المساء الذي قاربت فيه الرحلة على الانتهاء

أحسَّ قبضة الحارس تخفُّ عن كاهله، لكنَّ وقتًا طويلًا مضى قبل أن يكتشف أنه يسير وحدَه في الدهليز الخالي، وسمع لوقع خطواته رنينًا ذا صدًى معدني مُخيف.

توقف يتسمَّع. وتأكد أن أحدًا لا يتبعه بالفعل، فكفَّ الرنين ومات الصدى، ولأول مرةٍ منذ جاء إلى هذا المكان، أحسَّ الخوفَ ينهَش قلبه ككلبٍ وحشي. خوف غريب بعثَه الفراغ المُريب الذي يُحيط به، لقد كان وجود الآخرين يُعطيه الأمان، الذي أعطاه له صوت الآلة الكاتبة، عندما سمِعها تكتب حروف اسمه في الدفاتر الرسمية ليلةَ وصوله.

طارده الخوف، فانطلَق يجري مُضطربًا، وقد تسارعت دقَّات قلبه وانتفض نبض الدم في عروق رقبته وأُذنيه، وأحسَّ بإغماءٍ خفيف، فحاول الاستناد إلى الحائط، ولكنه فزع لمنظر الدماء والزيت الجاف المُحترق، والتاريخ الراكد المُتراكِم فوق الحجارة. فتماسك وظل يجري وأقدامه تتعثَّر في خوذات مهشَّمة، وخناجر يسيل عليها دمٌ حارٌّ حي، وملابس مُمزقة وأشلاء بشرية مهروسة.

عشِيَت عيونه عندما غمره النور المفاجئ في نهاية الدهليز، فاستند إلى الجدار مُضطرًّا، حتى تعوَّد على الرؤية، فأجال بصره في الحوش، كان ثمة بعض الرهبان في ثياب سوداء، يذهبون ويجيئون وهم يتناقشون في عصبية، وقد عقدت خطورة الأمر سنوات العمر فوق جبينِهم، وجعلتهم لا يهتمُّون بجثة الفتاة المذبوحة المُسجاة على الصندوق.

لكن رجلًا عاريًا خرج من بئر المازوت، وهو يلوِّح بذراعَيه طالبًا غفران المولى — فبدا كمن يُحاول إخافة الأطفال، أو مُشاغبة المعتوهين — اتجه نحوَها وأخذ يحتضِنها وهو يبكي بكاءً مرًّا، وهو يُهدد ويتوعَّد. وعندما انتهى من تلطيخها تمامًا بالمازوت العالِق بجسمه، أشعل فيها النار وهو يتغنَّى بالنشيد القومي، ويدور حولَها في خُطًى عسكرية.

خاف أن يُلاحظ رجل المازوت، أن ثمة تشابهًا بينه وبينها، فانطلق ناحية العنبر، لكنه لم يسمع صوت الأطفال يملؤه بالحياة والمرَح كالعادة، فأحسَّ بسكينٍ تنغرز في لحم صدره، عندما مرَّت بخاطره الفكرة؛ هل يمكن أن يكونوا قد أغرقوهم في المازوت في غفلةٍ من الرهبان المتجادِلين؟ لكنه استعاد هدوءه عندما لاحظ أنه ليس هناك أي أثر لحرائق أو وقود. فتح الزنزانة الأولى والثانية فلم يجِد أحدًا، ولم يتبيَّن أي آثار لعنف، فهدأ خوفُه قليلًا، فمع أنه كان يكرَه، حتى الموت، عيونهم اللزجة، وأسنانهم التي سوَّدها الدخان، إلَّا أنه كان يأنس لضجيجهم حول زنزانته، ويتزوَّد بنظرات التعاطُف التي كانوا يُودِّعونه بها، كلَّما سحبوه إلى غرفة الجهيز، أو أيقظوه في منتصف الليالي للتحقيق معه، وأحسَّ بشوقٍ جارف لرؤية الأعور، أو الأحدب أو … حتى الحارس، الذي ربما احترفت زوجتُه الزِّنا، لأنه لم يستطع توفير السجائر له أثناء نوبة حراسته!

جلس على السُّلَّم ليستريح قليلًا من عناء الفكرة التي راودته، والتي شرخت قلبه خوفًا على الأطفال، وفكَّر أن يُنادي عليهم لإنقاذه من وحدته، عندما لمح أحدَ الأقدام الغضَّة تتدلَّى من أحد الأبواب في الدور العلوي، فانتابه الفزَع وتحامل على نفسه، وصعد السُّلَّم مُستندًا إلى السياج، حتى وصل إلى الباب، وحاول دفعَه، لكن الباب رفض الاستجابة، فمدَّ يدَه ليُزيح ما خلفه، فغاصت يدُه في كومة مهولة طرية من الأشلاء والدماء. لقد ذبحوهم جميعًا ولم يجدوا وقتًا لحرقهم. أخرج يدَه من بين أسنانه بصعوبة، وجمُد الدم في عروق عينَيه المفتوحتَين رعبًا، وتحشرجت في حنجرته صيحة ألم بربرية، انطلق في إثرها يجري صارخًا مثل كلبٍ مُحاصر.

•••

استقبلته الشوارع الخالية بلا ترحيب، مثلما فعلت قريتُه في زمنٍ لاحق، لكنه أخذ يُمنِّي نفسه بلقاء بشَر آخرين، إذا ما ابتعد عن مركز الأحداث، فظل يجري.

وهدأ قليلًا عندما أخذ يؤكد لنفسه أنه على وشك النجاة، فقط عليه الوصول إلى الشاطئ. وعندها سوف يحرق ثيابه لتراه أي سفينةٍ تأخذه إلى بلاده، وعليه الآن أن يجد الطريق إلى البحر بنفسه، وأن الفرصة لن تتكرَّر، والقاضي لن يُصدر أية أوامر لملاحقته، لأن الأوامر الجديدة لم تصل إليه بعد. والحرس مشغولون بالقتال مع الحرس، أو بذبح الأطفال والنساء.

والهوجة قد تستمرُّ على الأقل يومًا أو يومَين.

يمكن أن يُفلت إلى الأبد من غرفة التجهيز.

ولمح شاطئ الأمان يقترِب بشكلٍ مؤكد، فارتاحت نفسه لأن عذابه لم يكن سُدًى، وسيغفر له والده وأمُّه ووالدها وأهل قريته كلهم، عندما يعرفون إلى أي حدٍّ احتمل، حتى لا يشي بهم. وكيف واجه دون أن يُفكر لحظة، في خيانة أحدٍ منهم، أو ازدراء من ضعفوا، حتى صاحب دكان السجائر والجيران الذين نهشوا لحمَه، ودلُّوا أعداءه على مكانه، إنه يغفر لهم جميعًا لأنه يُحبهم.

وتأكد أن حياته لم تكن عبثًا، فوصوله إلى الشاطئ يمكن أن يكون مُبررًا كافيًا لحياته السابقة، بل إن حياته سوف تتأكَّد ضرورتها، عندما يعود إليهم ليبدأ معهم من جديد!

سوف يتأكد من توزيع لبن المعونة على العجائز، رغم أنف العمدة والطبيب، ولن يستمِع لاعتراضات أمِّه وعتابها المشوب بالأنانية، وسيُقنِعها أن رحلته ومعاناته، لم تكن من أجل أن يسمح لأعدائه بالاستيلاء على مئونتهم، وسوف يعِدُها بتعويضها عن حرمانها الطويل، بأن يُعيد لوالده العجوز بقَرَته واحترامه، وسيؤكد له أن عذابه — رغم عتابِه الجارح — كان من أجل تحقيق أهدافه البسيطة.

وابتسم عندما تخيَّل كيف ستستقبله المرأة ذات الفخذَين الهائلَين، عندما سيدخل شارعهم القديم، وكيف ستبتسِم له، ثم تسبقه إلى الداخل، وكيف سيتبعها لترجوه في دلالٍ أن يستلقي على البرسيم الأخضر الطري، تحت البقرة مثل (البو) لتدرَّ كل ما في ضرعها من لبن.

وأقسم بينَه وبين نفسه أنه سوف يفي بوعده، ليتزوَّج البنت ذات الضفائر المُبتلة، لكي يُنقذها من قسوة أمِّها وجنون أبيها، وسيفعل كل ما في وسعه، كي يمنع زوجة السباعي من (سفخ) كلبها بالحجارة، عندما يجري نحوَه متعرِّفًا عليه.

وسيُشارك صاحبه القديم، في إعداد المعجنة وضرب الطوب، وسيشوي لأولاده الذرة في عين (القمينة)، وسيُنافسه في إنجاب الأطفال الضاحكي العيون، ويُعاونه في إبعاد خطر الحرس التركي والسجائر عنهم.

•••

تعثر في أحد الأحجار الناتئة، فانتبَهَ إلى أنه ما زال يجري في الشارع المرصوف بالحجارة السوداء، وأن لوقع أقدامِه ذلك الرنين لا يزال، وأنَّ الصدى الرهيب ما انفكَّ يُطارده، فأحسَّ بإحباطٍ هائل، وانسحب إلى حارةٍ جانبية، كي يلتقِط أنفاسه، وليتبيَّن موقفه جيدًا، وليبحث عن حمايةٍ ما.

كانت الحارة التي عرج عليها مألوفة فابتهج قلبه.

كانت تموج بالحركة والضياء وأصوات الناس، فاحتضن فراغها بحُب، واندفع يملأ منها صدرَه وعينَيه.

كانت الداية تجلس على حجَر رشيد، تبيع (فول نابت)، وتنهر طفلًا سرق حبتَين، وتُفاصل رجلًا يحاول أن يسرق منها مليمًا.

وقف على رأسها فالتفتت إليه مذعورة، ومدَّت يدها، ظنَّها تُريد مصافحته، لكنها أسقطت في كفِّه شلنًا، فشكرَها وتركها ونظرةُ شكٍّ وغيظ تُلاحقه، ودعوة صامتة تلعنه هو وأمثاله من الجبارين وآكلي الحرام.

لمح المرأة ذات الفخذَين، تقف أمام بيتٍ ذي عتبة عالية، واستطاع أن يتعرَّف على ملامحها بالرغم من الصبغة الفاجرة التي تُغطي وجهها وشفتَيها … فقد كانت تكشف عمدًا عن فخذها الوردي، وهي تنفُث دخانًا كريهًا كاد أن يَخنقه. عندما اقترب لم تسأله عن حاله، ولكنها سألته عن مقدار ما معه من دراهم. ذكَّرها بزوجها فضحكت في عُهر. لمَّح لها بيوم البقرة والبرسيم فاشمأزَّت، واستدعت رجلًا جهمًا، تُحيط بذراعَيه أساور حديدية، فآثر السلامة وانطلق إلى الجهة الأخرى، حيث كان الحارس التركي والقاضي ذو السُّترة الذهبية، يُقطِّعان ويبيعان لحمًا موشومًا بوسومٍ غريبة. فانطلق مُبتعدًا يجري وسط زحام الخلق، وقد امتدَّت على جانبَيه إلى مدى البصر دكاكين ملونة ومضيئة، عُلقت على واجهاتها نماذج طائرات شحن من البلاستيك، وأكياس (أنفورا)، وصورة سلطان جديد يرفع صولجانًا ذهبيًّا.

•••

سمع صوت ابنة عمِّه ذات الصدر البري تُناديه، فرقَّ قلبه، والتفت إليها فرحًا، ولكنها لم تُعطه أي فرصة كعادتها، إذ طبقت على كفِّه وجذبته نحو مِدْوَدِ الأغنام، تحت النخلة الحيَّانية، ولكنها لم تكن تلهث هذه المرة، إذ أجلسته في حدَّة، وأخذت تُحدثه بكل جديَّة، حكت له كل ما جرى لأهله في غيابه، وأكدت أن عليه أن يعود من حيث أتى، فليس هناك الآن من هو على استعدادٍ للتستُّر عليه، علاوة على أن رجال السلطان الجديد يُحاصرون القرية والعِزَب المجاورة، و(جابوا عاليها واطيها) بعد أن أودعوا والده الموريستان، لأنه منذ رحل، لا يكفُّ عن الحديث عن رحلته وقُرب عودته.

لم يُصدق ما يسمع، ولكنها ذكَّرته بحبها له، وأنها لم تكن تطلُب منه الابتعاد أكثر مما فعل إلَّا (للشديد القوي)، ولو علم أبوها بما فعلت لذبَحَها، فالأحوال صعبة، وكل واحد مُطالب الآن بإظهار ولائه بشكلٍ ما.

لم يجد ما يقوله، فاعتذرت بضرورة ألَّا يراها أحدٌ معه، ودلَّته إلى طريقٍ غير مأهول، يمكن أن يصِل به إلى حافة الصحراء، وهناك قد يعثر على قافلة تجار، أو عصابة مطاريد، يُوصلونه إلى الشاطئ، وطلبت منه أن يُسرع، فالكل مشغول بالاستعداد لحفل التتويج السلطاني. وقبل أن يرد … قبَّلته، واختفت وسط جيوش الباعة الجائلين، ومُنادي السيارات، ولاعبي الورق، والحواة، الذين أحاطوا به من كل جانب، وقد أثارتهم ملابِسه الغريبة، والتي تبدو كملابس سائحٍ من بلاد متخلفة غنية، لكنهم عندما عرفوا بإفلاسه، سبُّوه وسبُّوا أمَّه، وطلبوا منه أن يذهب ليقتُل نفسَه غرقًا في المجاري.

لم يكن في خطته أن يستنجِد بأحد الحراس، ولكن عدم وجود حرَس من أي نوع، بدا له أمرًا غريبًا، فهو لم يعرِف أن أوامر مُشددة أصدرها السلطان الجديد، قضت بعدم نزول الفرق العسكرية إلى الأسواق، تجنبًا لتحدِّي مشاعر العامة، والاستعاضة عنهم بآخَرين من نوعِهم يرتدون الملابس المدنية، ويُمارسون كافة أعمال الناس.

لو أنَّ أمَّهُ قامت من (طُربتها)، ولو أن والده عاد كما كان، يُطعم البقرة في هدوء، أو لو أنه سمِع بأذنَيه حُكم البراءة والسماح له بالعودة إلى قريته، لما رقص قلبه سرورًا مثلما رقص … ساعة خرج عليه الأحدب من وسط الزحام، فاتحًا ذراعَيه في ترحابٍ وحُب.

احتضن صديقَه وسار معه، وقد جاشت مشاعره، فلم يتمكَّن من النطق بحرفٍ واحد، لكنهما تبادلا كثيرًا من النظرات ذات المَعنى، وتبادلا الضغط على الأذرُع في ودٍّ، والربت على الظهر والخدود في حنان.

كان الأحدب نظيف الثياب بشكلٍ ملحوظ، ويُدخن سيجارة أمريكية، ولمَّا سأله عن الأحوال، وكيف نجا من المذبحة، وكيف سارت معه الأمور، طمأنه الأحدب ببساطةٍ قائلًا أنه وجد عملًا مريحًا مربحًا، وأنه لن يلبَث أن يشتري عربة، يُحولها إلى تاكسي يعمل عليه بنفسه.

تمنَّى له كل توفيق، وطلب منه أن يُساعده على الخروج إلى الصحراء، حتى يجد الطريق الآمِن إلى شاطئ البحر، لأنه لا يستطيع التمييز بين الناس والشرطة، ويخشى أن يطلُب أحد منه أوراقَه فيكشف أمره، أو يُوقعه سوء حظِّه، في يدِ الحارس الذي تسبَّب في احتراف زوجته الدعارة، بسبب قلة سجائره وهداياه. ضحك الأحدب وأخبرَه أن الحارس نفسه قد قُتِل لإهماله في حراسته. ثم وعدَه أن يُسهل له أمر خروجه من البلاد، فهو يعرف أناسًا ذوي نفوذ. وعلى الفور انطلق معه وهو يؤكد له أن رحلته قد قاربت على الانتهاء، وأنه سوف يظلُّ يذكر صداقته مؤكدًا أن ابن الحرام وحدَه هو الذي ينسى العشرة ويُنكر العيش والملح والسجائر الملوثة.

ضحك من قلبه استجابة لضحكة الأحدب، ومضى معه واثقًا في كل شيء.

•••

عبر به الأحدب السوق مُحتفيًا به، مُفسحًا الطريق أمامه، مُبعدًا عنه المتسوِّلين والمُخبرين وذوي العاهات، وسقاه شرابًا ملوَّنًا، واخترق معه عددًا من الدروب الجانبية والحواري الضيقة، حتى وجدا نفسيهما أمام أحد الأبواب. توقف الأحدب، وأخذ هو يتأمَّل ذلك الباب الذي خُيل إليه أنه قد رآه من قبل، ولمَّا التفت إلى الحدب مُتسائلًا، وجدَه يُكشر عن ابتسامةٍ خجلى، وأسنان مشوَّهة، وهو يدعوه إلى الدخول في أدب.

وانكسر شيءٌ ما بداخله، وهو ينظر إليه في عتاب، بينما وقف الآخر أمامه ساكنًا، وعندما ثبَّت عيونه المتسائلة في عينَيه، لم يقوَ الأحدب على المواجهة، فنظر إلى الأرض واللوم ينهش قلبه، والخِزي يلفُّ حدبته، كهالةِ القديسين الخونة، وأخذ يُثرثر بلا انقطاع، محاولًا التخفيف عنه، ومُبررًا فعلته بالانخراط في البكاء.

قال (عفان) ﻟ (بلوقيا) إن الذين يتركون الندم يُراودهم على إرادتهم، لا يصلحون للمهام الكبيرة، إن ملكة الحيَّات حبيسة قفصها الآن، ونائمة بفعل المُخدر، وبعيدة عن أرضها وناسها، ولكنها عندما تستيقظ ستعرِف أنها تقوم بمهمةٍ تاريخية عظيمة، لقد أخرجت جدَّتُها (آدم) من الجنة، ودفعته لارتكاب أول خطيئة، ولكنها ستُكفِّر عن ذلك، وتهبنا ماء الحياة، ستُعيدنا إلى الجنة، وسأقف على حافة الزمن أتحدَّى الموت والفناء … إن كنتَ متعبًا ابكِ، أرِح نفسك، إن قليلًا من البكاء يُصلح النفوس المتعبة، ولكن يجب أن تعرف أنك لم تفعل ما يُخجل إلى هذه الدرجة، إن فعلتنا يُبررها ما ستجنيه البشرية بسببها، وغدًا نُطلق سراحها، بعد أن تدُلَّنا على العشب السحري، لتعود إلى أهلها وقطيعها ومَملكتها كما كانت، ولكن العُشب سيحمِلنا عبر البحار السبعة إلى هيكل (سليمان)، حيث الخاتم الذي سنصِل بقوَّته إلى ينبوع ماء الحياة.

•••

يومها سوف تتبيَّن أن الموت والقتل يُعتبر ثمنًا بخسًا لما سنحصل عليه سويًّا، العالَم تغيَّر يا صديقي، ولم يعُد الخط المستقيم هو أقصر الطرق إلى الهدف، إن فعلتنا سوف تحقن دماء كثيرة، وتُوفر سنواتٍ طويلة، من الجوع والسجون والموت. وستفهم الأجيال القادمة عظَمَة فعلتنا حين يُبررها انتصارُنا الأخير!

•••

ولمَّا أفاقت ملكة الحيات، وتعرفت على موقفها، فزعت، وأخذت تدور في قفصها، بعد زوال أثر الخمر واللبن المُسكر، وأخذت تصرخ وتتأوَّه في إنكار، عندما تعرَّفت على (حاسب كريم الدين)، فانطلقت تجلِده بكلِّ سياط العالَم، غير مُلتفتة إلى عيونه المُنتفخة بدموع الندم: سوف تندم ندمًا لا يهدأ … الخيانة لا يُبررها شيء يا (حاسب)، حتى ماء الخلود، فلا تُصدق كلَّ ما يُقال يا فتى، وتذكَّر أنني أنقذتك من أيدي أصحابك. أخرجتُك من جوف الجُب عندما خدعوك، لقد أعطيتَهم كل شيء، فأخذوه بلا خجل، وألقَوا بك في غيابةِ الجُب، ولولاي لكنتَ عظمًا وترابًا، والآن تُسلِّمني يا (حاسب)؟!

استطاع أن يردَّ في وهَن، مُنتزعًا حروف الكلمات، من تحت ركام الأحقاب والحروب والمجاعات والأسفار الطويلة، وعذاب الخيانات الأزلية: ليس هذا إلَّا لوقتٍ قصير، مهمَّة موقوتة.

ضحكت ملكة الحيات ساخرة: قالها بلوقيا من قبل يا حاسب، إنها دائمًا مهمة موقوتة.

كنتُ أعرف أن بلوقيا سوف يُطلق سراحي، إذ لا يبقى مُعتقل إلى الأبد، ستفتَح قفصي بعد أن أدُلَّك على العشب السحري، ولكن كيف ستُطلِق سراح نفسك؟ كيف ستفتح قفصك؟ إني أتنبأ.

سيموت صديقك مُحترقًا بالنار يموت … وسيَعصِر قلبَك حتى الموت، فقدانُ الحُب وثلجُ الوحدة، إني أتنبأ.

أجهش هو الآخر في البكاء، وهو يقول للأحدب ولقائد الحرس الذي ظهر مُصدرًا أوامره لرجاله: حتى ماء الحياة لا يُبرر الخيانة!

وحاول الأحدب أن يبتعِد عن طريق الحرس، ولكنهم لم يتنبَّهوا إليه، أو هكذا بدا الأمر عندما وقع تحت أقدامِهم المهرولة المندفعة، فصرخ، وحاول أن يُنبِّههم لحقيقة أمره، ولكن أحدًا لم يلتفِت إليه، إذ ما قيمة جثة جديدة موالية، وقد سحقوا آلافًا مثلها منذ الصباح الباكر؟!

وزحفت ملايين الفئران والحشرات على جسد الأحدب المَهروس تحت أقدام الحرس، بينما تقدَّم منه قائدُهم ذو الوجه الثعلبي: ها قد عُدتَ مرة أخرى، ألم أقل لك إن كل شيءٍ يمكن أن يضيع، فيما عدا الأوراق الرسمية، وكم ابتلعَتْ كثبان الرمل المُتحرك أُممًا وقبائل! حاول أن تُنقذ نفسك، كل السفن ستغرق. وسط البحر المجنون كن أنت العاقل.

تحصَّنَ خلف جدار الصمت، فانقض عليه حارس حليق الرأس بلا شوارب، واقتادَه من قفاه إلى قاضٍ في سُترة موشاة، لكن هذا ما إن رآه، حتى صاح بهم فزعًا: لا تُحضروه إلى هنا إلَّا بعد تجهيزه تمامًا، أنا لا أريد أن أُكرر أخطاء الأحمق، الذي كان يتعامَل معهم قبلي.

عندما سحبوه على الأرض نحو غرفة الجهيز، أحاط به جمعٌ من الأطفال الجُدد، المُشوَّهي الأسنان، ذوي العيون التي يسيل منها الصديد، فَتطلَّع إليهم مُستنجدًا … لكنه ابتلع ابتسامته.

فلم يكن على وجوههم أي أثر للتعاطُف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤