ما بقي من الذكريات

لم يكُن المنزل موجودًا … المنزل القديم الجميل أصبح كومة من الأنقاض.

لم يصدِّق «تختخ» عينَيه لأوَّل وهلة … ظنَّ أنه أخطأ العنوان … ولكن شيئًا واحدًا أكَّد له الحقيقة … كان هناك جدار لم يسقط … وكانت عليه صورة الضابط «نبيل». الصورة التي تحتفظ بها والدته السيدة «سميحة» في غرفتها. كانت معلَّقة لم تسقط، وقد بدا «نبيل» في ملابسه العسكرية يبتسم … وبرغم الكارثة أحسَّ «تختخ» بشيء من الراحة … إن صورة «نبيل» لم تسقط … لقد ظلَّت معلَّقةً فوق الجدار في الدور الثالث … وكأنها رمز للجيش المُنتصر … رمز للجيش الذي عبَر …

وكان بعض رجال الإسعاف يعملون بهمَّة في رفع الأنقاض. وصاح أحدهم: هنا سيدة لا زالت حية.

وخفق قلب «تختخ»، وأسرع إلى مكان الرجل، وشاهَد لدهشته وفرحته أن السيدة «سميحة» قد وقَعت وهي جالسة على كرسيها … عصاها في يدها … وملابسها البيضاء واضحةٌ بين الأتربة السوداء.

وهجم «تختخ» عليها صائحًا: خالتي «سميحة» … خالتي «سميحة».

وابتسمت السيدة برغم الجِراح، وقال «تختخ»: إن الله معك!

قالت السيدة «سميحة»: إن الله معنا جميعًا … مع مصر …

وقد دُهش «تختخ» كثيرًا لأنه شاهَد «سعدية» تخرج من بين الأنقاض؛ فقد كانت هي الأخرى حية … وأدرك «تختخ» أن معجزةً حدَثَت … واستكملت المعجزة عناصرها عندما سمِع نَقنَقة الدجاج بين الأنقاض.

وحمَلت سيارة الإسعاف السيدة «سميحة» و«سعدية»، وبقي «تختخ»؛ فسوف يُحضِر بقيَّة الأصدقاء … وسيكون من الأفضل أن يشرح لهم ما حدَث، ويُطمئنَهم على السيدة «سميحة» و«سعدية».

قال «إذاعة»: تعالَ نُمسِك الفِراخ.

وضحِك «تختخ»: إنها مهمَّة لا بأس بها؛ فموادُّ التموين في مدينةٍ مُحاربةٍ مسألةٌ هامَّة. واستسلم الدجاج دون مقاومة … كانت قد بقِيَت ثلاث دجاجات وماتت ثلاثة … ووجد «تختخ» أن هناك غُرفةً باقية من المنزل لم تُهدم، وبجِوارها دورة مياه. ولحُسنِ الحظ كانت غُرفةً واسعة … وبجِوارها مطبخ. وقام «تختخ» و«إذاعة» بحبس الدجاج في المطبخ، ثم أخذا يبحثان بين الأنقاض ومعهما «زنجر» عن أشياء أخرى قد تكون مهمَّة … ثم جمَعا ما استطاعا جمعه من أشياء، ومن بينها جهاز راديو ترانزستور كان ما زال يعمل.

جلسا صامتَين … وأخذ «تختخ» يفكِّر … ثم فجأةً التفت إلى «إذاعة» قائلًا: قُل لي يا «إذاعة»، ألمْ تُلاحظ وجود غُرباء في المدينة هذه الأيام؟! إنك تنتقل في كل مكان وتسمع الأخبار.

قال «إذاعة»: إنني لا أعرف كل الناس … ولكن عمِّي يقول إن بعض سُكان المدينة الذين هجروها منذ فترة طويلة … قد عادوا هذه الأيام.

وأحسَّ «تختخ» من هذه الإجابة أن الفكرة التي خطَرت له تمضي في طريقها الصحيح …

فقال ﻟ «إذاعة»: كيف أستطيع مقابلة عمك؟!

إذاعة: إنه يملك مَقهًى صغيرًا في «السلامانية»!

وتذكَّر «تختخ» أنه سمِع عن هذا الحي الشعبي الذي اشتهر بنِضاله ضد الإنجليز.

فقال: هل يمكن أن نذهب إليه الآن؟!

إذاعة: ممكن حقًّا … ولكن عندي بعض المشاوير هنا … سأذهب لإتمامها ثم أعود إليك.

تختخ: اتفقنا.

وقام «تختخ» يبحث بين الأنقاض حتى عثَر على بعض الطعام، فقدَّمه للدجاج ووضع له بعض الماء، ثم خرج يقف أمام الغُرفة التي بقِيَت من المنزل يشهد حركة الحياة في المدينة الصامدة … وما تزال المعركة دائرةً من بعيد … ودويُّ القنابل ودَمدَمة الصواريخ تأتي كأصداءٍ واسعةٍ تمضي في قلب المدينة فتشحنها بالشجاعة.

ونظر «تختخ» إلى ساعته، كانت الثالثة والنصف بعد الظهر. ومن بعيدٍ ظهَر الأستاذ «كريم» … وأسرع «تختخ» يلتقي به في منتصف الطريق حتى لا يُفاجأ، ولكن الأستاذ «كريم» كان قد لمح الفراغ الذي خلَّفه البيت والأنقاض، والجدار الوحيد الواقف، فأسرع يجري والْتَقى و«تختخ»، فقال «تختخ»: أرجو أن تَطمئن، السيدة «سميحة» بخير، و«سعدية»، وحتى الدجاج.

كريم: غير معقول!

تختخ: لقد حضرت بعد إصابة البيت مباشرةً، وشاهَدت رجال الإسعاف وهم يُخرِجون السيدة «سميحة» و«سعدية»، إنهما مُصابتان لا شك، ولكن الإصابات ليست كبيرة.

ولاحَظ «تختخ» أن ذِراع الأستاذ «كريم» مربوطة، وأن في وجهه بعض تسلُّخات، وأنه يعرج قليلًا … ولم يُلاحظ ذلك قبلًا لتركيزه على بعث الطمأنينة في نفسه.

فقال له: إنك مُصاب!

أشاحَ الأستاذ «كريم» بيده قائلًا: إصابات بسيطة … ولكني سعيد؛ فقد اشتركت مع قوات المقاومة الشعبية في صد الهجوم الأول عند مدخل المدينة الجنوبي.

تختخ: لقد سمِعت عن هذه المعركة من أحد الأشخاص.

كريم: كانت معركةً رائعة … وقد ولَّى العدوُّ الأدبار.

كانا يسيران، وقد اقتربا من البيت، وسأله الأستاذ «كريم»: وأين «محب» و«عاطف» و«نوسة» و«لوزة»؟!

رد «تختخ»: «محب» أُصيبَ ونقَلَته سيارة الإسعاف، و«عاطف» لم يعُد بعد، و«نوسة» و«لوزة» في مركز الإسعاف.

ودخلا إلى الغُرفة الوحيدة الباقية، وقال الأستاذ «كريم»: هل عندنا طعام للإفطار؟!

تختخ: لقد أنقذت بعض الأطعمة والأدوات المنزلية، وأعتقد أن في إمكاننا أن ندبِّر أمر إفطارنا اليوم.

وبعد عشر دقائق كانا يجلسان في الغُرفة الواسعة يتحدثان، وقبع «زنجر» على الأرض.

قال «تختخ»: إنني أريد أن أسهر الليلة بطُولها …

الأستاذ «كريم»: أنصحك أن تقوم فتنام لك بضع ساعات حتى تستطيع السهر … فإنني أعرف السبب … إنه ذلك الرجل ذو البطارية. أليس كذلك؟

تختخ: نعم … وإذا جاء «إذاعة» فاطلب منه أن ينتظر حتى أستيقظ …

وقام «تختخ» فتمدَّد على الفِراش الذي بالغُرفة … وسُرعان ما استغرق في سُباتٍ عميق … على حين خرج الأستاذ «كريم»، فاختار كرسيًّا مكسَّرًا سنده على الأحجار، وجلس يستمع إلى الراديو … ويُراقب كيف تسير الأمور في مدينةٍ مُحاربة … وقُرْب المساء حضر «عاطف» ثم تبِعته «نوسة» و«لوزة»، وشرح لهم الأستاذ «كريم» ما حدَث، فقالت «لوزة»: لقد علِمت كل شيء بعد حدوثه بوقتٍ قصير … فقد أحضرت سيارة الإسعاف السيدة «سميحة» و«سعدية»، وهما الآن على ما يُرام … وأظنُّ أنه بسبب ضِيق الأماكن في المستشفى سوف تخرُجان في المساء.

كريم: إذن سأذهب إليهما لأعرفهما أن هناك مَقرًّا مؤقَّتًا لنا.

نوسة: ستَسعَد السيدة «سميحة» جدًّا لأن جزءًا من منزلها ما زال موجودًا!

كريم: ألمْ تلتقيا ﺑ «محب»؟

نوسة: لا … هل حدَث شيء؟!

كريم: لقد أُصيبَ إصاباتٍ طفيفةً كما روى لي «تختخ»، ولكن لا نعرف أين هو.

بدأ الحزن لحظات على وجه «نوسة»، ولكنها تذكَّرت أنهم في حرب، وأن لا شيء ولا شخص يهمُّ … المهمُّ مصر، فعادت تقول: هل قام بعملٍ ما؟!

كريم: نعم، قد أصاب دبَّابة بقنبلةٍ يدوية، ولكن الدبَّابة أطلقت مدفعها على الجدار الذي كان يختفي خلفه، فانهارت عليه الأحجار.

وساد الصمت لحظات، ثم قام الأستاذ «كريم» واقفًا وقال: سأذهب لإحضار أختي «سميحة» و«سعدية»، وأعود على الفور؛ فإذا حضر «إذاعة» فاطلبوا منه انتظار استيقاظ «تختخ».

وخرج الأستاذ «كريم»، وأسرع الأصدقاء الثلاثة إلى إعداد بعض الأطعمة التي أنقذها «تختخ»، وكان الخبز معفَّرًا بالتُّراب … والجبن أسود … ولكن الأصدقاء الثلاثة أخذوا يُعدُّون طعام الإفطار وهم سُعداء … وبجِوارهم الراديو يُذيع الأغنيات الوطنية والموسيقى العسكرية، وفجأةً قال المُذيع:

سيِّداتي سادتي …

جاءنا البلاغ التالي من القيادة العامة للقوات المسلحة:

بيان رقم ٥٩

استمرَّ العدوُّ في كسر وقف إطلاق النار طوال اليوم؛ فقد قامت تشكيلات من قوَّاته الجوية صباح اليوم بهجماتٍ عديدة ومكثَّفة على مَواقع قوَّاتنا في القطاع الجنوبي شرقيَّ قناة السويس؛ ففي الساعة الحادية عشرة قبل ظُهر اليوم حرَّك العدوُّ مجموعاتٍ من دبَّاباته في اتجاه مدينة السويس، وحاولت اقتحامها، فتصدَّت لها قوَّات مدينة السويس، ودمَّرت منها ١٣ دبابة، ولا زال العدو يُواصل اعتداءاته، وفتح نيرانه على قوَّاتنا في القطاع الجنوبي.

وتبادَل الأصدقاء الثلاثة التهنئة، ثم أخذوا ينظرون في ساعاتهم انتظارًا للغروب ومدفع الإفطار … كانت «لوزة» تجلس ساهمة؛ فقد أرهقها العطش، فقال لها «عاطف» مُداعبًا: لماذا لا تُفطرين؟

لوزة: أُفطر لماذا؟ إنني لا أشعر بأي جوع.

عاطف: اشربي.

لوزة: لم يبقَ منَّا اليوم سوى دقائق، ولم يبقَ من الشهر سوى أيام! فكيف أضيِّع صيامي؟!

عاطف: ولكن من حقِّ المُقاتل أن يُفطِر … هكذا يقول الدين!

لوزة: ومن قال لك إنني أُحارب؟ … إنني أُساعد فقط!

وقطع عليهما حبلَ النِّقاش أذانُ المغرب … وأسرعت «لوزة» تُوقِظ «تختخ»، وفي هذه اللحظة اندفع «إذاعة» داخلًا، وقال وهو يلهث: جئت إليكم ببعض حبَّات الطماطم وعيشٍ طازج.

نوسة: إنك ولدٌ رائع!

وجلس الجميع يتناولون طعام الإفطار … وعندما انتهَوا منه قال «تختخ»: سأخرج الآن مع «إذاعة» للذهاب إلى حي «السلامانية» لأُقابل عمه، وفي الأغلب لن أعود إلا في الفجر.

عاطف: إنني مُتعَب جدًّا وسأنام.

نوسة: وأنا كذلك.

لوزة: وأنا أيضًا.

خرج «تختخ» و«إذاعة» ومعهما «زنجر»، وأخذا يقطعان شوارع المدينة في حذر، ومن بعيدٍ كانت أضواء الصواريخ والمَدافع تُضيء الأفق، وبدا واضحًا أن المعركة مُحتدِمة بين جيش مصر الباسل وبين قوَّات العدو شرق القناة.

ووصلا بعد فترة إلى الحي الشعبي العتيق، واتَّجها إلى منزلٍ قديم مُظلِم تحتَه ما يُشبِه مقهًى صغيرًا، وقد أغلق أبوابه، ودقَّ «إذاعة» الباب ودخلا.

كان ثَمَّة ضوءٌ خفيف يُضيء المكان، وقد جلس عدد من الرجال والشُّبَّان حول راديو «ترانزستور» يستمعون إليه في اهتمام … وسمِع «تختخ» شخصًا يقول: ثماني طائرات في يومٍ واحد. لم يكُن «تختخ» قد استمع إلى بياناتٍ عسكرية منذ البيان رقم ٥٨، فقال وهو يتقدم: هل هناك بياناتٌ جديدة بعد البيان رقم ٥٨.

رد أحد الجالسين: نعم … هناك البيانان رقم ٥٩ ورقم ٦٠. لقد أسقطت قوَّاتنا ثمانيَ طائرات ميراج … هذه المرة اشتبكت طائراتنا معه، وقد شاهَدنا بعض طائراته وهي تسقط.

وجاء عم «إذاعة» وهو رجلٌ عجوزٌ أسمر باشُّ الوجه، وقدَّمه «إذاعة» إلى «تختخ» بِاسم «سرور»، فرحَّب به، ثم قال «إذاعة»: إنه صديقي يريد أن يسألك بعض أسئلة! بدا على وجه الرجل الاسترابة، وقال: أي أسئلة؟!

تختخ: لا تخشَ شيئًا يا عم «سرور» … إنني أتعاون مع جهات الأمن المصرية من أجل الوطن.

سرور: من تعرف منهم؟

تختخ: أعرف المقدم «أحمد» من المخابرات الحربية!

سرور: متى قابَلتَه؟

تختخ: صباح اليوم، وقد أعطاني تصريحًا بالتجوُّل … ها هو ذا!

ابتسم «سرور» عن أسنانٍ ناصعة البياض، وقال: لا تؤاخذني يا أستاذ، ولكن الحرب علَّمتني الحذر!

تختخ: إنني سعيد جدًّا بهذا الحذر … وأتمنَّى أن يكون كل الناس مِثلك!

سرور: تحت أمرك.

تختخ: إنني أريد أن أسألك عن أشخاصٍ غُرباء في المدينة.

سرور: الحقيقة أني قابلت بعض الأشخاص ممَّن كانوا في «السويس» منذ فترة طويلة، ولا أدري ما الذي عاد بهم إلى المدينة.

دقَّ قلب «تختخ» سريعًا، ثم قال: مِثل من؟

سرور: لا أذكُر الأسماء بالضبط يا أستاذ … فقد تركوا «السويس» من عشرين سنة أو أكثر.

تختخ: وأين قابلتهم؟!

سرور: في أماكن متفرِّقة من «السويس»؛ فأنا أتنقَّل في المدينة من أولها إلى آخرها كل يوم لنقل المُؤَن والذخائر.

تختخ: ألا تذكُر ماذا كانوا يعملون في «السويس» سابقًا؟

سرور: واحد فقط تذكَّرته، إنه كان يعمل في تجارة الساعات.

وتذكَّر «تختخ» على الفور الرجل الذي دخل إلى المَخبأ، وأشار إليه الناس، فقال: هل هو نحيف، أبيض، أشيَبُ الشعر قليلًا؟!

سرور: تمام يا أستاذ!

تختخ: إنني قابلته … هل تتذكر أشخاصًا آخرين؟

سرور: نعم … تذكَّرت رجلًا آخر كان يُتاجر في أجهزة الراديو!

تختخ: هل تعرف أين ألتقي بهما؟!

سرور: آسف يا أستاذ … إنها مسائل تتمُّ بالصُّدفة.

تختخ: أرجو أن تُرسِل لي خبرًا إذا رأيت أحدهم … أرسِلْ لي «إذاعة»؛ فهو يعرف مكاني.

سرور: أنا تحت أمرك يا أستاذ!

واستأذن «تختخ» في الخروج، وحاوَل سرور أن يُبقيَه ليشرب الشاي … ولكن «تختخ» اعتذر لأهمية العمل المُرتبط به … وخرج «تختخ» لا يدري إلى أين يتَّجه، وكان الظلام دامسًا في نهاية شهر رمضان … والمدينة لا أثر للضوء فيها إلا وهجٌ بعيد لضرب المَدافع، والحرائق التي شبَّت في بعض البيوت.

كان «إذاعة» … قد بقي في المَقهى … وسار «تختخ» ومعه «زنجر»، فقال «تختخ»: إنك يا «زنجر» تقوم الآن بأهمِّ عملٍ قمتَ به في حياتك … حاوِلْ أن تضعني في أثر الجاسوس الذي اشتبكت به ليلة أمس … هل تعرف؟!

كان «زنجر» الذكي يعرف أن صاحبه يحدِّثه … فلم يكن معهما أحد … فأصدر نباحًا خافتًا كأنما يقول إنه فهِم … وإنه سيُحاول … وظلَّا سائرين حتى وصلا إلى شارع «عرابي» الذي يقطع حي «الأربعين» من منتصفه … ثم انحرف «تختخ» غربًا في اتجاه «الزيتية» حيث توجد المناطق الصناعية في السويس، ووجد تلًّا عاليًا فصعِدا عليه … ولم يكَد يصِل إلى قمَّته حتى شاهَد شبحًا يتحرَّك في الظلام مُحاذرًا … انبطح «تختخ» على الأرض … وانتظر … كان الشبح يقترب منه … ومدَّ «تختخ» يده إلى رأس «زنجر»، وأخذ يربِّت عليها، وفهِم الكلب الذكي أنه يجب أن يبقى ثابتًا ولا يُحدِث صوتًا.

مرَّ الشبح عند سفح التل دون أن يُشاهد «تختخ»، ثم مضى في سبيله، وسُرعان ما تبِعه «تختخ» … وهو يفكِّر … هل هو عدوٌّ أم صديق؟ ولكن إذا كان رجال الجيش أو المقاومة، فلماذا يمشي بهذا الحذر؟ ولاحَظ أنه يحمل حقيبة أو ربطة في يده، فما هي؟!

مضى «تختخ» مُسرِعًا، ولكن حذرًا خلف الشبح الذي مضى في طريقه، وفجأةً دار الشبح حول منزل متهدِّم … وعندما اقترب «تختخ» من المنزل ليُتابع الشبح وجده قد اختفى … فأسرع يَدُور حول المنزل … ولكن لا أثر للرجل … ولم يشكَّ «تختخ» لحظةً أنه دخل المنزل واختفى فيه … وبحث «تختخ» عن مَدخل المنزل … لم يكُن هناك مَدخل بالمعنى الصحيح … فقد كان المنزل مضروبًا … وإن لم يسقط فإن آثار القذائف فتحت في جداره أكثر من ثُقب وأكثر من فتحة … واختار «تختخ» فتحةً واسعة نسبيًّا تسمح له بالمرور، ثم أشار إلى «زنجر» أن ينتظر وقال له: لا تدخُل الآن يا «زنجر» … قد أحتاج إلى مساعدتك فيما بعد!

ثم نفذ من الفتحة … كان المنزل قديمًا مكوَّنًا من أربعة أدوار … وعددٍ كبير من الغُرَف، فمضى «تختخ» يجوس في أنحائه على ضوء بطاريته دون أن يجد شيئًا، وفكَّر للحظاتٍ أنه أخطأ، وأن الرجل ابتعد في الظلام دون أن يراه، ولكن فجأةً توقَّف وأصاغ السمع، لقد خُيِّل إليه أنه سمِع صوت أزيز خفيف في مكانٍ ما من المنزل … وبعد لحظات استطاع أن يحدِّد مَصدر الصوت، وأخذ يقترب منه تدريجيًّا، وعندما وصل إلى المصدر تمامًا وجد بابًا مُغلَقًا، ووضع أذنه على ثقب الباب يستمع، ولكن لم يسمع شيئًا … كان الصوت قريبًا منه جدًّا … ولكن لا يستطيع تحديده … وأطلق شعاع مِصباحه الرفيع … وسرعان ما لاحَظ وجود ثلاث درجات تنزل إلى أسفل … ونزل الدرجات الثلاث بهدوء … وتوقَّف الأزيز … ووقف «تختخ» ساكنًا مكانه … وفجأةً وجد ضوءًا قويًّا يُحيط به ويَبهَر عينَيه، وصوتٌ يقول له: لا تتحرَّكْ؛ فمُسدَّسي مصوَّب إليك!

كانت القنبلة اليدوية في يده … ولكن لم يكُن في الإمكان استخدامها …

وعاد الصوت يقول: ألقِ بهذه القنبلة بهدوء على الأرض. وأطاع «تختخ» الصوت … وفُتِح باب عند نهاية الدرجات الثلاث. وعلى الضوء شاهَد «تختخ» سلكًا تحت قدمه، كان سلك إنذار داسَ عليه دون أن يدري … وهكذا وقع.

قال الصوت: ادخل.

ودخل «تختخ» … ودخل صاحب الصوت خلفه … وجد «تختخ» نفسه في غُرفةٍ واسعة تتوسَّطها مائدة عليها بقايا طعام … وفي أحد الجوانب مائدةٌ أخرى مُلصَقة بالحائط عليها جهاز إرسال لاسلكي … وكان في الغُرفة رَجلان عدا صاحب الصوت …

وتأمَّل «تختخ» الرجال الثلاثة … لم يكُن بينهم تاجر الساعات الذي رآه في المَخبأ … ونزع الرجل الذي كان على جهاز اللاسلكي السماعة عن أذُنَيه … وأخذ الثلاثة ينظرون إلى «تختخ».

قال أحد الرجال: إنه في الأغلب الولد الذي اصطدم بزميلنا رقم «٣» في الليلة الماضية … معنى ذلك أن ما حدَث لم يحدُث بالصُّدفة … وأنه يُطاردنا …

قال الثاني: وما هو التصرُّف الآن؟!

الثالث: في الأغلب أنه لا يعمل وحده … وربما كان على اتصال ببعض جهات الأمن المصرية، وهذا يعني نهايتنا.

التفت الأول إلى «تختخ» قائلًا: هل لك اتصال بجهات الأمن المصرية؟!

قال «تختخ» بكبرياء: ليس لك حق استجوابي.

ضاقت عينا الرجل وقال: في إمكاننا أن نجعلك تتحدث.

تختخ: حاوِلْ إذن وستجد أنك لا تستطيع.

اقترب الرجل من «تختخ» ومد يده بسيجارةٍ مُشتعلة، وقال: هل شممت رائحة اللحم المشوي قبل الآن؟

رد «تختخ» باحتقار قائلًا: لقد شوَيناكم على نيران خط «بارليف»؛ وبهذا شممت رائحة اللحم المشوي.

بدَت نظرةٌ وحشية في نظر الرجل، ورفع يده ليهويَ على وجه «تختخ»، ولكن الرجل الثاني صاح به: انتظِرْ … إنني أسمع صوتًا، وأعتقد أن علينا أن نهرب فورًا … إنه في الأغلب لم يأتِ وحده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤