نهاية جاسوس

أخيرًا قالت السيدة «سميحة»: نعم، أتذكَّر هذا الرجل … كنَّا نعرفه جميعًا بِاسم «إيليا» … وكان يملك محلًّا لبيع الساعات وتصليحها في شارع «عبَّاس» التِّجاري، ولكنه كان يسكُن قريبًا منَّا … وأول ساعة اشتريتها لابني الكبير كانت منه … كان يسكُن بعدنا بخمسة مَنازل ناحية «سيدي الغريب».

قام «تختخ» مُسرِعًا قائلًا: أشكرك جدًّا يا ست «سميحة»، إن ذاكرتك العظيمة قد تضعنا خلف شبكة الجواسيس.

فتحت السيدة «سميحة» فمها في دهشة وقالت: ولكن ما دخل «إيليا» بالجواسيس؟

تختخ: ستعرفين فيما بعد، هيَّا يا «عاطف» … إذا صحَّت استنتاجاتنا فقد نعثُر على «إيليا» ونضع يدنا على قصة الجواسيس كاملةً.

خرَجا إلى الظلام وكان صدى المعارك الدائرة يُسمَع من بعيد … ووهجُ النيران المُشتعلة في بعض المواقع التي ضُربت يُضيء الأفق … وسارا … لم يكن هناك أحدٌ يمرُّ في هذه الساعة المتأخِّرة من الليل … وأخذا طريقهما إلى حيث وصفت السيدة «سميحة» المنزل الذي كان يُقيم فيه «إيليا» قبل ثمانية عشر عامًا … وحدَّدا المنزل بعد تعب شديد … فقد كانت أكثر المَنازل التي بجواره قد هدمتها القنابل، وأصبح من الصعب معرفة المكان بالضبط … ووجدا المنزل سليمًا لم يُمَس، وكان ذلك شيئًا مُدهشًا.

كان «زنجر» يسير خلفهما … وعندما توقَّفا أمام المنزل هَمْهم «زنجر» وبدا قلِقًا … فالتفت إليه «تختخ» قائلًا: هل عثر على شيء؟!

وعادت الهَمهَمة مرةً أخرى … وأدرك «تختخ» أنهما وقعا على الصيد المطلوب، فقال ﻟ «عاطف»: سأدخل أنا و«زنجر» وتبقى أنت للتغطية، إذا لم أعُد بعد ربع ساعة على الأكثر فادخل خلفي، وكُن حذِرًا؛ فإذا وجدت أني في خطر فاذهب فورًا إلى المقدم «أحمد» … وسوف يأتي برجاله، وسوف تنتهي العملية كلها في دقائق.

ولكن قبل أن يتحرك «عاطف» من مكانه … خرج رجل من المنزل في الظلام … ووضع «تختخ» يده على ظهر «زنجر» حتى لا يتحرك … ولا يُهاجم الرجل الذي وقف قليلًا في الظلام يتسمع … ثم سار مُسرِعًا … وبعد أن ابتعد عِدَّة أمتار … تبِعه الثلاثة «تختخ» و«عاطف» و«زنجر»!

سار الرجل في الظلام مُتجنبًا الشوارع الكبيرة … وكان يتَّجه جنوبًا ناحية حي الأربعين حيث دارت معارك الصباح التي هُزمت فيها قوات العدو، وارتدَّت أمام مقاومة «السويس» العنيدة …

من منزلٍ متهدِّم إلى منزلٍ متهدِّم … ومن حفرة إلى حفرةٍ سارَ الرجل حذِرًا والثلاثة خلفه … كان في إمكانهم أن يُهاجموه في أية لحظة، ولكن «تختخ» كان يريد أن يعرف إلى أين يذهب. ووصلوا في النهاية إلى الساحة التي دارت فيها أروَع معارك المقاومة … وانحنى الشبح ثم بدأ يتقدم مُحاذرًا من دبَّابة قد أُصيبت في المعارك … ووقف ساكنًا لحظات، ثم دُهش «تختخ» و«عاطف» لأنه تسلَّق الدبَّابة مُسرِعًا، وفتح غطاء البرج ودخل، وبسرعةٍ همس «تختخ» في أذن «عاطف»: أسرِع أنت إلى المقدم «أحمد»، واطلب منه أن يحضر فورًا … وسأبقى هُنا وأمنع الرجل من الخروج؛ فما زال معي بعض القنابل اليدوية.

أسرع «عاطف» مُبتعدًا، ووقف «تختخ» مُختفيًا خلف دبَّابة أخرى قريبة ومعه «زنجر»، وأخذ يفكِّر … ماذا يفعل الرجل في الدبَّابة؟! وقرَّر أن يقترب ويتسمَّع، وبهدوءٍ شديدٍ اقترب ووضع أذنه على باب الطوارئ في الدبَّابة، ولدهشته الشديدة سمِع صوت رجلَين يتحدَّثان كان حديثهما واضحًا، فاستطاع أن يسمعه كله.

قال الأول: لقد استطعت إصلاح الدبَّابة، وهي صالحةٌ الآن للسَّير … إنهم لن يتوقَّعوا أن تشترك في المعركة غدًا صباحًا … وستكون مفاجأة لهم، وسنتمكَّن من شقِّ طريقنا إلى قلب المدينة.

الثاني: اتَّصِل لاسلكيًّا بقوَّاتنا وأخبِرهم أن المَقرَّ السِّري لنا قُرب «الزيتية» قد اكتُشف … وقد وضعنا فيه قنبلةً زمنية لتنسفه في الصباح عند الهجوم … حتى يظنَّ المصريون أنه نُسِف في المعركة، وسأتركك الآن وأعود إلى «إيليا». إنني وبقيَّة المجموعة سوف نذهب إلى منطقة «الزيتية» لوضع بعض القنابل لإحداث تخريب في المنطقة … وستنفجر القنابل مع هجوم الطيران لإحداث ارتباك بين صفوف المقاومة … وأعتقد أن المدينة ستنهار بعد ذلك.

وابتعد «تختخ» بهدوء، وبحثَ بسرعةٍ حوله حتى عثر على قطعة من الخشب وأمسكها في يده، ثم انتظر، وبعد لحظات ظهر الجاسوس فوق الدبَّابة، ثم انحدر بهدوء وبدأ السير، ولكنه لم يَسِر سِوى ثلاث خطوات عندما هبطت عليه قطعة الخشب بضربةٍ قويةٍ سقط على أثرها دون أن ينطق بآهةٍ واحدة.

سحب «تختخ» الرجل جانبًا … ووجد معه مسدَّسًا أخذه منه، وقرَّر أن يُهاجم الرجل الباقيَ في الدبَّابة إذا تأخَّر «عاطف» في العودة ومعه رجال المقدم «أحمد»، وأخذ يفكِّر في خُطة الهجوم … وتأكَّد أن باب الطوارئ في الدبَّابة معطَّل، وإلا لاستخدمه الجواسيس في تحرُّكاتهم … وهكذا لن يتمكَّن الجاسوس الباقي من الخروج إلا عن طريق البرج، وفي إمكانه إصابته بطلقةٍ واحدة … وربض في الظلام وبجِواره «زنجر»، ثم سمِع صوت سيارة من بعيد … توقَّفت على مسافة منه … وصوت أقدام تقترب … ولفرحته الشديدة وجد المقدم «أحمد» يقف بجِواره.

أشار «تختخ» إلى الدبَّابة قائلًا: بقي هناك رجل. أما الآخر فهُنا. وأشار إلى جدارٍ مهدَّم حيث جسم الرجل.

تحرَّك المقدَّم «أحمد» سريعًا، وأشار إلى عدد من رجاله فاقتربوا من الدبَّابة، ثم أخرج من جيبه مسدَّسًا ودقَّ بكعبه على الدبابة … وارتفع صوت الرنين في الهدوء الشامل، ولكن أحدًا لم يرد.

صعِد المقدم «أحمد» فوق برج الدبَّابة، وفتح الباب، وأطلق ضوءًا قويًّا من بطاريته داخل الدبَّابة، وصاح: اخرُج فورًا! إنك مُحاط من كل جانب!

مضت لحظات، ثم ظهر شبح رجل يرفع يدَيه إلى فوق، وسُرعان ما جذبه المقدم «أحمد» إلى الأرض، وأحاطت به الأضواء التي أطلقها الرجال من كل جانب، وبدا كالفأر المذعور وسط دائرة الرجال.

قال المقدم «أحمد»: لقد قمتَ بدَورٍ خطير يا «تختخ»، وسوف نجعل هذا الفأر المُرتعد يعترف بكل شيء!

تختخ: أستأذنك في أن أقوم بعمليةٍ صغيرة أخرى تُرضي مشاعري كمُغامر … إن الرجل الذي كان بداية الخيط في القبض على الجواسيس ما زال حرًّا، وأعتقد أنني أعرف مكانه …

أحمد: لا تذهب وحدك … خُذ بعض الرجال معك … فسوف أكون مشغولًا في استجواب هذا الرجل وزميله.

وأسرع «تختخ» و«عاطف» و«زنجر» ومعهم ثلاثة رجال إلى منزل «إيليا»، وبعد نصف ساعة تقريبًا أشرفوا على المنزل … وتقدَّم «تختخ» بهدوء إلى الباب ودقَّه … وانتظر فترة، ثم سمِع صوت أقدام، وفتح الباب، وعلى عتبته كان «إيليا» واقفًا بثياب النوم … نظر كلٌّ منهما إلى الآخر … ولاحَظ «إيليا» الأشباح التي تقف في الظلام، وأدرك أنه وقع. وقد دُهِش «تختخ» دهشةً شديدة؛ فقد بدت على وجه «إيليا» علامات استسلام ورضًا … كأنه ارتاح إلى هذه النهاية.

وقال «إيليا»: تفضَّلوا …

ودخلوا جميعًا … وقادهم «إيليا» إلى غُرفة نوم … تكوَّمت فيها بعض أجهزة اللاسلكي الصغيرة والقنابل … وجلس على الفِراش قائلًا: سألبس ثيابي وآتي معكم، إن هذه هي النهاية العادلة … فقد جئت للاشتراك في تدمير هذا البلد الذي عِشت فيه أجمل أيام حياتي …

وأخذ «إيليا» يرتدي ثيابه وهو يتحدث: لقد دُفِن في هذه الأرض آبائي وأجدادي، بل إن لي ابنًا مات هنا … فأنا أنتمي إلى هذه الأرض أكثر من أي مكان في العالم.

تختخ: لهذا عُدت؟!

إيليا: لقد قبِلت هذه المهمة من أجل وطني الجديد إسرائيل، مُتنكرًا لمصر التي رُبِّيت فيها وعِشت على خيراتها … وإنني نادمٌ أشد الندم على ما فعلت.

واقتاده الرجال الثلاثة إلى الخارج، ومضت السيارة به، على حين وقف «تختخ» و«عاطف» و«زنجر» في الظلام يرقُبون السيارة وهي تبتعد.

قال عاطف: شيءٌ غريبٌ حديث هذا الرجل.

تختخ: إن شخصيَّته هي التي حدَّدت خط العمل بالنسبة لي … فعندما قابَلناه أول مرة في المَخبأ … وسمِعت الناس يقولون إنه كان غائبًا عن «السويس» هذه الفترة الطويلة، دُهِشت لعودته … ثمانية عشر عامًا أو أكثر … ثم يعود … شيءٌ غريب … ثم تذكَّرت ما سمِعناه من خروج عدد كبير من اليهود من مصر بعد عام ١٩٥٦م؛ أي بعد العُدوان الثلاثي، وقلت لنفسي … لو أن العدو أراد أن يُرسل جواسيس إلى «السويس» لأرسل بعض هؤلاء الذين كانوا فيها سابقًا … وهكذا ظلَّ وجه «إيليا» أمامي عندما شاهدت الضوء أول ليلة … الضوء الذي كان يُحاول به الجاسوس أن يحدِّد مكان الأهداف المهمَّة في المدينة … وقلت في نفسي إن «إيليا» وراء هذا العمل بشكل أو بآخَر.

•••

عاد «تختخ» و«عاطف» و«زنجر» إلى الغُرفة الصغيرة … وكم كانت مُفاجأةً أن كان «محب» قد وصل أيضًا … كان مربوطًا بالشاش في أكثر من مكان في جسمه … وقد اختفى جزءٌ كبير من وجهه خلف الأربطة.

وكانت ساعة السحور قد أقبلت … واجتمعوا جميعًا حول طعام خفيف … العمة «سميحة» والأستاذ «كريم» و«تختخ» و«عاطف» و«محب» و«نوسة» و«لوزة» … و«سعدية» … والكلب «زنجر».

وفي الهدوء الذي ساد المدينة في تلك الليلة سمِعوا صوت أقدام وحديث في الخارج، وتوقَّفت السيدة «سميحة» عن الطعام، وأرهفت السمع ثم قالت: إنه «نبيل»!

وأسرع «عاطف» خارجًا … ووجد «نبيل» فعلًا يقف بين الأنقاض وقد ظن أن لا أحد على قيد الحياة … ولكن «عاطف» صاح به … «نبيل»؟!

والتفت «نبيل» إلى «عاطف» … وتوقَّف لحظات، فقال عاطف: كلُّنا بخير!

وأسرع «نبيل» إلى الداخل يحتضن والدته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤