الفصل الرابع عشر

اكتساب الثنائية اللغوية والتحوُّل عنها

إننا، كمتحدثين بالغين، لا نتوقَّف أبدًا عن الانبهار بالأطفال الذين يتحدثون لغة ثانية أو ثالثة؛ فعندما نجد طفلة صغيرة في الرابعة من عمرها تخبرنا بشيء ما بالإنجليزية، ثم تتحوَّل إلى اللغة الإسبانية لتطرح سؤالًا على والدتها، أو طفلًا في الثانية عشرة من عمره يعرض علينا بالفرنسية ترجمة ما يقوله صديقه بالألمانية، نسأل أنفسنا: كيف يفعلون هذا؟ ستقدِّم الفصول الستة التالية بعض الإجابات عن هذا السؤال. وفي هذا الفصل أستعرض حالات لأطفال أصبحوا ثنائيي اللغة في فترات مختلفة من مرحلة طفولتهم، وسأعرض أيضًا بعض الحالات لأطفال ثنائيي اللغة تحوَّلوا إلى الأحادية اللغوية. سأستعرض بعد ذلك الأسباب الأساسية لهذا الاكتساب للثنائية اللغوية ثم التحوُّل عنها.

(١) تحوُّل الطفل إلى ثنائي اللغة

الأطفال الذين يكتسبون لغتين (في وقت واحد) منذ بداية حياتهم، يستمرون في إثارة اهتمام الباحثين، لكنهم في الواقع أكثر ندرةً بكثير من الأطفال الذين يكتسبون لغة واحدة ثم لغة أخرى (سنستعرض كلتا الحالتين في الفصل التالي). كي يكتسب الأطفال لغتين معًا، تنتهج الأسرة عادةً أسلوبًا يجعل الطفل يستقبل المُدْخَلات بلغتين (ربما تتحدَّث الأم بإحدى اللغات ويتحدَّث الأب بلغة أخرى، أو يتحدث الوالدان بإحدى اللغات ويتحدَّث المسئول عن رعاية الطفل مثل المربية أو المشرفة في أحد مراكز الرعاية النهارية بلغة أخرى). دَعْني أعطيك مثالين على هذا: هيدلجارد فتاة أمريكية اكتسبت لغتين في وقت واحد، نظرًا لأن والدها يتحدَّث معها بالألمانية، وتتحدث والدتها بالإنجليزية. في الفترة ما بين سن الثانية والخامسة كانت اللغة الإنجليزية هي السائدة لديها نظرًا لعيش الأسرة في بيئةٍ تتحدَّث بالإنجليزية. كانت فتاةً صغيرة مفعمة بالحيوية، وفهمت سريعًا اللغتين وحاولَتْ بشتى الطرق جعل والدها يتحدَّث أيضًا بالإنجليزية، فكانت تسأله مثلًا: «كيف تقول أمي هذا؟» وأصبحت أقل إجادةً للألمانية بمرور الوقت، لكنها تعرَّضَتْ إلى انتعاش حقيقي عندما قضَتْ هيلدجارد أكثر من نصف عام بقليل في ألمانيا خلال عامها الخامس. في الواقع، وكما يحدث دومًا، بعدَ قضاء أربعة أسابيع فقط في بيئة تتحدَّث بالألمانية بالكامل، لم تكن تستطيع إلا قول بعض الجمل البسيطة للغاية بالإنجليزية؛ وبالطبع، عندما عادت إلى الولايات المتحدة، سرعان ما تعافت لغتها الإنجليزية، وبعد أربعة أسابيع كانت لغتها الألمانية هي التي بدأت تضعف. ثم استقرت الأمور، واستمرت رحلة هيلدجارد مع الثنائية اللغوية دون مشكلات.

تشبه قصة هيلدجارد قصصَ كثيرٍ من الأطفال الذين يكتسبون لغتَيْهم معًا؛ فتضعف إحداهما إذا كانت البيئة تفضِّل اللغة الأخرى، وتوجد تغيُّرات سريعة للغاية في السيادة إذا تغيَّرت اللغة الأساسية، وتوجد حتى علامات على نسيان إحدى اللغتين لبعض الوقت، على الرغم من إمكانية إعادة إحيائها سريعًا إذا أصبحَتِ الظروف مناسبةً. في الواقع تُعتبَر قصةُ هيلدجارد إحدى القصص الكلاسيكية أيضًا في مجال الثنائية اللغوية؛ إذ إن والدها فيرنر ليوبولد نشر واحدة من أوائل دراسات الحالة الشاملة عن اكتساب لغتين في وقت واحد.1 تعتمد هذه الدراسة على هيلدجارد، التي ربما تُعتبَر أكثر طفل ثنائي اللغة خضع للدراسة في تاريخ علم اللغة.
إنْ لم تأتِ اللغة الثانية من أحد الوالدين، فمن الممكن أن تأتي من أحد المسئولين الآخرين عن رعاية الطفل، كما يظهر في مثالي الثاني. أخبرَتْني سوزان، التي تعيش حاليًّا في الولايات المتحدة، بأنها عندما كانت طفلةً في أفريقيا، كانت مربيتها تتحدَّث إليها باللغة السواحلية. كانت سوزان تجيد هذه اللغة إجادةً تامةً حتى سن السابعة، بالإضافة إلى اللغة الفرنسية التي كانت تتحدَّث بها مع والدَيْها؛ بعد ذلك انتقلت الأسرة إلى دولةٍ تتحدَّث بالبرتغالية، وحلَّتِ البرتغالية محلَّ اللغة السواحلية. إنها تقول إن تغيير اللغات لم يُخِفْ أسرتها، وتسرد باقي قصتها قائلةً:
كانت الفرنسية تُستخدَم في المنزل، والإنجليزية في المدرسة، والبرتغالية في المنزل وفي المجتمع. كنتُ أميل دومًا إلى استخدام الإنجليزية مع أختي الكبرى، بينما كنتُ أتحدَّث بالبرتغالية مع أختي الصغرى. وكانت أختاي تتواصلان معًا في الأغلب بالبرتغالية، لكننا نحن الثلاث كنَّا نتحدث دائمًا الفرنسية مع والدَيْنا.2
وإذا كان هناك كثير من مسئولي الرعاية والأشخاص المهمين في حياة الطفل الصغير، وإذا كانوا يستخدمون لغات مختلفة، فإنه من الطبيعي أن يتعلَّم الطفل كل هذه اللغات. وإليك ما ورد عن شخصٍ عاش في الهند في مطلع القرن العشرين، ولاحَظَ أن الأطفال الإنجليز الصغار السن اكتسبوا كثيرًا من اللغات الهندية حتى يتمكَّنوا من الحديث مع الموجودين حولهم، وأحيانًا كانوا يعملون كمترجمين شفويين لوالدَيْهم:
في إقليم البنغال في الهند، الذي عاش فيه الكاتب، من الشائع أن يسمع المرء الأطفالَ الإنجليز الذين في عُمْر الثالثة أو الرابعة ووُلِدوا في هذه الدولة؛ يتحدَّثون بطلاقة في أوقات مختلفة مع والديهم بالإنجليزية، ومع المربيات بالبنغالية، ومع البستانيين باللغة السنتالية، ومع الخَدَم في المنزل باللغة الهندوستانية.3
إن إحدى اللحظات المهمة في السنوات الأولى من حياة الأطفال الذين سيُصبِحون ثنائيي اللغة، هي عندما يبدءون الذهاب إلى المدرسة والتعامُل مع الأطفال الآخَرين. إذا كانت لغةُ المدرسة أو البيئة مختلفةً عن اللغة المُستخدَمة في المنزل، فإن الأطفال سيكتسبونها، أحيانًا بسهولة وأحيانًا بمزيد من الصعوبة (انظر الفصل التاسع عشر الذي يتحدَّث عن الثنائية اللغوية والتعليم). على سبيل المثال: تخبرنا عالِمة الأنثروبولوجيا كارول باربر، التي درست هنودَ الياكي في ولاية أريزونا، أن أطفالهم، الذين تكون الياكية هي لغتهم الأولى، يكتسبون لغتَيْهم الثانية والثالثة في سن الخامسة أو السادسة تقريبًا؛ الإسبانيةَ عبر التواصُل مع الأطفال الأمريكيين الذين من أصل مكسيكي داخلَ المدرسة وخارجَها، والإنجليزيةَ في المدرسة، حيث تكون هي لغة التعليم.4 بالمثل يكتسب الأطفال التنزانيون الصغار على الأقل ثلاث لغات: اللغة المحلية في المنزل ومحيطهم المباشر، والسواحلية في المجتمع والمدرسة، والإنجليزية في المدرسة.5 وإذا بدأ نظام المدرسة نفسه باستخدام لغة واحدة في التدريس، ثم انتقل إلى لغة أخرى، فيمكن اكتساب كثير من اللغات. تخبرنا ماري-بول ماورر عن ليتيشا، وهي طفلة صغيرة برتغالية الأصل تعيش في لوكسمبورج؛ كانت البرتغاليةُ لغتَها الأولى، لكنها عندما ذهبت إلى الحضانة، اكتسبَتِ اللهجةَ اللوكسمبورجية، وهي إحدى اللهجات الألمانية؛ بعد ذلك تحوَّلت في المدرسة إلى دراسة اللغة الألمانية القياسية في الصف الأول، ودخلت الفرنسيةُ كلغة «ثانية» في الصف الثاني، وكانت ليتيشا الصغيرة تأخذ أيضًا دروسًا في البرتغالية مرتين في الأسبوع.6 في ظل هذا المثال، لا عجب إذًا في كون الناس في لوكسمبورج من بين أكثر الأشخاص المتعددي اللغات في العالم!
مع تقدُّم الأطفال في العمر، قد تؤدِّي الأحداث المختلفة في حياتهم إلى اكتسابهم لغةً ثانية أو ثالثة أو رابعة. وتُعتبَر الهجرة أحدَ هذه الأحداث المهمة؛ فيواجه فعليًّا ملايين المهاجرين إلى أمريكا الشمالية وأوروبا لغةَ الدولة الجديدة في مرحلة الطفولة والمراهَقة. تحكي إيفا هوفمان، مؤلِّفة كتاب «فُقِد في الترجمة» بوضوح شديد يومَها الأول في إحدى المدارس الكندية وهي في الثالثة عشرة من عمرها، ومعها أختها، قائلةً:
كان الأطفال من حولنا يصيحون: Shut up, shuddup. وكانت هذه هي الكلمة الأولى التي أفهمها من سياقها الدرامي. وقفتُ مع أختي في باحة المدرسة ونحن مُمْسِكتان كلٌّ منَّا بالأخرى، بينما كان الأطفال يركضون من حولنا، وهم يضربون بعضهم بعضًا ويصيحون مثل دراويش المولوية.7

على الرغم من معاناة إيفا من تغيير الدول، بالإضافة إلى تغيير اللغات والمدارس وحتى اسمها الأول من أجل دَمْجها في المجتمع على نحوٍ أسرع، فقد نجحت ببراعة في دراساتها وحياتها المهنية. ومع الأسف، ليس كل الأطفال الذين يجدون أنفسهم في سياق «الفشل أو النجاح» هذا يتخطَّوْنه على نحوٍ جيد مثل إيفا.

يقضي كثير من الأطفال والمراهقين بعض الوقت في منطقة أخرى أو دولة أخرى من أجل اكتساب اللغة المستخدمة فيها، دون الهجرة الفعلية. حدث هذا على مدار التاريخ البشري، منذ عهد روما القديمة، عندما كانت العائلات الرومانية تُرسِل أطفالها إلى اليونان حتى يتعلَّموا اللغة اليونانية. وفي سويسرا، حيث أعيش حاليًّا، يوجد تقليد منذ زمن طويل يتمثَّل في قضاء المرء في مرحلة المراهَقة بعضَ الوقت في جزء آخَر من الدولة، من أجل تعلُّم لغته بسهولة أكبر (على سبيل المثال: يقضي كثير من المراهقين الذين يعيشون في الجزء الذي يتحدَّث بالألمانية السويسرية سنةً، وأحيانًّا أقل، كمتدربين أو مقيمين مع أُسَرٍ نظيرَ تأديةِ بعض المهام المنزلية في الجزء الذي يتحدَّث بالفرنسية).

(٢) التحوُّل إلى الأحادية اللغوية

كثيرًا ما نسمع، أو نقرأ، عن أطفال أصبحوا ثنائيي اللغة، وأحيانًا في وقت قصير للغاية، ونتعجب من كيفية قيامهم بهذا. لكننا نادرًا ما نسمع النوع نفسه من القصص عن أطفال تحوَّلوا إلى الأحادية اللغوية بعدما كانوا ثنائيي اللغة. وعلى الرغم من ذلك، فإنهم يمثلون جزءًا مهمًّا من حياتنا بالقدر نفسه، على الرغم من أن الناس يقدِّرون اكتساب اللغة أكثر من نسيانها. دَعْني أذكر لك حالتين: تتعلَّق الأولى بستيفن — وهو ابن عالِم الأنثروبولوجيا روبنز بورلينج البالغ من العمر ١٦ شهرًا — الذي ذهب مع والديه إلى منطقة جارو هيلز في ولاية آسام في الهند. بدأ ستيفن في استخدام كلمات اللغة الجاروية في غضون بضعة أسابيع من وصولهم، على الرغم من أن لغته الإنجليزية ظلت هي السائدة في البداية. ونظرًا لأنه كانت لديه مربية من المنطقة، تحسَّنت لغته الجاروية سريعًا، خاصةً عندما دخلت والدته المستشفى وتُرِك في رعاية مربيته؛ بالإضافة إلى ذلك، كان والده عادةً ما يتحدَّث معه باللغة الجاروية. سافرَتِ الأسرة إلى منطقة أخرى في الهند في وقت لاحق، وتحسَّنت لغته الإنجليزية مرة أخرى، خاصةً بسبب عودة والدته. وعندما تركت الأسرة منطقة جارو كان سيتفن، الذي جاوَزَ الثالثة قليلًا، ثنائي اللغة بحقٍّ في الجاروية والإنجليزية، وربما كانت الجاروية هي السائدة قليلًا حينها؛ فكان يترجم وينتقل بين اللغتين مثلما يفعل الأطفال الثنائيو اللغة.8
إن ما يرويه روبنز بورلينج مثيرٌ للاهتمام كثيرًا؛ إذ يحكي لنا عن عودة ستيفن إلى الأحادية اللغوية؛ فعندما سافرَتِ الأسرة عبر جميع أنحاء الهند، حاوَلَ ستيفن التحدث بالجاروية مع الهنود الذين قابَلَهم، لكنه سرعان ما أدرك أنهم لا يتحدثون بها (فلا يتحدَّث باللغة الجاروية إلا أكثر بقليل من نصف مليون فرد). كانت آخِر مرة حاوَلَ فيها استخدامَ هذه اللغة على متن الطائرة عند عودته إلى الولايات المتحدة؛ فقد ظنَّ أن الفتى الملايوي الجالس إلى جواره كان يتحدَّث بالجاروية، وكما كتب بورلينج يقول: «انفجر سيل من اللغة الجاروية كما لو أن كل الكلام المكبوت كلَّ هذه الأسابيع قد أُطلِق سراحه.» حاوَلَ والد ستيفن الحديث معه بالجاروية عند عودتهم إلى الولايات المتحدة، لكن بعد بضعة أشهر لم يكن يجيب على حديث والده بها. لم يعرف بورلينج هل كان هذا نتيجةً لعدم قدرة ستيفن على الفهم، أم أنه كان يرفض الحديث باللغة «الخطأ». وفي خلال ستة أشهر من تركهم لجارو هيلز، كانت توجد مشكلات لدى ستيفن مع أبسط الكلمات باللغة الجاروية. ينهي روبنز بورلينج حديثه قائلًا:
التحق ستيفن بالحضانة في الولايات المتحدة في سن الخامسة والنصف، وقد أصبح يتحدَّث بالإنجليزية ربما بطلاقةٍ أكثر قليلًا من الأطفال في نفس عمره، وبالتأكيد باستمرار أكثر. وهو لا يستخدم حاليًّا من الكلمات الجاروية إلا الكلمات القليلة التي أصبحت من المتعارَف عليه في العائلة، لكني أتمنَّى أن أتمكن في يومٍ ما من العودة به إلى جارو هيلز ليكتشف ما إذا كان لا يزال يحتفظ في عقله الباطن بآثار إتقانه لِلُّغة الجاروية، بحيث يمكن إعادة إيقاظها إذا عاد إلى الاتصال باللغة.9
إن النقطة المثيرة للاهتمام التي أثارها بورلينج تتعلَّق بما إذا كان المرء يستطيع استعادةَ إحدى اللغات التي اكتسبها في مرحلةٍ مبكرةٍ جدًّا من طفولته، ونسيها أيضًا في مرحلةٍ مبكرةٍ للغاية. يُقال إن اللغات التي ينساها المرء تبدو مألوفة ولا يجد صعوبةً في نطق أصوات معينة فيها، لكن لم تستطع دراساتٌ فعلية أن تعطينا معلوماتٍ واضحةً عن مقدار ما يظل محفوظًا لدى المرء، ومدى سرعة إعادة تعلُّم اللغة. لدى كل الذين يمتلكون لغةً مخبَّأة بداخلهم اكتسبوها في طفولتهم؛ توجد رغبة دفينة في أن يتمكنوا ذات يوم من إعادة تفعيل اللغة واستخدامها في الحياة اليومية. وبالنسبة إلى ستيفن، أخبرني روبنز برولينج بالبريد الإلكتروني أن سيتفن لم يَعُدْ قطُّ إلى جارو هيلز؛ ومع ذلك، عندما كان في السادسة من عمره اكتسب اللغة البورمية في مدينة رانجون (المعروفة الآن باسم يانجون)؛ لقد تحدَّث بها بطلاقةٍ لمدة سنة لكنه نسيها، وكتب لي والده يخبرني بأنه اكتسب في سن الثامنة ثلاث لغات ونسي اثنتين منها!10
تتحدَّث الحالة الثانية عن طفل رجع إلى الأحادية اللغوية، وهو أقرب إلينا في الموقع الجغرافي وفي الفترة الزمنية. إن دراسة الحالة هذه، التي ذكرَتْها عالِمةُ اللغة ليلي وونج فيلمور، تدور حول كاي فونج، الذي ينتمي إلى أسرة صينية (كانتونية) مهاجِرة وصلت إلى الولايات المتحدة عندما كان في سن الخامسة. تربَّى في الأساس على يد جدته الصينية، حيث كان والداه يقضيان ساعات طويلة في مطعمهم الموجود في منطقة سان فرانسيسكو. عندما بدأ كاي فونج الذهاب إلى المدرسة واجَهَ بعض الصعوبات؛ فقد كان الأولاد الآخَرون يضايقونه بسبب ملابسه وتسريحة شعره. وبعد حادثة قَذْفٍ للحجارة شارَكَ فيها، وبعد ما تبعها من توبيخ، بدأ يصبح أكثر عزلةً في كلٍّ من المدرسة والمنزل. وقد مرَّ بفترة كان يعرف فيها اللغتين الكانتونية والإنجليزية، لكنه سرعان ما تحوَّلَ إلى الحديث بالإنجليزية مع جدته، التي لم تكن تستطيع فهمه، وعندما صار في العاشرة من عمره، أصبح يقضي المزيدَ من الوقت خارج المنزل مع أصدقائه الذين يتحدَّثون بالإنجليزية، وبدا أنه لم يَعُدْ يفهم الكانتونية جيدًا. ومن بين إخوته الثلاثة، لم يكن يتحدَّث بالكانتونية مع والدَيْه وجدته إلا أخت واحدة، وكان كل الكبار يشعرون بالقلق من هذا الفقدان السريع لِلُغة الأسرة. تُنهِي وونج فيلمور تقريرَها قائلةً:
لقد كان للتحوُّل من الكانتونية إلى الإنجليزية في هذه الأسرة، وضياع لغة الأسرة من الأبناء، تأثيرٌ كبير على التواصُل بين الكبار والأطفال، وفي النهاية على العلاقات الأسرية. فأصبح هناك توتر في هذا المنزل؛ فالكبار لا يفهمون الأبناء، والأبناء لا يفهمون الكبار؛ فلا يشعر الأب والأم والجدة بأنهم يعرفون الأبناء، ولا يعرفون ماذا يحدث في حياتهم.11

لحسن الحظ ليست كل حالات نسيان اللغة بمثل هذه الصعوبة؛ فعادةً ما يتعلَّم الوالدان القدرَ الكافي من لغة الأغلبية حتى يمكنهم التواصُل، إلى حدٍّ ما على الأقل، مع أطفالهم الذين لا يتحدَّثون غيرها. في الحالة السابقة على وجه الخصوص، لم تتعلَّم الجدة الإنجليزية على الإطلاق، وكان الوالدان لا يجيدان التحدُّث بها على الإطلاق، خاصةً الأم. أما بالنسبة إلى كاي فونج، الذي تحوَّلَ من الأحادية اللغوية في الكانتونية إلى الثنائية اللغوية في الكانتونية والإنجليزية، ثم إلى الأحادية اللغوية في الإنجليزية، كل هذا في خلال بضع سنوات، فقد سألتُ ليلي وونج فيلمور عن حاله، فأجابتني أنه أصبح في الثالثة أو الرابعة والعشرين من عمره الآن (كان هذا في عام ٢٠٠٨)، وأضافت: «أتمنَّى أن يكون أكثر تقبُّلًا لما هو عليه.»

(٣) تفسير

رأينا كيف يمكن للأطفال التحول إلى الثنائية اللغوية ومنها، في وقت قصير جدًّا. يوضِّح الشكل ١٤-١ العواملَ الأساسية التي تسهم في هذه الظاهرة. نجد في هذا الشكل أن العامل الأساسي الذي يؤدِّي إلى تعلُّم إحدى اللغات هو «الحاجة» لهذه اللغة (اللغة «س» في هذا الشكل). قد تأخذ هذه الحاجة عدة أشكال؛ على سبيل المثال: التواصُل مع أفراد الأسرة، أو المسئولين عن رعاية الطفل، أو الأصدقاء الذين قد يكون بعضهم أو معظمهم أحاديي اللغة في هذه اللغة؛ والمشاركة في أنشطة أحد مراكز الرعاية النهارية أو المدارس؛ والتعامل مع الناس في المجتمع. وقد تتمثَّل هذه الحاجة ببساطة أيضًا في مشاهدة التليفزيون وممارسة الرياضة وما إلى ذلك. باختصار، يجب أن يشعر الطفل بأنه بحاجةٍ فعليًّا لِلُغة معينة. إذا حدث هذا، وكانت العوامل الأخرى مواتيةً، فإن الطفل سيتعلَّم هذه اللغة؛ وإذا اختفَتِ الحاجة أو لم تكن موجودة فعليًّا (ربما يتحدَّث الوالدان باللغة الأخرى أيضًا لكنهم يتظاهرون بعكس ذلك)، وكانت العوامل الأخرى غير مواتية، فإن الطفل سيتوقَّف عن استخدام هذه اللغة، ويوجد احتمال كبير أن ينساها.
fig10
شكل ١٤-١: العوامل المؤدية لاكتساب لغة أخرى والإبقاء عليها لدى الأطفال.

لِنَعُدْ إلى مثال هيلدجارد لنرى مدى اتفاقه مع عامل الحاجة؛ فقد كانت هيلدجارد بحاجة إلى التواصُل مع والديها؛ لذا اكتسبَتْ لغتين، على الرغم من أن الإنجليزية أصبحت هي اللغة السائدة نظرًا لحياتها في الولايات المتحدة. لكنها عندما عادت إلى ألمانيا، كانت بحاجة إلى الألمانية أكثر، وأصبحت الألمانية هي اللغة السائدة. وعند عودتها إلى الولايات المتحدة، عادت السيادة لِلُّغة الإنجليزية مرةً أخرى.

ماذا عن نسيان اللغة؟ من الواضح أن ستيفن شعر بأنه لم يَعُدْ بحاجة إلى اللغة الجاروية عندما ترك الهند، وكان يعلم أن والده، الفرد الوحيد في أسرته الذي يتحدَّث بالجاروية، يتحدَّث بالإنجليزية أيضًا، وشعر — بالطبع دون وعي — بأنه ليس بحاجة إلى الاحتفاظ بها من أجل إرضائه فحسب. لا يحب الأطفال الادِّعاء عندما يتعلَّق الأمر بشيء بالغ الأهمية مثل اللغة التي يستخدمونها مع والدَيْهم. بالنسبة إلى كاي فونج، فبعد تعرُّضه لبداية صعبة في المدرسة، كان بحاجةٍ إلى التأقلم مع بلده الجديد، ووجد أنه يشعر مع أصدقائه الذين يتحدثون الإنجليزية براحةٍ أكبر من الراحة التي يجدها في المنزل؛ لذا تخلَّى عن اللغة الكانتونية، حتى إن كان هذا يعني عدم القدرة على التواصُل مع بعض أفراد أسرته؛ فقد كانت ببساطة الحاجةُ إلى الإنجليزية أكبرَ بكثير من الحاجة إلى الكانتونية.

نرى في الشكل ١٤-١ أن العوامل الأخرى التي تلعب دورًا في مستوى اكتساب اللغة مذكورةٌ على اليمين. سأستعرضها وأعطي بعض الأمثلة عليها. أولًا: يحتاج الأطفال إلى قدر معين من المُدْخَلات في اللغة حتى يكتسبوها. تؤكِّد أنيك دي هاور، إحدى الاختصاصيات الشهيرات في الثنائية اللغوية لدى الأطفال، على حقيقة أنه حتى «يكتسب» الأطفالُ إحدى اللغات، يجب أن تتوافر لهم مُدْخَلات لغوية في مواقف متنوعة من أشخاصٍ مهمِّين لهم؛ مثل: الوالدين، ومسئولي الرعاية، وأعضاء الأسرة الكبيرة، والأصدقاء، وما إلى ذلك.12 ثانيًا: إن نوع المُدْخَلات التي يحصل عليها الأطفال مهم أيضًا؛ فلا بد من استخدام الكلام الثنائي اللغة الذي يحتوي على عمليات تبديل لغوي واقتباس داخل الأسرة، لكن إذا أمكن التوصُّل إلى سُبُل نقدِّم فيها للأطفال فتراتٍ من المُدْخَلات «الأحادية اللغة»، على نحوٍ طبيعي قدر الإمكان، فإن هذا يكون أفضل. أحيانًا يمكن أن يؤدي الدورَ الأحادي اللغة أحدُ أفراد الأسرة الكبيرة الذي لا يعرف اللغةَ الأخرى، أو مسئولو الرعاية الأحاديو اللغة (على سبيل المثال: في مركز الرعاية النهارية أو الحضانة). يوجد نوع آخَر من المُدْخَلات، وهو اللغة المكتوبة؛ فتؤكِّد أنيك دي هاور على أهمية القراءة للأطفال؛ إذ إنها أحد المصادر الممتازة للمفردات والمعلومات الثقافية التي قد لا يحصلون عليها في بيئتهم العادية. فيما بعدُ، إذا تعلَّم الأطفال القراءةَ باللغة المَعنِيَّة، فسيكون من المهم تخصيص أوقات للقراءة الشخصية.13

يتمثَّل العامل الثالث في دور الأسرة. سنتحدَّث عن هذا في فصل لاحق؛ لذا يكفي أن نقول هنا إنه إذا أمكن يجب أن يدرك الوالدان ومسئولو الرعاية ما يمر به أطفالهم في أثناء اكتسابهم (أو فقدانهم) إحدى اللغات؛ فيجب عليهم اتِّباع استراتيجيات عائلية تدعم لغة المنزل إذا كانت لغةَ الأقلية، وإذا كانت مهدَّدة بأن تحلَّ محلَّها لغةُ الأغلبية المستخدَمة خارج المنزل. كذلك فإن المُدْخَلات من أفراد الأسرة الكبيرة والأصدقاء الذين يستخدمون اللغةَ نفسها، تكون لها قيمة كبيرة ويبدو للأطفال أن استخدام هذه اللغة أمرٌ طبيعي جدًّا.

يُعتبَر كذلك دورُ المدرسة والمجتمع الأكبر مهمًّا للغاية لاكتساب الطفل إحدى اللغات. على الرغم من أنني سأتحدث عن الثنائية اللغوية والتعليم في فصل قادم، فإنه يجب عليَّ أن أؤكد على مدى أهمية المدارس والمجتمعات في اكتساب إحدى اللغات، أو فقدانها؛ فإذا لم تحصل لغةُ الأقلية على دعم في المدرسة أو في المجتمع، فسيوجد احتمال كبير أن تقل أهميتها، هذا إن لم تُنَحَّ جانبًا ببساطة، خاصةً إذا كانت لغةُ الأغلبية موجودةً في كل جانب من جوانب حياة الطفل. إليك ما ورد عن زوجين فرنسيين شابَّيْن بشأن ابنهما، الذي فقد لغته الفرنسية بعد أقل من سنة من انتقالهم إلى الولايات المتحدة:
عند بداية وصولنا، كان عمر سيرل، ابننا الأكبر والوحيد في ذلك الوقت، سنتين تقريبًا، وكان يحرز تقدمًا جيدًا في تعلم اللغة الفرنسية. وظلت اللغة الفرنسية، لبعض الوقت بعد وصولنا، لغةَ التواصل الوحيدة داخل المنزل، لكنْ بدأَتِ الإنجليزية تُغِير علينا، من خلال الأصدقاء الأمريكيين وبرامج الأطفال التليفزيونية … بدأ سيرل يذهب إلى مركز رعاية نهارية، ومن ثَمَّ بدأ في تعلم الإنجليزية، ولم يَمْضِ وقت طويل حتى بدأ يتحدَّثها مع الفرنسية داخل البيت. كنا بالطبع لا نتحدَّث معه إلا بالفرنسية، ونصرُّ على أن يجيبنا بالفرنسية، لكنْ أصبح تطبيقُ هذا الأمر صعبًا عندما كان أصدقاؤه يأتون لِلَّعب معه في المنزل؛ كما أصبح الحديث بلغة والحصول على إجابة بلغة أخرى أمرًا مرهقًا، وبالتدريج بدأنا نرد عليه بالإنجليزية. وبمرور الوقت قلَّ كثيرًا استخدامُ سيرل للفرنسية معنا، وأصبح ببطء أحاديَّ اللغة في الإنجليزية.14
يتعلق العامل الأخير المقترح بالشكل بمواقف الناس تجاه اللغة والثقافة اللتين بحاجةٍ إلى دعم، بالإضافة إلى المواقف تجاه الثنائية اللغوية. يتأثر الأطفال بشدة بمواقف والديهم ومعلميهم وأقرانهم. إليك ما أخبرني به أحد الأشخاص عن التحيُّز السلبي الموجود لدى البلجيكيين المتحدثين بالفرنسية تجاه اللغة الفلمنكية، وهي لغة تُدرَّس في المدارس التي تتحدَّث بالفرنسية، لكنْ يبدو ببساطةٍ أن الأطفال لا يستطيعون تعلُّمها جيدًا:
يوجد عادةً تحيُّزٌ يتعلَّق بالمرحلة المبكرة من تعليمنا، بسبب حقيقة أن والدَيْنا ينقلون إلينا أحكامَهم المسبقة تجاه المجموعة الأخرى؛ لذا من الصعب أحيانًا أن يوجد لدينا دافعٌ لتعلُّم اللغة الأخرى. هذا بالإضافة إلى أن الذين يتحدثون الفرنسية يكون لديهم عدم رغبة بشكل كبير في تعلُّم الفلمنكية؛ إذ إن الأماكن الوحيدة التي يمكنهم استخدامها فيها هي بلجيكا وهولندا.15

من الواضح أن المواقفَ السلبية تجاه إحدى اللغات وثقافتها، وعدمَ الحاجة إلى هذه اللغة، على الأقل في السن الصغيرة؛ يقلِّلان احتمالات اكتساب الطفل لهذه اللغة.

أما فيما يتعلَّق بالمواقف تجاه الثنائية اللغوية، فإن المرء يندهش من مدى قلة ما يعرفه الناس عنها، ومن الأفكار المسبقة التي توجد لديهم عن معناها؛ عرضتُ بعضًا من هذه الخرافات وناقشتُها على مدار الكتاب. وتوجد لدى الناس أيضًا معتقداتٌ مسبقة عن الأطفال والثنائية اللغوية؛ والخرافة التالية هي أحد هذه المعتقدات:

خرافة: يكون لِلُّغة المستخدمة في المنزل تأثيرٌ سلبي على اكتساب لغةِ المدرسة عندما تكون لغةً مختلفة
هذا معتقد خاطئ تمامًا؛ فعلى العكس، يمكن أن تُستخدَم لغةُ المنزل كأساس لغوي لاكتساب جوانب من اللغة الأخرى. وهي تعطي الأطفال أيضًا لغةً معروفة يتواصلون بها (مع الوالدين ومسئولي الرعاية وربما المعلمين)، بينما يكتسبون اللغة الأخرى. في كتاب «نهم الذاكرة»، يحكي المؤلف ريتشارد رودريجيز كيف جاءت الراهبات من مدرسته الكاثوليكية إلى منزله لتطلب من والديه التوقُّف عن استخدام اللغة الإسبانية معه. يحدث مثل هذا الأمر كثيرًا لأن النصيحة التي يقدِّمها المختصون، بنِيَّةٍ طيبة في كثير من الأحيان، بشأن الثنائية اللغوية، لا تعتمد دومًا على حقائق علمية. رضخ والدا ريتشارد رودريجيز للأمر، ولم يكتمل تطوُّر اللغة الإسبانية لديه قطُّ بينما كان من الممكن أن يجيد كلتا لغتَيْه، حديثًا وكتابةً. وكان والداه مثل كثير من الآباء الذين «يتخلَّوْن عن لغة المنزل»، ثم يضطرون لتفسير سبب كون أطفالهم لم يعدوا قادرين على الحديث بها لأفراد أسرتهم. يقول رودريجيز في هذا الشأن:
كان والديَّ لشعورهما بالإحراج يضطران دومًا إلى تفسير عدم قدرة أطفالهما على التحدث بالإسبانية بطلاقة خلال هذه السنوات. فواجهَتْ والدتي غضبَ أخيها الوحيد عندما جاء من المكسيك في صيف إحدى السنوات مع أسرته. لقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها أبناء وبنات أخته، وبعدما استمع إلى حديثي نظر بعيدًا وقال إنه لَأمرٌ مُخْزٍ أنني لا أستطيع التحدُّث بالإسبانية su proprio idioma (أي لغته).16

من المهم أن يعرف الآباء، والمختصون أيضًا الذين يتعاملون مع أطفال ثنائيي اللغة، معلوماتٍ عن الثنائية اللغوية؛ فإن هذا سيسمح لهم بفهم ما يمر به الأطفال، ويساعدهم في تقديم الدعم الذي يحتاج إليه الأطفال الثنائيو اللغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤