الفصل الرابع

الوضع اللغوي واختيار اللغة

عند التواصل مع الآخرين، يجب أن يطرح الأشخاص الثنائيو اللغة على أنفسهم سؤالين (وهو ما يفعلونه دومًا دون أن يَعُوا ذلك): ما اللغة التي عليهم استخدامها، وكيف يمكنهم إدخال اللغة (اللغات) الأخرى في الحوار إذا احتاجوا إلى ذلك؟ يوضِّح الشكل ٤-١ عملية طرح هذين السؤالين والإجابة عنهما. ولتبسيط الأمور، يدور المثال حول شخصٍ يستخدم لغتين فقط، وسنتحدَّث عن ثلاثيي ورباعيي اللغة لاحقًا.

تكون لغتا هذا الشخص الثنائي اللغة — الموضحة كل منها على هيئة مربع في الشكل — غير مفعلتين (أو معطلتين) قبل عملية التواصل (المربعان مظللان بخطوط مائلة). في هذا المثال، تكون إجابة هذا الشخص الثنائي اللغة عن سؤال «أي لغة سأستخدم؟» هي اللغة الأولى، فتُفعَّل هذه اللغة ويُعبَّر عنها بمربع أسود. يُطلَق على هذه العملية الأولى، المتمثِّلة في اختيار اللغة المستخدمة، اسم «اختيار اللغة»، ويُطلَق على اللغة المختارة اسم «اللغة الأساسية».

fig3
شكل ٤-١: تحديد اللغة التي سيتم استخدامها، وما إذا كان سيتم إدخال اللغة الأخرى أم لا.
أما عن السؤال الثاني، فهو: هل أُدخِل اللغة الأخرى؟ على سبيل المثال: إذا كان الشخص الثنائي اللغة يتحدَّث إلى شخص أحادي اللغة لا يعرف لغته الأخرى، فإن الإجابة تكون لا، ونرى في هذا الشكل (في الجزء الأيسر السفلي) أن اللغة الأخرى (اللغة الثانية) تظل غير مفعَّلة؛ فلا تُفعَّل غير اللغة الأولى (المربع الأسود). في هذا الموقف، يُقال إن الشخص الثنائي اللغة أصبح في وضع لغوي أحادي اللغة، حيث لا تُفعَّل لديه إلا لغة واحدة. عندما تتحدَّث زوجتي، مثلًا، إلى عمتها فإنها تختار الفرنسية كلغتها الأساسية، وتُوقِف عمل لغتها الإنجليزية، لأنها تعلم أن عمتها لن تفهمها إذا أدخلَتِ اللغة الإنجليزية في الحوار؛ ومن ثَمَّ فإن وضعها اللغوي يصبح أحادي اللغة. مع ذلك، إذا تحدَّث شخص ثنائي اللغة إلى شخصٍ آخَر ثنائي اللغة يشاركه في لغتَيْه (الأولى والثانية)، ولا يجد غضاضةً في إدخال اللغة الأخرى في الحوار مع هذا الشخص، فإن اللغة الثانية ستُفعَّل، لكن أقل من اللغة الأولى (انظر الخطوط المتقاطِعة التي تملأ مربع اللغة الثانية في الجزء الأيمن السفلي). يُطلَق على هذا الموقف اسم وضع لغوي ثنائي اللغة. إذًا عندما أتحدَّث أنا وزوجتي، فإننا نختار اللغة الفرنسية كلغتنا الأساسية، لكن تظل لغتنا الإنجليزية مُفعَّلة أيضًا، وأحيانًا نستخدمها في الإشارة إلى أماكن وأشخاص نعرفهم في بريطانيا أو الولايات المتحدة، أو الإشارة إلى أشياء فعلناها في هذه الأماكن. معنا تكون اللغة الفرنسية هي أكثر اللغات المفعَّلة؛ فهي اللغة الأساسية، لكن اللغة الإنجليزية تظل في حالة تأهُّب إذا دَعَتِ الحاجة إليها. يتمحور قدر كبير من السلوك اللغوي للأشخاص الثنائيي اللغة حول الاحتمالات الموضَّحة في الشكل ٤-١، كما سنرى فيما يلي وفي الفصلين التاليين.

(١) الوضع اللغوي

عند النظر إلى الشكل ٤-١، نرى أن الوضعين اللغويين الأحاديَّ اللغة والثنائيَّ اللغة هما نقطتا النهاية في تسلسل (يربط بينهما خط سهمي). في الحياة اليومية يجد الأشخاص الثنائيو اللغة أنفسهم في نقاطٍ مختلفة على طول هذا التسلسل تنتج عنها أوضاعٌ لغوية مختلفة؛1 ففي أحد طرفي هذا التسلسل، يكون الأشخاص الثنائيو اللغة في وضع أحادي اللغة؛ كما يحدث عند حديثهم مع أشخاص أحاديي اللغة (أو الكتابة إليهم) بلغةٍ من اللغات التي يعرفونها (مثل أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو الزملاء). يمكن أن يصبحوا أيضًا في هذا الوضع عند قراءتهم كتابًا مكتوبًا بإحدى لغاتهم، أو مشاهدتهم برنامجًا تليفزيونيًّا بلغة واحدة فقط. أما في الطرف الآخَر من هذا التسلسل، يجد الأشخاص الثنائيو اللغة أنفسهم في وضعٍ لغويٍّ ثنائيِّ اللغة عند تواصُلهم مع ثنائيي اللغة آخَرين يشتركون معهم في اللغتين نفسهما، مثل الأصدقاء المقربين أو الإخوة، ويشعرون معهم بإمكانية إدخال اللغة الأخرى. قد يصبحون أيضًا في وضع لغوي ثنائي اللغة عند استماعهم إلى حوارٍ بين ثنائيي اللغة آخَرين تُستخدَم فيه اللغتان. قد يصبح ثنائيو اللغة أيضًا في وضع متوسط على هذا التسلسل؛ على سبيل المثال: عندما يكون المتحدث معهم ثنائيَّ اللغة لكنه لا يحب إدخال اللغة الأخرى في الحوار، أو عندما يتحدَّثون عن أحد الموضوعات باللغة «الخطأ» (فعلى الأرجح تُفعَّل لغتهم الأخرى في هذا الموقف، حتى إن لم يستخدموها).

يختلف بعضُ الأشخاص الثنائيي اللغة عن بعضٍ فيما يتعلق بمقدار تحركهم عبر تسلسل الوضع اللغوي؛ فيبقى البعض عند نقطة الوضع الأحادي اللغة، بينما يتحرك آخرون يمينًا عبر التسلسل، ويختارون نقاطًا مختلفة بناءً على الموقفِ، والشخصِ الذي يتحدثون إليه، والموضوعِ، إلى آخِره. وقد يجد الذين يعيشون في مجتمعات ثنائية اللغة أنفسهم عند نقطة الوضع الثنائي اللغة خلال الجزء الأكبر من يومهم. قد يحدث التحرك عبر التسلسل في أي وقت، بمجرد وجود حاجة إليه؛ فربما نبدأ عند نقطة الوضع الأحادي اللغة ثم ندرك، في منتصف الحوار، أن الشخص الذي نتحدَّث إليه ثنائي اللغة، فننتقل إلى الوضع الثنائي اللغة. كذلك قد نبدأ عند نقطة الوضع الثنائي اللغة ثم ندرك، بمجرد بدء الحوار، أن الشخص الذي نتحدَّث إليه لا يحب التبديل بين اللغات؛ وعندها سنُوقِف تفعيلَ اللغة الأخرى ونتحدَّث بلغة واحدة فقط.

يعتقد كثير من الباحثين أنه في الوضع الأحادي اللغة، لا تُعطَّل اللغة التي لا تُفعَّل بالكامل (لاحِظْ أن المربعين الموجودين في الشكل ٤-١ اللذين يعبِّران عن اللغتين غير المفعَّلتين ليسا باللون الأبيض، وإنما يمتلئان جزئيًّا بخطوط مائلة)، والسبب في ذلك أن الأشخاص الثنائيي اللغة يتأثرون دومًا بلغتهم الأخرى، حتى في المواقف الأحادية اللغة. ونستطيع أن نرى هذا في التداخلات القوية التي تحدث؛ وهي التغييرات التي تحدث نتيجةً لِلُّغة غير المفعَّلة، مثلما يحدث عندما يقول المرء بالإنجليزية: He liked very much the person، بناءً على التركيب الفرنسي: Il aimait beaucoup la personne (فقدَّم الحال تمامًا كما في ترتيب الجملة في الفرنسية).

في الوضع الثنائي اللغة، تكون اللغة الأساسية عادةً أكثر تفعيلًا من اللغة الأخرى (الثانوية)، لكن توجد حالات يجب فيها تفعيل اللغتين بالكامل، مثلما يحدث عندما يستمع شخص ثنائي اللغة إلى شخصين يتحدَّثان لغات مختلفة، أو عندما تقوم بترجمة شفوية. في الحالة الثانية، لا بد من تفعيل المرء لِلُّغتين بالكامل؛ اللغة الرئيسية (اللغة المُترجَم منها) واللغة المستهدَفة (اللغة المُترجَم إليها). لاحِظْ أيضًا أنه في الوضع الثنائي اللغة يمكن أن تتغيَّر اللغة الأساسية؛ فقد يبدأ المرء متحدِّثًا باللغة الأولى إلى مَن يتحدث إليه، ثم يتحوَّل إلى اللغة الثانية عن طريق تغيير مستويات تفعيل اللغتين (وهو أمر لا يمكن حدوثه في الوضع الأحادي اللغة).

توجد أيضًا حالة الشخص الثلاثي أو الرباعي اللغة. يوضِّح الشكل ٤-٢ كيف يمكن تفعيل لغات الشخص الثلاثيِّ اللغة بدرجات مختلفة. لقد اختار هذا الشخص الثلاثي اللغة استخدامَ اللغة الثانية كلغته الأساسية، وفعَّل أيضًا اللغة الثالثة وليس اللغة الأولى؛ نظرًا لأن الشخص الذي يتحدَّث إليه لا يعرف إلا لغتين فقط من لغاته الثلاث؛ ومن ثَمَّ يصبح وَضْعُه ثنائيَّ اللغة. ويصبح وضْعُه اللغوي ثلاثيَّ اللغة مع شخص يعرف لغاته الثلاث، ويستطيع إدخال لغتَيْه الثانية والثالثة بحرية عند الحديث معه. يمكن أن يحدث الأمر نفسه مع الذين يستخدمون أربع لغات أو أكثر في حياتهم اليومية.

(٢) اختيار لغة أساسية

كما رأينا في الشكل ٤-١، يجب أن يختار الأشخاص الثنائيو اللغة، عند التواصُل في الوضع الثنائي اللغة، أولًا لغة أساسية (يُطلَق عليها أيضًا اللغة المضيفة أو اللغة الرئيسية)، لاستخدامها مع الذين يتحدَّثون إليهم. إن عملية اختيار اللغة هي على الأرجح إحدى أكثر ظواهر الثنائية اللغوية المثيرة للاهتمام، على الرغم من أن الأشخاص الثنائيي اللغة لا يمعنون التفكير فيها كثيرًا. درست عالمةُ الأنثروبولوجيا كارول باربر السلوكَ اللغوي لاثني عشر شخصًا ثلاثي اللغة من هنود الياكي من قبيلة باسكوا ياكي في ولاية أريزونا؛ فقد كانت مهتمة بفهم متى يستخدمون الياكية والإسبانية والإنجليزية، فكتبت تقول:
يرى الرجال عادةً الأسئلة المتعلقة باستخدامهم للغاتهم سخيفة إلى حدٍّ ما؛ فهم بطبيعة الحال يستخدمون الياكية مع الياكيين، والإسبانية مع المكسيكيين، والإنجليزية مع المتحدثين بالإنجليزية. وقال أحدهم: «أنا أستطيع التحدُّث معكِ بالياكية، لكنكِ لن تفهميني.» مع ذلك، يبدو أن المشكلة ليست بمثل هذه البساطة، عندما ندرك أنهم يتعاملون في كثير من علاقاتهم الاجتماعية مع أشخاص يتحدَّثون على الأقل لغتين من لغاتهم. لماذا إذًا يختارون التحدُّث بإحدى اللغات في وقتٍ ما وبلغةٍ أخرى في وقت آخَر؟2
fig4
شكل ٤-٢: الوضع الثنائي اللغة لشخص ثلاثي اللغة.

فيما يلي سنلقي نظرة على عوامل اختيار اللغة وفقًا لأربع فئات رئيسية: المشاركين، والموقف، ومحتوى التفاعل، والغرض من التفاعل. سنستعرض مدى تعقيد هذه الظاهرة وسنرى كيف يمكن أن تتعقد وتفشل في بعض الأحيان.

داخل فئة المشاركين، يوجد عامل مهم للغاية في اختيار اللغة، وهو إجادة كلٍّ من المتحدث والمستمع لِلُّغة؛ فعادةً يحاول المرء استخدام اللغة التي ستسهم على أفضل نحو في نجاح التواصُل؛ فقد سمعتُ كثيرًا من الأشخاص الثنائيي اللغة يقولون إنهم يستخدمون لغة معينة مع شخص محدد لمجرد أنه لا يجيد استخدام اللغة الأخرى بالقدر الكافي. ثمة عاملٌ آخَر يبدو أنه يلعب دورًا مهمًّا، وهو التاريخ اللغوي بين المشاركين؛ فيختار المرء استخدام لغة معينة مع أشخاص محددين بعد الاتفاق معهم على استخدامها، حتى إن لم يتناقشوا قطُّ في هذا الأمر، وتصبح هذه هي لغة التواصُل بينهم منذ ذلك الوقت. في الواقع، يكون هذا الاتفاق قويًّا للغاية بحيث يشعر المستمِع بالارتباك أو يتفاجأ إذا أُخِلَّ به (على سبيل المثال: إذا حدث تغيُّر مفاجئ في اللغة الأساسية عند الحديث في الهاتف).

يمكن لتوجُّه أحد المشاركين حيال إحدى اللغات أو إحدى المجموعات أن يفسِّر أيضًا عملية اختيار اللغة. فقد لا يرغب أعضاء الأقليات المنبوذة في التحدُّث بلغة الأغلبية؛ ينطبق هذا على الذين عانَوْا في الماضي على يد الأغلبية (مثل اليهود الألمان في أثناء الحرب العالمية الثانية واليهود الروس مؤخرًا، الذين رفضوا استخدام اللغتين الألمانية والروسية، على التوالي، في دولهم الجديدة). تضمُّ العوامل الأخرى في فئة المشاركين السنَّ، والوضعَ الاجتماعي والاقتصادي للمشاركين، ودرجةَ الألفة بينهم، وقوةَ العلاقة بينهم، إلى آخِره.3 الأمر المذهل هنا أنه في المجتمعات الثنائية اللغة تنمو لدى بعض الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يتعاملون على نطاق واسع مع الناس — مثل أصحاب المحلات ومندوبي المبيعات وضباط الشرطة وغيرهم — بعضُ المهارة في كيفية تحديد اللغة التي يستخدمونها مع مَن يتعاملون معهم؛ فيتخذون قرارهم بناءً على علاماتٍ مثل تصرُّفات الشخص وملابسه وتعبيرات وجهه، وعادةً ما يكونون على حق.
بالنسبة إلى الفئة التالية، وهي الموقف، فإن مكانَ عملية التواصُل أحدُ العوامل المهمة في اختيار اللغة؛ فعلى سبيل المثال: في مجتمع باراجواي الثنائي اللغة، يميل المرء إلى استخدام اللغة الجوارانية عند الحديث مع شخص في الريف، لكنه يستخدم الإسبانية في المدن.4 وفي أماكن أخرى، قد يتحدَّث أعضاء الأقليات لغة الأغلبية عند وجودهم معًا في أماكن عامة، ويستخدمون لغتهم في منازلهم (لاحظتُ هذا في الشباب القادمين من شمال أفريقيا الذين يعيشون في فرنسا). تمثِّل رسمية الموقف أيضًا عامِلًا مهمًّا؛ فعلى سبيل المثال: في سويسرا لا يستخدم عادةً أعضاءُ الحكومة الفيدرالية اللغةَ الألمانية السويسرية عند إلقائهم خطابًا في التليفزيون (بل يستخدمون الألمانية)، على الرغم من أنهم قد يستخدمونها وهم ذاهبون إلى الاستوديو لإلقاء الخطاب، ومع أصدقائهم وزملائهم بعد ذلك. بالطبع يكون وجود أشخاص أحاديي اللغة أحدَ العوامل المهمة للغاية؛ فكثيرًا ما رأيتُ الموقف التالي: تتحدَّث مجموعة من الأشخاص بلغةٍ ما معًا حتى يأتي شخص أحادي اللغة يتحدَّث لغة أخرى، فيتحوَّل الجميع إلى استخدام هذه اللغة من أجل إشراك هذا الشخص في الحديث؛ لكنْ تتحوَّل هذه المجموعة مرة أخرى إلى استخدام اللغة الأولى عندما يُجرِي هذا الشخص الأحادي اللغة حوارًا جانبيًّا، أو عندما يتنحَّى جانبًا لبضع دقائق! للأسف، قد يتعرَّض المرء إلى الإقصاء أحيانًا لأنه لا يُجِيد لغةَ الآخرين (أو لا يجيدها بالقدر الكافي). يمكن أن يكون هذا أمرًا محبطًا للغاية، وعادةً ما ينتهي هذا الموقف سريعًا؛ فإما يذهب الشخص وإما يُشرِكه الآخَرون في حديثهم، حتى إنْ كان هذا يعني أن يترجم له شخصٌ ما النقاطَ الأساسية التي يتحدَّثون عنها.

فيما يتعلَّق بمحتوى التفاعُل، فقد ناقشنا هذا بالفعل عند تناوُلنا مبدأَ التكامل؛ فبعض الموضوعات يُفضَّل ببساطةٍ الحديث فيها بلغة معينة دون الأخرى، وقد يغيِّر ثنائيو اللغة، عند تحدُّث بعضهم مع بعضٍ، اللغةَ الأساسية عند تغييرهم للموضوعات. في باراجواي مرة أخرى، يجري التعامُل في المدارس والمسائل القانونية والتجارية باللغة الإسبانية بدلًا من اللغة الجوارانية. أنا أعرف أنني أغيِّر اللغة الأساسية عندما أتحدَّث، على سبيل المثال، عن عِلْم النفس المعرفي مع ابني، الذي أتحدَّث معه عادةً بالفرنسية؛ فكلانا لديه مفردات أكبر باللغة الإنجليزية في هذا المجال، ومن الأسهل علينا الانتقال إلى التحدُّث بهذه اللغة عندما نريد الحديث عن بعض الأبحاث الحديثة.

أخيرًا، بالنسبة إلى الفئة الرابعة — الغرض من التفاعُل — لا بد أن نضع في أذهاننا أن الناس يتواصلون عادةً من أجل تحقيق شيءٍ ما، وليس لمجرد نقل معلومات إلى شخص آخَر؛ لذا يوجد كثير من الأمثلة على اختيار لغة معينة من أجل رفع مكانة المرء، أو لخلق مسافة اجتماعية، أو لإقصاء شخصٍ ما، أو لطلب شيءٍ ما، أو لإعطاء أحد الأوامر؛ على سبيل المثال: ذكر جيرارد هوفمان في دراسة أجراها أن بعض المشرفين على العمال البورتوريكيين في المجتمع البورتوريكي في مدينة جيرسي سيتي، في ولاية نيوجيرسي، يغيِّرون لغاتهم عند تغيير الأدوار التي يؤدونها؛ فيتحدثون بالإسبانية إلى غيرهم من البورتوريكيين أثناء وقت الغداء، لكنهم يتحدثون معهم بالإنجليزية أثناء ساعات العمل، عندما يتحوَّلون لدور المشرفين على العمال.5 أما فيما يتعلَّق بإقصاء شخصٍ ما، فجميع الأشخاص الثنائيي اللغة «يتلاعبون» باختيار اللغة، على الرغم من تعرُّضهم دومًا لخطر تحوُّلِ الموقف إلى موقف محرج يأتي بنتائج عكسية. أخبرتني سيدة شابة أمريكية من أصل يوناني ذات مرة عن موقفٍ حدَثَ لها عندما كانت تجلس في مطعم مزدحم بالطلاب مع صديقةٍ تتحدَّث معها عادةً بالإنجليزية. ثم تحوَّلتا إلى الحديث باليونانية حتى يستطيعا التعليق على الناس من حولهما، ظنًّا منهما أن أحدًا لن يفهمها. وبعد بضع دقائق، طوى أحد الأشخاص الذي تحدَّثتا عنه صحيفته، والتفت إليهما وقال لهما بابتسامة عريضة «إلى اللقاء» باليونانية.
تفسِّر عدة عوامل مجتمعة عادةً سبب اختيار الأشخاص الثنائيي اللغة لِلُّغة التي يستخدمونها، وتكون لبعض العوامل أهميةٌ أكبر من عوامل أخرى. كتبت جوان روبن، في كتابها الكلاسيكي عن الثنائية اللغوية الجوارانية-الإسبانية في باراجواي، تقول إن ثمة ثلاثة عوامل (وهي: الريف، والمدرسة، والوظائف العامة في العاصمة) تحدِّد بوضوح اللغة المستخدَمة (الجوارانية بالنسبة إلى العامل الأول، والإسبانية بالنسبة إلى العاملين الآخَرين)، لكن العوامل الأخرى من الأفضل وَضْعها في شجرة قرارٍ من أجل ترتيبها.6 يأتي على قمة هذه الشجرة عامل المكان، يليه الرسمية، ثم الألفة، ثم جدية الحوار، وإذا كنتَ لا تزال محتفظًا بتركيزك، فلا تزال ثمة ثلاثة عوامل متبقية: أول لغة مكتسبة، ومستوى الإجادة المتوقَّع من الشخص، وجنس المشاركين. لا تحتاج كل القرارات اللغوية إلى الخوض في العديد من الخطوات، لكن يظل اختيار اللغة عمليةً معقَّدة، حتى إن كان سلوكًا مكتسبًا يحدث بسلاسة وبسرعة. عادةً لا يدرك ثنائيو اللغة العواملَ الكثيرة الموجودة وراء اختيارهم؛ فهذا مجرد جزءٍ من طبيعتهم الثنائية اللغة.
على الرغم من المحاولات المضنية التي يبذلها المرء من أجل تحديد اللغة المناسبة لسياق معين، فقد لا يتمكَّن من الوصول لحلٍّ مُرْضٍ. تعرَّضْتُ لمثل هذا الموقف عندما كنت أجلس أنا وزوجتي في مطعم في الجزء الألماني من سويسرا في أحد الأيام؛ لاحظتُ أن الأشخاص الخمسة الجالسين على الطاولة المجاورة لطاولتنا لا يتحدَّثون جميعًا اللغات نفسها. رسمتُ مخططًا للوضع على طاولتهم عندما عدتُ إلى المنزل (انظر الشكل ٤-٣)؛ كان من الواضح أن الوالد والوالدة والابنة من بين هؤلاء جاءوا في زيارةٍ من الولايات المتحدة، وقد دعوا جدة هذه الابنة لأبيها وأختها على العشاء. كان الوالد والابنة يتحدثان بلغتَي السيدتين الهَرِمتَيْن (الألمانية والفرنسية) بالإضافة إلى الحديث بلغة الأم الوحيدة (الإنجليزية). وضحتُ في الشكل مَن كان يتواصل مع مَن، واللغة المستخدمة في ذلك (يرمز «ج» لِلُّغة الإنجليزية، و«م» للألمانية و«ف» للفرنسية). أوضحتُ كذلك، باستخدام الخطوط المتقطعة، الأشخاص الذين لم يستطيعوا التواصُل بعضهم مع بعضٍ؛ الأم مع الجدة، والأم مع خالة الأب. لاحِظْ أن ثمة شخصين كانَا محورين طوال الوقت؛ الأب والابنة؛ فقد كانا يعرفان اللغات الثلاث ويستخدمانها؛ ومن ثَمَّ استطاعا تسهيل عملية التواصل. إن هذا مثال جيد على التعقيد الذي قد يواجِه المرء في مواقف اختيار اللغة، وأيضًا على حقيقة أن بعض الأشخاص قد يُهمَّشون عندما لا تكون لديهم معرفةٌ بلغة (لغات) الآخَرين. كذلك يوضِّح مدى أهمية الوسطاء؛ فهم يلعبون دورًا محوريًّا قد يكون مُرهِقًا جدًّا في بعض الأحيان.
fig5
شكل ٤-٣: اللغات المستخدمة على طاولة عشاء.

يوضح مثال آخَر كيف يمكن لعاملٍ نرى لأول وهلة ضرورةَ أن يلعب الدورَ الأهم في اختيار اللغة الأساسية، أن يُوضَع جانبًا لبعض الوقت من أجل عامل آخَر أقل أهميةً. كنتُ أجلس في مكتبي في أحد الأيام عندما جاءت إليَّ طالبة وسألتني بالفرنسية، بتردُّد بالغ ولكنة أمريكية واضحة، إنْ كنت أنا جروجون. أجبتها بالإيجاب، ونظرًا لإدراكي مستواها الضعيف للغاية في اللغة الفرنسية، وإدراكي أهميةَ التواصُل الجيد فيما يتعلَّق بالموضوعات الإدارية، اقترحتُ عليها بالإنجليزية استخدام الإنجليزية في التحدث، لكني فُوجِئت بأنها لم تقبل عرضي، واستمرت في التحدُّث بلغتها الفرنسية الضعيفة جدًّا، التي وجدت صعوبةً في فهمها. سألتها مرة أخرى، بالإنجليزية، إذا كانت تريد تغيير لغة الحوار إلى الإنجليزية، فردَّتْ عليَّ، بالفرنسية، قائلةً إنها أتَتْ إلى سويسرا لتتعلَّم الفرنسية وتريد التحدُّث بها؛ وعليه، استمرَّ الحديث بيننا بالفرنسية، لكن نظرًا لعدم تأكُّدي من أن كلًّا منَّا كان يفهم الآخَر، أعطيتُها بعض الأوراق لتأخذها معها وأنهينا الحوار. عند استرجاعي لهذا الموقف، أعتقد أنه كان يُفترَض عليَّ أن أوافِق على تأدية دور معلم اللغة لها، وتلبية رغبتها في التحدُّث بالفرنسية، لكنه كان يومًا حافلًا ولم أكن أرى أننا نتواصل جيدًا. مع ذلك جعلني هذا أشعر بالامتنان أن معظم حالات التواصُل في مواقف اختيار اللغة تكون عادةً أكثر سلاسةً وفاعليةً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤