الفصل الرابع

العبقري المجنون: التكوين النفسي لصنَّاع الأفلام

في فيلم «أزواج وزوجات» (هسبندز آند وايفز) لوودي آلِن، نتعرَّف إلى جيب (آلِن) وجودي (مِيا فارو)، الزوجين النيويوركيَّيْن المثقَّفَيْن، اللذين يبدو زواجهما، في الظاهر، نموذجًا للعلاقة الحضرية العصرية؛ فهما ناجحان في عملهما ويقومان بدعوة أصدقائهما على العشاء، ويرتادان المطاعم والمسارح. لكن ضِيقَة خفيَّة تتسلل إلى علاقتهما، ويجد جيب، الكاتب والأستاذ الجامعي، نفسَه منجذبًا لإحدى طالباته، رين (جولييت لويس) ذات العشرين عامًا التي تبدو أكثر نضجًا من سِنِّها. لكنه بعد أن يقوم بمغازلتها وممازحتها حول السنوات التي قضاها في الاتصال برقم ٩١١ طلبًا للعلاج النفسي، يقرِّر التوقُّف عن ملاحقتها لكي يكسر نمطًا من أنماط العلاقات المحكوم عليها بالفشل.

fig9
شكل ٤-١: وودي آلِن ومِيا فارو في مدينة نيويورك، مارس ١٩٨٦م (حقوق النشر محفوظة لترينيتي ميرور/ميروربيكس/آلمي).
في بداية عقد التسعينيات، كانت العلاقة بين وودي آلِن ومِيا فارو يُنظر إليها على نطاق واسع كنموذج للعلاقة الحضرية العصرية. ورغم أنهما ليسا متزوِّجين، وكانا يعيشان في شقَّتَيْن منفصلتين، فقد صنعا معًا عددًا كبيرًا من الأفلام، وبَدَوَا أمام الناس شخصين متحابَّيْن ومخلصَيْن أحدهما للآخر، ولديهما العديد من الأبناء بالتبنِّي فضلًا عن طفل آخَر من صلبهما. وفي عام ١٩٩٢م، قبل شهر واحد من عرض «أزواج وزوجات»، انتشر خبر بأن آلِن على علاقة مع سونْ يي، ابنة فارو ذات التسعة عشر عامًا (التي تبنَّتْها فارو أثناء زواجها من أُندريه بريفن).1 وقد زعم آلِن أنه مُغرم بسونْ يي، وأن علاقتهما لم تكن يومًا علاقة أب بابنته، وأن علاقته بفارو كانت منذ بعض الوقت أفلاطونية وغير مُلزِمة للطرفين في إطار رومانسي.2
fig10
شكل ٤-٢: مِيا فارو ووودي آلِن في دوري جودي وجيب في فيلم «أزواج وزوجات» ١٩٩٢ (حقوق النشر محفوظة لأرشيف إيه إف/آلمي).

كان ثمة أوجه شبه مذهلة بين الفيلم والواقع — رجل يَقَع في حب امرأة أصغر سِنًّا على خلفية علاقة موحِشة تتخفَّى وراء واجهة عامة — لدرجة جعلت البعض يتساءل: «هل هي مجرد مصادفة؟»

يُقلِّل وودي آلِن من أهمية الصِّلة بين الحياة والفن، فرغم أنه يعترف أن الفنانين يستعيرون بعض العناصر مما يَرَوْنه حولَهم، فإنه يزعم أن «أزواج وزوجات»، شأن كل أفلامه، قصةٌ متخيَّلة، من بنات أفكاره.3 لا شك أنَّ أوجُه الشبه بين الفيلم والواقع ليست تامَّة (جيب وجودي ليس لديهما أطفال؛ وجيب يُقرِّر قطع علاقته مع رين)، إلا أن أغلب الناس يَرَوْن تأكيد آلِن على كون الفيلم محضَ خيال، مخادِعًا. فمن الواضح، في هذا المثال، أن الفن يُحاكِي الفنان والعكس بالعكس.

(١) السيرة النفسية وصنَّاع الأفلام

ينقل هذا الفصل بؤرة الاهتمام من الأفلام إلى صنَّاع الأفلام. فالأفلام لا تدور فقط حول الناس، بل تُصنع أيضًا بواسطتهم؛ أناس لامعون، متمركِزون حول ذواتهم، ذوو عاطفة جيَّاشة، وربما مجانين بعض الشيء. ومن شأن أي استعراض لقسم السِّيَر الشخصية في المكتبات، أو صحف التابلويد في محلَّات السوبر ماركت، أن يُرِيَنا بوضوح كيف أن الجماهير، بدايةً من أورسن ويلز وحتى لينزي لوهان، شغوفة بحياة صنَّاع الأفلام. ولذا يتناول هذا الفصل الكيفية التي تنعكس بها خبرات الفنانين، وشخصياتهم، وقِيَمهم، ودوافعهم اللاواعية، على أعمالهم.

السيرة النفسية هي دراسة لأحد الأشخاص تُغطِّي حياتَه بأكملها.4 وشأن كاتب السيرة الشخصية العادي، يقوم كاتب السيرة النفسية بجمع تفاصيل من حياة أحد الأشخاص ويصنع منها حالة تلعب فيها الأحداث دورًا مُهِمًّا. لكن في حالة السيرة النفسية، يتم تسليط الضوء على أبعاد الشخصية المضمرة تحت السلوكيات الظاهرة للشخص. وكثيرًا ما تكون هناك محاولة لتفسير تلك الأنماط باستخدام نظرية معيَّنة في التطوُّر الإنساني. فعلى سبيل المثال، استخدم إِريك إِريكسون نظريته التطورية (التي كثيرًا ما يُطلِق عليها «مراحل الإنسان الثماني») لتحليل حياة مارتن لوثر، مع التأكيد على تطور هُويته في سنوات المراهقة والشباب المبكِّر.5
تتناول السِّيَر الشخصية بوجه عام أفرادًا عاشوا حياتهم تحت أنظار الجماهير (سياسيون ومفكِّرون بارزون). وينطبق هذا على السِّيَر النفسية أيضًا، مع الميل لتفضيل الفنانين والكُتَّاب كموضوعات دراسة، ما أنتج لنا تحليلات لحياة فنسنت فان جوخ، وسيلفيا بلاث، وإلفيس بريسلي.6 لا غرابة إذن في أنَّ أول سِيرة نفسية في التاريخ كانت ذلك التحليل الذي قام به فرويد لحياة ليوناردو دا فينشي وأعماله الإبداعية.7 إن أحد الأسباب التي جعلت من دا فينشي موضوعًا بمثل هذا الثراء هو أنه خلَّف وراءه كمية هائلة من الرسومات والدفاتر (منتجات رمزية) ساعدت في إلقاء الضوء على حياته الداخلية؛ ذلك لأن السيرة النفسية تتعامل مع إبداعات الفنان باعتبارها نُسَخًا، ممتدة على مدار الحياة، من الاختبارات الإسقاطية المستخدَمة في التقييم النفسي (التي يتم فيها التعامُل مع رسوم وقصص موضوعات الدراسة باعتبارها انعكاسات لسرائرهم).8
تفترض السيرة النفسية، عند تطبيقها على الأفلام، أن جميع العناصر الرمزية (الحوار، الأزياء، وحتى حركات الكاميرا) هي انعكاسات للتكوين النفسي للأشخاص الذين قاموا بصُنْعِها. أضِفْ إلى ذلك أن كُتَّاب السيرة النفسية، في تناولهم للحياة المهنية لصنَّاع الأفلام، يتجاوزون اﻟ «ماذا» عن حياتهم المهنية، ليسألوا «لماذا؟»: لماذا تعكس أفلام هيتشكوك كلَّ هذا القلق؟ لماذا يلعب جاك نيكلسون دائمًا دور المتمرِّد؟ ورغم أنه لا يوجد سوى عدد قليل من السِّيَر النفسية لصنَّاع أفلام وضعها علماء نفس متمرِّسون،9 فإن الأسلوب القائم على عَقْد صلات بين جوانب شخصية من حياة صانع الفيلم وفنِّه يحظى بانتشار واسع.

(٢) المؤلِّفون: لمحات عن المُخرِجين

كان ظهور «نظرية المؤلِّف» في الخمسينيات (وهي تقضي بأن الفيلم يعكس الرؤية الشخصية للمُخرِج، فيَبدُو كأنه هو المؤلِّف الأساسي للفيلم) أحد أهم التطورات التي شهدتْها دراسات الفيلم، وذلك حين ذهب نقَّاد السينما الفرنسيون إلى أن بؤرة اهتمامهم ينبغي أن تكون المُخرِجين الذين يصبغون أعمالهم برؤية شخصية تعكس انسجامًا على مستوى الأسلوب والتيمات مع حياتهم الخاصة.10 وقد انحاز نقد المؤلِّف في نسخته الأصلية إلى مُخرجِين بعَيْنِهم باعتبارهم حالات نموذجية، لكن هذا معناه أيضًا أن الأفلام، شأن الروايات والقصائد والمسرحيات، صار لها الآن «مؤلِّفون». وإحدى النتائج غير المقصودة لهذه النظرية أن المُخرجين أصبحوا تربة خصبة لتحليلات السِّيَر الذاتية. فإن سلَّمنا بأن الأفلام هي انعكاسات للرؤية الشخصية للفرد، إذن فإن تلك الأفلام نفسَها تقدِّم لنا مفاتيح للدخول إلى حياة المُخرجين وإخضاعها للدراسة.

ألفريد هيتشكوك

يتمتع هيتشكوك، شخصًا وفنَّانًا أيضًا، بحضور قوي يُلقِي بظلاله على أفلامه. وَلْنتذكَّرْ مثلًا شغف الجمهور بظهوره الخاطف في العديد من أفلامه.11 يعتقد كاتب السيرة دونالد سبوتو أن هناك صلة قوية بين عُقَد هيتشكوك النفسية وشخصيته المتناقضة من جانب، وأفلامه من جانب آخَر: «إن أفلام هيتشكوك هي دفاتر ملاحظات ويوميات … كان تكتُّمه الذي يُشارِف حدَّ الهَوَس وسيلة متعمَّدة لصرف الأنظار بعيدًا عن حقيقة تلك الأفلام؛ ألا وهي أنها وثائق شخصية على نحو مذهل.»12 رغم أن الأمر في ظاهره لا يبدو على هذا النحو. فنحن لا نجد مِن بين كل أعماله فيلمًا يدور حول رجل إنجليزي بَدِين، محبٍّ للدعابة، يعيش حياة مريحة في جنوب كاليفورنيا. بَيْد أن سبوتو يؤكِّد أنك لو أمعنتَ النظر في حياة هيتشكوك وأفلامه، لوجدت رجلًا مليئًا بالتناقضات الصارخة. فالشخصية العامة لرجل العائلة البسيط الذي لا يحب سوى صناعة الأفلام تتناقض مع حياة باطنية أكثر قتامةً، قوامها الشعور بالذنب والقلق والغضب؛ ومن هنا جاء عنوان السيرة التي وضعها سبوتو: «الجانب المظلم للعبقرية» (١٩٨٣).
إحدى نوادر الصِّبا المفضَّلة لدى هيتشكوك تدور حول تلك المرة التي ارتكب فيها خطأً طفيفًا وطلب والدُه ويليام من صديق له يعمل في الشرطة أن يضع ألفريد في الحبْس لفترة وجيزة لكي يُلقِّنه درسًا. لجأ هيتشكوك إلى هذه القصة لكي يفسِّر الخوف الذي رافَقَه طيلة حياته من السجن والشرطة.13 يتبدَّى والده في هيئة رجل صارم بلا مشاعر، وهي صورة تتسق مع القليل الذي نعرفه عنه. ويخمِّن سبوتو أن وفاته التي وقعتْ عندما كان هيتشكوك في الخامسة عشرة من عمره ربما تكون وَلَّدتْ لديه شعورًا بالذنب استنادًا إلى المشاعر العدائية (ربما حتى تمنِّي موتِه) التي كان يُكِنُّها لوالده القاسي.14 فصور السلطة ككيان مستبدٍّ لا يُعتمد عليه وينطوي على خطر محتمل، حاضرة على الدوام في جميع أفلام هيتشكوك: رءوس التجسُّس في فيلم «سيِّئ السمعة» (نوتوريَس) الذين يُلقُون بأليسيا (إنجريد برجمان) بلا رحمة في طريق الشرِّ؛ والشُّرطي المُخيف الذي نراه على الدرَّاجة النارية في فيلم «سايكو»؛ والنظام القضائي المَعِيب الذي يدين رجلًا بريئًا (هنري فوندا) في فيلم «الرجل الخطأ» (ذا رونج مان)؛ إلخ.
ورغم أن هيتشكوك، فيما يبدو، ينظر إلى واقعة السجن في طفولته باعتبارها مزحة مروِّعة، فإنها تُظهِر على الأقل شيئًا من الوعي لديه بوجود صلة بين حياته وفنِّه. وقد تكون هناك صلات أخرى لم يكن هيتشكوك شديد الرغبة في مناقشتها في العلن؛ فقد اشتُهر بتجسيداته البغيضة لشخصية الأمِّ. يتجلَّى هذا بصورةٍ مبالَغٍ فيها في شخصية مدام سيباستيان (ليوبولدين كونستانتين)، في فيلم «سيئ السمعة»، خاصةً في المشهد الذي تُشعِل فيه سيجارتها، وتُحدِّق بنظرة مخيفة، ثم تُمعِن التفكير في طريقة لتخليص ابنها النازي الرعديد، أليكساندر (كلود رينز) من زواجه من جاسوسة أمريكية. كما تقدِّم أفلام «سايكو»، و«مارني»، و«الشمال الغربي» (نورث باي نورث ويست) وغيرها نماذج لأمهات متسلِّطات أو غريبات الأطوار وقاسيات. ويُلمِح سبوتو أنه ربما كانت تلك الأمهات انعكاسات لمشاعر هيتشكوك المتناقضة تجاه أمِّه، التي عاش معها حتى زواجه من ألما ريفيل، في أواخر العشرينيات من عمره. فقد كان شديد القُرْب منها، كما يُقال، رغم أنه ربما يكون قد شعر بالسخط عليها بعد أن أُصيبتْ بالاكتئاب عقب وفاة والده وأصبحتْ بحاجة إلى قدْر كبير من الاهتمام والرعاية.15
يعتقد سبوتو أن مخاوف هيتشكوك تجاه الأمهات والأمومة استمر في علاقته مع ألما؛ فقد كان لها تأثير هائل على حياته وعمله؛ إذ يَصِف سبوتو علاقتهما الحميمية بأنها كانت أفلاطونية في أغلبها.16 وبإمكاننا العثور على هذا التوتُّر، مرة أخرى، في أفلامه. فميدج (باربرا بيل جيديس) في فيلم «دوار» (١٩٥٨)، امرأة جذَّابة، وذكية، ومخلِصة للبطل، سكوتي (جيمي ستيوارت). والعلاقة بينهما قوامها صداقة متينة تعود إلى سنوات دراستهما الجامعية عندما كانا مخطوبَيْن. غير أن سكوتي يأخذ علاقته بميدج كشيء مسلَّم به، وعند نقطة معيَّنة يُعبِّر عن رفضه لما تُبدِيه من قلق عليه قائلًا: «مسلكك هذا أُموميٌّ بصورة لا تُطاق.»
وبحسب سبوتو، كان هيتشكوك ضعيفَ الثقة بنفسِه بسبب افتقاره إلى الوسامة؛ مما قادَه إلى إقامة علاقات استحواذية مع بطلات أفلامه. وقد ظهر «نمط» هيتشكوك (الشقراء، الراقية، الواثقة بنفسها، التي لا سبيل لبلوغها) في أفلامه من الأربعينيات وحتى الستينيات (إنجريد برجمان، تيبي هيدرن، جريس كيلي، كيم نوفاك، على سبيل المثال). وارتبط هيتشكوك مع هؤلاء الممثِّلات بعلاقات شائنة اشتُهرتْ بحِدَّتِها. كان لطيفًا وودودًا، هكذا تصف كيلي في تأثُّر كيف كان يحرص على أخذ رأيِها في الملابس التي ظهرت بها في فيلم «اتصل بإم للقتل» (دايل إم فور ميردر).17 لكنه أيضًا كان متسلِّطًا بطريقة غير طبيعية ويتمسَّك بمعايير غير واقعية لا مثيل لها؛ فقد انتابه غضب شديد عندما اضطرت فيرا مايلز إلى الاعتذار عن استكمال دورها في فيلم «دوار» بسبب الحمل في طفلها الثالث، وقال لها إن «الطفل الأول كان متوقَّعًا، والثاني كافيًا، أما هذا الثالث فهو فُحْش!»18

ويرى سبوتو في فيلم «دوار» مثالًا أصيلًا لهواجس هيتشكوك النفسية. ففي النصف الأول من الفيلم، يقتفي سكوتي أَثر السيدة الغامضة الشبحية مادلين (نوفاك)، زوجة صديقه الثري منذ أيام الجامعة، عبْرَ شوارع سان فرانسيسكو الغامضة الشبحية بالقدْر نفسه. في البداية، تبدو مادلين في هيئة مثالية لا سبيل إلى بلوغها، لكن ما إن يبدأ سكوتي في إقامة علاقة معها، حتى تتعرَّض للموت سقوطًا ويعجز عن إنقاذها تحت تأثير خوفه من الأماكن المرتفعة. ثم في النصف الثاني من الفيلم، يحاول سكوتي تغيير جودي (تلعب دورها نوفاك أيضًا)، شبيهة مادلين السوقية، ذات الشَّعر الداكن. وفي محاولتِه تلك لتحويل جودي إلى نسخة من صورة مادلين المحفورة في ذاكرته، يبدو سكوتي متعنِّتًا، وطائشًا، ومولعًا بالتفاصيل. وفي النهاية، يكتشف أن مادلين وجودي هما الشخص نفسه، وأنه تمَّ توظيفُها للاشتراك في مؤامرة للقتل.

وإذ يُجرجِر جودي صاعدًا بها سلالم برج الكنيسة، يتلفَّظ سكوتي بصوت مختنق بالمونولوج التالي:

لقد قام «القاتل» بتبديل مظهرِكِ، أليس كذلك؟ قام بتغيير شكلك تمامًا كما فعلتُ أنا، لكن فقط بطريقة أفضل. ليستِ الملابس والشعر فقط، بل النظرات، والتصرفات، والكلمات … ثم ماذا فعل؟ هل قام بتدريبك؟ هل أقام لك بروفات؟ هل أخبرك بما ينبغي عليكِ أن تفعليه وتقوليه بمنتهى الدقة؟

يعتقد سوتو أن هذا الحديث لا يصف ببساطة أفعال الشخصيات في «دوار»، لكنه يصف أيضًا موقف هيتشكوك الخاص وطريقة تعامله مع بطلات أفلامه.

مارتن سكورسيزي

من المثير أن نجد هذا العدد الكبير من المخرجين العظماء المهمومين بموضوعات دينية ورُوحانية، في صناعةٍ كثيرًا ما تُتَّهَم بالعلمانية واللاأدرية. عندما قام مارتن سكورسيزي بإخراج فيلم «الإغواء الأخير للمسيح» (ذا لاست تيمبتيشن أوف كرايست) عام ١٩٨٨م، جلب شواغله الدينية إلى المقدِّمة، بَيْد أن تلك التيمات كانت حاضرة في جميع أفلامه السابقة — بما في ذلك أحاديث ترافيس (روبرت دي نيرو) شبه الإنجيلية في «سائق التاكسي» عن المطر القادم الذي سيغسل شوارع المدينة من أدرانها، وشواغل تشارلي (هارفي كيتل) الدينية في فيلم «شوارع وضيعة» (مِين ستريتس).

يذهب كاتب السيرة فينسينت لوبروتو إلى أن جزءًا كبيرًا من الانطلاقة البصرية والإدراك الجمالي عند سكورسيزي يعود إلى الطقوس والقرابين المقدَّسة في الكنيسة الكاثوليكية؛ التركيز على الجسد والدم، والأساطير المكثَّفة، فضلًا عن مجموعة ألوان ثريَّة تُذَكِّر بزجاج الكنائس الملوَّن. تتداخل تلك الصور مع التيمات السينمائية التي نجدها في أفلام المغامرات، والملاحم التاريخية، والاحتفالات الدينية التي كانت شائعة في سنوات نشأته في حقبة الخمسينيات.19
تلك الصور والتيمات ليست، بالطبع، حكرًا على الكنيسة الكاثوليكية، لكنْ لها علاقة أيضًا بالمؤثرات الوثنية التي تعود حتى إلى حقبة زمنية أبعدَ في التراث الصقلي لسكورسيزي.20 ورغم أن الكاثوليكية لعبتْ دورًا هامًّا في حياة أسرة سكورسيزي في سنوات نشأته، فقد كانت هناك دائمًا شكوك تجاه الكنيسة، ولم يكن أيٌّ من أفراد أسرته، سواه، متديِّنًا بوجه خاص. ويخلص لوبروتو إلى أن السينما كانت هي دِينَ سكورسيزي الحقيقي في نهاية المطاف، وأن أهمية الكاثوليكية بالنسبة إليه تعود في المقام الأول إلى ما تتضمَّنه من عناصر بصرية.21 بَيْد أن سكورسيزي تشرَّب أخلاقيات ومعتقدات الكنيسة أكثر من أخلاقيات ومعتقدات عائلته بوضوح؛ فالْتَحق بمعهد ديني لفترة قصيرة وكان ينوي الالتحاق بسلك الكهنوت. في النهاية انتصرت السينما، لكن التيمات الدينية عن الذنب والخلاص ظلَّت تشكِّل العمود الفقري لأعماله. وبينما يؤكِّد لوبروتو على مشاعر الذنب المتعلِّقة بالجنس في الشواغل المبكرة لدى سكورسيزي، فإن ثمة إحساسًا أشمل بنقصه باعتباره إنسانًا، ظل يستحوذ عليه: «لقد تعاملتُ مع الإنجيل بمنتهى الجدية، وتساءلت آنئذٍ، وما زلتُ أتساءل حتى اليوم حول إن كان عليَّ أنْ أترك كل شيء لكي أساعد الفقراء. لكنني لم أكن آنئذٍ، ولا الآن، قويًّا بما يكفي.»22 واتساقًا مع هذا النقص في العزيمة، نجد الكثير من شخصياته يُجاهِدون من أجْل بلوغ الخلاص، لكنَّهم قلَّما يَجِدونه. ففي «سائق التاكسي»، تبيَّن أن خلاص ترافيس بيكل في عيون الصحافة والقانون ساخرًا وزائفًا. ووحدَه يَسُوع في «الإغواء الأخير للمسيح» هو مَن امْتَلَك ما يكفي من القوة ليختار اختيارًا صحيحًا بصورة قاطعة لا لَبْس فيها.

أكيرا كوروساوا

يميل كُتَّاب السيرة النفسية، شأن العديد عن علماء النفس التطوريين منذ فرويد، إلى إيلاء عناية خاصة لأحداث فترة الطفولة، التي تشمل العلاقة مع الوالدَيْن، والمعاناة الاجتماعية والاقتصادية، والتجارب المفجِعة. ورغم أهمية فترة الطفولة، يمكن أن يكون هناك شيء من المبالغة في تقدير آثارها. ولم تَحظَ الجوانب التطورية لفترة البلوغ بنفس القدْر من الاهتمام.

ثمة مقاربة للمشوار الفني للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا تُغطِّي حياتَه بأكملها، تقدِّم بديلًا لذلك.23 فأشهَرُ أفلام كوروساوا وأكثرُها نجاحًا على المستوى النقدي، مثل «الساموراي السبعة» (شيتشينين نو ساموراي) و«راشومون»، أخرجها في الخمسينيات عندما كان في الأربعينيات من عمره؛ وقد عاش حتى بلغ الثامنة والثمانين، وظل يصنع أفلامًا حتى التسعينيات، رغم أنها بوجْه عام، لم تَحظَ بالاحتفاء نفسه الذي حظيتْ به أعمالُه المبكِّرة. والسبب في ذلك قد يكون أن تقييم أعمالِه المتأخِّرة كان مبنيًّا على سوء فَهْم لعملية التطور؛ إذ يتناول النقَّاد الأسلوب القديم لفنان مخضرم من منظور تحليلي متعلِّق بفترة منتصف العمر.
وشأن العديد من الفنانين، تزايَد تقوقُع كوروساوا حول نفسِه مع تقدُّمه في العمر. فعقب اضطرابات نفسية شديدة ومحاولة انتحار، اتَّخذ كوروساوا قرارًا واعيًا، اعتبارًا من منتصف السبعينيات، بصناعة أفلام أكثرَ قربًا من السيرة الذاتية لكنَّها أقل واقعيةً أيضًا. ويرى بعض النقاد هذا التحول باعتباره دليلًا على فقدانه التركيز والسيطرة الفنية. بَيْد أنه بِجعْل القصة أقلَّ تماسكًا وهَجْر النزوع السينمائي للحركة الذي ميَّز فترة الشباب، نجحت أفلام كوروساوا المتأخِّرة في تجسيد تلك السكينة التأملية للحياة الروحية. ففيلم «أحلام» (كونَّا يوميه أوميتا) — ثماني صور أدبية تجسِّد أحلام كوروساوا الخاصة — هو محاولة لخلق «فضاء سيري» من أجْل تسوية النزاع بين قُوَى الحياة المتصارِعة في السابق.24 هذا الإنجاز الفني بات ممكنًا فقط عبر مراكمة خبرات حياتية داخل مجال السينما وخارجه على حدٍّ سواء.

(٣) النجوم: لمحات عن الممثِّلين

يمتلك أغلب نجوم السينما شخصية عامة يمكن التعرف عليها في التوِّ؛ صفات جذَّابة ومثيرة للاهتمام. وكثيرًا ما تكون تلك الصور المُدرَكة العامة مبالَغًا فيها بسبب مَيْل النجوم إلى أداء أدوار متنوِّعة للشخصية نفسِها مرارًا وتكرارًا. فحتى في محفلٍ عامٍّ مثل حفل توزيع جوائز الأوسكار، فإنهم يَحرِصون على تقديم نسخة مؤسلبة من أنفسِهم. ومن ثَمَّ تتحوَّل مثل تلك الظهورات عمليًّا إلى دَوْر آخَر يُساهم في نجوميتهم. وفي النهاية، تطغى تلك النجومية على كلٍّ مِن أدوارهم السينمائية وواقع حياتهم اليومية؛ مما يجعل معجبيهم يشعرون بأنهم يعرفونهم جيِّدًا. فمِن ناحية، يبدو هؤلاء النجوم بشرًا عاديين كغيرهم ومألوفين، لكنهم، من ناحية أخرى، لا يُشبِهون غيرَهم من الناس في شيء. فهم في حقيقة الأمر «أساطير حية» وأكثر نقاءً من البشر العاديين نوعًا ما.25

إن سلطة النجوم قد تكون من القوة بحيث يمكن للمرء أن يذهب إلى أنهم هم المؤلِّفون الحقيقيون للكثير من أفلام هوليوود. ففيلم لجون وين أو ويل سميث هو الذي يحدِّد السمات التي يجب توافرها في الفيلم، والشكل الذي ينبغي أن يبدو عليه. وتتمثَّل وظيفة صنَّاع الأفلام الآخرين، بما في ذلك المخرج وكاتب السيناريو، في بناء مثل هذا الفيلم حول نجمه.

تستكشف السيرة النفسية لنجوم السينما الطريقة التي تتداخل بها أدوارُ ممثِّل ما، والشخصية العامة التي يملكها، وحياته الخاصة بعضها مع بعض. فمِن غير المحتَمَل أن تكون الأفلام مجرَّد نُسَخ شفَّافة من شخصية الممثِّل المضمَرة، لكنها يمكن أن تعمل كموشور يعكس حقيقته النفسية بصورة مشوَّهة.

جاك نيكلسون

يمتلك جاك نيكلسون رصيدًا فنيًّا مبهرًا، لا سيما أفلامه في حقبة السبعينيات؛ بدايةً من «خمس قطع سهلة» (فايف إيزي بيسيز) وحتى «البريق». ورغم أن تلك الأفلام قام بإخراجها صنَّاع أفلام مرموقون، يعتقد النقاد أن أداء نيكلسون هو ما يُميِّزها. فهو يجسِّد، في أدائه كممثِّل، الكثافة والتعقيد النفسي للفن السينمائي بعد براندو، لكنه يمثل أيضًا عودة لهوليوود أقدم؛ بمعنى أنه ليس بإمكان أحد القول إنه «يختفي» في أدواره. فأيًّا ما كانت الشخصية التي يؤدِّيها، فإن جزءًا من جاذبيته يكمن في أنه دائمًا «جاك نفسه»، وهي سمة تُغرِي لإخضاعه إلى تحليل للسيرة النفسية.

يستكشف باتريك ماجيليجن في كتابه «حياة جاك» (١٩٩٤) مجموعة متنوعة من موضوعات السيرة النفسية، بَيْد أنَّ نَسَب نيكلسون العائلي هو ما يَبرُز كأكثر تلك الموضوعات غرابةً. فقد أنجبَتْه أمُّه جُون وهي في الثامنة عشرة من عمرها. ووالد الطفل غير معروف. ولكي تُتِيح الجدَّةُ — إيثيل ماي — الفرصة لابنتها لمواصلة عملها في مجال الاستعراض، تولَّتْ بنفسِها مَهَمَّة تربيته، وأخبرتْه أنها أمُّه وأن جُون شقيقته. أما جدُّه وأبوه الاسمي، جون الابن، فقد ترك زوجته وانتقل للعيش في مكان آخر عندما كان جاك لا يزال رضيعًا، رغم أنهما ظلَّا على اتصال متقطِّع في سنوات نشأته.26 لم يكن نيكلسون يعلم الملابسات الحقيقية لمولده إلى أن اتصل به محرِّرٌ صحفي من جريدة التايم أثناء عرض فيلم «الحي الصيني» (تشاينا تاون) عام ١٩٧٤م. هذا الاكتشاف كان له — كما قيل — وقْعٌ عميق الأثر على مشاعر نيكلسون الذي راح يروي تلك القصة للعديد من أصدقائه المقرَّبين بصوت تخنقه العَبَرات.27
بدايةً من مشهد «سلطة الدجاج» الشائن لبوبي دوبي الذي يقرِّع فيه النادلة في فيلم «خمس قطع سهلة»، ارتبط أداء نيكلسون التمثيلي بالثورات الانفعالية الحادَّة. وكثيرًا ما اصطبغت تلك الثورات بمَسْحة أخلاقية قوية التأثير. ففي فيلم «أحدهم طار فوق عش المجانين»، نلتقي ماكميرفي، الناطق النبيل باسم الحقيقة وسط الأجواء القمعية للمصحَّة العقلية. أضِفْ إلى ذلك أن نيكلسون أكَّد، في مقابلات صحفية مبكِّرة، على الأهمية الكبيرة التي كانت عائلته توليها دائمًا لفضيلة الصدق.28 ويزعم كاتب السيرة ماجيليجن أن نيكلسون أتْقَنَ أداءَ نوبات غضب في شبابه أثناء التمثيل بهدف جذْب انتباه النساء في صالون التجميل الذي كانت تملكه جدَّتُه.29 إن هذا السلوك، إضافةً إلى حقيقة وجود أسرار شديدة الأهمية أُخفيتْ عنه، قد يدفعنا إلى إعادة تفسير نوبات غضب فترة النضج لبوبي، وماكمورتري، وغيرهما من الشخصيات التي أدَّاها نيكلسون. ومنظورًا إليها في هذا الضوء، تكتسب مثل تلك النوبات سمة الاهتياج، والبحث؛ حيث الحقيقة ليست شيئًا تمَّ العثور عليه، بل شيء تسعَى الشخصيات، شأن نيكلسون، باستماتة لبلوغه.

أنجلينا جولي

ربما كانت أنجلينا جولي هي النجمة الشابَّة الأبرز في العصر الحديث. فمنذ فوزها بجائزة أفضل ممثِّلة مساعِدة عام ٢٠٠٠م عن دورها في فيلم «فتاة، قوطعت»، أصبحتْ جولي وجهًا دائم الحضور في وسائل الإعلام، سواء بسبب أدوارها، أو حياتها الشخصية، أو نشاطاتها الإنسانية. أحد الملامح الثابتة للشخصية العامة الخاصة بها هو ميولها الجنسية. فحتى في فيلم مضمونه الجنسي الصريح ضئيل للغاية مثل «لارا كروفت: نبَّاشة القبور» (لارا كروفت: تومب ريدر)، فإنَّ جسدَها الرشيق يكاد يكون له تأثير الفتيشية. إن ما يجعل جولي شخصية عصرية بوجْهٍ خاص هو انفتاحها فيما يتعلَّق بميولها الجنسية، لا سيما بممارسات مثل التقييد، والثنائية الجنسية، ودق الوشم، والتي ترتبط عمومًا بأساليب الحياة البديلة. ورغم أن ملاحظات فرويد حول القوة المحرِّكة للميول الجنسية تَظهَر بوضوح في نجومية جولي، فإنه بالكاد يمكن القول إن تلك الميول تُعامَل باعتبارها سرًّا دفينًا.

يولِي أندرو مورتُن في كتابه «أنجلينا: سيرة محظورة» — وهو سيرة حياة جولي الوحيدة الهامة التي ظهرتْ حتى الآن — اهتمامًا كبيرًا بصورتها الفضائحية. فيشتمل ملحقُه على الثنائية الجنسية، والفتيشية السادية/الماسوشية، فضلًا عن علاقاتها الغرامية مع العديد من الشخصيات الشهيرة، بالإضافة إلى موضوعات ذات طابع مَرَضيٍّ؛ مثل التمزيق، وتعاطي المخدرات، واضطرابات الأكل، و«الوَلَع بالسكاكين». كذلك يتطرَّق أيضًا إلى طفولتها وأنشطتها الإنسانية، لكنه يخلو، على نحو لافت، من أي بيانات عن التمثيل وغيره من الموضوعات المهنية التي تحتلُّ دائمًا مكانة بارزة في سِيَر صنَّاع الأفلام. يحفل الكتاب بالعديد من المقاطع التي تتناثر بلا قيود على امتداد صفحاته؛ مثل المقطع التالي: «في حين أن الفيلم شابَهُ بعض التردُّد فيما يتعلَّق بالجنس، كان الأمر خلاف ذلك بين الممثِّلين وفريق عمل «ثعلب النار» (فوكس فاير)؛ حيث لم يكن ثمة وجود لمثل هذا الكابح، وتحوَّلت أسابيع التصوير الثمانية إلى رحلة ممتدَّة من اللهو والانحدار الأخلاقي.»30
يحاول مورتُن تفسير ميول جولي الجنسية باعتبارها نتاجًا لطفولتها وعلاقتها بوالدَيْها. ففي العشرينيات من عمرها، أقامتْ علاقة مثلية مع إحدى الفتيات، يفسِّرها مورتُن كمحاولة من جانبها للانتقام من والدها، الممثل جون فويت؛ لأنها كانت تعرف جيدًا أنه لن يوافق عليها. ويَلْجأ مورتُن، لدعم تحليله لميولها الثنائية، إلى أفكار أحد المحلِّلين النفسيين؛ إذ يقول: «الثنائية الجنسية هي جزء من الشعور بالضياع … إنْ كنتَ لا تفهم ذاتَك واحتياجاتِك، فسوف تعمد إلى التجريب.» وكذلك إلى أفكار أحد علماء النفس؛ إذ يقول (في معرض تناوُله للمزاعم حول تَرْك جولي في مهْدِها بلا رعاية): «لو أنَّكِ (بوصفك أنثى) تتضوَّرين جوعًا للحميمية، لو أنَّكِ عانيتِ من الهَجْر، لشعرتِ أنكِ لا شيء. ولو حدث أن شعرتِ بالانجذاب نحو امرأة، لانتهى هذا لا محالة إلى إقامة علاقة جنسية معها.»31

مثل تلك الآراء، لا سيما العلاقة السببية بين تعلُّق الرضيع بأمِّه والثنائية الجنسية، لا تَلْقَى قبولًا من جانب معظم المتخصصين في الصحة النفسية، وثمة شكوك كثيرة حول مدى صحتها. لكنها تنجح في تقديم تفسيرات أكثر بشاعةً واستفزازًا من السلوكيات التي تحاول تفسيرها. فبدلًا من انخراطها ببساطة في علاقة مثلية، يتكوَّن لدَى القُرَّاء صورة لأنجلينا كفتاة صغيرة ضائعة، جامِحَة، تَجُوب أرجاء لوس أنجلوس في بحث يائس عن أمِّها عبر القيام بالكثير من «التجريب». هذا النوع من الأشياء هو ما يُعطي السيَر النفسية سمعةً سيِّئة.

علم نفس طاقم العمل

رغم الاهتمام المبالَغ فيه بنجوم التمثيل والإخراج، فإن الأفلام لا يَصنَعها أفراد منعزلون. فمَهمَا كانت كاريزما الممثل أو الرؤية الثاقبة للمخرج، فإن صنَّاع الأفلام لا يعملون بمفردهم. فالأفلام هي انعكاس لعدد كبير من الناس يعملون معًا من أجْل هدف مشترك على مدار فترة زمنية ممتدة. والأجزاء ليست مجرَّد مجموع تلك الخبرات الفردية، بل إنها تلْتَئِم معًا بطرق فريدة. والمقولة الشهيرة: «الكل أكبر من مجموع أجزائه»32 يمكن تطبيقها بسهولة على السيرة النفسية.
وقد توصَّل المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي إلى كشفٍ بخصوص الاعتماد المتبادَل فيما بين أفراد فريق العمل وطاقم الممثلين بعضهم على بعض في موقع تصوير ملحمته التاريخية الهائلة «١٩٠٠»:
لزمن طويل، كنتُ أظن أن الفيلم تعبير عن شخص واحد؛ لهذا بدأتُ أصنع أفلامًا في سِنٍّ مبكِّرة للغاية. كنتُ آتيًا مباشرةً من تجربة كتابة الشعر. [وفي النهاية] كان عليَّ أن أقْبَلَ بحقيقة أن الفيلم تعبير عن إبداع جماعي ونتاج له. فكل فردٍ في فريق العمل، كل فرد في موقع التصوير، يُشارك في صنع أفلامي.33
كذلك تلعب الحالة النفسية الجمعية للمشاركين في الفيلم دورًا في صناعته. فبرتولوتشي يشير إلى الكيفية التي أضفى بها استخدامه لممثِّلين غير محترفين في أدوار الرعاة، جوًّا من الأصالة على فيلم عن تاريخ إيطاليا. والممثِّلة فيونا شو شبَّهتْ طاقم عمل الفيلم بالأُسرة (رغم أنها نوع فريد من الأسرة؛ حيث كان جميع الموجودين في موقع التصوير يتجنَّبون أُسَرَهم الحقيقية).34 وثمة نسخة أكثر قتامةً عن أنه كيف يمكن للحالة النفسية الجمعية لصنَّاع الفيلم أن تؤثِّر على المنتج النهائي، نجدها في تعليق فرانسيس فورد كوبولا حول فيلم «سِفر الرؤية الآن» (أبوكالبس ناو)؛ إذ يقول: «كان الأمر يشبه حرب فيتنام بعض الشيء؛ جماعة من البَشَر ذهبوا إلى الأحراش وفقدوا عقولهم هناك.»35 إن التفاعلات — أيًّا كانت نتائجها — التي تحدُث بين حَشْدٍ مؤلَّف من عدد كبير من البشر هي المسئولة، في نهاية المطاف، عمَّا يتضمَّنه الفيلم من معانٍ ومشاعر.
ومؤخرًا، كان هناك اتجاه لتجسيد قصص ملحمية في سلاسل أفلام (مثل «سيد الخواتم» و«هاري بوتر») تتطلَّب من فريق العمل وطاقم الممثلين العمل بكثافة لفترة تمتدُّ لسنوات، أحيانًا في أماكن ذات ظروف طبيعية قاسية. وشأن كل الأفلام الحديثة التي حقَّقت نجاحات مدوِّية، تتضمَّن هذه الأفلام قدرًا كبيرًا من المؤثِّرات البصرية، لكن نجاحها المدوِّي يرجع، بالقَدْر نفسه، إلى العلاقة الوثيقة التي تربط بين الشخصيات. فالممثِّلون المشاركون في تلك الأعمال الماراثونية يتحدَّثون بطريقة مؤثِّرة عن الصداقات المتينة التي تنشأ بين طاقم الممثلين وفريق العمل. والصداقات التي تتكوَّن خلف الكاميرا تتجلَّى بوضوح على شاشة العرض. وقد عبَّر ديفيد ييتس، مخرج «هاري بوتر»، عن هذا الشعور بخصوص أحد المشاهد الختامية مع هاري (دانيال رادكليف)، وهيرميوني (إيما واتسون) ورون (روبرت جرينت)؛ إذ قال: «لم يكن الأمر يتعلَّق فقط بممثلين يؤدُّون مشهدًا، بل بأطفال يتأملون نشأتَهم في عالَم السينما، وأعتقد أن جزءًا من هذا ظهر، في النهاية، على الشاشة.»36

(٤) علم النفس من أجْل صنَّاع الأفلام: وودي آلِن نموذجًا

علم النفس ليس حكرًا على علماء النفس دون غيرهم. فأفكار فرويد ويونج انتشرت خارج حدود المجال الأكاديمي وعيادات الطبيب النفسي وتبنَّاها الناس العاديون بمَن فيهم كُتَّاب السِّيَر. وقد تأثَّر بعض صنَّاع الأفلام في حياتهم الشخصية والإبداعية بالمفاهيم السيكولوجية؛ حيث أمدَّتْهم بالعديد من الإلماعات المفيدة في صناعة الفيلم.

أحد أهم التطورات التي شهدها فن التمثيل المسرحي والسينمائي في القرن العشرين هو ما عُرف باسم «المنهج»، الذي قام لي ستراسبرج بتطويره، استنادًا إلى أعمال ستانيسلافسكي، لصالح «ستوديو الممثل» الخاص به، ثم انتشر في الأربعينيات والخمسينيات على يد ممثلين مثل مارلون براندو، وجيمس دين، وبول نيومان. ويشجِّع التمثيل المنهجي الفنانين على العثور في دواخلهم على مشاعر ودوافع الشخصيات التي يؤدونها. وهذا الاتجاه نحو الداخل كان جزءًا من روح العصر اللاحق لفرويد التي أكَّدت على التجربة الذاتية وتعدُّد مستويات الوعي.37
وقد قام بعض علماء النفس بإعداد استبصارات سيكولوجية محدَّدة لمساعدة الممثلين، والمخرجين، وكتَّاب السيناريو في تطوير شخصيات تتميَّز بالواقعية والتعقيد النفسي. كذلك يتم تشجيع الكُتَّاب على جعل شخوصهم تتوافق مع الأنماط الأولية العتيقة — مثل البطل، والحكيم، والأحمق — بهدف عقد صلات أكثر عمقًا مع الجمهور.38 ولا يقتصر الهدف من ذلك على الوصول إلى مناطق من الذات تخص الفرد وحده، بل يمتد إلى محاولة تَمَاسٍّ مع تلك الأجزاء من النفس المشتركة بين جميع الناس.
ثمة عدد من نجومِ ومخرجي وأباطرة السينما مرُّوا بتجربة العلاج النفسي الإكلينيكي بأنفسهم. ففي كتاب «هوليوود على أريكة الطبيب النفسي» (١٩٩٣) يتفحَّص ستيفن فاربر ومارك جرين الماضي الطويل المشحون، وغير اللائق أحيانًا، لصناع الأفلام الذين وقعوا تحت سحر علم النفس، ولا سيما التحليل النفسي. ففي عام ١٩٢٤م، عرض صمويل جولدوين على سيجموند فرويد مبلغًا قدْره ١٠٠ ألف دولار لكي يساعده في صياغة قصة حب باستخدام استبصارات التحليل النفسي.39 وقد رفض فرويد العرض دون إبداء أسباب، بَيْد أنه كان هناك عدد كبير من علماء النفس على أُهْبة الاستعداد لتقديم يدِ العون. إلا أن أساليبهم، في مجملها، لم تكن تتفق مع المعايير الحديثة للرعاية النفسية. فالطبيب النفسي الذي عُيِّن مستشار أزمات لجودي جارلند في فيلم «القرصان» (ذا بايرت) ساعد المنتج والمخرج آرثر فريد وفينسينت مينيلي، في مونتاج الفيلم.40 وقد استمر هذا النوع من التأثير في هوليوود لعدة عقود؛ ففي الثمانينيات والتسعينيات تمكَّن جون برادشو، المتخصِّص في علم النفس الشعبي، من إقامة بعض علاقات العمل مع عدد من النجوم مثل باربرا سترايساند. ولعب دورًا مؤثرًا في صناعة فيلم «أمير المد والجزر»، سواء في رسم ملامح شخصية الدكتورة لُوينستين التي أدَّتْها سترايساند، أو الحبكة القائمة على كشف الانتهاك الجنسي بطريقة التنفيس عن المكنون الذاتي.41
بيد أن وودي آلِن هو مَن يتمتع بأقرب العلاقات مع علم النفس في المخيِّلة العامة، ومن المؤكَّد أن العلاج النفسي يلعب دورًا بارزًا في العديد من أفلامه. ففي فيلم «أزواج وزوجات»، ثمة رفٌّ يضم مؤلَّفات فرويد يمكن رؤيته خلف جيب فيما هو يُجري لقاءات يكشف فيها عن مكنون ذاته مع مخرج أفلام وثائقية/أقرب إلى كونه طبيبًا نفسيًّا غير مرئي. وفي فيلم «امرأة أخرى» (أناذر وُمَن)، تكتشف ماريون (جينا رولاندز) أن حياتها قد تبدَّلتْ عندما استرقتِ السمع إلى مريضة ذات ميول انتحارية وهي تتحدَّث إلى محلِّلها النفسي. فالعلاج النفسي يُقدَّم في أفلام آلِن باعتباره جزءًا من نمط الحياة الفكرية لنيويورك. وفي فيلم «آني هول»، يتكفَّل ألفي (آلِن) حتى بنفقات التحليل النفسي لصديقته آني (دَيان كيتون) التي لا تكاد تَفْقَه عنه شيئًا. ومن حين لآخر، تتضمَّن أفلامه سخرية لاذعة للأطباء النفسيين، كما هي الحال عندما تقوم هيلين (ديمي مور) في «تفكيك هاري» (ديكونتسرتكتنج هاري) بإيقاف العلاج النفسي مرارًا وتكرارًا من أجْل أن تدخل في علاقة غرامية مع أحد المرضى، أو طبيب ماري (كيتون) النفسي في «مانهاتن» الذي يسخر منه إيزاك (آلِن) قائلًا: «ألا تساورك الشكوك عندما يتصل بك محلِّلُك النفسي في منزلك في الثالثة فجْرًا وهو يجهش بالبكاء؟»42
إنَّ وجود الأطباء النفسيين في أفلام آلِن لا يدعو للدهشة؛ فقد بدأ آلِن العلاج النفسي للمرة الأولى عام ١٩٥٩م وهو في الرابعة والعشرين من عمره؛ وبحلول التسعينيات، كان قد خضع لتحليل نفسي مطوَّل على فترات متقطِّعة مع خمسة محلِّلين مختلفين.43 ومع ذلك، وباستثناء الاعتراف بأنه كان مريضًا يتلقَّى العلاج النفسي على المدى الطويل، لم يذكر كُتَّاب سيرته سوى القليل عن المحتوى الفعلي لتحليلاته أو الدور الذي لعبتْه في حياته؛ لأن آلِن نفسَه نادرًا ما كان يتطرَّق إلى هذا الموضوع، باستثناء بعض النكات والتعميمات العرضية.

رغم هذا التبايُن بين وودي آلِن العام والخاص، يفترض كثيرون أن ثمة فرقًا ضئيلًا بين الاثنين؛ فمعجبوه يعتبرونَه واحدًا منهم، لدرجة أننا نشير إليه بأريحية ﺑ «وودي». وفي حين أن قليلين فقط هم مَن يتخيَّلون أن حياة هيتشكوك الشخصية تُشبِه ما يشاهدونه في أفلام الإثارة التي أخرجها، يعتقد كثيرون أن حياة آلِن في مانهاتن تشبه حياة شخوص «آني هول»، و«مانهاتن»، و«أزواج وزوجات». وبينما أبطال هيتشكوك (كاري جرانت، وجيمي ستيوارت، وهنري فوندا) لا يشبهونه في شيء على مستوى المظهر والشخصية، فإن وودي كثيرًا ما يؤدِّي في أفلامه أدوار البطولة التي تتشابه فيما بينها حدَّ التطابق. وحتى إن كان هذا يعود إلى قدراته التمثيلية المحدودة، فإنه يؤكِّد على تمتعه بشخصية فريدة. ويحدث أحيانًا في أحد أفلامه التي أخرجها مثل «شهرة» (سيليبرتي)، أن يبدو البطل (كينيث براناه) وكأنه تجسيد لشخصية وودي آلِن. ومن ثم، يفترض معظم معجبيه أن شخصية وودي تشبه إلى حدٍّ بعيد آلِن ذاته.

ولأن الجماهير كانت تشعر أنها «تعرف» آلِن، فقد أثارتِ النهاية الكارثية لعلاقته مع مِيا فارو انزعاج الكثيرين. كنتُ قد أمضيتُ بضع سنوات في تدريبي الإكلينيكي في مجال علم النفس عندما تفجَّرتِ الفضيحة، وتحوَّلت إلى مادة لنقاشات حامية. ولأن آلِن كان مرتبطًا في أذهاننا بعلم النفس، والكثير من زملائي كانوا من معجبيه، فقد بدا الأمر برمَّته محرجًا بطريقة غامضة. وسادت بينهم فكرة مفادها أنه بعد كل تلك السنوات التي خضع خلالها للتحليل النفسي، كان ينبغي على آلِن أن يُدرِك أن التورُّط في علاقة مع ابنة بالتبنِّي لشخص مُهِمٍّ في حياتك ليست بالفكرة الجيدة. قبل تلك الواقعة، كان بالإمكان غضُّ البصر عن صورة العلاج النفسي في أفلام وودي آلِن باعتبارها مجرد سخرية لطيفة، أما الآن، فقد ساد انطباع جارف بأن العلاج النفسي كان مجرد وسيلة يلجأ إليها بعض المثقفين الذين يشعرون بالملل لإشباع رغباتهم.44
ربما كان من الفطنة أن يعمد علم النفس إلى دفن ارتباطه بآلِن، بَيْد أن علماء النفس والأطباء النفسيين استمرُّوا في تحليل أفلامه والاستفادة منها في توصيفاتهم للعلاج النفسي والعلاقات الإنسانية بصفة عامة. فهي تمثِّل في نظر بعض المعلِّقين نموذجًا للمبدأ الأساسي في الديناميكا النفسية الذي مفاده أن فهم الذات عملية مستمرة قوامها عقد صلات بين الماضي والحاضر والمستقبل.45 وأنا شخصيًّا، ما زلتُ أجد «آني هول» مضحكًا للغاية وذا بصيرة ثاقبة في آنٍ واحد. وأيًّا ما كانت النتيجة، فقد لعب علم النفس دورًا في حياة آلِن، بينما أثَّرتْ أفلامُه على طريقة فهمنا لعلم النفس، يستوي في ذلك المتخصصون وغير المتخصصين. ورغم أن المرء قد يسقط أحيانًا في غواية الفصْل بين الفنَّان وفنِّه، فإن هذا الفصل، في حالة آلِن، يغدو بالفعل مستحيلًا.

(٥) لقطات ختامية: تقييم السِّيَر النفسية

إن طرح أسئلة ثاقبة حول الجذور النفسية لأعمال أحد الفنانين لا يعني بالضرورة أن الإجابات ستكون عميقة، وكثيرًا ما تفتح مثل تلك الأسئلة الباب أمام تحليلات نفسية رخيصة ويسيرة (مثل: «صانع الأفلام «أ» يعاني من عقدة الخصاء») أو تشهيرات كتلك التي نجدها في صحف تابلويد (مثل: «أُمُّ صانع الأفلام «ب» كانت تعمل بالدعارة»). ولذا يتعيَّن على كُتَّاب السِّيَر النفسية الجادِّين أن يضعوا معيارًا دقيقًا للتمييز بين التخمينات التي تستهدف الإثارة والسيرة النفسية.

تتميَّز السيرة النفسية الجيدة بالتماسك والاتساق.46 وأطروحاتها السيكولوجية الشاملة ينبغي أن تُصاغ بطريقة تمكِّنها من استيعاب جميع «الحقائق» المتعلِّقة بحياة الشخص. أما تلك الحقائق التي تتناقض مع النظرية في مرحلة تطوُّرها، فلا ينبغي تجاهُلها، بل يتم تضمينها في نظرية معدَّلة. أضِف إلى ذلك أن التفسيرات ينبغي أن تعتمد في إثباتها على العديد من الملاحظات، وليس على عنصر واحد فقط.47 ومن هنا، إذا قام صانع أفلام بكتابة خطاب مليء بالمشاعر لوالدته، يجب ألَّا نعتبر هذا في حدِّ ذاته دليلًا على أنه يُعاني من مشكلة تبعية على درجة من الخطورة.
ثمة العديد من الأخطاء الشائعة في السيرة النفسية نذكر منها: عملية إعادة التركيب التي يقوم المرء من خلالها بإطلاق تخمينات حول أحداث مجهولة من أجل دعم تفسير ما. وتخمين سبوتو — الذي لا أساس له — أن هيتشكوك كان يتمنَّى موت والده القاسي يندرج في تلك الفئة.48 حتى فرويد نفسه ارتكب في تحليله لليوناردو دا فينشي أخطاءً فادحة من الإغفال والتفسير المتكلِّف؛ أخطاءً تُخبِرنا عن الحياة النفسية لفرويد أكثر ممَّا تخبرنا عن موضوع دراسته.49
خطرٌ آخَر تتضمَّنه السيرة النفسية؛ هو السيرة المَرَضيَّة، التي تسعى إلى طرح تصوُّر عن حياة الفرد بأكملها انطلاقًا من المرض أو أسبابه.50 وقد صوَّب هذا النوع من النقد سهامَه إلى نظريات بأكملها. ففرويد بدأ بملاحظة مرضاه المعلولين، ثم بَنَى نظريةً عامة للعقل بهدف تفسير تلك العلل. والأمثلة التي عرضتُها (علاقات هيتشكوك المضطربة مع النساء وأسرار نيكلسون العائلية) ليست بريئة هي الأخرى من هذا التركيز على أسباب المرض. هذا التوجُّه من الممكن أن يُفضِي إلى رؤية أحادية الجانب للبشر. وتقدِّم علاقات الصداقة التي تَظهَر على الشاشة في فيلم «هاري بوتر» نموذجًا بديلًا يتفق مع علم النفس الإيجابي، الذي يسعى للتحرُّك نحو توجُّهٍ بنَّاءٍ أكثرَ وأشدَّ تفاؤلًا في ميدان علم النفس.51
بَيْد أنه من الصعب تجنُّب الأمراض النفسية عند تناول السيَر النفسية للفنانين. يستخدم شكسبير تعبير «الخيال القوي» في مسرحية «حلم ليلة منتصف الصيف»؛ لتجسيد النشاط الذهني المشترك بين الشاعر والمجنون.52 وبالتأكيد، هناك دلائل قصصية وديموغرافية على أنه بالإمكان الربط بين العبقرية والمرض النفسي. فَلْننظرْ إلى الفنانين/الموسيقيين/الكُتَّاب الذين مرُّوا بفترات من الذُّهان: كاندينسكي، فان جوخ، شومان، بو، باوند، وولف، بلاث، هيمنجواي، وبليك.53 بالإمكان أيضًا إنشاء قوائم مماثلة باضطرابات نفسية أخرى؛ مثل الاكتئاب والقلق والهوس. إن نسبة المشاهير، لا سيما الفنانين والشعراء، الذين عانَوْا من أمراض نفسية خطيرة، أعلى كثيرًا من الناس العاديين.54 والعلاقة بين الإبداع والمرض النفسي تبدو حتى أكثر وضوحًا، بالنظر إلى أنه كيف يمكن للإبداعات الخيالية أن تكتسب خواصَّ الأحلام والاضطرابات الذهنية. إن السيرة النفسية المثالية يجب أن تتناول الجوانب المَرَضيَّة من حياة الفنان دون أن تختزلها إلى مجرد تشخيص إكلينيكي.

توفِّر الأفلام لصنَّاعها أنواعًا مختلفة من المتنفَّسات النفسية؛ بعضها يتعلَّق بالسيرة الذاتية من جهة طريقة تجسيدها لأحداث تمثِّل انبعاثًا لماضي صانع الفيلم. قد يُفعَل هذا بدافع الحنين، أو ربما كفرصة للتخلُّص من عِبْء الماضي أو التعلم منه. وكلا الاتجاهين يمكن رؤيتهما في أفلام وودي آلِن.

وبالنسبة إلى بعض صنَّاع الأفلام، تغدو الأفلام متنفَّسًا لتخيلاتهم عن حيوات بديلة. فالناس يمارسون الإبداع الفني بهدف توسيع نطاق خبراتهم، والتظاهر بالوجود في مكان وزمان مختلفين. والأفلام، كوسيلة إبداعية، تتميَّز بقدرتها الخاصة على إتاحة الفرصة للفنانين لاستكشاف عوالم سحرية (كما في فيلم «هاري بوتر»)، أو أماكن غير مألوفة (كما في فيلم «دوار»)، أو أحداث تاريخية (كما في فيلم «١٩٠٠»).

يميل صنَّاع الأفلام أيضًا إلى صناعة أفلام حول الأشياء التي يرغبونها. ويُضاهي فرويد بين الحَكْي الإبداعي وألعاب التظاهر لدى الأطفال أو أحلام اليقظة لدى البالغين. ويذهب إلى أن هؤلاء الأفراد جميعهم ينغمسون، عبر تلك النشاطات، في محاولة ﻟ «إشباع الرغبات».55 فبينما يحول الواقع بين الناس وبين الحصول على حب وثروة ونفوذ بلا حدود، بإمكان القصص أن تساعدهم في التغلُّب على تلك القيود. ومن ناحية أخرى، تتضمَّن الأفلام أيضًا صورًا لليأس والعنف والرعب وتجارب قد لا يتمنَّى معظم الناس أن يمرُّوا بها. وفي بعض الحالات، تكون صناعة الأفلام وسيلة يستعين بها صنَّاع الأفلام في مواجهة مخاوفهم، والاستعداد نفسيًّا للأسوأ. والمواجهات العنيفة المتكرِّرة في أفلام سكورسيزي مثالٌ على ذلك؛ وأفلام رومان بولانسكي مثالٌ آخر.

وفي معظم الحالات، لا يكون بالإمكان تصنيف الخبرات النفسية كعناصر خالصة للسيرة الذاتية أو إشباع محض للرغبة. فالأفلام تعرض مجموعة متنوعة من الخبرات يمكن أن تمتزج معًا في فيلم واحد. وبينما يُتِيح فيلم «دوار» لهيتشكوك تحويل مادلين إلى عنصر فتيشي، فإنه يعكس أيضًا شعوره بالذنب من خلال إلزام سكوتي بدفع ثمن ضَعفه. تعدُّد الأبعاد هذا يمكن أن نجده أيضًا لدى جمهور الفيلم.

(٦) قراءات إضافية

  • Farber, S. and Green, M. (1993) Hollywood on the Couch: A Candid Look at the Overheated Love Affair between Psychiatrists and Moviemakers. William Morrow, New York, NY.
  • Lax, E. (2000) Woody Allen: A Biography. Da Capo Press, Cambridge, MA.
  • LoBrutto, V. (2008) Martin Scorsese: A Biography. Praeger, Westport, CT.
  • McGilligan, P. (1994) Jack’s Life: A Biography of Jack Nicholson. W. W. Norton, New York, NY.
  • Schultz, W. T. (2005) Handbook of Psychobiography. Oxford University Press, New York, NY.
  • Spoto, D. (1983) The Dark Side of Genius: The Life of Alfred Hitchcock. Little, Brown, Boston, MA.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤