أن يذهب من غده ليشتري من الأجزاخانة الأدوية اللازمة.

تركها حسن وخرج، فلما كانا وحدهما سأله العمدة عن حال مريضته فأجابه: والله يصح أنها تطيب.. لكن.. يصح أنها لا تطيب.

ثم انتقلا إلى حديث آخر حتى جاء موعد القطار ورجع الطبيب إلى مركزه.

تحرَّى حسن أن تأخذ زوجه الدواء على نص ما قرر الحكيم، وأن تخرج كل يوم بعد الغداء حتى ساعة العصر. ومع كثرة الأماكن وتنوعها فقد كانت مزرعتهم المكان الأفضل أمام نظرهم جميعًا. فلما خرجت زينب لأول يوم خرجت قبيل الظهر تسير مع أخت حسن التي حملت غداءه، ووصلتا وحسن جالس تحت الشجرة بعد أن قضى نصف النهار حرثًا يجهز الأرض للقطن، وعلى مقربة منه ثوراه يأكلان علفهما، والمزرعة قائم فوقها المحراث يفصل ما بين القسم الأيمن لا يزال بلاطًا، والأيسر مفروش بالحرث لا يزال يخبر عن أن ما عمل حسن إنما هو الوش الأول. وجلستا إلى جانبه حتى أخذ طعامه وتركته أخته راجعة إلى الدار، وقام هو إلى عمله، وبقيت زينب وحدها تتلفت إلى ما حولها. فلما رأت مزرعة السيد محمود إلى جانبها تذكرت اليوم الأول وهي لا تزال بنتًا حين أغمي عليها، وجاء إبراهيم يرش الماء على وجهها ويسندها بين ذراعيه. ثم تخيلته سائرًا هناك يتلفت يمينًا ويسارًا ثم راكزًا فأسه في الأرض كعادته وينظر إليها وكأنه يناديها إليه.

وفي الجهة الثانية يسوق حسن محراثه يقدّ به بطن الأرض الناشفة ويناوش ثوريه بفرقلته من حين لحين. والأعجمان يجران بكل قوتهما، ويتبعهما سلاح المحراث ينثر القلقيل حوله. فإذا ما وصل إلى آخر الخط رفع العامل محراثه وأقامه على جانبه وأداره إلى الخط الذي بعده. ويبقى كذلك طول نهاره يذهب إلى آخر المزرعة ويرجع والشمس متسلطة فوق رأسه تصبغ وجهه سوادًا.

بعد زمن قامت زينب وقد ضايقها محلها وضايقتها الوحدة وتولاها الهم، فلما رآها حسن أقبل عليها يسألها عما تريد، فأخبرته أنها تريد أن ترجع، وبذلك اختطت طريقها وحيدة إلى البلد.

لكنها ما كادت تبعد حتى أحست كأن شيئًا يدفع بها ثانية نحو الغيط، فارتكنت إلى ظل شجرة ورمت بنظراتها إلى جهته. فلم تستطع الوقوف طويلًا، واستولى عليها الهمود الذي يعاودها لأقل عمل تجاهده، فجلست إلى الظل وبقيت محدقة بمزرعة السيد محمود مرسلة بخيالها إلى الماضي وأيام كانت بنتًا، تلك الأيام اللذيذة حين يسرح القلب حرًّا كما يشاء، ويتنقل من شخص لآخر حتى يجد محبوبه الأزلي الأبدي، فإذا ما وقع عليه فني فيه وعدم كل لذة في الحياة من دونه، وخيّل إليه أن العالم أفظع من كل شيء ما دام هو ليس قريبًا.

نِعْم الأيام الأولى هذه حين كانت زينب مالكة نفسها تعطيها مَن يدلها عليه قلبها، كانت أيامًا سعيدة. أما اليوم وقد نأى المحب، ولم يبق من بين الناس من تقول له كلمة أو تبوح له بمكنون سرّها. فنجم حياتها يأفل، ويدعها بين يدي الذكرى تتعزى بها مرة، وتجد فيها الألم القاتل أخرى. ولو أن أبويها لم يكونا من الطمع بحيث يضحيان بإرادتها وبكل شيء في سبيل الحصول على حسن لكانت اليوم بين يدي الصحة والسعادة. وإن الطبيعة بوحيها لتهدينا طريق الخير فتأبى بصائرنا العمياء إلا أن تحيد عنه.

استأنفت سيرها حين مرَّ بها سارح سألها عن سبب جلوسها. فلما بلغت الترعة في الطريق ورأت أن وقت الملية جاء أو كاد راحت من جديد فاستندت إلى جذع شجرة قائمة على مقربة من الموردة. ومن الحصى الذي حولها جعلت تحذف في الماء واحدة بعد أخرى ببطء وتمهل، والماء كاس لون السماء ينساب رائقًا، ولا يزال الجرفان عن جانبيه أملسين من أثر التطهير فلا حشيش عليهما ولا خضرة، والشمس تبعث على الأشياء بشعاعها فتذرها ممتدة الظل بما يكاد يكون مثليها، والنسيم يهز «الربة» قليلًا حتى لا يرى اهتزازها.

جاءت مقدمة المالئات، فلما غسلت جرتها وملأتها طلبت إلى زينب أن تعين عليها. وهذه الأخرى رجعت إلى راحتها، فقامت فأعانت عليها، ثم رجعت مكانها، فلم يستقر بها المقام حتى جاءها السعال قاتلًا يكاد يخنقها، فدمعت عيناها وانتفخت أوداجها، وأحست بما على صدرها فقذفته صديدًا ودمًا. والأخريات اللاتي جئن للملية قد أحطن بها يسألنها عما أصابها. وهي دامعة العين من هول ما حل بها، دامية القلب لما تفكر فيه لا تجد شيئًا تجيب به إلا «مفيش». ولما رأت أن لا مفر من أسئلتهن ما دامت عندهن قامت فسارت مع إحداهن قاصدة الدار. وهناك وجدت أمها جالسة على عتبة الباب الكبير وبيدها هون تدق به الفلفل وتترسم الطريق من حين لآخر كأنما تنتظرها، وهي مثل كل يوم لا تزال متعبة، كل شيء يجهدها ويجيء على آخر قواها، كما أن السعال الفظيع لا يفتأ يناوئها من حين لحين.

•••

ودخلتا معًا حتى كانتا على السطح أمام الغرفة، فاستندت زينب إلى حائطها، وجلست إلى جانبها أمها. ونظرت هذه الأخيرة في عين ابنتها وكلها الحنان فوجدت تلك النظرات التي عرفتها جاذبة فتّاكة قد استحالت نظرات استعطاف واسترحام، وكما كانت تصل إلى القلب فتذره أسيرًا مكبلًا كذلك هي الآن تنظر إليه فيرق دون نظراتها ولا يستطيع إلا أن يجيبها لكل ما تطلب. ولقد أحست الأم أمامها بضعف حتى كادت تستغفر ابنتها عن غير ذنب تعلمه. وبعد مدة صامتة رجعت فسألتها عن حالها.

فاض عن قلب زينب ما تكنّ لذلك الغائب في مجاهل السودان، وأرادت أن تبوح بما تكنّ لأمها. لكن ما تخيّلته في ذلك من موضع للوم أدخل التردد إلى نفسها. لا بد لأمها متى سمعتها تقول مثل هذا الكلام أن تجيبها عليه بتقريع لا تحب أن تواجه به، وإذا كان الموت القريب ينتظرها فلتنتظره هي الأخرى هادئة مطمئنة حتى يجيء فينقلها إلى عالم لا عذاب فيه ولا حزن، بل كله سكون وهمود وفناء أخير. ولكن! أليس على أبويها الذنب في زواجها هذا ويجب أن تبين لهما عنه.

وبعد هذا التردد شجعت نفسها وأجابت أمها حين سألتها مرة ثانية عن حالها: حالي زي ما انت شايفة … بدي أموت قريب وكله من تحت ايديكو. فضلت أعيط وأقولك يا أمه ما بديش أجوز تقولي لي كل الناس أبوهم بيجوزهم على غير كيفهم وبعدين يصبحوا ويا جيزانهم زي العسل. أديني ويا جوزي زي العسل ما قلتش حاجة. ولكن أديني حاموت وتخلص العيشة اللي بينا وبين بعض.. بكره والا بعده حاموت يامه ووصيتكو إخواتي لما تيجوا تجوزوا حد منهم ماتجوزهمش غصب عنهم لحسن دا حرام.

ثم لم تستطع الاستمرار في القول، إذ خنقتها العبرة، وامتلأت بالدمع عيناها، وأمها إلى جانبها ترى وتسمع فينفذ إلى قلبها من الألم سهم تتقد له ضلوعها ولا تطيق أن تنطق بكلمة أو أن تحير جوابًا. وهكذا سكتت المرأتان، وظل المكان حولهما تتمشى فيه آيات الحزن الصامته فتزيده عبوسًا وحزنًا.

ارتعدت زينب، وعاودها السعال الذي أصبح يشق صدرها فتخرّ مما يأتيها به الألم كأنها فاقدة الصواب، وبذلك انتبهت أمها مما كانت فيه من تيهاء الأحزان، وأسندت ابنتها بيدها. وهاته الأخيرة لم تعد تفقه شيئًا مما أمامها، قد وضعت يدها الناحلة على صدرها، وعلا وجهها الشاحب ما رد إليه بعض قديم لونه. ثم ارتمت بعد سعالها منهوكة خائرة.

جاءت الظهيرة وأرادت زينب أن تخرج رغمًا عما بها من الضعف، فصحبتها أمها وسارتا. وزينب تتخذ غير الطرق التي تصل إلى مزرعة عمي خليل، فتندهش أمها وتعلوها الغرابة، لكنها لا تستطيع أن تعارضها في شيء. والضعف الذي يعتاد الآباء أمام أبنائهم المصابين عاودها، فلو أن ابنتها طلبت إليها المحال لسعت إليه. والربيع يعلن نفسه في كل النواحي، ويمدّ رواقه على كل الأشياء، وشمسه تتلألأ أشعتها فوق أوراق الشجر الناضرة، والترع انتهت من فصل التطهير وابتدأ الماء يتخذ سبيله إليها، والقبرات والعصافير والطيور الصغيرة تنطّ على الجسور وتطير على مقربة من الأرض. ومن حين لآخر يمر سرب الحمام مرتفعًا في الجو فرحًا بالشمس وبالربيع.

سارتا تتبع الأم ابنتها حتى وصلتا قريبًا من الموردة، ثم وقفت زينب مرة واحدة وعلاها شيء من التردد رأته أمها على وجهها، فوقفت هي الأخرى، ولم تقل شيئًا. ثم مشت لما مشت ابنتها حتى الموردة، ثم انعطفتا إلى اليسار، فلما صارتا عند الشجرة ارتمت تحتها زينب تائهة مغمي عليها.

والشجرة قد أخذت هي الأخرى حظها من زخرف الربيع، وازّينت، ومدت ظلها إلى ما يجاورها. وكل شيء قد جاءته جدة الزمان بلباس جديد إلا البرسيم المتروك للربة قد بدأ يذبل وينتظر موته القريب.

بقيت أم زينب تعالج أن تفيقها. فطورًا تهزها كأنها تحسبها نائمة، فهي تريد أن توقظها، وتارة ترشّ على وجهها الماء. والبنت مطروحة فوق الحصى لا تعي شيئًا مما تفعله أمها بها. وأخيرًا بعد أن تمشَّى اليأس إلى نفس الأم، وجعلت تذرف في تنهدها دمعات تجود بها مآقيها الناشفة، ارتمت فوق ابنتها تطوقها بيديها وتبكي كأنها الطفل، وقد نسيت سنها من أجل هاته العزيزة عليها تودع عالمنا الأرضي في نضارة العمر وريعان الشباب.

ثم جاءت إلى نفسها كلمات زينب حين لامتهم على تزويجها، وجعلت تندب حظ هذه الفتاة البائسة وتضرع إلى السماء ألا كانت على شيء من الرحمة فلا تفجع العائلتين في محبوبتهما! وبقيت كذلك زمنًا لم تعرف مقداره حتى ذهب بكل أفكارها أن أحست بزينب تتحرك تحت يديها، فجعلت تلاطفها كأيام كانت صغيرة في مهدها، وتسألها تريد أن تسمع منها كلمة لتطمئن على أنها حية ترزق.

تنهدت زينب كأنما خف عنها حمل كان يثقلها، ثم فتحت عينيها وجاهدت أن تقوم، فساعدتها أمها حتى أسندتها إلى الشجرة. فلما استقرت نفسها بعد ذلك الإغماء لم تعلم إن كان نومًا هادئًا أو حلمًا فظيعًا مرت بنظرتها على الموجودات أمامها ثم تنهدت وألقت برأسها إلى الأرض.

أما أمها فلم تجد ما تقول، وكلما أرادت أن تسأل عن شيء أحست بمانع يصدها عن الكلام. وأخيرًا سألت: عايزاش حاجة يا زينب؟

فلم تجب زينب بحلوة ولا بمرة، وبقيت مطرقة كأنما تفكر. ولكن الذي أصابها تركها مهدودة القوى ضعيفة لا تستطيع شيئًا حتى الكلام، فوجدت في هذا السكوت المطلق من اللذة ما يجده الخادر الذاهل قد عمل فيه الألم، وأنهكه ثم لم يعد يحس به ولا بشيء مما حوله.

وأخيرًا استعادت بعض قوتها ثم قالت: يا امه أنا رايحه أموت.

ما هذه الفكرة الملازمة تكررها زينب من حين لحين؟ لِمَ تذكر الموت كل يوم وكل ساعة؟.. ألا تني عن إيلام أمها لحظة من الزمان؟.. وأي سلطان تخضع لحكمه يجعلها دائمة الترداد لذكر الموت؟. لكنها في كل مرة كانت تقول ذلك، كانت تحس بشيء يوقفها عن الاستمرار دون ما تريد أن تخبر به أمها، وتأخذها رعشة تخاف أمها عليها عاقبتها. فكم رأتها بعد أمثال هذه الرعشات فريسة حمى شديدة تهز كل وجودها وتكاد تجيء على حياتها..

ولم يكن تخوفها ليكذب إلا قليلًا … لذلك استعجلت بزينب بعد هذا الإنذار بالموت الذي سمعته أن تقوما، فقامتا تريدان الدار خشية أن تجد في المزرعة ما يزيد حمى ابنتها فظاعة وقسوة. لكن زينب لا تحملها رجلاها ولا تستطيع أن تسير.. هنالك ساءلت أمها نفسها: هل تحملها على كتفها كما كانت تحملها طفلة؟ أو هل تنتظر أن يمر من معه مطية يعطيها إياها.. ولم لا تحملها؟ وهل هي بعد هذا النحول الذي أصابها وهذا الموت المسرع نحوها بأثقل وزنًا منها أيام الطفولة؟.. ولكن ماذا عساه يقول مَن يراها كذلك!.. وهل في هذه الحال حال الفناء الأخير يتساءل الناس أن حملت أم ابنتها؟! وفيما هي في هذا التفكير وما يشبهه مرَّ بها راجع معه حمارته فلما رأته نادت به ورجعت إلى جانبه حتى دخلتا بزينب الدار.

ولم تصل إلى غرفتها حتى عاودها السعال محملًا صديدًا ودمًا، ثم انتابتها حمّى ذهلت فيها عن نفسها، وجعلت من حين لآخر تهذي بكلام متقطع. ثم ارتعدت أمها أن سمعتها تصيح بكل قواها تنادي: يا إبراهيم! وعلاها بعد ذلك سكون أخرس لم تسمع فيه أمها حتى ولا تردّد أنفاسها. وأمسكت بيدها فإذا هي باردة، وإذا عيناها مقفلتان، ووجها ناحل، وعليها كل علامات الموت الذي رددت زينب اسمه في يوميها الأخيرين مرات. وأمام هذا المنظر المريع أبرقت عينا الأم ولمعتا بشيء من اليأس، ثم انقضت ممسكة بيدي ابنتها صارخة: زينب.. يا زينب؟.. ثم خرت إلى جانبها كالجبل المنهد!.. وفي وحدتها إلى جانب الغارقة في لجج الفناء همست: خلاص!

دخلت في تلك الساعة ابنتها الثانية راجعة من عمل النهار، فلما رأت ما فيه أمها من اليأس جلست إلى جانب الحائط خائفة ترتعش، وفي لحظة انسلت من مكانها، ولم تخرج إلى الفضاء حتى علا صوتها بالبكاء. وفي وسط السلم قابلتها أم جازية فعلمت أن في الأمر شيئًا، وأسرعت إلى الغرفة، وعند الباب قابلها حسن راجعًا مع أبيه من الجامع، فأمسكها بيده، ولكنها تخلصت منه وسارت حتى بلغت دارهم، فلما رآها أبوها سألها عما أصابها فأجابت في بكائها: أمي بتعيط عند زينب.

ولم يكد الرجل يسمع ذلك حتى خر صريعًا كأنما أرسل عليه الموت صاعقته. ثم قام إلى دار خليل فوجد العجوز وحده فنظر إليه نظرة المفجوع في ولده ثم سأله: هي ماتت يا خليل؟!

ولكن خليل لا يدري..

وفي غرفة الموت جلس العجوزان إلى جانبي الفانية التي قلبت طرفها، فردت على أمها أن ستبقي ابنتها لحظة على الأرض بعد. وعلى الباب جلس حسن ممسكًا بيديه رأسه تنهمل دمعة اليأس من عينيه، وما عرفت إليها قبل اليوم سبيلًا.

ثم طلبت زينب إلى أمها أن تأتيها بمنديل محلاوي موضوع في صندوقها، وأخذته بيدها فوضعته على فمها، ثم على قلبها. وكانت آخر كلمة لها أن يوضع المنديل معها في قبرها. وفي وسط الليل أقفلت عينيها وراحت إلى أعماق سكونها، وارتفع صراخ العجوزين يعلن في الفضاء موتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤