الفصل الثامن

قالت لي سارة: «حان دور مبنانا في الحصول على المياه الساخنة الليلة.» كانت أول ليلة لي في «٢٤٦». أوضحت لي أننا نحصل على الماء الساخن مرة كل أسبوعين أو ثلاثة، وكل مرة لا تدوم أكثر من ساعتين أو ثلاث، وسوف يحين دور غرفتنا في الاغتسال نحو الثانية صباحًا. وأضافت: «لكل منا عشر دقائق تغتسل فيها. سوف أوقظك عندما يحين الموعد.»

حان وقت النوم، وكانت أنوار الغرف تطفأ في الحادية عشرة كل ليلة، بينما تبقى أنوار الممرات مضاءة طوال الوقت. عرَّفتني سارة بالفتاة المسئولة عن «الأسرَّة»، وحصلت كل منا على ثلاث بطاطين. كان جميع الفتيات ينمن على الأرض جنبًا إلى جنب، وكل منا لها بقعة مخصصة تتغير باستمرار. كان عدد الفتيات كبيرًا جدًّا، حتى إن البعض كان ينام في الممرات. وجدت مكانًا بجوار سارة في الغرفة، وطويت إحدى البطاطين ثلاث مرات كي أنام عليها واستخدمت الثانية وسادة والثالثة غطاءً. وعندما استقر الجميع في أماكنهن، لم يعد هناك مكان خالٍ. كان الذهاب إلى دورة المياه في منتصف الليل تحديًا كبيرًا؛ إذ كاد يستحيل الوصول إلى دورة المياه دون أن تطأ إحداهن بقدميك. في عهد الشاه كان «٢٤٦» بطابقيه العلوي والسفلي يضم نحو خمسين سجينًا، أما الآن فقد وصل العدد إلى نحو ستمائة وخمسين.

أيقظتني سارة كما وعدتني. شعرت في بادئ الأمر بالارتباك ولم أدرِ أين أنا، ثم أدركت أنني لست في فراشي بالمنزل، بل في «إيفين». اختلط صوت المياه المتدفقة من الأدشاش بأصوات الفتيات، وساعدتني سارة في النهوض، فنهضت وأنا أعرج. كانت غرفة الاغتسال أسمنتية الجدران والأرضية مطلية باللون الأخضر الداكن، وتقسمها ألواح بلاستيكية سميكة إلى ست حجيرات منفصلة، وعلى كل فتاتين مشاركة نفس الحجيرة مدة عشر دقائق. كان الجو مشبعًا بالبخار ورائحة الصابون الرخيص، وأخذت أنظف جسدي وأنا أبكي.

في تلك اللحظة التي خلعت فيها العصابة عن عيني في ليلة الإعدام تغيَّرت حياتي تمامًا. كنت قد مررت بالعديد من التجارب الصعبة من قبل، ولكنها لم تؤثر في كُنه حياتي؛ فقدتُ أحبائي، وأُلقي القبض عليَّ، وتعرضت للتعذيب، لكن تلك الليلة أخذتني إلى آفاق أبعد بكثير. كان وقتي في هذا العالم قد انتهى، لكنني ما زلت على قيد الحياة. ربما يكون هذا هو الخط الفاصل بين الحياة والموت، وأنا لا أنتمي لأي منهما.

ذهبنا إلى أماكن النوم بعد الاغتسال. كان المكان ضيقًا للغاية، حتى إنني إذا استلقيت على ظهري فسوف أضايق المجاورات لي، فواجهت سارة وحافظت على ركبتيَّ مفرودتين قدر الإمكان. فتحتْ سارة عينيها، وابتسمت.

– «مارينا، لا أقصد إزعاجك، وأعلم أن كلامي هذا قد يبدو غبيًّا، لكني سعيدة بوجودك هنا معي، فقد كنت أشعر بوحدة شديدة قبل أن تأتي.»

– «أنا أيضًا سعيدة لأننا معًا.»

أغمضت عينيها، فأغمضت عيني أنا الأخرى. أردت أن أخبرها بأمر ليلة الإعدام، لكنني لم أستطع. لا يوجد من الكلمات ما يصلح لوصفها، ولم أرِد إخبارها أيضًا بحكم السجن مدى الحياة، لأنه سوف يثير حزنها. هل سيحتجزونني في «إيفين» إلى الأبد حقًّا؟ هذا يعني أنني لن أعانق أمي، أو أرى أندريه، أو أذهب إلى الكنيسة، أو أرى بحر قزوين مرة أخرى. كلا، إنهم يودون إخافتي وبث اليأس في نفسي فحسب. عليَّ أن ألحَّ في الدعاء والتضرع إلى الله كي ينقذني أنا وسارة. سنعود أنا وهي إلى المنزل قريبًا.

بدا لي كأننا لم ننم سوى دقائق عندما ملأ صوت المؤذن الغرفة عبر مكبرات الصوت: «الله أكبر، الله أكبر …» كان الوقت قد حان لصلاة الفجر. نهضت سارة ومعظم الفتيات واتجهن إلى الحمام كي يؤدين فرائض الوضوء من غسل اليدين والذراعين والقدمين، وهو أمر يسبق كل صلاة. أخيرًا يمكنني النوم على ظهري. لمستْ إحداهن كتفي، ففتحت عيني ووجدتها سهيلة.

سألتني: «ألن تقومي إلى الصلاة؟»

ابتسمتُ، وقلت: «أنا مسيحية.»

– «أنت أول مسيحية أقابلها هنا! كان لديَّ … أقصد لدىَّ جيران مسيحيون في الشقة المجاورة لنا واسم عائلتهم جالاليان، وأنا صديقة ابنتهم نانسي، وقد دَعَوْني ذات مرة إلى منزلهم كي أحتسي القهوة التركية معهم. هل تعرفين آل جالاليان؟»

أجبتها بالنفي.

اعتذرتْ لإيقاظي، وسألتني هل يصلي المسيحيون، فأوضحت لها أننا نصلي، ولكن ليس كصلاة المسلمين، فالصلاة لدينا لا ترتبط بأوقات محددة.

•••

كان علينا أن نرتب الغرفة في السابعة صباحًا، ودُهشت من السرعة التي تم بها ذلك، وكيف رُصَّت البطاطين المطوية في أحد أركان الغرفة. فردَتْ الفتاتان المسئولتان عن الطعام مفارش رقيقة من البلاستيك يسمونها «السُّفرة»، عرضها نحو نصف المتر على الأرض، ووزعتا الملاعق المعدنية والأطباق والأكواب البلاستيكية، ولم يكن لدينا أي شوك أو سكاكين، ثم ذهبت الفتاتان إلى الردهة وعادتا حاملتين دورقًا معدنيًّا أسطواني الشكل كبيرًا يحتوي على الشاي. كان الدورق ثقيلًا، وكل واحدة منهما تمسك بإحدى يديه وهي تلهث. أحضرتا معهما أيضًا حصَّتنا من الخبز وجُبن الفيتا. انتظمنا في صفوف كي نحصل على طعامنا، ثم جلسنا حول السفرة وأخذنا نتناول الطعام. كنت أتضور جوعًا، فالتهمت طعامي في ثوانٍ معدودة. كان الخبز طازجًا، وعلمت أن السجن به مخبز خاص، وكان الشاي ساخنًا ولكن رائحته غريبة. أخبرتني سارة أن هذه الرائحة بسبب الكافور الذي يضعه الحرس في الشاي، وأنها سمعت أن الكافور يوقف الطمث لدى السجينات؛ فمعظم الفتيات هنا قد انقطع الطمث لديهن تمامًا، لكن الكافور له أعراض جانبية، منها تورم الجسم والاكتئاب. سألتها عن السبب الذي يدعو الحرس لإيقاف الطمث لدينا، فأخبرتني أن الفوط الصحية باهظة الثمن. بعد الانتهاء من الطعام وضعت الفتاتان المسئولتان عن غسيل الأطباق الأطباقَ المتسخة في صناديق بلاستيكية، وأخذتاها إلى غرفة الاغتسال، وغسلتاها بالماء البارد.

سرعان ما ألممت بالقواعد العديدة للمكان؛ لم يكن مسموحًا لنا تخطي الأبواب ذات القضبان الحديدية الموجودة في نهاية الممر ما لم تنادِنا إحدى الأخوات عبر مكبر الصوت، وهو ما لا يحدث إلا في حالة استدعائنا للتحقيق أو للزيارة. الزيارات مسموح بها مرة واحدة في الشهر، وموعد الزيارة التالية سيحل بعد أسبوعين. لم تستقبل سارة أي زائر بعد، لكنها كانت تأمل في أن يُسمح لوالديها بزيارتها قريبًا. علمت أيضًا أن أفراد العائلة المقربين فحسب هم المسموح لهم بالزيارة وبإحضار ملابس لنا. في كل غرفة يوجد جهاز تلفاز، لكن البث يقتصر على البرامج الدينية. توجد كتب أيضًا، لكن كلها تتحدث عن الإسلام.

كان الغداء يتكون عادة من القليل من الأرز أو الحساء، أما العشاء فيتكون من الخبز والتمر. من المفترض أننا نحصل على بعض الدجاج مختلطًا بالأرز والحساء، لكن من كانت تعثر على قطعة صغيرة من اللحم في طعامها تعتبر محظوظة وتتباهى بها أمام زميلاتها. كانت مندوبة الغرفة — التي تختارها الفتيات أحيانًا وأحيانًا أخرى يعيِّنها الحرس — تنظم توزيع الطعام، ومهام التنظيف، وتبلغ الإدارة عن أي مرض أو مشكلة خطيرة.

ذات يوم، بعد نحو عشرة أيام من القبض عليَّ، جلست في ركن من الغرفة وأخذت أراقب الفتيات وهن يؤدين صلاة الظهر، ويقفن في صفوف تجاه الكعبة. كانت أول مرة أرى فيها صلاة المسلمين عن قرب عندما راقبت أراش وهو يصلي في منزل عمته. أحببت أن أراه وهو يركع ويسجد ويهمس بكل الأشياء التي يؤمن بها. هل كان سيوافق على تلك الحكومة الجديدة وما ترتكبه من أعمال وحشية باسم الدين؟ كلا، لقد كان أراش طيبًا حنونًا، وما كان سيتقبل ذلك الظلم. وربما كان سينتهي المطاف بكلينا في «إيفين.»

خاطبتني إحدى رفيقاتي في الغرفة، فتحركت فزعة. كان اسمها ترانه؛ فتاة نحيلة في العشرين من عمرها، عيناها عسليتان واسعتان، وشعرها أصفر قصير، وتجلس في أحد جوانب الغرفة معظم الوقت تقرأ القرآن، وفي كل مرة تقف فيها للصلاة تغطي وجهها بالشادور، وعندما تخلعه نجد عينيها حمراوين منتفختين، لكن الابتسامة لم تكن تفارقها.

قالت لي: «تجلسين كالتمثال منذ وقت طويل حتى دون أن يطرف لك جفن.»

– «كنت أفكر.»

– «فيمَ؟»

– «في أحد الأصدقاء.»

سألتها لمَ أُلقي القبض عليها، فأجابتني: «قصة طويلة.»

– «حسنًا، يبدو أن لدينا الكثير من الوقت.»

– «ليس لديَّ وقت.»

ملأني شعور بالرهبة، كانت سارة قد أخبرتني أن فتاتين من غرفتنا محكوم عليهما بالإعدام، لكن ترانه لم تكن إحداهما.

– «لكن سارة أخبرتني …»

همستْ: «لا أحد يعلم ذلك.»

– «ولماذا لم تخبري أحدًا؟»

– «وما الفائدة؟ حينها سيقلق الآخرون عليك ويشعرون بالأسى تجاهك، وأنا أكره ذلك. أرجوك لا تخبري أحدًا.»

– «ولماذا أخبرتني؟»

– «صدر بحقك حكم بالإعدام أنت أيضًا، أليس كذلك؟»

انقبض قلبي. لم أستطع أن أكذب عليها، فاستجمعت شجاعتي وأخبرتها عن ليلة الإعدام وكيف أنقذني عليٌّ في اللحظة الأخيرة، فسألتني عن السبب الذي دفعه لإنقاذي، فأخبرتها أني لا أدري. حينها صارحتني أخيرًا بما تود الاستفسار عنه.

– «هل لمسك من قبل؟»

– «كلا، ماذا تقصدين؟»

– «تعرفين ماذا أقصد؛ فمن المفترض ألا يمس رجل امرأة ما لم يكونا متزوجين.»

– «كلا!»

– «غريب!»

– «ما الغريب في ذلك؟»

– «سمعت كلامًا.»

– «أي كلام؟»

– «أخبرتني فتاتان أنهما تعرضتا للاغتصاب، وتلقتا تهديدًا بالإعدام إذا ما أخبرتا أحدًا.»

كانت فكرتي عما يعنيه الاغتصاب مبهمة. كنت أعلم أنه فعل مروع يرتكبه الرجل بحق إحدى النساء؛ شيء لا يجب أن يتحدث عنه الناس. ومع أنني كنت أرغب في معرفة المزيد، فلم أجرؤ على السؤال.

سألتْ ترانه: «وماذا عما سبق ليلة الإعدام؟ لم يلمسك أحد حينها؟»

– «كلا!»

اعتذرتْ مني على إزعاجي. حاولتُ ألا أبكي، وأخبرتها كم هو مؤلم أن أحيا في الوقت الذي لاقى فيه الآخرون حتفهم، فقالت إن موتي لم يكن ليغير مصيرهم في شيء.

– «كيف عرفتِ عن حكم الإعدام الذي صدر بحقي؟»

– «عندما جئتِ إلى هنا، كان اسمك مكتوبًا على جبهتك.»

لم أفهم شيئًا.

قالت: «بعد أن أُلقي القبض عليَّ تعرضت للضرب مدة يومين، لكني رفضت التعاون معهم، وذات ليلة سحبني المحقق للخارج ونزع العصابة عن عيني … رأيت جثثًا … مغطاة بالدم. هؤلاء أُعدموا … كانوا نحو عشر أو اثنتي عشرة جثة. تقيأت، وأخبرني بأنني سألقى نفس المصير ما لم أعترف. كان يحمل مصباحًا يدويًّا في يده، فسلطه على وجه أحد الموتى. كان شابًّا، وكان اسمه مكتوبًا على جبهته: مهران كبيري.»

مع أنني أعلم جيدًا أن كل ما حدث ليلة الإعدام كان حقيقيًّا، فقد تعاملت معه كأنه كابوس، وحاولت جاهدة إبعاده عن ذاكرتي قدر الإمكان، ولكنه عاد الآن حيًّا. تثاقلت أنفاسي. قد تشاهد ترانه ما شاهدته أنا تلك الليلة، ولم يكن بوسعي أن أساعدها بأي وسيلة.

أخبرتني ترانه أنها سمعت أن الحرس يغتصبون الفتيات قبل إعدامهن لأنهم يعتقدون أن العذارى يذهبن إلى الجنة بعد الموت.

قالت: «مارينا، يمكنهم أن يقتلوني إذا أرادوا، لكني لا أريد أن أتعرض للاغتصاب.»

•••

كانت لدينا سجينة حبلى في غرفتنا تدعى شيدا. كانت في العشرين من عمرها تقريبًا، وعليها حكم بالإعدام أيضًا، لكن تنفيذ الحكم تأجل، لأنه من المخالف للشريعة إعدام الحبلى أو المرضع. كان لها شعر بنيٌّ فاتح طويل، وعينان بنيتان، وزوجها ينتظر تنفيذ حكم الإعدام أيضًا. لم نكن نتركها وحدها قط كي لا ندع لها فرصة للقلق. فتاتان على الأقل كانتا تلازمانها معظم الوقت. وبالرغم من هدوئها الدائم كانت الدموع تنهمر من عينيها في صمت من حين لآخر. كان بوسعي أن أتخيل قدر معاناتها، فهي لم تكن قلقة على نفسها فحسب، بل أيضًا على زوجها وجنينها.

***

ذات ليلة استيقظنا على صوت إطلاق النيران. نهضت جميع الفتيات، وجلسن في أسرَّتهن، وحدقن في النوافذ. كل رصاصة كانت تعني حياة ضائعة؛ نفَسًا أخيرًا؛ عزيزًا تمزقت أشلاؤه بينما أسرته تنتظره وتأمل في عودته. سوف يُدفنون في قبور مجهولة بلا شواهد تحمل أسماء من فيها.

همست سارة: «سيرس …»

كذبتُ عليها: «سيرس بخير؛ أعلم أنه بخير.»

امتلأت عينا سارة السوداوان بالدموع، وأخذت تنشج وصوتها يعلو شيئًا فشيئًا. طوقتها بذراعي وعانقتها، لكنها دفعتني بعيدًا وأخذت تصرخ.

اقتربتْ منها بعض الفتيات محاولات تهدئتها: «اهدئي يا سارة. خذي نفسًا عميقًا.»

لكنها بدأت تضرب رأسها بيديها. حاولت أن أمسك معصميها، لكنها كانت قوية جدًّا. تمكَّن أربعٌ منا من إيقافها، لكنها ظلت تقاومنا. أضيئت الأنوار، وبعد دقيقة اندفعت الأخت مريم وإحدى الحارسات وتدعى الأخت معصومة إلى غرفتنا.

سألت الأخت مريم: «ماذا يحدث هنا؟»

قالت سهيلة: «إنها سارة. كانت تبكي وتصرخ، ثم بدأت تضرب نفسها بقوة.»

صاحت الأخت مريم في الأخت معصومة: «أحضري الممرضة!» فاندفعت الأخت معصومة خارج الغرفة.

وصلت الممرضة في أقل من عشر دقائق وحقنت سارة في ذراعها، وسرعان ما توقفت سارة عن المقاومة وأغشي عليها. أمرت الأخت مريم بإيداع سارة مستشفى السجن كي لا تؤذي نفسها. وضعت الأختان والممرضة سارة فوق بطانية وحملنها إلى الخارج. تدلَّت يدها الصغيرة من جانب البطانية. توسلتُ إلى الله ألا تموت سارة، فأسرتها تتوقع عودتها مثلما كانت أسرة أراش تتوقع عودته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤