ظهور الحقيبة السوداء

وقف «تختخ» في جانب الطريق في انتظار راكب الفيسبا، فكَّر قليلًا، ثم أخرج تليفونه المحمول من حقيبته الصغيرة، وقال في نفسه: سوف ألتقط له صورةً بالمحمول وهو قادم، وصورة أخرى بعد أن يمرَّ. ولم تمضِ دقائق، حتى رأى راكب الفيسبا قادمًا من بعيد. ابتسم وهو يهمس لنفسه: هذه فرصة جيدة، فهو يقترب من الناحية التي أقف فيها!

رفع التليفون، وكأنه يقوم بتصوير الشارع، حتى لا يشكَّ فيه راكب الفيسبا، وعندما أصبح أمامه، التقط الصورة ثم استدار بسرعة، والتقط الصورة الأخرى. أعاد الصورة الأولى إلى شاشة المحمول، ثم تنهَّد وهو يقول لنفسه: الصورة مهتزَّة قليلًا بسبب سرعة الفيسبا. أعاد الصورة الأخرى، فكانت واضحةً تمامًا، تظهر فيها الحقيبة السوداء. فجأةً امتلأ وجهُه بالدهشة؛ فقد قرأ رقم الفيسبا، وكان الرقم واضحًا تمامًا. لكن ما أدهشه لم يكن وضوح الصورة، ما أدهشه هو رقمها، فقد كان الرقم هو «٩٥٨». قال في نفسه: هل يكون الرقم الناقص هو رقم ٨؟! وهل يكون راكب الفيسبا هو نفسه اللص الذي سرق أبحاث الدكتور «مجدي»؟!

ولم يُضِع وقتًا؛ فأخذ طريق العودة إلى فيلته. كان يفكِّر: أن تكبير الصورة على جهاز الكمبيوتر سوف يُفيد كثيرًا، أما صاحب الصورة، فيمكن الوصول إليه عن طريق المفتش «سامي». وعندما وصل اتجاهه إلى غرفته، وجلس إلى مكتبه، وفتح جهاز «اللاب توب» الخاص به، وأوصل تليفونه المحمول بالجهاز، وظهرت صورة راكب «الفيسبا». أولًا أخذ في ضبط الصورة؛ فبدَت ملامحُ الرجل واضحة. كان شابًّا في حدود الثلاثين، يلبس قميصًا داكن اللون، وبنطلون «جينز». ظل يتأمل الملامح التي ظهرت أمامه، قال في نفسه: إنها ملامح هادئة، تبدو طيبة. فجأة رنَّ تليفون المحمول، فعرف أن «نوسة» على الطرف الآخر. جاء صوت «نوسة» تسأل: هل قمت بالمهمة؟

قال «تختخ»: نعم، وظهر شيءٌ مثير، خاصٌّ بالرقم ٩٥.

نوسة: ماذا تقصد بشيء مثير خاص بالرقم؟

تختخ: الحقيبة السوداء التي اشتبهتُ فيها. كانت خلفَ شابٍّ يركب «فيسبا» … وقد التقطتُ له صورة ظهر فيها رقم الفيسبا وهو «٩٥٨»، فهل يكون الرقم الناقص هو ٨؟! وهل يكون صاحب الفيسبا هو اللص الذي نبحث عنه؟

لم تردَّ «نوسة» مباشرةً؛ فقد غاب صوتُها قليلًا، حتى إن «تختخ» قال يخاطبها: أين أنتِ، ولماذا لا تردِّين؟

جاء صوت «نوسة» تقول: إنها مفاجأة، ولكن لماذا يكون رقم ٨ هو الرقم الناقص؟ لماذا لا يكون رقمًا آخر؟

قال «تختخ»: إننا نبحث عن بداية، ومَن يدري، قد تكون هذه هي البداية!

نوسة: هل يمكن أن تُرسل لي الصورتَين؟

تختخ: الآن سوف أرسلهما لك، وﻟ «عاطف».

انتظَر لحظةً ثم قال: سوف أذهب غدًا للمفتِّش «سامي»، حتى أعرف صاحب «الفيسبا»، ونتجمع آخر النهار، ويكون «عاطف» و«لوزة» قد عادَا من مهمَّتِهما في «سوق القلعة»!

نوسة: إذن إلى اللقاء غدًا.

أرسل الصورتين إلى «نوسة»، و«عاطف» عن طريق الإيميل، وأبدل ثيابه. نظر في ساعة الحائط المعلَّقة في غرفته، كانت تشير إلى الحادية عشرة. قال في نفسه: وقتٌ متأخرٌ للاتصال بالمفتش «سامي»! ثم ألقى نفسه في سريره، كان يقلِّب الموقف في رأسه. تساءل: هل يكون راكبُ الفيسبا قد اشترى الحقيبة التي يحملها من أحد باعة الروبابيكيا، وهل هي حقيبة الدكتور «مجدي»؟!

هذا إذا لم يكن هو نفسه اللص!

ظلَّ يقلِّبُ اللغز في رأسه، حتى غاب في النوم، وعندما استيقظ كانت الساعة تدقُّ السابعة صباحًا، لم يغادر سريره، فقد قال في نفسه: ما زال الوقت مبكِّرًا، لكنَّه فجأةً قفز من السرير، واستعدَّ للخروج. كان يفكِّر: يجب أن أتحرَّك قبل أن تزدحم الشوارع، وقبل أن أذهب للمفتش «سامي». وفي دقائق، كان يركب دراجته، وخلفه «زنجر».

وأخذ طريقه إلى «المقطم»، فكَّر: إن سيارة القمامة التي رأيتها ونحن في طريقنا إلى «كارفور» كانت في طريقها إلى جبل «المقطم». ومَن يدري، قد أجد أوراق بحث الدكتور «مجدي» في القمامة هناك!

فجأة، رأى سيارة قمامة تمرُّ بجواره فتَبِعها. كانت السيارة في طريقها إلى «المقطَّم» فعلًا، وبرغم أن الطريق كان شاقًّا بين صخور الجبل، فإن ذلك لم يجعله يتراجع؛ فقد كان الطريق ممهَّدًا بتأثير مرور سيارات القمامة الضخمة فيه. كانت السيارة قد اختفَت وهي تُثير خلفها زوبعةً من التراب. أخرج منديلًا من حقيبته، ولفَّه حول وجهه، حتى يستطيعَ أن يتنفس. مضَت ساعةٌ وهو يتقدَّمُ متتبِّعًا خطَّ سير السيارة، ورأى السيارة وهي تعود بعد أن أفرغَت حمولتها. استمرَّ في تقدُّمه. فجأة وقف مندهشًا؛ فقد كان هناك جبلٌ من القمامة، وقف يتأمله. كان الجبل مكوَّنًا من أشياء كثيرة؛ صفائح، وزجاجات بلاستيك، وبقايا طعام، وأوراق قديمة متسخة، وأحذية قديمة، أشياء كثيرة!

ورأى عددًا من الصبية يبحثون فيها بطريقة لفتَت نظرَه. كانوا يقومون بفرز الأشياء؛ فيضعون كلَّ ما هو مصنوع من البلاستيك في جانب، والأوراق في جانب، وقِطَع الحديد في جانب، والصفيح في جانب. فكَّر قليلًا حتى اقترب منهم. كان «زنجر» يتبعه، ورأى الصبية يتوقَّفُون عن العمل، فَهِم أنهم خائفون من «زنجر». ربَّت على كلبه العزيز؛ فأقعى «زنجر» على الأرض. رسم «تختخ» ابتسامة على وجهه، واقترب من الصبية، وألقى عليهم تحيَّة الصباح، فردَّ أكبرهم: ماذا تريد؟!

تختخ: أريد أن أتحدث معكم قليلًا.

فجأةً، ظهر من خلف جبل القمامة رجلٌ ضخم، وقال صارخًا: لماذا توقَّفتم عن العمل؟! هيَّا أكملوا الفرز!

ثم اقترب من «تختخ»، وهو يقول بصوته الخشن: ماذا تريد يا شاطر؟!

ابتسم «تختخ»، وهو يُلقي إليه تحيَّة الصباح: صباح الخير!

الرجل: صباح النور، ماذا تريد؟!

تختخ: أريد الحديث معك، إذا أذنتَ لي!

الرجل: تفضَّل، ماذا تريد؟

تختخ: أريد أن أسأل: هذه القمامة، هل هي خاصَّة بمنطقة «المقطم» فقط؟

الرجل: لا … إنها تضمُّ قمامة «المقطم»، و«دار السلام»، و«المعادي». لكن لماذا تسأل؟

تختخ: هناك أوراق مهمة مفقودة، ونبحث عنها، وقد تكون بين هذه الأوراق التي تظهر في القمامة!

نظر له الرجل قليلًا، ثم قال: تعالَ آخر النهار، حتى يكون قد تمَّ فرزُ القمامة، وساعتها يمكن أن تبحث عن الأوراق التي تُهمُّك.

شكره «تختخ»، وانصرف وهو يهمس لنفسه: لا بد من العودة آخر النهار!

•••

كان «عاطف» و«لوزة» قد وصلَا إلى سوق القلعة، بعد أن سألَا عن مكان بيع الأشياء القديمة، كانت مساحة السوق كبيرةً، وكانت تضمُّ أشياء قديمة كثيرة؛ أثاث قديم، وملابس قديمة، وملاعق وشِوَك وأحذية قديمة، وخلف كلِّ نوعٍ من هذه الأشياء يقف بائعها. وناسٌ كثيرون يقلِّبون في الأشياء القديمة ليختاروا ما يريدونه. فجأة جذبَت «لوزة» يدَ «عاطف»، وهمسَت له: انظر، بائع الأحذية يضع بجواره عدة حقائب قديمة!

تحرَّك «عاطف» و«لوزة» بشكل طبيعي، ووقفَا عند بائع الملاعق والشوك، وأخذَا يقلِّبان فيها، وحتى يبدوَ موقفهما عاديًّا، اختار «عاطف» ملعقةً كبيرة، تبدو ثمينةً، وسأل البائعَ عن ثمنها، فقال البائع: جنيهان!

اندهش «عاطف»، فهي تساوي أكثر، لكنه وضع يده في جيبه وأخرج جنيهَين قدَّمها للبائع، ثم اتَّجهَا إلى بائع الأحذية. كانت الحقائب القديمة حقائب مدرسية ممزَّقة، لكن كان بينها حقيبة مختلفة سوداء اللون، مدَّ «عاطف» يدَه ليُمسك بها، لكنه فوجئ بيدٍ أخرى تجذبها قبل أن تَصِل يدُه إليها، وبرغم دهشة «عاطف» و«لوزة»، فإنهما انتظرَا. كانت اليد التي امتدَّت وأمسكَت بالحقيبة لرجلٍ تبدو القسوة على ملامحه، لكنه عندما تحدَّث كادَت «لوزة» تضحك؛ فقد كان صوته رفيعًا لا يتناسب مع قسوة ملامحه. أخذ الرجل يقلِّبُ الحقيبة، وعندما فتحها، لاحظ «عاطف» أن قُفْل الحقيبة من جانبَيها قد تعرَّض لعنف، حتى إنه تمَّ كسرها، فكَّر «عاطف» بسرعة: إن حقيبة الدكتور «مجدي» تُفتح بأرقام سرِّيَّة، ولا يمكن فتحها إلا بمعرفة هذه الأرقام السِّرِّية أو كسرها. بدأ الرجل يجادل البائع في ثمنها، وعرض عليه عشرة جنيهات ثمنًا لها، فسحب البائع الحقيبة بعنف من يد الرجل، وهو يقول بحدَّة: ثلاثون جنيهًا لا تنقص جنيهًا واحدًا، هذه شنطة سامسونايت!

تذكَّر «عاطف» أن حقيبة الدكتور «مجدي» تحمل ماركة سامسونايت، ولكن البائع لا يعرف نطقها الصحيح، استمرَّ الجدل بين الرجل والبائع، و«عاطف» و«لوزة» يتابعانهما. في النهاية، انصرف الرجل ولم يشترِ الحقيبة. مدَّ «عاطف» يده وهو يقول للبائع: هل أستطيع رؤية الحقيبة؟

نظر له البائع لحظةً، ثم قال: إنها كبيرةٌ عليك، ولا تصلح للمدرسة!

ابتسم «عاطف»، وهو يقول: فقط أريد أن أراها!

قال البائع بنفاد صبرٍ: لا تضيِّع وقتي، خذ شنطةً للكُتب، وأمامك عددٌ منها!

في نفس اللحظة، جاء صوت أحد الباعة ينادي: يا «جابر»، أعطني الشنطة السامسونايت التي عندك؛ فعندي زبون لها.

فكَّر «عاطف» بسرعة، ونظر إلى «لوزة» التي فهمت ما يقصده، وابتعد قليلًا، أجرى اتصالًا بخاله الدكتور «مجدي»، وسأله عن أي علامةٍ في الحقيبة التي كانت تضمُّ أبحاثه، وحدَّد له الدكتور علامةً داخل الحقيبة. عاد بسرعةٍ إلى حيث يقف البائع «جابر»، الذي كان يقذف بالحقيبة إلى زميله الذي التقطها، واتجه بها إلى حيث يقف أحد الرجال، تابع «عاطف» و«لوزة» ما يدور. أخذ الرجل يقلِّب الحقيبة، ثم جاء صوت البائع يقول: خمسة عشر جنيهًا يا «جابر»!

ردَّ «جابر»: ثلاثون جنيهًا لا تنقص جنيهًا واحدًا!

جاء صوت البائع الآخر: عشرون جنيهًا يا «جابر»!

خشيَ «عاطف» أن يشتريَها الرجل، فقال ﻟ «جابر» بسرعة: سوف أشتريها بثلاثين.

نظر له «جابر» وابتسم، وهو يقول: هل معك الثلاثون جنيهًا؟!

عاطف: نعم معي.

وبينما كان يضع يده في جيبه، قال «جابر» لزميله البائع الآخر، وهو يناديه: هات الشنطة يا «سعيد»، لقد بِعتُها.

ردَّ عليه «سعيد»: انتظر يا «جابر»، الأستاذ «مصطفى» جارنا، وهو سيدفع لك ما تريده!

كان «عاطف» و«لوزة» يشعران بالقلق، وجاء صوت «سعيد» يقول: الأستاذ «مصطفى» سيدفع خمسة وعشرين!

نظر البائع «جابر» إلى «عاطف» وهو يقول: ادفع خمسة وثلاثين؛ إنها شنطة جديدةٌ لا يعيبها إلا القفل، وتستطيع أن تُصلحَه. إنها تباع في المحلات بأكثر من مائة جنيه!

ثم مدَّ يده إلى «عاطف» وهو يقول: هات الخمسة والثلاثين!

نظر «عاطف» إلى «لوزة» التي همسَت: لا توافق! إنه يستغل اهتمامك بالحقيبة!

قال «عاطف» ﻟ «جابر»: ثلاثون جنيهًا فقط، هي كلُّ ما معي!

جاء صوت البائع الآخر يقول: ماذا قلت يا «جابر»، موافق؟

فكَّر «عاطف»: لو أظهرتُ له الثلاثين جنيهًا سوف يوافق؛ فالنقود لها تأثير!

أخرج يده من جيبه، وبها ثلاثون جنيهًا، وقال ﻟ «جابر»: هذه هي الثلاثون جنيهًا!

اقترب البائع «سعيد» من «جابر»، وقال: سوف يدفع خمسة وعشرين جنيهًا، وأنت هكذا قد كسبت ضعفَ ما اشتريتَها به!

لكن «جابر» مدَّ يده وأخذ الثلاثين جنيهًا من يد «عاطف»، وهو يقول: هات الشنطة يا «سعيد»، لقد بِعتُها، وانتهى الأمر.

في نفس اللحظة، اقترب «مصطفى»، وفي يده الحقيبة، همسَت «لوزة» ﻟ «عاطف»: سوف تضيع الفرصة، ونفقد الحقيبة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤