الصباح الذي حلَّ قبل بدء الرحلة

يوم جاءوا به إلى هذه المدينة العجيبة، ذات الأسوار العالية، بكى والدُه الفلاح العجوز — الذي لم يُغادر قريته أبدًا — وسالت دموعه وهو يتأوَّه بحُرقة أمام البوابة الرئيسية، لحظة شاهدَه عاريًا كما ولدته أمه، يعبُر الطرقة بلا خجل، خلال الباب الضيق إلى صالة الاستقبال، حيث كان طابور من العساكر الأُميِّين يقف في استقباله رافعًا العصي الخرساء على كتفِه، وجفَّف الوالد دموعه في الملابس التي كانوا يلقُون بها إليه قطعةً وراء قطعة، بعد أن ينتزعوها بقسوة من فوق جسد طفلِه، تحت وابل العصي والشتائم، ووجد بقية من قُدرة ليغمُره بنصائحه دون أن يُدرك فوات الأوان: كان ما لنا ولهذا، إن أحدًا منهم لم يعرف طريقَه إلينا أبدًا. نحن قوم فقراء يا ولدي وضعاف، عملُنا هو أن نزرع برسيم البغل الذي يعبُده أسيادنا. نحن الكوبري الأزلي الذي يعبُر فوقه الملوك والغزاة، وتمرُّ فوقه العصور — الكوبري يا بُني لا يتمرَّد على الأقدام التي تعبره — والنيل لا يسأل عمن يشرَب منه، ولا عمَّن يتبرَّز فيه.

– أرهقتَني كثيرًا وظلمتَ أخواتك البنات. من سيتقدَّم إليهن بعد اليوم، وهم يلقون بملابسك هكذا في وجهي، دون اعتبارٍ لما دفعتُه فيها؟ أنا الذي كنتُ أظن أنها ستزيدك قيمةً واعتبارًا، لقد عرقتُ وتعبت في حقول الناس، وسدت بذور قمحهم وكتانهم لحمي، وسقيتُهم ماء أيامي ودموع عيني، وكان أملي أن أكسو جسدك وأستُرك، وها أنت تتركهم يُلقون بها في وجهي بلامبالاة … يا للجحود! مليون سنة كاملة مضت، لم نفعل ما يُغضب العبد أو الرب، لتأتي أنت على آخِر الزمان، فتُبيح لهم ساحتنا. قلت لك كثيرًا، لا تفرح أكثر من اللازم، نحن لا فرح لنا … قلتُ لك كثيرًا لا تحلم أكثر من المعقول، فأحلامنا مَشانقنا. قلت لك ابتعِد عنهم، فهم طينة أخرى، لكنك آثرتَ الاقتراب منهم لتُنافِسهم … أتظنُّ أنك ندٌّ لهم؟ أنت مُغفل، وأنا الذي حسبتُ العلم والتعليم سيُهذب من طباعك وأخلاقك ويَحميك … آه!

– يا ليتني كنتُ قد ربيتُ بهيمة! كانت ستُعطيني وتُريحني، لماذا يا رب رزقتني بمن يأتي ليفسد في آخر عمري سجلَّ حسناتنا؟ الوالي أطيب خلق الله، لكنك جاحِد، هكذا كنتم منذ آدم وإلى الأبد، هو يفعل كلَّ ما يستطيع لخَيرنا، وأنت تسير عاريًا بين الحرس لتُفاخر بدناءة أصلك، يا ولدي أطعني، افعل ما يُريدونه لأنه لا يجب أن تفعل ما لا يريدون. هكذا الحياة، ولقد وعدوني. وعدني حضرة الضابط … إنه ابن أصول وقادر على أن يفي بوعده … بالتأكيد سيفي بوعده.

•••

ملأ وجه أبيه المذعور الفراغ المُحيط به، لحظة اصطدمت به كفُّ رئيس النوبة في قسوة وعنف. تطاير خياله شظايا، قبل أن يغيب الوجه المرهق العجوز عنه نهائيًّا، خلف الباب الثقيل العتيق، ذي الصرير الشيطاني، والذي أُغلق في عنف وقسوة، ليحُول دون اتصال النظرة الهلعى بين الطفل والعجوز. لكنه استطاع أن يراه رغم القناع الأسود القاتم الذي أدخل رأسه فيه، ورغم الخشب الأثري السميك، رآه يعصر كومة القطن والصوف التي تنضح برائحة العرق المألوف، والتي تبقَّت له من (ضناه)، في رُعب وذهول، وسمِعه ينشج في ذل، ويدقُّ بقوة سنوات عمره الطويلة المليئة بالشقاء، مُحتجًّا فوق الباب الأخرس، ثم متوسِّلًا كمتسول، ليسمحوا له بوداع وحيده، إن كان لا بدَّ من إعدامه، لكن القبضة الواهنة التي امتصَّت منها الحقول البخيلة ماء الحياة، عبر سنوات طويلة وحِقَب أزلية، لم تستطع أن تصل بصوت طرقاتها إلى أُذن كبير الحرس، الجالس في صدر الديوان السلطاني، فكفَّ عن المحاولة واستدار في فتورٍ ويأس، مبتعدًا عن سور المدينة الأخرس، حتى وصل إلى الشارع الرئيسي المرصوف، واستطاع أن يدسَّ نفسه داخل عربةٍ مزدحمة وهو مُتشبث بما تبقى له من ولده، وبعد أن نجح في العثور على مكان لقدميه وسط الزحام، سمعه بعضهم يهمس معتذرًا لمن يقف إلى جواره — وكان فحلًا عريض المنكبَين تبدو عليه النعمة — خشية أن يكون قد ضايقَه قائلًا في صوتٍ واهن مؤمِّلًا أن يشاركه أحزانه: على الأقل هو في أمان هناك؛ صدِّقني هو في أمان.

لم يبالِ الفحل به، ولكن ركابًا بسطاء من صيادي السمك والسمكرية، حدَّثوه كثيرًا عن تلك المدن، وعن ضربات الحظ المؤكدة، التي تهَب الراحلين إليها السعادة والغِنى وطول العمر.

حدثته امرأة سمراء عن أوراق مجهولة بها طلاسم ورموز، من استطاع فكَّها دلَّته الريح إلى طريق مدينة النحاس، ذات الشوارع المرصوفة بالبلور الصافي، والعذارى المُغنيات، والحمام الأخضر الذي يُصلي طول اليوم على النبي.

وأكد له شاب مقطوع أصابع اليد اليُمنى، حقيقة السينات الثلاثة، والاختيار الصعب، الذي يُكلف البعض حياتهم أو جزءًا من أطرافهم، ويكلف البعض الآخر رجولتَهم وقدرتهم على الإنجاب.

وحكى له عجوز أكثر منه خبرة، عن رءوس الفرسان المقطوعة من جدار الرقبة، والتي تُعلَّق في يوم السوق على الأسوار، لتظلَّ مكانها حتى يأتي الفارس الأخير ليُكمل الأربعين عدًّا، فتبدأ الطقوس مرةً أخرى، استعدادًا لبداية العام القادم، فتتم الدورة من جديد!

تذكَّر العجوز أيام كان ابنُه يقرأ له عن تلك المدن، في كُتب الأيام والتاريخ، فاستوثق وآمن واعتصم بحبل الله، لكنه لم يطمئنَّ تمامًا، إذ إنه تذكَّر عندما تركوه وحدَه بجوار السور الأصم الذي (لا طاقة له ولا علاقة)، فأخذ يبحث عبثًا عن تلك (السعفة الخضراء)، المزعومة، والتي تفتح السبيل خلال الأحجار الصخرية، لكن كفَّه لم تلمس — بسبب الظلام — أسفل الجدار، سوى بقايا حيوانات ميتة، وبشَر يحتضرون، ونفايات عضوية نتنة، فأخذ يُغري جاره الآخر المنسحِق بين الأجساد المُلتهبة بالعرق والضيق؛ مُسرِّيًا عنه قائلًا: صدِّقني هو في أمانٍ أكثر هناك، فأنا عندما أخذته إليهم مُختارًا، رأيتُ في عيونه نظرة عرفان، نعم أنا متأكِّد أنها نظرة عرفان عميقة. لقد كان متعبًا مُمزق الجسد، محترِق الجلد في أكثر من مكان، بسبب بقايا السجائر، وكان داميَ الوجه، ولكنه كان من أعماقه يشكُرني، فلم يكن مُمكنًا أن تستطيع أقدامُه حملَه أبعد من ذلك … وكيف يهرب وقد تخلَّى عنه أصدقاؤه، وكانت هي تخونه علانية، وهي تُقسِم أنها تُحبه، ألا تصدق؟ وأكثر من ذلك، لقد وعدوني بالمحافظة عليه وإعادته عندما يرضَون عنه … أقسم لكم جميعًا أن رئيس الحرس التركي ضحِك في وجهي وربَّت على كتفي، ووعدني أن يَعتبره في مهمةٍ رسمية بلا بدل سفر، بسبب نفاد البند، وعندما شكرتُه وهُم يجرُّونه بعيدًا، التفت نحوي يغمرني بعرفانه، ثم ذهب صامتًا معهم، ذهب بكامل إرادته، وتركني وحدي مُرهقًا متعبًا باكيًا، بسبب أفعاله، يا لنكران الجميل … فعلتُ كل ما فعلتُ من أجل مستقبله، ثم يتركني ويذهب معهم، أيُرضيكم هذا؟

لكن الصمت فقط هو الذي واجهه، وتشاغل أكثر الركاب بِعدِّ أعمدة النور والأشجار. وابتعد الفحل مُشمئزًّا، بينما مصمصتِ العجوز شفتَيها، وتنهَّد العجوز الأكثر خبرة، فاسترسل مخاطبًا تنهيدته المتعاطفة: نحن العواجيز عجزة بما فيه الكفاية … ويجب أن نتذرَّع بالصبر ونستغفر الله لخطايانا القديمة … فمن يستطيع أن يفهم حكمته في ذلك؟ ومن منَّا بعد كل هذه السنين، يستطيع أن يفهم أسرار تلك المدن، التي لا تفتح أبوابها إلَّا بقوة الكلمات التي يعرفها ابني بالتأكيد؟ هو مُتعلِّم بما فيه الكفاية. صحيح أنه لم يردَّ عليَّ عندما ناديتُه ليفتح لي، ولكن ماذا كان بيده أن يفعل؟ وهم لم يُعطوه فرصةً كافية ليُعلِّمني تلك الأسرار!

•••

وتذكر العجوز وهو يصعد سُلَّم البيت أن ابنه كان يهوى عدَّ الدرجات صاعدًا أو هابطًا، فأخذ يعدُّها إكرامًا لذكراه. وعندما وجده يجلس أعلى السُّلَّم في بنطلونه القصير مُغضبًا، تفجَّرت في قلبه ينابيع الذكريات القديمة، وتزاحمت تُسابِق بعضها فوق لسانه، عشرات الحكايات السعيدة التي سمعها أيام طفولته الأولى التي نَسِيَها، ابتسم ابتسامة مُتسامحة وحاول مصالحته، ولكن، ما إن فتحت له الأم الثكلى الباب، ولمحت ملابس وحيدِها قتيلةً بين ذراعَيه، حتى غاضت الابتسامة تحت لهيب نظرتها المتحجِّرة … وارتمى على صدرِها مُنتحبًا، كطفلٍ يرجو المغفرة لأنه بوغِت مُبللًا ملابسه الجديدة صباح يوم العيد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤