رحلة إلى أرض البطولات

أخذت السيارة تمضي مُسرِعةً على طريق القاهرة السويس، في ذلك الصباح المُشرِق في يوم ٢٣ أكتوبر سنة ١٩٧٣م. كان المفروض أن القتال على جبهة قناة السويس قد توقَّف بقرار من الأُمم المتَّحِدة بعد أن حقَّقَت القوَّات المسلَّحة المصرية — وخَلْفها شعب مصر كله — الانتصار التاريخي بعبور قناة السويس، حطَّمت خط «بارليف» المَنيع، وتهاوَت أسطورة الجيش الإسرائيلي كله في ستِّ ساعات من يوم ٦ أكتوبر العظيم.

وكان رُكَّاب السيارة هم «المغامرون الخمسة» ومعهم «زنجر» … أما قائد السيَّارة فكان الأستاذ «كريم» عم «لوزة»، وكان هدف السيارة مدينة «السويس».

ولكن ما الحكاية التي من أجلها يُسافر «المغامرون الخمسة» إلى «السويس»، هل سافروا وراء «لص خطير» أو مغامرة مُثيرة؟ أو أدلَّة هامَّة؟

لا هذا ولا ذاك.

وكانت الحكاية أن للمُغامِرة الصغيرة «لوزة» عمةً تعيش في «السويس»، في المدينة المُحاربة الباسلة. وقد رفضت أن تُغادرها في كل الظروف … برغم أنها تعيش وحيدةً مع خادم … عجوز … بعد أن كَبِر أبناؤها؛ «نبيل» الضابط بالقوات المسلحة، و«حسن» المهندس، و«همت» الابنة التي تزوَّجت وتعيش مع زوجها في أسوان … أما زوج العمة فقد مات منذ سنوات.

وبرغم محاولة الأسرة إقناع العمة «سميحة» بترك «السويس» والإقامة مع أحد أبنائها، إلا أنها رفضت أن تُغادر مدينتها الحبيبة قائلةً: لقد وُلدت هنا، وكبِرت هنا … وعِشت أجمل أيام حياتي في «السويس»، فلماذا أُغادرها؟ كانوا يقولون لها: ولكن الحرب يا ست «سميحة»!

وكانت ترد: حرب! وهل أخاف من هؤلاء … فليأتوا إلى هنا وسوف أُحاربهم بهذه!

وترفع الست «سميحة» عصاها التي تتوكَّأ عليها … ويضحكون … ويتركون حياتها تسير كما اعتادت أن تسير في شقَّتها الجميلة الكبيرة في شارع الحرية.

وكانت «لوزة» تحكي للمُغامرين قصة عمَّتها قائلةً: وآخر مرة رأيتها فيها كانت في الإجازة الماضية … ودار بيننا الحِوار المُعتاد … وانتهى ببقائها في مكانها مع الخادمة العجوز «سعدية». إنكم ستجدون في عمتي نموذجًا مُمتازًا للأم المصرية التي ربَّت هؤلاء الأبطال الذين عبَروا يوم ٦ أكتوبر، وحقَّقوا نصرًا لا مَثيل له. كانت الشمس عالية … والطريق تقطعه غاديةً رائحةً عشراتٌ من سيَّارات الجيش المصفَّحة تحمل الأبطال إلى الميدان أو تعود بهم. وبين حين وحين كان الأصدقاء يلتقون بمجموعة من الدبَّابات الضخمة تهدر على جانب الطريق، فكانوا يلوِّحون بأيديهم للأبطال بتحيَّة النصر … ومن بعيدٍ كانت تصل طلقاتٌ متقطِّعة للمدفعية، وكلما اقتربوا من المدينة الباسلة زاد زحام السيَّارات والدبَّابات … وشاهَدوا آثار ضرب الطيران والمدفعية … ثم دخلوا المدينة الباسلة «السويس»، واتَّجهت السيارة إلى منزل السيدة «سميحة» الذي يقع في شارع الحرية؛ أكبر شوارع المدينة.

وعندما توقَّفت السيارة أمام الباب، ضغط الأستاذ «كريم» على «كلاكس» السيارة، وسُرعان ما أطلَّت من الشُّرفة الخادمةُ العجوز «سعدية» … وعندما رأت السيارة أسرعت تدخُل لتُخبِر سيدتها التي سحبت عصاها ووقفت تنتظر المجموعة على الباب.

كانت فرحة العمة «سميحة» ﺑ «لوزة»، وببقيَّة الأولاد فرحةً لا توصف … فقبَّلَتهم جميعًا … واستقبلت شقيقها «كريم» بتَرْحابٍ بالغ …

قالت «لوزة»: كيف الحال يا عمَّتي؟

العمة: عظيم … لقد أُتيحَ لي أن أُشاهد ما لم تُشاهدوه أنتم … فمن هنا كنت أستطيع سماع المعركة في أثناء العبور العظيم … لم أكُن أصدِّق نفسي؛ فقد عِشت حتى أرى أكبر انتصارات العرب وأروعها في تاريخهم الحديث … عِشت ورأيت أُسود مصر البواسل يعبُرون القناة ويستولون على خط «بارليف»، وهكذا أستطيع أن أُقنِعكم بأن بقائي هنا لم يكُن عبثًا … فقد سمِعت وشهِدت من هذا المنزل العتيق أكثر ما حدَث في اليوم التاريخي يوم ٦ أكتوبر!

قال «عاطف» مُبتسمًا: ألمْ تخافي مُطلَقًا يا ست «سميحة»؟

قالت السيدة العجوز وهي ترمُقه من خلال نظَّارتها البيضاء، وهي تدقُّ الأرض بعصاها: أنا أخاف؟! من أي شيء أخاف؟! لقد كانت أصوات المدافع والصواريخ في أذُني أحلى من الموسيقى!

ومضت السيدة «سميحة» تشرح وتصف ما رأته وسمِعته … وبعدها قام الأولاد فاغتسلوا، ثم أسرعوا إلى الشارع يُشاهدون من بعيدٍ مياه القناة وهي تمضي في هدوء … ومن بعيدٍ بدَت قواعد الصواريخ … والمَعابر التي أقامها جنود مصر وضُباطها الأبطال … وعلى بعدٍ أكثر شاهَدوا بقايا المعارك الضخمة التي جرَت بين الدبَّابات، وشاهدوا دبَّابات العدو المحطَّمة، وبقايا أسلحته من طائرات ومصفَّحات مُتناثرة على أديم الصحراء الأصفر.

وعندما اجتمعوا بعد ساعة قال «محب»: هل هناك سُكان آخرون في شارعكم يا ست «سميحة»؟!

سميحة: نعم … ولكن ليسوا كثيرًا … إنهم قِلَّة!

تختخ: وهل نستطيع زيارة شاطئ القناة والحديث إلى الأبطال المصريين؟

سميحة: طبعًا، ولكن لا بد من إذن.

قال الأستاذ «كريم»: سوف أحصُل لكم على إذن من القوات المسلحة للزيارة، كما حصلت على إذن الحضور.

نوسة: لَيتَك تحصُل لنا على إذن بالمرور إلى الضفَّة الأخرى وزيارة خط «بارليف» … إن ذلك سيكون بالنسبة لنا شيئًا لا يُنسى.

كريم: سأُحاول!

محب: ألمْ يحدُث قِتالٌ ليلة أمس؟

سميحة: سمِعت من بعيدٍ اشتباكاتٍ قوية!

محب: شيءٌ غريب … لقد صدَر قرار وقف إطلاق النار أمس، وسمِعت الساعة السابعة إلا ربعًا نداءَ وزير الحربية الذي أذاع فيه أمر القائد الأعلى للقوات المسلحة بإيقاف إطلاق النار اعتبارًا من الساعة ١٨:٥٢ مساء يوم ٢٢ أكتوبر!

لوزة: الساعة ١٨ … كيف! … هل هناك ساعة بعد الساعة ١٢؟

محب: في كثير من المصالح الحكومية، ومنها وزارة الحربية، تُحسَب الساعة على أن اليوم ٢٤ ساعة، وبدلًا من الساعة الواحدة بعد الظهر مثلًا يُقال إن الساعة ١٣، ويمكنك حساب الساعات بعد الساعة ١٢ بطرح ١٢ ساعة من التوقيت … فإذا قيل الساعة ١٣ فمعناها الساعة الواحدة … وإذا قيل الساعة ١٥ فمعناها الساعة الثالثة، وهكذا …

الأستاذ «كريم»: لقد سمعت أن العدوَّ لم يلتزم بوقف إطلاق النار.

تختخ: دعونا نسمع الإذاعة؛ فلعلَّ هناك شيئًا جديدًا!

وأحضرت «نوسة» جهاز الراديو «الترانزستور» وكانت الساعة العاشرة والربع صباحًا، وكانت هناك موسيقى عسكرية … وبعد حوالَي عشر دقائق قطع المُذيع الإرسال، وأذاع البيان رقم ٥٥، واستمع الأصدقاء بانتباهٍ شديد ومعهم السيدة «سميحة» والأستاذ «كريم» إلى المُذيع يقول:

«استغلَّ العدوُّ قرار وقف إطلاق النار، وقام بدفع عدد من دبَّاباته ليلة أمس إلى منطقة «الدفرسوار» مُحاولًا التسلُّل لاكتساب بعض المواقع الجديدة التي لم يكُن له وجود فيها قبل قرار وقف إطلاق النار … كما قام بإطلاق النيران من بعض مَواقعه، علاوةً على أنه استخدم قوَّاته الجوية ضد بعض قِطَع قوَّاتنا. وتُعلِن القيادة العامة للقوات المسلحة أن هذه الأعمال تُعتبر خَرقًا لقرار وقف إطلاق النار، واستفزازًا للقوات المصرية؛ مما سيضطرُّها إلى رَدع هذه الاستفزازات.»

قالت «لوزة»: وأين هذا المكان المدعو «الدفرسوار» … وما معناه؟!

كريم: إن «الدفرسوار» مكان في شمال البُحيرات المرَّة التي هي جزء من قناة السويس، ويقع «الدفرسوار» جنوب الإسماعيلية.

لوزة: هل نستطيع أن نذهب إلى هناك بالسيارة؟!

قال الأستاذ «كريم» مُبتسمًا: إن المسافة طويلة، وفي الوقت نفسه ليس مسموحًا بتحرُّك غير العسكريين في أثناء المعارك؛ ففي ذلك خطورةٌ شديدة عليهم!

لوزة: إذن لن نرى المعارك عن قرب!

نوسة: قد تصل إليك المعارك هنا!

ولم تكَد «نوسة» تنتهي من جُملتها حتى دوَّى هدير المَدافع، وسمِعوا جميعًا صوت انفجارات مكتومة تهزُّ الأرض. فقالت السيدة «سميحة»: هذه قنابل وصواريخ الطائرات، إنهم يضربون قريبًا من «السويس».

وأسرعت الخادمة العجوز تنفِّذ تعليمات الدِّفاع المدني … فتح زجاج النوافذ … وإغلاق المصاريع الخشبية، وصنابير المياه.

ظلَّ الضرب مستمرًّا. وقالت «لوزة»: ألا نستطيع الصعود إلى السطح لرؤية الضرب؟!

قال الأستاذ «كريم»: هذا ممنوع تمامًا … إنه يعرِّضك للشظايا المُتطايرة إذا كان الضرب قريبًا.

وجلسوا جميعًا يستمعون إلى أصوات القتال المختلفة … وكانت السيدة «سميحة» التي تعوَّدت سماع الطلقات تشرح لهم ما يسمعون … هذه مَدافع مضادَّة للطائرات، مَدافع رشَّاشة … صواريخ … طلقات مدفعية بعيدة.

وظل الضرب مستمرًّا … وزاد اقترابه … من «السويس» … وفكَّر الأستاذ «كريم» أنه من الأفضل العودة في المساء إلى القاهرة … وعندما عرض فِكرته على الأصدقاء رفضوا جميعًا.

وقال «تختخ»: لقد جئنا لقضاء بضعة أيام … والمدارس معطَّلة … وأظنُّ أنه يجب على المغامرين الخمسة الاشتراك في المعركة.

قال الأستاذ «كريم» مُبتسمًا: نحن جميعًا على استعداد للاشتراك في المعركة، المهمُّ أن يكون لنا أدوارٌ مُفيدة.

قالت السيدة «سميحة»: أنتم صائمون طبعًا، فبماذا تُفطرون؟

تختخ: لو كان من الممكن أن نأكل سمكًا … لكان ذلك شيئًا عظيمًا …

هزَّت السيدة «سميحة» رأسها، وتمايَلت نظَّارتها الطِّبية على أنفها، وقالت: إنك تفكِّر بعقلية الناس الذين لم يُشاهدوا الحرب؛ ﻓ «السويس» مدينةٌ مُحاربة، والطعام قليل، وقد نكون محظوظين جدًّا إذا وجدنا قوافل التموين قد وصلت إلى المدينة حتى نحصُل على طعامنا … ولكن عندي مفاجأة!

ثم نادت «سعدية» قائلةً: سنستغني عن البَيض من أجل ضيوفنا الأعزَّاء … جهِّزي لنا ثلاث دجاجات.

قال تختخ: ماذا تقصدين يا ست «سميحة»؟

سميحة: لقد كنت أربِّي عشر دجاجات وديكًا واحدًا، وقد ظلَّت الدجاجات تُعطينا البَيض لنعيش عليه طَوال فترة المعركة … ولكن بما أن المعركة انتهت فلا بأس من ذبح بعض الدجاج لكم.

ضحِك «تختخ» قائلًا: إننا نعترض يا ست «سميحة» على ذبح هذه الدجاجات.

وأضاف «عاطف» ضاحكًا: إنها دجاجاتٌ مُحاربة!

قالت الست «سميحة»: الحقيقة أنني كنت أُبقيها حتى يصل ابني الرائد «نبيل» سالمًا من المعركة، فأقدِّمها له، إنه يستحقُّها لأنه حارَب.

نوسة: نحن أيضًا سنُبقيها له، وسنُفطر بأي شيء!

وسكت الجميع عندما سمِعوا صوت الانفجارات تتزايد … وتقترب … ويعلو صوتها … ثم زاد الضرب وبدأ المنزل يهتز.

قال «كريم»: أليس هناك مَخبأٌ قريب؟

السيدة «سميحة»: بجِوارنا تمامًا!

كريم: سننزل فورًا.

وأسرعوا جميعًا بالنزول … وكان بعض الجيران قد وصلوا أيضًا إلى المَخبأ الرطب، واصطفُّوا جميعًا بعضهم بجِوار بعض … ولاحَظ «تختخ» أن السيدة «سميحة» لم تنزل إلى المَخبأ … وكذلك الخادمة «سعدية».

وبرغم الضرب العنيف الذي كانت تتعرَّض له المدينة … واقتراب الضرب كثيرًا من المَخبأ، كان الجميع يبتسمون، وقال رجل لابنه الصغير الذي يجلس على رُكبته: هل أنت خائف؟

قال الولد الصغير: لا … ولكنني أتمنَّى أن أكون ضابطًا لأخرج إلى هؤلاء الذين يضربون «السويس» بدلًا من الاختباء في المَخبأ.

وضحِك الجميع … وظهر رجل على الباب … رمَقه بعض الحاضرين في استغراب، ثم قال أحد الحاضرين: إنني لم أرَ هذا الرجل من زمنٍ بعيد.

ردَّ آخر: ولكنني أذكُره جيدًا … لقد كان يُتاجر في الساعات منذ عشر سنوات أو أكثر …

رد ثالث: لا … منذ عشرين سنة!

وابتسم الرجل لهم قائلًا: لم تُعجِبني الحياة في القاهرة … لقد عُدتُ للاشتراك في المقاومة الشعبية! …

ودوَّى انفجارٌ قويٌّ قريب … وصمت الجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤