المدينة تُناضل

حوالَي الساعة الثانية بعد الظهر … خفَّ الضرب قليلًا، وخرج الناس من المَخبأ، وصعِد «المغامرون الخمسة» والأستاذ «كريم» … إلى حيث كانت السيدة «سميحة» والخادمة «سعدية» مشغولتَين بإعداد الطعام … دون أن يبدوَ عليهما أي أثر للغارات العنيفة التي كان يشنُّها العدوُّ على المدينة الباسلة.

وجلسوا حول الراديو «الترانزستور» الذي كان يُذيع بعض الأغنيات الحماسية والموسيقى العسكرية … ثم توقَّفت الأغنيات والموسيقى، وقال المُذيع: سيِّداتي سادتي … البيان رقم ٥٦.

وتوقَّفوا جميعًا عن الحديث … وقال المُذيع: انتهز العدوُّ فرصة وقف إطلاق النار، وقام خلال الليل بتدعيم قوَّاته في منطقة «الدفرسوار» … ثم مهاجمة مَواقع قوَّاتنا وإطلاق النار عليها … وقد قامت قوَّاتنا بالتصدِّي لمحاولات العدو، واشتبكت معه منذ الصباح في مَعاركَ عنيفةٍ اشتركت فيها الدبَّابات والمدفعية والقوات الجوية … وقد أسقطنا للعدو أربع طائرات من طِراز «فانتوم» و«ميراج» … وما زالت الاشتباكات مستمرَّة.

وعادت الموسيقى العسكرية … واستأنف الجميع حديثهم … وقال الأستاذ «كريم»: سوف أنزل بعد قليل لمقابلة بعض المسئولين في المدينة … وأعتقد أننا يجب أن نُغادرها بعد ذلك.

وارتفعت صيحات الاحتجاج من «المغامرين الخمسة»، وقالت «لوزة»: لا أدري لماذا يا عمي تُصرُّ على أن نعود … إننا جئنا لقضاء أسبوع هُنا … ولن نُغادر «السويس» قبل انقضاء هذه المدة!

كريم: من الواضح أن العدوَّ قد انتهك وقف إطلاق النار … وأنه يُحاول حِصار مدينة «السويس» … فإذا كنتم مُصرِّين على البقاء، فسوف أبحث إمكان اشتراكنا جميعًا في المعركة.

هلَّل الأصدقاء لحديث الأستاذ «كريم»، وقال «تختخ» الذي لاحَظ أن الكلب «زنجر» يهزُّ ذيله: إن «زنجر» متحمِّس أيضًا، ويجب أن نجد له مكانًا في المعركة. ونبح «زنجر» مُبديًا موافقته، ثم نزل الأستاذ «كريم» ومعه «تختخ» و«محب»، واتَّجهوا إلى مبنى المحافظة.

كانوا يسيرون في خطٍّ متعرِّج؛ فقد كانت القنابل تتساقط في كل مكان … والمَنازل تهتزُّ وتتهاوى. وكان عليهم بين كل لحظة وأخرى أن ينبطحوا أرضًا حتى لا تُصيبهم الشظايا أو الأحجار المُتطايرة. وعندما وصلوا إلى قرب المحافظة كان الضرب قد بلَغ أقصاه، وأصبح من المُستحيل أن يتقدموا خطوةً أخرى، وكانت طائرات العدو تقصف المدينة بالصواريخ … والمدفعية الثقيلة تضربها من بعيد … وبدا كأن جهنَّم فتحت أبوابها. وقابَلوا أحد المسئولين عن المقاومة الشعبية، وعرض عليه الأستاذ «كريم» ما جاءوا من أجله، فقال الرجل بسرعة: اتركوا عنوانكم ورقم التليفون … وسوف نطلبكم إذا احتجنا إليكم.

اشتدَّ الضرب … ولجأ الثلاثة إلى أحد المَخابئ … كانت أصوات الصواريخ تبدو واضحة وهي تئزُّ ثم تُصفر … ثم تنفجر … وفجأةً سمِعوا صوت انفجار قوي فوق رءوسهم، وصاح أحد الموجودين: لقد سقطت طائرة … هذا صوت انفجارها!

وارتفعت أصوات التهليل من الموجودين جميعًا، وقبَّل الناس بعضهم بعضًا. وقال واحد: إنها الطائرة رقم خمسة اليوم.

رد آخر: بل هي رقم ستة.

قال ثالث: بل رقم سبعة.

قال رابع: إن البيان رقم ٥٦ حدَّد عدد الطائرات بأربعة … وقد سقطت واحدة بعد ذلك … فالمجموع خمسة … وبلاغات القيادة المصرية دقيقة جدًّا لا تزيد، بل قد تنقص من عدد الطائرات المضروبة ضمانًا للدِّقَّة في العدد.

ودوَّت صفَّارة الأمان، وخرج الناس إلى الشوارع. كانت المدينة الباسلة قد أُصيبت بمزيد من الدمار … ولكن الناس كانوا يبتسمون … وكان رجال الجيش في دبَّاباتهم يمرقون في اتجاه الجبهة … وكتائب المقاومة الشعبية تقف خلف أسلحتها عند كل شارع … كانت مدينة تُحارب ببسالة!

وسار الأستاذ «كريم» ومعه «تختخ» و«محب»، ووصلوا إلى البيت، وقالت «لوزة»: هل اشتركتم في المقاومة الشعبية؟

رد «محب»: ليس بعد … لقد تركنا العنوان ورقم التليفون … وسوف يطلبوننا عندما يحتاجون إلينا.

لوزة: وأنا … ألن أشترك بأي دور في المعركة؟

عاطف: أي دور يا «لوزة» يمكن أن تقومي به؟

لوزة: إنني أستطيع أن أبحث عن جواسيس … فليس هناك حرب بلا جواسيس!

نوسة: على كل حال، أنا و«لوزة» يمكن أن نتطوَّع في التمريض والإسعاف؛ فقد تدرَّبنا في المدرسة على هذا العمل.

ابتسم الأستاذ «كريم» قائلًا: هذا معقول جدًّا … وسيرحِّبون بكما.

دقَّ الجرس في هذه اللحظة، وأسرعت «سعدية» تفتح الباب للطارق، وكان ولدًا أسمر ظريفًا، يحمل بعض مَطالب البيت، وقالت الست «سميحة»: إنه إذاعةٌ متنقِّلة؛ فهو يعرف من أخبار «السويس» أكثر مما يعرفه أي شخص آخر؛ ولهذا نُسمِّيه «إذاعة»!

قال له «تختخ»: ما هي الأخبار يا «إذاعة»؟!

وابتسم الولد الأسمر وقال: المقاومة الشعبية تقوم بإعداد كمائن للعدوِّ عند مَشارف «السويس» … الناس تقول إن قوَّات إسرائيل تُحاول دخول المدينة من جهة الشرق … وهناك دبَّابات للعدوِّ قد تسلَّلت من «الدفرسوار»، وأخذت تجري في اتجاه المدينة … وقد اشتركت أنا في المقاومة الشعبية!

وقف «محب» مُندفعًا وقال: ولا بد أن نشترك نحن أيضًا … سيكون لنا دور بأية طريقة، وسأنزل مع «إذاعة»، ولن أنتظر دعوةً من أحد.

ووقف «تختخ» و«عاطف» أيضًا … وبدون كلمة أخرى نزل الثلاثة مع «إذاعة» إلى الشارع. كانت الساعة السادسة بعد الظهر. وقال «إذاعة»: سوف نذهب إلى مسجد «سيدي الغريب»؛ فهناك تجمع المقاومة الشعبية.

وأسرع الأربعة … يَجرُون أحيانًا، ويختفون أحيانًا خلف بعض البيوت اتِّقاءَ الضرب المُتواصل الذي كانت تتعرَّض له المدينة.

عندما وصلوا إلى «سيدي الغريب» كان عددٌ كبير من المُواطنين قد تجمَّع … وكانت البنادق والقنابل اليدويَّة تُوزَّع عليهم مع تعليمات بالاتجاهات التي يذهبون إليها، وكان من نصيب الأصدقاء بعض القنابل اليدوية، وقام شاويش من الجيش بشرح طريقة ضربها … وأمسك الشاويش بالقنبلة ثم رفعها إلى فوق وقال: القنبلة اليدوية عبارةٌ عن كُرة من الحديد بها موادُّ متفجِّرةٌ تشتعل عندما تنزع مِسمار الأمان، وتطير الذِّراع التي تتسبَّب في توليد شرارة داخلية تؤدِّي إلى اشتعال المواد الشديدة الانفجار، التي تؤدي بالتالي إلى انفجار القنبلة، ويتمزَّق الغِلاف الحديدي إلى شظايا قاتلة.

ومهمة قاذف القنبلة أن يرفع مِسمار الأمان ثم يقذف القنبلة تجاه الهدف لتحدُث عملية توليد الشرارة … ثم الانفجار كما سبق أن قلنا.

ومالَ الشاويش إلى الخلف، وطوَّح ذراعه اليمنى خلفه، ثم استجمع قوَّته وتظاهر بقذف القنبلة إلى الأمام.

وعاد الشاويش يقول: إن بعض دبَّابات العدو تُحاول الاقتراب من المدينة، وستذهبون جميعًا إلى هناك. وعندما تُشاهدون الدبَّابات عليكم بالانتظار حتى تصبح في مدى القذف، ثم انزعوا المِسمار، واقذفوا القنبلة … الآن أريد من كل واحد منكم أن يُريَني ما يفعل.

وتقدَّم المتجمِّعون حول الشاويش، وأخذ كلٌّ منهم يقوم بالتدريب، والشاويش يصحِّح لهم الأوضاع … وقُسِّموا إلى مجموعات … كل مجموعة لها قائد، وبعد نحو ساعة كانت كل مجموعة تسير في اتجاه.

على حسب التقسيم أصبح «تختخ» و«إذاعة» مع مجموعة، وذهب «عاطف» و«محب» مع مجموعةٍ أخرى … وكان اتجاه «تختخ» و«إذاعة» إلى القطاع الشمالي في المدينة … على حين اتَّجه «عاطف» و«محب» إلى القطاع الجنوبي ناحيةَ «حي الأربعين» … وفي الطريق تعرَّف «عاطف» على ولدٍ صغير في مِثل سِنه اسمُه «محمد عبد الرازق شحاتة»، كان رقيقًا ظريفًا، ولكنه متحمِّس جدًّا للمعركة … قال محمد: إن أبي في قِسم الأربعين، وسوف أشترك معه في القتال.

كان «محب» و«عاطف» و«محمد» هم الأولاد الثلاثة فقط في مجموعتهم، فكانوا موضع إعجاب الكِبار واهتمامهم.

عندما وصل «تختخ» و«إذاعة» إلى مَشارف المدينة، كانت هناك معركةٌ ساخنة بين الصواريخ المصرية والطائرات الإسرائيلية من بعيد … ووزَّع قائد المجموعة من معه من الرجال والأولاد في أماكن مختلفة خلف السواتر الترابية. وبين الأنقاض … ووجد «تختخ» نفسه مع «إذاعة» خلف جدار متهدِّم.

كان المكان مُظلمًا، ولكن السماء فوقهم كانت مُضاءة بالضرب العنيف بين الطائرات الإسرائيلية المُغِيرة … وبين المدفعية المصرية المضادَّة للطائرات والصواريخ المصرية، وغير بعيد منهما كانت بطَّارية من المَدافع المصرية تقذف قنابلها إلى أعلى … وكانت الطائرات الإسرائيلية تفرُّ هاربةً أمام الضرب المركَّز … وأحسَّ «تختخ» بالفخر والحماسة … إن مصر تُحارب … والعدو يُحاول ولا يستطيع … وتمنَّى في تلك اللحظة أن تظهر دبَّابةٌ أمامه … وأن يقذفها بقنابله ويقضيَ عليها … ولكن المعركة ظلَّت دائرة في السماء دون أن تظهر دبَّابةٌ واحدة على الأرض. وفجأةً سمِع دويًّا شديدًا، وقال «إذاعة» وهو يميل عليه: إنه صاروخ … انظر جيدًا … سوف تُشاهد طائرةً تسقط!

وأخذت عينَا «تختخ» تتجوَّلان في السماء، وسُرعان ما سمِع فرقعةً هائلة على يمينه، وشاهَد طائرة للعدوِّ تنفجر في الجو ثم تهوي مُحترقةً مُضيئةً السماء بنيرانها المُشتعلة.

وانسحبت الطائرات المُغِيرة … وظهرت الطائرات المصرية قادمةً من الخلف، وأخذت تُطارد العدو … الذي فضَّل أن ينسحب شرقًا … وهدأ الضرب شيئًا فشيئًا، ولم يعُد يُسمَع سِوى صوت رصاصات تأتي من بعيد.

قال «إذاعة»: الآن نستطيع أن نعود!

تختخ: لماذا؟!

إذاعة: إنهم لن يهجموا مرةً أخرى قبل الفجر!

وفعلًا ظهر رجل في الظلام يقول: يُمكِنكم الآن العودة إلى مَنازلكم، على أن تعودوا مرةً أخرى قبل ظهور الشمس.

وبدآ طريق العودة، ولم يكن «تختخ» يعرف طريقه إلى البيت … فقام الولد الأسمر الظريف بتوصيله … وعندما صعِد إلى فوق وجد السيدة «سميحة» والخادمة «سعدية» وحدهما، وقالت السيدة «سميحة»: لقد نزل الأستاذ «كريم» بعدكم ومعه «نوسة» و«لوزة» إلى المستشفى … فسوف تتطوَّع البنتان للعمل هناك بعد أن رفضتا البقاء في المنزل بعد نزولكما …

كان «زنجر» يجلس وحيدًا … وبدت في عينَيه نظرة عِتاب إلى «تختخ»، وكأنه يقول له: أنتم جميعًا مُشترِكون في الحرب، وما هو دوري أنا؟!

لم يكُن «زنجر» يعرف أن له دورًا عظيمًا في المعركة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤