اليوم الذي أنكره فيه أهل القرية

حكيم القلب يقبل بالوصايا وغبي الشفتَين يصرع.

أخذ يشقُّ لنفسه طريقًا وسط بحر الملابس السوداء بصعوبة. كل نسوة القرية العجائز تزاحمنَ على درجات السُّلَّم، وحدث هرج ومرج، وارتفعت صيحات وصرخات تُنادي عليه، وأحاطت به الأذرع الجافة المعروقة والوجوه المُتغضِّنة، وتكلَّم الجميع في الوقت نفسه، يشكون له قلَّة الحيلة، والعجز عن التصدِّي لمن يسرقون أقواتهن، وأخذ الجميع يشدُّه يمينًا ويسارًا، والأفواه تكاد تلتهِم أذنَيه، والأعين تمسح دموعها في ملابسه، حتى بدا كقدِّيس من عصورٍ وسيطة، أو كتمثالٍ لربٍّ وثني بدائي وعاجز: سرقونا … نهبونا … أنت وحدك من سيُنجدنا. ليس غيرك من يستطيع الحديث إليهم بشدة … أنت تقدر أن تُوقفهم عند حدودِهم، وما أظلمها، كلهم لصوص وأنت تعرف … نقلوا اللبن إلى بيت الموظفين وأقارب العمدة، وما هم في حاجةٍ إليه. (ابن خضرة) يطلُب من كلِّ واحدةٍ منَّا عشرة قروش، من أين؟ يقول إنها إكرامية لمن هم فوق … معقول؟ هل يرضى من هم فوق بعشرة قروش؟ إنهم حين يريدون، يأخذون. ولكن ليس عشرة قروش أبدًا … إنه هو الذي يُريدها لنفسه. أنت تعرفه … حلفناك بأُمك الغالية ألَّا تتخلى عنا!

ولم يكن في نيتِه في أي يومٍ أن يتخلَّى عن أحد. لا يستطيع؛ هكذا كان وهكذا سيكون، حتى عندما صرخت فيه أمُّه وهي تتعلق برقبته: أنا قلتُ لكَ ولم تسمَع لي، لن يقف بجانبك أحد منهم عندما ستقع … أكثر من ذلك أنهم يَلعنونك الآن، وغدًا سينسَون كلَّ ما فعلت، مالك وكل هذا! لستَ وكيل الله على الأرض. الناس كالقِطط تأكل وتنسى، ولا يرى الواحد منهم إلَّا ما يُمسكه بيدِه، والكل لا يُمسك هذه الأيام إلَّا بجمرة نارٍ مُلتهبة تُعمي القلوب. البعيد عن العين بعيد عن الذاكرة، وأنت غبتَ كثيرًا يا ولدي، سنوات مضت منذ رحلتَ عنا … والبيوت أغلقت أبوابها على أبنائها، إلَّا نحن، ما زال بيتنا مفتوحًا مثلما أردتَ أنت.

ولكن لا أحد يأتي ليطلَّ علينا، كبِرتُ أنا ووالدك، ولا أحد يُحدِّث أباك إلَّا لضرورة أو لشفقة … أولاد عمِّك أعماهم الخوف، لم يذكروا أحدًا منَّا في نعي أبيهم … وأنا عندما ذهبت لأُعزيهم رغم ذلك، كل النسوة ابتعدنَ عنِّي وكأنِّي الطاعون نفسه … والآن يلجئون إليك، اطرُدهم من هنا، لا علاقة لنا بالعُمدة، ولا بلبن العمدة، هذه المرأة حرَّضت بنتها على عدم مُساعدتي في الغسيل، وهذه رفضت أن تذهب بالطحين إلى الوابور، والآن يأتون إلينا. يا ابني نحن خائفون عليك، والدك لم ينَمْ منذ ليالٍ من القلق. منذ جمعتَين مرَّ درويش غريب بالقرية، رجل مبروك ذهب للجامع وهو يُسبح الله في كل خطوةٍ ومع كل نفس، ذقنه كالحليب، وملابسه مُرقَّعة، من أهل الله هو، من أهل الله … اختلف الرجال فيما بينهم، كل منهم يُريد أن يأخُذه للغداء بعد صلاة الجمعة، حتى يُبارك له الله في زرعه وأولاده.

الدرويش أغمض عينَيه واستخار الله، واختار حسب وحي الله والملكوت، أن يذهب إلى بيت ابن عمتك، زوجتُه مبروكة ومن أهل الله. الخير حل بينهم بوصوله؛ ذبحوا دجاجةً التهمَها كاملة، والأولاد ينظرون إليه وينتظرون البركات. طول السهرة أقام الذِّكر وتلا الأوراد وسأل عنك، كان يريد أن يغفر الله لك … سأل عن أصحابك وعن مكان الكتب المدفونة في حقل القطن … من أدراه؟ لقد سأل عن الأوراق الملصوقة على جدران الجامع، وطلب تمزيقها، قال إن الحكومة تأتمِر بأمر الله، والسلطان خادم الدين، وأنه ورجاله مكشوف عنهم الحجاب، مالنا ومالهم … اللبن جاءت به الحكومة، تُوزِّعه الحكومة، حتى الدرويش قال هذا، وأبوك ضربني لأنني شتمتُ الدرويش، وقلتُ إنه يسأل كثيرًا، فكيف هذا وهو مكشوف عنه الحجاب؟ يا ابني ارحم نفسك … الله يرحم من يعرف قدْر نفسه!

الناس أدرى بحالها، لماذا تدُلُّهم على طريق الشر. الدرويش قال هذا، أتريد أن تقتلني مرة أخرى؟ حرام!

أنكره أهل الله وجانبَه الفرح.
صاحَبَه الشيطان وشقَّ ضلوعه.
غسل القلب المُتمرِّد في ماء جهنم.
سرق وكذب وعاشر قوَّادين وكهنة.
جامع صبيانًا ونساءً من لحمٍ وخيال.
لعن طريق الربِّ وسكبَ الزيت وداس الكسوة.
وأبحر ملعونًا في كتب الثورة والرحلات.
أضلَّ الله مَراكبه في بحر الظلمات!

في يوم الجوع الأول، مرض البحارة بالإسقربوط، فأكلوا الخروع وجذوع الشجر الصحراوي، وبعضهم مات من الخوف، وفي يوم الجوع الثاني، أكلوا قُربان الرب وسرقوا زيت التقدمة، ونتفوا ذقن الشيخ من الغَيظ، وفي يوم الجوع الثالث، سكن الموج وماتت كل رياح الدنيا، وانفجر البركان الساكن منذ التفاحة، فانعكست كل الآيات، وظهرت آثار اللعنة.

وفي يوم الجوع الأكبر، ذبحوا زنجيًّا صادوه من الشاطئ، فارتعبت جنيَّات البحر، ولعنتهم آلهة الحجر وربات الرحمة، ولكن البحر انشق وظهرت للعين الحبة.

نزلوا للماء طلبًا للتطهير، فلم يغسلهم بحر الماء.

جُنَّ الربَّان ونتف اللحية، وسلَّم لليأس شراعه. في آخر أيام اللعنة، شقَّ الحوت الكافر بطن سفينتهم حتى الموت!

•••

ألقى الموج به وحيدًا فوق الجزيرة الوارفة الظل، ذات النخل القزمي، والرمل الناعم الذي يعشق أطراف أنامِله. أخذ يبحث عن رفاقه الذين انتشروا يُصلحون الأرض الجرداء، وقد أذلَّه الجوع وهدَّه الندم!

لم تُبارح جثتها خياله … حتى وهو مُعلَّق فوق صدر الموجة التي حملته إلى الشاطئ. خُيل إليه أنه يلمس جسدَها حيًّا نابضًا، فحمد الله على نجاته.

مدَّ ذراعَيه على طولهما، وتشبَّث بصخور الشاطئ، وغاصت أصابعه في الرمل الذي له طعم اللحم الغض، لمحَها تنظر إليه، وأكَّد لنفسه أنه يرى في عيونها نظرةً لا توحي بأي معنًى شرير أو وشاية … انتظر أن تأخُذ بيدِه، لكنها بدَتْ ميتة في سرير عشيقها، والدماء تنحدِر نحوَه كالموج الصخاب!

•••

عندما عثر عليه الشيخ الطيب، ذو اللحية التي كانت في لون اللبن الحليب، والوجه الصبوح، كُتبت له حياة جديدة، كما أكد له في حنان.

ولمَّا بكى لأنه نَسِي من أين جاء، ربَّت الشيخ على كتفِه وطلب منه أن يحكي له عنها.

أحس براحةٍ لذيذة وهو يحكي من بين دموعه قصَّتها معه، منذ رحل إلى المدينة العجيبة، حتى موتها أمام ناظرَيه، كانت تخرج إليه في الليل رغم الحرس الطائف بالمدينة، لكي تُطعمه أو تُخفيه أو تنقل رسائله السريَّة.

وعندما حلَّت سنوات القحط والهزيمة، ظلت على إيمانها، وانطلقت تتغنَّى باسمه في كل مكانٍ وهي تبحث عنه. ورفض أهلُه أن يدلُّوها على مكانه، ولمَّا حلَّفتهم بكل عزيز، رفض أهلها السماح لها بذِكر اسمه، أو الصلاة من أجلِه! أصدقاؤه اتهموها بخيانته والتجسُّس عليه، ولكنها صعدت إليه الجبل، رغم رصاص الأعداء، وقاتلَتْ معه، وإن كانت غير مُقتنعة بأي سببٍ للقتال، غير أنها مريضة حبًّا!

احتضنه الشيخ الطيب، ونصحه بالبكاء كما يشاء، حتى يغسل الدمعُ غربتَه وندمه، ويزيل ذنوبه، ووعده بأن يغفر له كل خطاياه، وقال له: لست وحيدًا الآن، فنحن معك. فقط استمرَّ حتى يُطهرك الاعتراف، سنُعِدُّ لك السفينة، ونجهزها لك بكل ما نَدر من ثروات وتُحَف وبضائع … وسنأتيك ببحارةٍ أكثر قوة وفتوة!

سنُوسِّع خطواتك ونُعيد إليها الحياة، وبفضلنا سوف تُدرك أعداءك وستُفنيهم، ومثل طين الأسواق تدوسهم، وتسحقهم كتراب قدام الريح، فقط، لا تتوقف عن الحديث، واحملني للشاطئ الآخر، ولا تجعل ماء الجدول يلمسني.

•••

غسل كلام الشيخ الأحزان، فأحسَّ ببعض القوة، وبالقُدرة على تحريك لسانه وشفتَيه … وحملَه على كتفَيه، وعبر به الجدول … وهناك انتظر في أدبٍ أن يشكُره، ثم ينزل عن كتفَيه، وأن يُحرر رقبتَه، ولكن الشيخ لم يفعل: ظنَّه نائمًا، فهزَّه هزًّا رقيقًا … لكنه لم يستجِب … بدأ الشك يزحَف مرة أخرى إلى قلبه، وحاول تذكُّر أين سمِع صوته من قبل، حاول أن يفكَّ ساقَيه عن رقبتِه، ولكنه أحسَّ لهما ملمسًا معدنيًّا، كاد يصرُخ من الرُّعب، وأصابته الهستيريا وهو يستجمع قوَّته، في محاولة للتخلُّص من قبضة السيقان المعدنية، لكن محاولاته لم تفلح، سوى في جعلها أشدَّ صلابةً وقوة حول رقبته … بكى من الذُّلِّ والقهر والعجز وقلَّة الحيلة.

•••

أفاق على صوت ضحكةٍ ساخرة ماكرة، فانتفض، واقشعرَّ بدنُه عندما تعرَّف على مصدرها، وفتح عيونه ليتأكد، كانت رأس الأحدب تُحملق فيه، وقد كشَّرت عيناه عن ابتسامةٍ مُداهنةٍ خبيثة، وأمره أن يستعدَّ للزيارة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤