الفصل التاسع

انتظرنا كلنا عودة أراش، مع أننا كنا نعلم أنه لن يعود.

ظل الشاه يقيل رئيس الوزراء ويعين مكانه آخر محاولًا استعادة السيطرة على البلاد، وأخذ يلقي الخطب ويخبر الشعب أنه قد سمع صرختهم من أجل تحقيق العدالة، وأنه سيعمل على إحداث بعض التغييرات، ولكن بلا فائدة. تزايدت التجمعات والاحتجاجات ضد الشاه يومًا بعد يوم، وفي العام الدراسي ١٩٧٨ / ١٩٧٩ شعر الجميع بالقلق حيال المستقبل. العالم الذي نشأتُ فيه والقواعد التي كنت أحيا وفقها وأظن أنها ثابتة كما الصخر بدأت تتهاوى أمام عيني. كرهت الثورة، فقد تسببت في العنف وإراقة الدماء، وكنت واثقة أن هذه مجرد بداية. سرعان ما فُرض حظر التجول العسكري، وظهر الجنود والشاحنات العسكرية في كل الشوارع. هكذا أصبحتُ غريبة في عالمي.

وذات يوم اهتز منزلنا مصحوبًا بصوت ضجيج مدوٍّ هزني من الأعماق، فنظرت من النافذة ورأيت دبابة تتحرك في الشارع، فانتابني الخوف الشديد. لم أكن أعلم أن الدبابات تصدر صوتًا مرتفعًا مخيفًا كهذا، وعندما رحلتْ لاحظت أن عجلاتها تركت آثارًا واضحة على الشارع المرصوف.

وبمرور الأسابيع ازداد الخوف، ورحل العديد من شاغلي المناصب الحكومية أو العسكرية المهمة عن البلاد، وأخيرًا أغلقت المدارس في أواخر خريف ١٩٧٨. كان شتاءً باردًا، ونظرًا للإضرابات في معامل تكرير النفط وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، حدث نقص في وقود السيارات والتدفئة، وهكذا لم نتمكن إلا من تدفئة غرفة واحدة فحسب. في محطات الوقود اصطفت الطوابير أميالًا، وكان الناس يقضون الليل في سياراتهم ينتظرون دورهم في التزود بالوقود. تُركت وحدي في المنزل لا شيء لدي أفعله طوال النهار سوى الارتجاف والتحديق من النافذة والشعور بالقلق. شارعنا — شارع «شاه» — الذي كان يكتظ غالبًا بالزحام المروري صار مهجورًا معظم الوقت، وخلت الأرصفة التي كانت فيما مضى تعج بالمارة ومرتادي المتاجر والباعة، بل ورحل المتسولون أيضًا. من حين لآخر تظهر مجموعات ما بين عشرة وعشرين رجلًا يشعلون النار في إطارات السيارات، ويكتبون «الموت للشاه» و«يحيا الخميني» على الحوائط مخلِّفين وراءهم الجو ملبدًا بالدخان وممتلئًا برائحة الإطارات المحترقة. امتلأ الشارع بضع مرات بالمتظاهرين الغاضبين. كان الرجال يتقدمون المسيرة والسيدات يتبعنهم مرتديات الشادور الأسود، ويُلَوِّحون جميعًا بقبضات أيديهم في الهواء مرددين شعارات ضد الشاه والولايات المتحدة، وحاملين أعلامًا عليها صور آية الله الخميني.

كنت أذهب أسبوعيًّا لزيارة أرام وأسرته. كنت أسير ملتصقة بالمباني التماسًا للأمان — فالرصاصات الطائشة كانت تصيب وتقتل الكثيرين — وأقطع الشارع بأقصى سرعة ممكنة بينما أتوخى الحذر كيلا أقترب من المتظاهرين أو الجنود. وفور أن أركب الحافلة، أحاول الجلوس في مكان آمن. كان أرام شديد الخوف من نزولي الشارع؛ نادرًا ما كان يخرج من منزله، وطلب مني أن أبقى في المنزل، لكني أوضحت له أن الشعور بالملل من الحبس في المنزل كفيل بأن يودي بحياتي، فطلب مني أن أتصل به على الأقل قبل أن أغادر منزلي.

سألته: «وما الفائدة من اتصالي قبل مغادرة المنزل؟»

– «كي أفعل شيئًا إن لم تحضري في الموعد.»

– «مثل ماذا؟»

حدق إليَّ وعلت وجهه نظرة مرتبكة.

– «سآتي وأبحث عنك.»

– «أين؟»

امتلأت عيناه بالألم، وأدركت كم كنت قاسية عليه. كان قلقًا عليَّ، ولم يشأ أن يعيد التاريخ نفسه.

أمسكت بيديه وقلت: «أرام، أنا آسفة! سامحني! لست أدري ماذا حل بي، أنا غبية! سوف أتصل، أعدك بذلك.»

فعلتْ وجهه ابتسامة مرتبكة.

طلبت من إيرينا أن تعلمني الحياكة كي أشغلها فحسب. عندما كنت أزورهم، كنا جميعًا نجلس في غرفة المعيشة نحتسي الشاي، ولأن محطات الإذاعة والتلفاز المحلية كانت خاضعة للرقابة، كنا نستمع إلى إذاعة «بي بي سي» لنتعرف على ما يحدث في بلادنا. أحيانًا كنا نسمع صوت إطلاق الرصاص بعيدًا، فيجعلنا الصوت المدوي نتوقف وننصت. أصاب الوهن إيرينا، وبدت والدة أرام أكثر هزالًا كل مرة، أما والده الذي كان يبلغ من العمر ستة وأربعين عامًا فقد بدا عليه الهرم فجأة، إذ ابيضَّ شعره وظهرت التجاعيد واضحة على جبهته.

كنت أنا وسارة نتحدث في الهاتف يوميًّا، ونتبادل الزيارات أحيانًا. وعلى النقيض من والديَّ، كان والداها يؤيدان الثورة، بل إنهما اشتركا في عدد من الاحتجاجات، لكنهما لم يصطحبا معهما سارة أو سيرس. أخبرتني سارة أن والدتها ترتدي شادورًا أسود عندما تخرج في المظاهرات. كان من الصعب أن أتخيل والدة سارة وهي ترتدي شادورًا، فقد كانت أكثر النساء اللواتي عرفتهن في حياتي أناقة. أخبرتني أيضًا أن سيرس ينوي التسلل من المنزل ذات يوم كي ينضم إلى إحدى المظاهرات، وأنها طلبت منه أن يصطحبها معه، لكنه رفض بحجة أنها صغيرة وأن في الأمر خطورة عليها. توسلتُ إلى سارة ألا تذهب، وذكَّرتها باختفاء أراش، لكنها قالت إنه حريٌّ بالناس أن ينبذوا الخوف ويقفوا في وجه الشاه الذي استغل نفط بلادنا لتكديس المزيد من الثروات وبناء القصور وإقامة الحفلات المترفة وزيادة أرصدته في بنوك الدول الأجنبية، إضافة إلى أنه سجن وعذَّب من انتقدوه.

قالت سارة: «عليكِ أن تأتي أنت أيضًا من أجل أراش. الشاه لص وقاتل، ولا بد أن نتخلص منه.»

ذات يوم اقتحم مجموعة من الناس المطعم الصغير الذي يقع أسفل منزلنا وهم يصرخون «فليسقط الشاه»، وحطموا جميع النوافذ وأخذوا كل علب الجعة والمشروبات الكحولية الأخرى التي وجدوها، ووضعوها في منتصف الطريق وأضرموا فيها النيران، فانفجرت علب الجعة، واهتزت نوافذ منزلنا إثر ذلك. كنت أعرف أصحاب المطعم جيدًا؛ كانوا أسرة أرمنية تسكن بجوارنا منذ أعوام. لم يصابوا بجروح في الحادث، لكنهم شعروا بالذعر الشديد.

•••

تدريجيًّا قلَّ وجود رجال الجيش في الشوارع، وأكد الجميع أن السبب في ذلك هو إدراك الشاه أخيرًا أن استخدام القوة المفرطة لن يؤدي إلا إلى إشعال المزيد من نيران الثورة. وذكر البعض أيضًا أن العديد من الجنود بدءوا يرفضون الأوامر بإطلاق النيران على المتظاهرين. الآن، ومع أن الشاحنات العسكرية لا تزال تمر أحيانًا، لم أعد أرى جنودًا يصوبون بنادقهم نحو الحشود المتظاهرة.

لم يَبدُ على والديَّ الاهتمام بما يحدث في البلاد، ولم يأخذا الحركة الإسلامية على محمل الجد، بل اعتقدا أنها فترة اضطراب وليست ثورة، وأن الشاه أقوى من أن يُهزم على يد حفنة من الملالي ورجال الدين. وهكذا مع أن أمي كانت تؤكد عليَّ دائمًا ضرورة التزام الحذر عند الخروج من المنزل، فإنها كانت تقول إن السحب المظلمة سوف تنقشع قريبًا.

•••

نُفي الشاه من إيران في السادس عشر من يناير عام ١٩٧٩. أُطلق سراح السجناء السياسيين، وأقيمت الاحتفالات في جميع الشوارع. راقبتُ من نافذتي الناس وهم يرقصون والسيارات وهي تطلق أبواقها ابتهاجًا. عاد الخميني إلى البلاد في الأول من فبراير بعد رحلته الطويلة في المنفى ما بين تركيا والعراق وفرنسا. ومع اقتراب طائرته من إيران سأله أحد الصحفيين عن شعوره تجاه العودة للديار، فأجاب أنه لا يشعر بشيء. أصابني الاشمئزاز من كلماته؛ كيف لا يشعر بشيء وقد فقَدَ الكثيرون حياتهم ليمهدوا الطريق لعودته أملًا في أن تصبح إيران بلدًا أفضل؟ بدا لي وكأن ماءً باردًا يجري في عروقه بدلًا من الدم.

فور عودة الخميني سمعت أن الجيش ما زال مخلصًا للشاه. بقيت الدبابات والشاحنات العسكرية منتشرة في الشوارع، وظل مستقبل البلاد غامضًا تمامًا مدة شهر أو نحو ذلك. تولت حكومات الطوارئ العسكرية إدارة معظم المدن، واستمر حظر التجول العسكري، بينما طلب الخميني من الناس أن يصعدوا إلى أسطح المنازل في التاسعة من كل ليلة ويصيحوا «الله أكبر» لمدة نصف ساعة متواصلة تعبيرًا عن تأييدهم للثورة. لم أشترك أنا ووالداي قط في جلسات التكبير هذه، لكن معظم الناس فعلوا، حتى أولئك الذين لم يكونوا داعمين حقيقيين للثورة. ساد البلاد شعور بالتضامن، وتطلع الشعب إلى مستقبل أفضل ترفرف فيه أعلام الديمقراطية.

•••

وفي العاشر من فبراير عام ١٩٧٩ نزل الجيش على إرادة الشعب الإيراني، وفي الحادي عشر من فبراير أعلن الخميني عن قيام حكومة مؤقتة يرأسها مهدي بازركان.

سرعان ما انتشر الحرس الثوري المسلح وأفراد من الجماعات الإسلامية في كل مكان ينظرون في ارتياب إلى الجميع، وأُلقي القبض على مئات الأشخاص بتهمة انتمائهم إلى السافاك — البوليس السري التابع للشاه — وزُجَّ بهم في السجون وصودرت متعلقاتهم، وأُعدم البعض بدءًا من كبار المسئولين في النظام السابق الذين لم يغادروا البلاد، ونُشرت صور مفزعة للجثث المغطاة بالدماء في الصحف. في تلك الأيام، تعودت ألا أرفع بصري وأنا أسير بجوار أكشاك الصحف.

لم يمر وقت طويل على اندلاع الثورة حتى أُعلن تحريم الرقص وحظره، وفقد والدي وظيفته في وزارة الثقافة والفنون، ليعمل بعدها مترجمًا وسكرتيرًا في مصنع الصلب الذي يملكه العم بارتيف. كان يعمل لساعات طويلة في اليوم ويعود إلى المنزل مرهقًا حزينًا، وكالعادة لم أكن أراه إلا لمامًا، بل أقل مما سبق. وأثناء وجوده بالمنزل كان يقرأ الجريدة ويشاهد التلفاز وعلى وجهه نظرة جادة يطالبني فيها بعدم الإزعاج، ولم نكن نتحدث إلا نادرًا.

فتحت المدارس أبوابها من جديد واستأنفنا الدراسة، لكننا وجدنا مديرة المدرسة البارعة التي كانت على صلة وثيقة بوزير التعليم السابق في زمن الشاه قد رحلت، وسمعنا أنها أُعدمت. لقد أثبتت تميزًا في إدارة المدرسة أعوامًا عديدة، وشعرنا بغيابها من كل النواحي. انتشرت الشائعات عن استبدال معلمين مؤيدين للحكومة بمعظم معلمينا، وما زاد الأمر سوءًا أن مديرتنا الجديدة — محمودي خانم — كانت فتاة متعصبة في التاسعة عشرة من عمرها تنتمي إلى الحرس الثوري، وترتدي الحجاب الإسلامي الكامل. لم يكن الحجاب إلزاميًّا حينها، لكن بدا أن القواعد على وشك أن تتغير. والحجاب هو الغطاء المناسب لجسد المرأة، وقد يتخذ أشكالًا عديدة أحدها الشادور. بعد أن أصبح ارتداء الحجاب إلزاميًّا في المدن الكبرى وخاصة طهران، كان معظم النساء يرتدين — بدلًا من الشادور — ثوبًا طويلًا فضفاضًا يسمَّى العباءة، ويغطين رءوسهن بأوشحة كبيرة؛ وهو ما كان شكلًا مقبولًا من أشكال الحجاب لو ارتدته المرأة على نحو لائق.

ظلت حرية التعبير قائمة بضعة أشهر بعد اندلاع الثورة؛ ففي المدرسة كانت مختلف الجماعات السياسية تبيع صحفها بحرية، وأثناء الاستراحة تدور المناقشات السياسية في فناء المدرسة. لم أكن قد قابلت أي ماركسيين من قبل، ولكنهم أصبحوا الآن في كل مكان، وهناك أيضًا منظمة «مجاهدي خلق». كانت كل تلك الجماعات السياسية محظورة في زمن الشاه، لكنها ظلت تعمل سرًّا عدة سنوات. لم أكن أعلم أي شيء عن المجاهدين، وبدا لي أن هناك الكثير لأعرفه عنهم. أخبرتني صديقة ماركسية أن المجاهدين كانوا في الأصل ماركسيين ضلوا الطريق وآمنوا بالله واعتنقوا الإسلام؛ كانوا مسلمين اشتراكيين يؤمنون بأن الإسلام بوسعه أن يقود إيران نحو العدالة الاجتماعية ويحررها من التغريب. كانوا قد نظموا صفوفهم وتسلحوا في الستينيات، وقاتلوا من أجل الإطاحة بالشاه، ولكنهم لم يكونوا أتباعًا للخميني؛ فقبل أن يسطع نجم الخميني بعدة سنوات كانوا قد شنُّوا العديد من الاحتجاجات ضد الشاه، وتعرض أعضاؤهم — الذين كان معظمهم من طلبة الجامعة — للتعذيب والإعدام في «إيفين»، لكن كونهم جماعة إسلامية كان سببًا كافيًا لأقرر عدم الانضمام إليهم.

كان أرام يذهب إلى مدرسة فتيان مجاورة لمدرستي اسمها «ألبرز»، وذات ظهيرة بعد أسبوع من استئناف الدراسة كنت عائدة إلى المنزل عندما سمعته يناديني. كاد قلبي يتوقف، فقد ظننت أنه يحمل أخبارًا عن شقيقه، لكنه أخبرني أنه أراد رؤيتي فحسب، وعرض عليَّ أن يسير معي إلى المنزل، فتنفست الصعداء. بالرغم من يقيني أن أراش قد مات، فقد كنت أخشي سماع ذلك.

سألني عن أخبار مدرستي، فأخبرته أن مديرتنا الجديدة تنتمي للحرس الثوري، وأنني لم أتفاجأ عندما سمعت أنها تحمل مسدسًا في جيبها.

سألني: «لستِ متورطة مع أي جماعة سياسية، أليس كذلك؟» منذ اختفاء شقيقه ظهرت على أرام ملامح النضج المشوب بالحزن. قبل الثورة لم يكن يفكر إلا في كرة السلة والحفلات، ولكنه الآن أصبح يقلق من كل شيء، ويسديني النصح طوال الوقت، فقال: «أبي يؤكد أنها مرحلة خطيرة، وهو يعتقد أن الحكومة تتيح للجماعات السياسية أن تقول وتفعل ما تشاء حتى يتسنى للحرس الثوري تمييز الأصدقاء من الأعداء، وعاجلًا أو آجلًا سوف يلقون القبض على كل من فعل شيئًا ضد الحكومة.»

كانت خالتي زينيا قد اتصلت بي قبل أيام، وأخبرتني نفس الكلام، وأكدت عليَّ ضرورة توخي الحذر، لكن كان لديَّ الكثير من الفضول بشأن التعرف على الأيديولوجيات المختلفة؛ فكل يوم أثناء الاستراحة كنت أحضر الاجتماعات والمناقشات التي ينظمها طلاب الصف الحادي عشر أو الثاني عشر ممن يعملون مع الجماعات السياسية المختلفة.

وفيما عدا عدم إيمان ماركس ولينين بالله، كانت أفكارهما تروق لي كثيرًا، فكلاهما أراد تحقيق العدالة للجميع وبناء مجتمع تقسم فيه الثروات بالتساوي، لكن أساليبهما أثبتت خطأها على أرض الواقع. كنت أعلم جيدًا ما حدث في الاتحاد السوفييتي والمجتمعات الشيوعية الأخرى، فالشيوعية لم تنجح، ومن ناحية أخرى كنت أراقب شكل المجتمع الإسلامي، وأؤمن بأن الخلط بين الدين والسياسة أمر ينطوي على خطورة، فأي شخص ينتقد الحكومة الإسلامية سيُعتبر مناهضًا للإسلام، ومن ثم عدوًّا لله. وفي الإسلام — على حد علمي — لا يستحق هؤلاء الأشخاص الحياة ما لم يغيروا طريقة تفكيرهم.

قبل الثورة — على الأقل في الفترة التي عشتها — لم تكن معتقدات الناس وإيمانهم مشكلة قط. كان لدينا في المدرسة فتيات يعتنقن أديانًا مختلفة، لكن كان يُتوقع منا أن ينصبَّ اهتمامنا على الدراسة، وأن نتحلى بالأدب والاحترام والرقي بعضنا مع بعض ومع المعلمين. أما الآن فيبدو أن العالم قد انقسم إلى أربعة تيارات مائجة: الإسلام الأصولي، والشيوعية، والإسلام اليساري، والملكية، ولم أكن أتفق مع أيٍّ منها. كان الجميع تقريبًا ينتمون إلى تيار ما، ولكنني لم أنتمِ إلى أيٍّ منها، مما خلَّف لي شعورًا بالوحدة والضياع.

كانت جيتا آنذاك في الصف الحادي عشر، وانضمت إلى حزب شيوعي يُدعى «فدائيي خلق»، أما سيرس شقيق سارة فكان عضوًا في المجاهدين الذين لاقت آراؤهم وأفكارهم تأييدًا لدى سارة.

***

ذات ليلة من شهر مايو عام ١٩٧٩، بعد نحو ثلاثة أشهر من نجاح الثورة الإسلامية، كنت وحدي في المنزل. ذهب والداي لزيارة أحد الأصدقاء ومكثت في المنزل كي أنهي واجباتي المدرسية. ونحو الثامنة فتحت التلفاز الذي لم يكن به سوى قناتين في ذلك الوقت. ومنذ قيام الثورة قلَّما كان يُعرض فيهما شيء يستحق المشاهدة، لكن فيلمًا وثائقيًّا استرعى انتباهي. كان الفيلم يدور عن مظاهرة ميدان «جاله» المضادة للشاه التي وقعت في الثامن من سبتمبر، ومع أنني كنت أعلم جيدًا أن أراش قد توفي، فما زلت غير قادرة على اعتبار هذا اليوم يوم وفاته، بل يوم اختفائه. اقتربت من الشاشة أكثر والدموع تملأ عيني. كان الفيلم ذا جودة ضعيفة، فالمصور يجري معظم الوقت ويقوم بحركات مفاجئة، وهكذا كانت الصورة عسيرة المتابعة. صوَّب الجنود بنادقهم نحو الحشود وأطلقوا النيران، فأخذ الناس يفرون، ورأيت بعضهم يسقط على الأرض. ألقى الجنود بالجثث فوق شاحنة عسكرية، وللحظة … رأيته. كانت إحدى تلك الجثث لأراش. نهضت من مكاني وأنا أشعر بالألم والفزع، لم أستطع أن أنطق، ولا أن أبكي، فدخلت غرفتي، وجلست على فراشي، وحاولت أن أفكر. أخبرت نفسي أن ذلك ربما كان محض تخيل. ماذا يمكنني أن أفعل؟ عليَّ أن أعرف الحقيقة. رفعت سماعة الهاتف على الفور، واتصلت بأرام الذي استشعر الذعر في صوتي، ولم أدرِ كيف أخبره بذلك.

– «مارينا، ما الأمر؟»

لم أقل شيئًا.

«تكلمي، هل تريدين أن آتي إلى منزلك؟»

قلت: «كلا.»

– «أرجوكِ أخبريني ما الأمر؟»

– «كانوا يبثون فيلمًا وثائقيًّا عن مظاهرة الثامن من سبتمبر، وكان الجنود يلقون الجثث فوق إحدى الشاحنات، وأظن أن إحداها كانت جثة أراش.» هأنذا قد قلتها أخيرًا.

لا شيء سوى الصمت الرهيب.

– «هل أنت متأكدة؟»

– «كلا، وكيف يمكنني أن أتأكد؟ كانت لحظة فقط، كيف يمكننا أن نتأكد من الأمر؟»

اقترح أرام أن نذهب إلى محطة التلفاز في اليوم التالي بعد انتهاء اليوم الدراسي. أردت الذهاب صباحًا، لكنه أخبرني أننا إذا تغيبنا عن المدرسة فسوف يشعر أهلنا بالقلق، وهو لا يريد أن يقول أي شيء لوالديه حتى نتأكد من صحة ما رأيت.

وفي اليوم التالي ركبنا الحافلة إلى محطة التلفاز، ولم نقل كلمة واحدة طوال الطريق. قابلنا أولًا موظفة استقبال في منتصف العمر، وشرحنا لها الموقف، فتعاطفت معنا كثيرًا، وأخبرتنا أنها فقدت ابن عم لها في مظاهرة الثامن من سبتمبر. وبعد إجراء بضع مكالمات هاتفية اصطحبتنا إلى رجل ملتحٍ يجلس في حجرة مكتب صغيرة. كان يرتدي نظارة سميكة ولم ينظر إليَّ قط ونحن نتحدث، بل ظل يومئ باستمرار، ثم اصطحبنا إلى غرفة كبيرة مليئة بمختلف أنواع المعدات حيث أخبرْنا القصة لرجل في أواخر الأربعينيات يدعى أغا رضاي الذي وعدنا بأن يحضر لنا الشريط، وبالفعل أوفى بوعده.

حدقت أنا وأرام في الشاشة حتى رأيناه، فطلبنا من أغا رضاي أن يثبِّت الصورة. لم يكن لدينا شك في أنه أراش. كانت عيناه مغلقتين وفمه مفتوحًا قليلًا، وقميصه الأبيض ملطخًا بالدماء.

شعرت أن صخرة قد سحقت صدري، وتمنيت لو كنت معه لحظة وفاته عندما كان خائفًا وحيدًا.

لم نستطع أن نحول بصرنا عن الشاشة فترة طويلة، وأخيرًا نظرت إلى أرام فرأيت في عينيه نظرة خاوية ذاهلة، كأنه يحاول مثلي إدراك الهوة القاتلة التي خلَّفها الموت، والسقوط الرهيب في هاوية المجهول، والانتظار المفزع لأن تصطدم بالأرض الصلبة وتتمزق أشلاءً صغيرة. لمست يده، فاستدار نحوي ونظر إليَّ، فتعانقنا وشاركنا أغا رضاي البكاء.

قال أرام: «عليَّ أن أتصل بوالديَّ. يجب أن يعرفا في الحال.»

حضر كلاهما في غضون ساعة يبدو عليهما أثر الانكسار، فبعد ثمانية أشهر من المعاناة علينا مواجهة حقيقة موته. وجها لي الشكر. توقف عقلي ولم أستطع التفكير. عرضا عليَّ أن يصطحباني إلى المنزل لكنني رفضت. كنت أرغب في البقاء وحدي.

ركبت الحافلة وجلست في مقعد هادئ في أحد الزوايا وأخذت أصلي، وهل كان بوسعي فعل أي شيء آخر؟ سأردد السلام الملائكي للعذراء مرارًا وتكرارًا؛ سأردده حتى أنال كفايتي؛ حتى أتمكن من تعويضه على أني لم أكن معه في تلك اللحظة. لكن هل سيكفي هذا؟ كان الأسى الذي يجتاح نفسي يتزايد سريعًا دون أن يخالجني أي شعور بالصفح. عليَّ أن أتقبَّله وأدعه يزداد ويفيض ويذهب إلى أي مكان يشاء، وإلا سيدمر روحي ويحولها إلى عدم.

وعند باب منزلنا الأمامي حاولت وضع المفتاح في الباب بيد مرتجفة، ولكنني لم أتمكن من ذلك، فقرعت الجرس، لكن أحدًا لم يُجِب. كان الهواء الساخن المثقل بالغبار يختلط بأصوات السيارات ويجثم على صدري، فأخذت نفسًا عميقًا وحاولت إدخال المفتاح مرة أخرى، وفي تلك المرة فتح الباب، فأغلقته خلفي واتكأت عليه. كان الجو في مدخل البيت مظلمًا باردًا ساكنًا. كنت أشعر بالإنهاك، ومشيت بخطى متثاقلة نحو السلم وبدأت أصعد، لكنني انهرت بعد بضع درجات. بقيت فترة لا أشعر بشيء سوى برودة السلم الحجري الملامس لجسدي، ثم سمعت صوتًا يناديني، وتحسس شيء دافئ وجهي، فرفعت بصري ووجدت أمي تحدق إليَّ، ثم أخذت تهزني.

– «مارينا، انهضي!»

جذبتْ ذراعي، وأخيرًا تمكنتُ من الوقوف على قدمي، واتكأت عليها حتى قادتني إلى غرفتي. كانت تخاطبني، لكني لم أكن أعي حرفًا مما تقول، بل كانت كلماتها كالضباب؛ كدخان يتصاعد في الهواء، ويختفي في ضوء الشمس الذي يتسلل إلى غرفتي عبر النافذة. ساعدتني كي أجلس على فراشي. كنت بحاجة لأن أفهم ما حدث، ولماذا مات أراش. حدقتُ في السماء الزرقاء من النافذة.

وعندما استعدت إدراكي لما حولي أخيرًا، وجدت أمي تقف بجواري حاملة في يدها طبقًا من طعامي المفضل: يخنة اللحم بالكرفس والأرز. حل الظلام بالخارج، وأُضيء المصباح في غرفتي. ألقيت نظرة على ساعتي، فوجدتها قد تجاوزت التاسعة. مرت ساعتان وأنا جالسة على فراشي، وكأن حزني قد فصلني عن العالم، مثل مقصٍّ يقتطع شكلًا بسيطًا من قطعة ورق.

قلت بصوت مرتفع: «لقد مات»، ولدي أمل في أن يساعدني قولها على فهم ما حدث.

قالت أمي وهي تجلس على حافة فراشي: «مَن؟»

– «أراش.»

أشاحت بوجهها بعيدًا عني.

– «قُتل في مظاهرة الثامن من سبتمبر. أُطلق عليه الرصاص. مات.»

تنهدتْ وهزت رأسها: «يا للبشاعة! أعلم أنك كنت تحبينه. الأمر عسير للغاية، لكنك ستجتازينه، وستصبحين أفضل حالًا. سأعد لك كوبًا من الشاي.»

غادرت أمي الغرفة. من حين لآخر كانت تمنحني لحظات خاطفة من الحنان، ولكنها لم تكن تدوم طويلًا، بل كانت تتوهج كالنجوم الساقطة ثم تختفي في الظلام.

استغرقت في النوم بعد احتسائي كوبًا من شاي البابونج، غير أني استيقظت في منتصف الليل وأنا أشعر بحرقة في صدري. كنت أحلم بأراش. هرعت إلى خزانتي وأخرجت تمثالي الملائكي وتسللت أسفل الفراش. انطلقتْ من حلقي صرخات حادة، وكلما حاولت أن أهدئ نفسي ازداد الأمر سوءًا، فسحبت وسادتي من فوق الفراش وغطيت بها وجهي. كنت أتمنى أن يأتي الملاك ويخبرني لمَ يموت الناس؛ أردته أن يخبرني لمَ يأخذ الموت أحبَّاءنا، لكنه لم يأتِ مع أني ناديته.

•••

في السادس من سبتمبر عام ١٩٧٩ توفيت إيرينا بسبب أزمة قلبية. كنت قد فقدت اثنين من أحبائي قبلها، لكني لم أحضر جنازة في حياتي قط، فكانت جنازة إيرينا هي الأولى. وفي التاسع من سبتمبر ارتديت ملابس سوداء ونظرت في المرآة، فكرهت مظهري في الثياب السوداء؛ إذ بدوت نحيفة شاحبة مكسورة. حاولت أن أبدو قوية متماسكة، فخلعت الثياب السوداء وارتديت تنورتي البنية المفضلة وقميصًا كريمي اللون. لا بد أن إيرينا كانت ستفضل هذه الثياب أكثر.

وفي طريقي إلى موقف الحافلات، ذهبت إلى محل الزهور واشتريت باقة من الزهور الوردية، وفي الحافلة جلست بجوار النافذة أشاهد الشوارع. اختفت كل الألوان ومظاهر البهجة من المدينة، فالناس لا يرتدون سوى الثياب الداكنة الألوان وينظرون للأسفل وهم يسيرون في الطريق كأنهم يتجنبون النظر بعضهم إلى بعض وإلى المناظر المحيطة بهم. كادت كل الجدران تعلوها شعارات تنمي الشعور بالكراهية.

لم يكن هناك قساوسة بالكنيسة الروسية الأرثوذكسية بطهران، فأقيمت الجنازة بالكنيسة اليونانية ودفنت إيرينا في المقبرة الروسية. شعرت بالغبطة لأنني تمكنت من حضور جنازة إيرينا، فقد أصبحت أقدِّر قيمة الحصول على فرصة بأن أقول وداعًا.

وبعد الجنازة طلبت من أرام أن يساعدني في البحث عن قبر جدتي، إذ لم أكن أعرف مكانه بالتحديد. لم يصطحبني والداي إلى جنازتها، أو لزيارة قبرها قط. أردت أن أجد القبر وأصلي لأجلها. لم تكن المقبرة كبيرة، وكانت محاطة بجدران من الطوب الإسمنتي، بينما القبور متجاورة للغاية والأعشاب تنمو في كل مكان. رأيت العديد من شواهد القبور، وبدا لي أن العثور على شاهد جدتي سيكون صعبًا. تحركنا بحذر بين شواهد القبور، وكان قبرها هو الخامس أو السادس. بدا كأنها هي التي عثرت عليَّ. كنت قد احتفظت لها بزهرة وردية.

نظرت حولي، وبدا كل شاهد قبر كأنه غلاف كتاب أُغلق إلى الأبد. تنقلت بينها أقرأ الأسماء وتواريخ الميلاد والوفاة. بعض الناس توفوا كبارًا والبعض الآخر صغارًا. كنت أرغب في التعرف عليهم كافة، فهناك العديد من القصص التي لن تُروى أبدًا. هل يعرف المَلاك كل هؤلاء الأشخاص؟ هل استطاع مساعدتهم ومعرفة ما في قلوبهم عندما كانوا يحتضرون؟ ما آخر شيء فكروا فيه قبل أن تغادر أرواحهم أجسادهم؟ ما أكثر شيء شعروا حياله بالندم؟ هل من الممكن ألا يندم الإنسان على شيء لحظة الوفاة؟ ما أكثر شيء سأندم عليه إذا أتاني الموت في تلك اللحظة؟

بدأت عائلة أرام وأصدقاؤه في مغادرة المقبرة، ولاحظت أن والديه ينظران باتجاهنا، وأدركت أنهما يفكران في أراش. من حقهما أن يعرفا أين دُفن، ومن حقه أن يُدفن في قبر لائق. كنت أرغب في غرس الورود من كل الألوان حول المكان الذي يحمل جسده، وما كنت سأدع الحشائش الضارة تنمو حول قبره أبدًا. ها قد مر عام كامل على وفاته؛ أربعة مواسم من الفقد والحزن.

•••

وفي الأول من نوفمبر عام ١٩٧٩ طلب آية الله الخميني من شعب إيران التظاهر ضد الولايات المتحدة التي أطلق عليها «الشيطان الأكبر»، وأخبرهم أن الولايات المتحدة هي المسئولة عن كل أشكال الفساد على الأرض، وأنها هي وإسرائيل أشد أعداء الإسلام، فانطلق الآلاف من الناس في الشوارع وأحاطوا بسفارة الولايات المتحدة. شاهدت التغطية الإخبارية للمظاهرات في التلفاز، وتعجبت من أين أتت تلك الجماهير الغاضبة، فلم يشارك في تلك المظاهرات أحد أعرفه. تدفقت الحشود فملأت الشوارع المحيطة بالسفارة التي تحيط بها أسوار قرميدية.

وفي الرابع من نوفمبر عام ١٩٧٩ سمعنا أن مجموعة من طلاب الجامعة الذين يطلقون على أنفسهم «أتباع الإمام» قد استولوا على مبنى السفارة الرئيسي واحتجزوا اثنين وخمسين من الأمريكيين رهائن. كانوا يريدون من الولايات المتحدة أن تعيد الشاه الذي ذهب إليها للعلاج من السرطان كي يحاكَم في إيران. بدا الأمر لي ولكل من تحدثت معه جنونًا مطبقًا، فالجميع يعلمون أن الشاه مريض للغاية. لم يكن اختطاف الرهائن منطقيًّا على الإطلاق، لكن لم يكن هناك أي شيء منطقي منذ قيام الثورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤