ضوء في الظلام

تناوَل «تختخ» طعامًا سريعًا؛ قطعة جبن ورغيف؛ فلم يكُن قد أفطر بعدُ، وجلس يستمع إلى الراديو، وفي الساعة العاشرة استمع إلى البيان رقم ٥٧ الذي أذاعته القيادة العامة للقوات المسلحة:

«استمرَّ انتهاك قوَّات العدو لقرار وقف إطلاق النار طول اليوم، حيث واصَلت إطلاق نيرانها على مواقع قواتنا شرق القناة وغربها، واستخدمت في عُدوانها أعدادًا كبيرة من الطائرات والدبَّابات والمدفعية، فتصدَّت لها قوَّاتنا، ودارت معارك جوية وبرية عنيفة، اشترك فيها تشكيلات من طائراتنا ودبَّاباتنا ومدفعيتنا ووسائل دفاعنا الجوي. وقد خسِر العدو في هذه المعارك سبع طائرات طَوال اليوم، منها ثلاث طائرات «ميراج»، وأربع طائرات «فانتوم»، وعددًا كبيرًا من الدبَّابات والعربات المصفَّحة، بالإضافة إلى خسائره في باقي المعَدَّات والأفراد، ولا يزال القتال مستمرًّا حتى ساعة إعداد هذا البيان.»

أحسَّ «تختخ» بالدم يغلي في عروقه … وصدى المعارك البعيدة يأتي إلى أذُنَيه، وهو وحده في المنزل، فقام واقفًا وقال للسيدة «سميحة»: إنني لن أستطيع البقاء جالسًا هكذا، سأنزل أنا و«زنجر» لنتمشَّى قليلًا.

قالت السيدة «سميحة»: أين تذهب؟! إن الضرب قد يتجدد في أية لحظة، وأرى أن تنتظر عودة أصدقائك!

تختخ: سأنتظرهم في الشارع … إنني بمُنتهى الصراحة لا أستطيع البقاء جالسًا والمعارك دائرة … وزملائي في المقاومة الشعبية والتمريض يعملون!

ونزل «تختخ» مُسرِعًا وخلفه «زنجر» … كان الشارع مُظلمًا مهجورًا … فقد كانت قيود الإضاءة صارمة … ومضى «تختخ» يتحسَّس طريقه في شارع الحرية الطويل، وأحسَّ بنسيم البحر يأتي من بعيد، فأدرك أنه يمشي في اتجاه «بور توفيق».

وفجأةً انفجر الجحيم مرةً أخرى … فقد بدأ عددٌ من طائرات العدو يقوم بطلعاتٍ كثيفة على الجبهة … وعلى المدينة … وفي وسط الظلام الحالك على الأرض خُيِّل ﻟ «تختخ» أنه يرى شعاعًا من الضوء المتحرِّك يأتي من مكانٍ قريب … واتَّجه «تختخ» سريعًا إلى مصدر الضوء، ولكن الضوء اختفى على الفور … وربض «تختخ» مكانه لحظاتٍ ينتظر … ودارت بذهنه قراءاته عن الحروب. إن وجود ضوء ليلًا بهذا الشكل المُلفت معناه وجود جاسوس يُرشِد طيران العدو إلى مكانٍ معيَّن … وقرَّر «تختخ» ألا يترك الفرصة لكشف حقيقة هذا الضوء، وبدأ يزحف بين المَنازل المُنهارة والحُفَر الغائرة في الأرض. كان الاتجاه مباشرةً إلى مصدر الضوء مُستحيلًا وسط الأنقاض … فأخذ يلفُّ ويدور … وفجأةً لمع الضوء مرةً أخرى، وحدَّد «تختخ» مصدره بالضبط، وزاد من سرعته برغم صعوبة الانتقال … وكان «زنجر» خلفه يقفز برشاقة، ويُهمهِم وكأنه يتمنَّى أن يشترك في المعركة.

واقترب «تختخ» من الضوء، وقبَع في مكانه لحظاتٍ أخرى. بدأ يتَّجه بسرعة إلى مصدر الضوء و«زنجر» يسبقه كأنه عرَف هدفه، وفجأةً أحسَّ «تختخ» بحركةٍ خلفه، وقبل أن يتبيَّن ما حدَث سقط على الأرض بعد أن هبطت على رأسه عصًا ثقيلة بضربةٍ قاسية … وقبل أن يغيب عن وعيه سمِع «زنجر» ينبح … ثم تلاشى كل شيء!

لا يدري «تختخ» كم مضى من الوقت وهو مُلقًى في مكانه … ولكنه استيقظ فوجد نفسه في فِراشٍ صغير … وسمِع حركةً تدور حوله … حركة أقدام، ورائحة مِثل رائحة المستشفيات، ولكنها خفيفة.

ولدهشته الشديدة شاهَد «لوزة» مُقبِلةً عليه … وظنَّ أنه يحلُم … ماذا جاء به إلى هُنا؟ وماذا تفعل «لوزة» في هذا المكان؟ كانت تحمل بيدها دَورقًا للمياه وكُوبًا، وابتسمت له وقالت وهي تنحني عليه: أنت أول واحد من «المغامرين الخمسة» يُصاب في الحرب …

وهزَّ «تختخ» رأسه، وأحسَّ بها ثقيلةً، وتذكَّر كل شيء، وقال: حرب … لم يكُن لي شرف الإصابة في الحرب بعد … إنها ضربة عصًا أو مسدَّس …

كانت «لوزة» قد صبَّت له كوبًا من الماء وقدَّمته له، ثم مدَّت يدها تحت الفِراش وأخذت تُداعب «زنجر» قائلةً: لولا «زنجر» لما عثَرنا عليك!

تختخ: «زنجر»؟! ماذا حدَث له؟

لوزة: إنه مُصابٌ هو الآخَر … ويبدو أن بعض الأحجار قد سقطت عليكما وأنتما تتجوَّلان وسط الأنقاض.

تختخ: ليست أحجارًا يا «لوزة» … إنها ضربةٌ متعمَّدة من شخص!

لوزة: شيءٌ مُدهِش … لماذا؟

تختخ: لقد شاهدت ضوءًا في مكانٍ ما … ضوء بطارية يُعطي إشاراتٍ معيَّنة، فأدركت أن في الأمر شيئًا، وأسرعت في اتجاه الضوء، وعندما خُيِّل لي أنني اقتربت من مكانه أحسَستُ بضربةٍ صاعقة تُصيبني، ثم سمِعت «زنجر» ينبح وكأنه يشترك في صِراع، ثم غِبت عن وعيي، فما الذي جاء بي إلى هُنا؟!

لوزة: إنني أعمل أنا و«نوسة» في مركز الإسعاف هذا، وقد فوجئت منذ نحو ساعة ﺑ «زنجر» يأتي إلى هنا وينبح … وبالطبع عرفت صوته على الفور، ووجدته مُصابًا بطَلقٍ ناري … لحُسن الحظ لم يمسَّ سِوى الجِلد فقط … وبرغم إصابته أخذ يجذبني من ثيابي، فأدركت أنه يُريدني أن أذهب معه، وعندما طاوَعته قادني إليك وقد كنتَ قريبًا، فعُدتُ ومعي بعض متطوِّعي الإسعاف بنقَّالة … ونقلناك إلى هنا … وقد فحصك الطبيب وقال: إن الإصابة بسيطة … وضمَّد جِراحك!

وظهرت «نوسة» في هذه اللحظة، وأقبلت على «تختخ» مُبتسمةً قائلةً: إنني أشترك في المعركة الآن؛ فأنا أعمل الآن في قياس درجات حرارة المُصابين والإسعافات السريعة، وهي أعمالٌ تمرَّنت عليها في المدرسة.

تختخ: وماذا تفعل «لوزة»؟!

قالت «لوزة» بخجل: إنني أنقل الأدوية، وأسقي المُصابين!

تختخ: ولماذا أنت خَجِلة؟! إن أي دور في الحرب له قيمته!

كان «تختخ» نائمًا على ظهره، فلم يرَ ما يُحيط به، كانت هناك عشرات من الأسِرَّة في مركز الإسعاف المؤقَّت، وكان هناك عددٌ من المُصابين والجَرحى … والأطبَّاء ينتقلون بينهم … والممرِّضون بثيابهم البيضاء. كان الجميع يعملون بحماسة، ولم تكن تُرهبهم غارات الطائرات، ولا قصف مدفعية الأعداء.

سأل «تختخ»: كم الساعة الآن؟!

ردَّت «نوسة»: إنها الواحدة إلا ربعًا بعد منتصف الليل … وسوف تنتهي نَوبتي أنا و«لوزة» في الواحدة تمامًا.

تختخ: سوف أعود معكما!

نوسة: إن ذلك يتوقَّف على رأي الطبيب.

تختخ: إنني لا أستحقُّ العناية التي يستحقُّها المُحاربون، وفي إمكاني أن أقوم!

وفي الواحدة بالضبط استأذن «تختخ» الطبيب في مغادرة الفِراش، ثم تَحامَل على نفسه مع «نوسة» و«لوزة» و«زنجر»، وشقُّوا طريقهم مرةً أخرى بين الأنقاض والحُفَر عائدين … وفي الطريق توقَّف «تختخ» ينظر حوله … ثم أشار ناحية الشرق قائلًا: في هذه الناحية كان يصدُر الضوء.

كان الهدوء يسود المدينة المقاتلة، ولا يُسمَع فيها سِوى صوت المعركة التي كانت تدور بشراسةٍ بين قوَّات العدو المتسلِّلة عند «الدفرسوار»، وقوَّات مصر الباسلة وهي تسحقهم سحقًا.

نوسة: أي ضوء؟

تختخ: لقد حكيت ﻟ «لوزة» ما شاهدت وما جرى لي الليلة!

ثم روى لها بسرعةٍ ما حدَث، فقالت «نوسة»: لا بد من إبلاغ الجهات المسئولة بما شاهدت.

تختخ: سأنتظر إلى الصباح، وأُحاول تحديد المكان بالنهار حتى تكون معلوماتي دقيقة … وسأقوم غدًا ليلًا بالمراقبة مرةً أخرى.

وعادوا إلى المنزل، ووجدوا الأستاذ «كريم» و«محب» و«عاطف» قد عادوا جميعًا، وحكى كلٌّ منهم ما فعل طول الوقت. وقال «محب»: أنا و«عاطف» نعمل الآن مع قوَّات المقاومة عند قسم «حي الأربعين» … وسوف نكون هناك في السادسة صباحًا … فهناك توقَّع أن يقوم العدو بمهاجمة المدينة من اتجاه الجنوب الشرقي.

عاطف: لقد تعرَّفت بولدٍ مُدهِش يُدعى «محمد عبد الرازق شحاتة». إن والده شُرطي في قسم الأربعين، وهو يريد الدفاع عن المدينة مع والده، وقد اتَّفقت أنا وهو أن نلتقيَ في مكانٍ محدَّد لنشترك في القتال.

ابتسمت السيدة «سميحة» قائلةً: لعلَّكم جميعًا جَوعى؟!

صاحت «لوزة»: إنني سأموت من الجوع!

السيدة «سميحة»: سنأكل جميعًا طعام المُحاربين … عيش وحلاوة فقط لا غير!

نوسة: إن هذا أكثر من الكفاية!

وفي هذه اللحظة سمِعوا طَرقًا على الباب … وأسرعت «سعدية» تفتحه. وعلى العتبة ظهر ضابطٌ شابٌّ قد اتَّسخت ثيابه، وتلوَّث وجهه ويداه، ولكنه كان يبتسم. ولم يكَد يراه الجميع حتى صاحوا في نفسٍ واحد: «نبيل!»

كان الضابط «نبيل» ابن السيدة «سميحة» وخلفه أحد الجنود … ودخلا وارتمى «نبيل» على والدته يقبِّل رأسها ويدَيها … ثم سلَّم على الأصدقاء بحرارة … وقدَّم لهم زميله: زميلي الجُندي «عادل عزب» قائد سيَّارتي.

ورحَّب الجميع بالجُندي الشاب، ودعَوه للجلوس، وأشارت السيدة «سميحة» إلى «سعدية» إشارةً خاصَّة فقامت، وجلس «نبيل»، وقالت والدته: منذ عشرة أيام لم أرَك، أين كنت؟!

ابتسم «نبيل» قائلًا: بدون إذاعة أسرار عسكرية … إنني ضِمن قوَّات الجيش الثاني، وقد عبَرت القناة الليلة في مهمةٍ خاصة، وقد وافَق القائد على أن آخذ إجازةً ساعتَين؛ أي ١٢٠ دقيقة، أقضيها مع والدتي.

الأستاذ «كريم»: وكيف الحال؟

نبيل: عظيم جدًّا يا خالي … لقد كنت مع القوَّات التي اجتاحت خط «بارليف» في الدقائق الأولى … لقد أرعبناهم … وحطَّمنا أسطورتهم … وقد رأيتهم يفرُّون أمامنا وقد أطار الخوف صوابهم.

قالت «لوزة»: إن «تختخ» أول واحد فينا يُصاب في الحرب.

ضحِك «نبيل» وهو يقول: كيف؟!

وروى له «تختخ» ما حدَث، فقال «نبيل»: أين المكان بالضبط الذي شاهدت فيه الضوء؟ ووصف «تختخ» بقدر ما يستطيع المكان. فقال «نبيل»: إن هذه المنطقة هامة جدًّا … أعتقد أن هناك عمليةَ تخريب وتجسس!

وقام «نبيل» فورًا إلى التليفون، واتَّصل برقمٍ معيَّن، وأخذ يحدِّثه عما جرى …

وبعد حديث طويل أغلق السماعة ثم التفت إلى «تختخ» قائلًا: سيكون في انتظارك غدًا في التاسعة المقدِّم «أحمد» من المخابرات الحربية … وسيستمع منك إلى ما حدَث، ومن حسن الحظ أنك قلت لي ما جرى … فهناك إجراءاتٌ هامَّة لا بد أن تُتَّخذ!

ومضى الحديث بين الأصدقاء وبين الضابط المُحارِب … ثم فاحت في الجو رائحة طعام شهي … والتفت الجميع إلى السيدة «سميحة»، فقالت وهي تدقُّ الأرض بعصاها:

إن بعض الدجاجات المُحاربة تقوم بدورها في المجهود الحربي.

وفهِم الجميع ما قصدته السيدة «سميحة»؛ فقد طلبت من سعدية أن تُعَّد سريعًا طعامًا فاخرًا للمُقاتل «نبيل» وزميله «عادل».

وفي ساعة السحور ظهرت على المائدة أربع دجاجات محمَّرة، وصاح «نبيل»: العدوُّ على المائدة!

وانقضَّ المُحاربون على الدجاجات، وتطايرت الضحكات والقفشات. وفي الثالثة تمامًا نظر «نبيل» في ساعته، والتفت إلى «عادل» قائلًا: هيَّا بنا يا بطل.

وتصافَح الجميع … وساد الصمت المنزل بعد خروج نبيل وزميله، ثم أوى الجميع إلى مَضاجعهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤