مع الدبَّابة وجهًا لوجه

في الصباح الباكر استيقظ الأصدقاء، فأسرعت «نوسة» و«لوزة» إلى مركز الإسعاف المؤقَّت، وأسرع «تختخ» إلى مقابلة المقدِّم «أحمد»، واتجه «عاطف» و«محب» إلى مقابلة صديقهما «محمد» الصغير، وحملوا جميعًا قنابلهم اليدوية واتَّجهوا إلى قسم الأربعين … وما كادوا يصِلون إلى هناك حتى بدأت غارةٌ عنيفة من الطائرات على المنطقة … وأسرعوا إلى حفرة على جانب الطريق وانبطحوا أرضًا. ومن مَخبئهم سمِعوا صوت دبَّابات تُزلزل الأرض قادمةً من الجنوب الشرقي للمدينة … وأخذت المدفعية المصرية تزأر بشراسة، والقنابل تتطاير من فوق رءوس الأصدقاء الثلاثة كالمطر. وسمِعوا أحد الأشخاص وهو يجري ويقول: طابورٌ مدرَّع للعدوِّ يتقدم من المدينة … إنهم يُحاولون الاستيلاء على «السويس»!

ونظر الأصدقاء الثلاثة بعضهم إلى بعض … وظهرت علامات التصميم على وجوههم ثم رفعوا رءوسهم … ومن بعيدٍ ظهرت بعض دبَّابات العدو تتقدم … وهدفها كما هو واضحٌ قسم الأربعين حيث تتمركز قوَّات الشرطة، وبعض قِطاعات المقاومة الشعبية.

قال «محب»: سأضرب أولًا.

قال «محمد»: اترك لي مهمَّة أول ضربة.

عاطف: دعونا نتوزَّع في ثلاثة أماكن على شكل نصف مِروحة، إن ذلك سُيعطينا فرصة؛ فإذا لم يُصِب أحدنا الهدف أصاب الثاني أو الثالث، أما إذا ظهر واحدٌ منا وقذف قنبلة ولم تُصِب الدبَّابة، فسوف تفتك بنا نحن الثلاثة.

كانت طائرات العدو تضرب المدينة من كل اتجاه، والمدفعية المصرية المضادَّة للطائرات تُطاردها، والدبَّابات تُحاول التقدُّم، والصواريخ المضادَّة للدبَّابات تفتك بها، وصوت المدفعية والصواريخ والضرب يدوِّي ويُصمُّ الآذان، والأرض تهتزُّ … ورفع «محب» رأسه وقال: ثلاث دبَّابات تقترب. سنتوزَّع الآن.

وقفز «محب» خارجًا، وزحف على بطنه إلى أقرب جدار … ثم قفز «محمد» بعده، وأسرع يختفي في حفرةٍ وجد بها اثنَين من رجال الشرطة بالمدافع الرشَّاشة، وأخذ «محب» يستمع إلى صوت الدبَّابات المُقتربة، ثم رفع رأسه وشاهَد أول دبَّابة تقترب، وقدَّر المسافة، وقرَّر أن ينتقل من مكانه ليكون في وضعٍ أفضل؛ فقد كان يعرف أن الدبَّابة أمامها منطقةٌ اسمها المنطقة الميتة، لا يستطيع قائد الدبَّابة أن يرى منها شيئًا؛ فلو أنه ظلَّ مُختفيًا حتى تقترب الدبَّابة تمامًا لأمكَنه أن يقفز عليها دون أن يراه القائد … وهكذا فعل «محب»؛ ظلَّ مُختفيًا، وظلَّت الدبَّابة تقترب … حتى أصبحت أمامه تمامًا، ثم قفز من مكانه إلى أعلى الدبَّابة، ونزع مِسمار أمان القنبلة، ثم فتح غطاء البرج، وألقى القنبلة داخل الدبَّابة، وأغلق غطاء البرج بسرعة، وقفز إلى الأرض مُنبطحًا! ولم تمضِ لحظةٌ حتى كانت الدبَّابة كتلةً من النيران المُشتعلة!

كانت الدبَّابة الثانية قد دخلت نِطاق الضرب بالنسبة ﻟ «محمد» الصغير … وسُرعان ما كان يقذف قنبلةً من نوعٍ جديد، اسمُها القنبلة اللاصقة، وهي عبارة عن كُرة من البلاستيك مملوءة بمسحوقٍ شديد الانفجار، تلتصق بالهدف، ثم تنفجر لتُحدِث نارًا شديدةً تجعل الدبَّابة تشتعل … وفي لحظاتٍ كان طاقم الدبَّابة يُحاول الفِرار هربًا من تلك النيران المُشتعلة، وكان رجُلا الشرطة على استعداد، فأطلقا مدفعَيهما على طاقم الدبَّابة، فسقطوا على الأرض عدا واحدًا منهم أخذ يجري، ومرَّ ﺑ «عاطف» في الحفرة دون أن يراه … وبسرعةٍ مدَّ «عاطف» قدمه أمامه فتعثَّر بها، وسقط على وجهه بشدة ولم يتحرك.

كانت المعركة مُحتدِمةً حول قسم الأربعين، وكانت إحدى الدبَّابات قد اجتازت حِصار المقاومة الشعبية، واقتربت من قسم الأربعين، وتصدَّى لها شابٌّ. أخذ «عاطف» يُشاهده وهو يخرج من وراء جدار، ثم يتقدم من الدبَّابة غير عابئ، ثم قذفها بقنبلةٍ أشعلت فيها النيران، وأطلقت الدبَّابة طلقةً أصابت الشابَّ فسقط، ولكنه ألهبَ حماس الجماهير التي تقدَّمت في صُفوفٍ مُتلاحمةٍ تصدُّ العدو … وتضطرُّه إلى التراجع عن المدينة الباسلة. وقد فضَّل العدوُّ أن يهرب على أن يُحاول اقتحام عرين الأسد.

في تلك الأثناء كان «تختخ» يتحدث إلى المقدِّم «أحمد» الذي أخذ يستمع بانتباهٍ شديد إلى حديث «تختخ»، ويسأله أسئلةً دقيقة … ودقَّ جرس التليفون في تلك اللحظة، ورفع المقدم «أحمد» السماعة، ثم أخذ يستمع وهو يبتسم. وعندما وضعها التفت إلى «تختخ» قائلًا: لقد صدَّ الجيش والمقاومة الشعبية محاولةَ العدوِّ اقتحام مدينة «السويس»، وقد سقط عددٌ من الشهداء الأبرار، ولكن العدوَّ أُصيبَ بخسائر فادحة في الأفراد والمعَدَّات.

تختخ: إنها معركةٌ عظيمة … وللأسف إنني لم أُساهم فيها حتى الآن!

المقدم: كيف تقول هذا؟ إن المعلومات التي أدلَيتَ بها هامَّة جدًّا، إنها مساهمةٌ حقيقية في المعركة. لقد قمنا بنقل الذخيرة من مكانها، وفي الصباح جاءت طائرات العدو لتقذف المكان الذي كان به الجاسوس، وبالطبع لم يكن فيه ذخيرة. وهكذا فوَّتنا على العدو هدفه، وحافَظنا على ذخيرةٍ ثمينة جدًّا بالنسبة لنا.

تختخ: والآن ما هي خُطَّتك؟!

المقدم: سنُعدُّ كمائن في جميع الأماكن الهامة في المدينة؛ فمن المؤكَّد أن الجاسوس سيُحاول إرشاد العدو إلى مَخازن أخرى!

تختخ: هل تسمح لي بالاشتراك معكم؟ … إن معي كلبي «زنجر»، وهو كلبٌ ذكيٌّ مدرَّب، وبخاصةٍ أنه اشتبك مع الجاسوس، وسوف يعرف رائحته.

المقدم: هذا يسرُّنا جدًّا، وهذا رقم تليفوني، إذا عثرت على شيء اتَّصِل بي فورًا، ولا تعتقد أن المعلومات البسيطة لا قيمة لها … على العكس، إن أبسط المعلومات قد تكون أهمَّها، وخُذ هذا التصريح معك حتى لا يُوقِفك أحد.

تختخ: إنني أعرف هذه المسائل جيدًا، وشكرًا على التصريح!

وخرج «تختخ» وخلفه «زنجر»، وكانت المعركة على أشدِّها … وهدير المدفعية يختلط بزئير الصواريخ بدبيب الدبَّابات على الأرض، واتَّجه «تختخ» إلى ناحية صوت المعركة الدائرة عند قسم الأربعين. كان يُحسُّ أنه يطير على الأرض وقد احتضن قنبلةً يدوية … ووضع اثنتين في جيبه الأيمن والأيسر … وكان «زنجر» يقفز خلفه سعيدًا ومُتحمسًا …

واقتربا من حيث كانت المعركة قد أشرفت على نهايتها، وبدأ الطابور المدرَّع للعدو في الانسحاب بعد أن تكبَّد خسائر فادحة، وإن ظلَّ يضرب بشراسة وعنف.

مضى «تختخ» يقترب في بطءٍ بعد أن تزايَد تطايُر القنابل، والشظايا، والأحجار … وفجأةً سمِع «زنجر» ينبح بشدة … ويجري ناحية جدار مهدَّم. وأسرع «تختخ» خلفه، وشاهَد «زنجر» يجذب بأسنانه طرف قميص يعرفه «تختخ» جيدًا … إنه قميص «محب».

وأسرع «تختخ» يُزيل الأحجار بسرعة، وسُرعان ما بدا «محب» وقد انطرح أرضًا، وأخذ «تختخ» يعمل بجنون حتى أزال الأحجار كلها، ثم انحنى على «محب» وفتح عينَيه، ثم جسَّ نبضه وتنفَّس الصُّعَداء … كان المُغامر الشُّجاع ما زال حيًّا برغم أنه كان مدفونًا تقريبًا تحت الأحجار.

رفع «تختخ» صديقه وأجلسه، ثم أخرج من جيبه مِنديلًا أخذ يُزيل به التُّراب المُتراكم على وجه «محب». ومن بعيدٍ شاهَد رجال الإسعاف يعملون بهمَّة في نقل الجَرحى، فأسرع إليهم وأخبرهم بوجود جريح. وجاء اثنان منهم ومعهما نقَّالة، وسُرعان ما كانا يحملان «محب» إلى سيارة إسعاف انطلقت به إلى المستشفى.

ابتعدت سيارة الإسعاف ﺑ «محب» واستمرَّ «تختخ» في تقدُّمه ناحية المعركة عند قسم الأربعين، وفجأةً سمِع صوتًا يُناديه، والتفت إلى ناحية الصوت، ووجد الولد الصغير الأسمر الذي أطلقوا عليه اسم «إذاعة» يقف خلف جدار مع عدد من رجال «المقاومة الشعبية»، فأسرع «تختخ» ينضمُّ إليهم.

قال أحد الرجال: لقد انتهت معركة قسم الأربعين تقريبًا، وانهزم العدو!

وقال آخر: لقد جئت الآن من جنوب المدينة … وقد كانت الضربة الأولى هناك، وانهزم العدو أيضًا.

قال «تختخ»: ألمْ تصدُر بياناتٌ عسكرية حتى الآن؟!

فتح أحد الرجال راديو ترانزستور صغيرًا، وأخذ يستمع، ثم قال: ليس هناك سِوى مارشات عسكرية.

قال «إذاعة»: إن المارشات العسكرية تسبق البيانات دائمًا.

وفعلًا سكتت الموسيقى، وأعلن المُذيع عن البيان العسكري رقم ٥٨ … ونظر «تختخ» إلى ساعته … كانت الساعة الثانية عشرة والثُّلث.

واستمع جميع الواقفين إلى البيان:

«عند صدور الأمر بوقف إطلاق النار في الساعة ١٨:٢٥ مساء يوم ٢٢ أكتوبر بتوقيت القاهرة، كانت قوَّاتنا شرق القناة متمسِّكةً بالأرض التي استردَّتها في سيناء، ولم يُفلِح العدوُّ خلال هجماته المتكرِّرة ضد رءوس الشواطئ شرق القناة أن يكتسب منها أي جزء سِوى ثغرة في منطقة «الدفرسوار»، وهي المنطقة التي تمكَّنت أجزاء من قوَّات العدو من التسرُّب منها والانتشار في بعض المناطق غرب القناة.»

وفجأةً ظهَرت طائرةٌ تطير على ارتفاعٍ مُنخفض بحيث غطَّى صوتها على صوت المُذيع، وانتبه جميع الواقفين لها وهي تُحاول ضرب بعض مناطق المدينة والمدفعية المضادَّة للطائرات تُطاردها … وظلَّت المعركة متَّصِلة بين الطائرة والمدفعية … ثم هلَّل جميع الواقفين عندما استطاعت قنبلةُ مدفعٍ أن تُصيب الطائرة إصابةً مباشرةً انفجرت على أثرها في الجو، وسقطت مُشتعلةً فيها النيران.

وصفَّق الواقفون وصاحوا: الله ينصرك يا مصر. الله ينصرك يا «سادات».

وعاد الهدوء النِّسبي، وكان المُذيع يقول: «وبِذا يُمكِن تلخيص مَوقِف قوَّاتنا صباح اليوم كالآتي:
  • أولًا: قوَّاتنا في سيناء تحتلُّ الشاطئ الشرقيَّ لقناة السويس، وتُسيطر عليه وتؤمِّنه بقوة على طول المواجهة من رأس متلة على الشاطئ الشرقي لخليج السويس، حتى بور فؤاد بطُول ٢٠٠ كيلومتر، وبعمقٍ يتراوح بين ١٢ و١٧ كيلومترًا شرقًا بما فيها مدينة القنطرة شرق … عدا ثغرة بسيطة من «الدفرسوار» شمالًا بطول ٧ كيلومتراتٍ مُلاصقة للبُحيرات المُرَّة، وتبلُغ المساحة التي تُسيطر عليها قوَّاتنا شرق القناة ثلاثة آلاف كيلومتر مربَّع.
  • ثانيًا: لا توجد قوَّات للعدو إطلاقًا غرب القناة بالقطاع الشمالي من طريق الإسماعيلية.
  • ثالثًا: توجد بعض وحدات فرعية للعدو مُبعثَرة ومُتداخلة بين قوَّاتنا في بعض الأجزاء غرب القناة، خلف المِحور الجنوبي، حتى ميناء «الأدبية».
  • رابعًا: لا توجد إطلاقًا للعدو قوَّات في أي مدينة من مدن القناة الرئيسية؛ السويس، الإسماعيلية، بورسعيد.
  • خامسًا: يُحاول العدو بعد إيقاف إطلاق النار صباح اليوم قَطْع الطُّرق المؤدِّية إلى مدينة السويس، ولكن قوَّاتنا تمنعه بالقوة من تنفيذ أهدافه.
  • سادسًا: التموين لجميع قوَّاتنا شرق القناة مستمر وبصورةٍ مُنتظمة، ولم يتوقف لحظةً واحدة، وقواتنا متمسِّكة بمواقعها في سيناء.»

وانتهى البيان، ومرةً أخرى صفَّق الواقفون … وقال أحدهم: لقد اشتركنا في منع العدو من دخول مدينتنا … إن الجيش والشعب قوةٌ واحدة …

ساد الهدوء المدينة بعدَ دَحرِ قوَّات العدو ومنعِها من دخول السويس … ومشى «تختخ» و«إذاعة» معًا في اتجاه منزل السيدة «سميحة» … كانت الدبَّابات المحطَّمة مُتناثرةً هُنا وهُناك، وما يزال بعضها يحترق … وكان الرجال يسيرون وهم يحملون أسلحتهم … وبعض قوَّات الجيش تقطع المدينة مُسرِعةً في طريقها إلى الجبهة.

ووصلا إلى شارع الحرية، وأخذا يقتربان من منزل السيدة «سميحة»، وكانت في انتظارهما مفاجأةٌ رهيبة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤