الفصل العاشر

في يوم الزيارة كانت جميع السجينات مبتهجات، ولأول مرة منذ إلقاء القبض عليَّ أرى الفتيات يضحكن بصوت عالٍ. نادت الأخوات على أسماء السجينات حسب الترتيب الهجائي، وغالبًا ما كنَّ ينادين خمسة عشر اسمًا في كل مرة. وكانت الفتيات اللاتي تُنادى أسماؤهن يرتدين الشادور ويذهبن إلى المكتب. لم أكن أنا وترانه نعلم هل مسموح لوالدينا برؤيتنا أم لا، فظللنا نذرع الممر جيئة وذهابًا. أُلقي القبض على ترانه منذ شهرين، ولكن لم يزُرها أحد بعد. كان اسم عائلتها يبدأ بحرف الباء، ومن المفترض أن ينادَى عليها قبلي.

– «… ترانه بهزادي …»

قفزت كلانا من مكانها وصرخت. كانت منفعلة، حتى إنني اضطررت إلى أن أجري وأحضر لها الشادور والعُصابة. اختفت خلف الأبواب المدعومة بالقضبان الحديدية، وتابعتُ أنا ذرع المكان جيئة وذهابًا. معظم الفتيات كن يعُدن من الزيارة باكيات، لكن ترانه عادت بعد نحو نصف ساعة وهي هادئة رابطة الجأش.

سألتها: «هل رأيت والديك؟»

– «نعم.»

– «وكيف حالهما؟»

– «بخير على ما أظن. يوجد حاجز زجاجي سميك في غرفة الزيارة، ولا توجد هواتف. لا يمكنك الحديث، لكننا استخدمنا شيئًا أشبه بلغة الإشارة.»

نودي اسمي أخيرًا، وأُمرنا في حجرة المكتب بوضع العصابات على أعيننا. اتبعت طابور الفتيات للطابق السفلي ثم للخارج، وسرنا نحو مبنى الزيارات، وقبل أن ندخل أُمرنا بنزع العصابات. وقف الحرس المسلحون في كل مكان، بينما قسم حاجز زجاجي سميك الغرفة إلى نصفين، وعدد من الرجال والنساء يقفون في الجانب الآخر منه، بعضهم يبكي وأياديهم فوق الزجاج يحاولون العثور على من جاءوا لزيارتها. وسرعان ما رأيت والديَّ، فاندفعا نحوي وشرعا في البكاء. كانت أمي ترتدي معطفًا أسود يغطي كاحلها، وتغطي رأسها بوشاح أسود كبير يصل حتى كتفيها. لا بد أنها اشترت تلك الثياب خصيصًا من أجل زيارة «إيفين»، فكل ما لديها من معاطف قبل إلقاء القبض عليَّ قصير يصل إلى ما بعد الركبة بقليل، وأغطية الرأس أصغر أيضًا.

قرأت شفاه أمي وهي تقول: «هل أنت بخير؟»

أومأت وأنا أحبس دموعي.

ضمت راحتَيْ يديها كأنها تصلي وقالت شيئًا.

قطبت جبيني متسائلة: «ماذا؟» وأنا أستميت من أجل فهم كل كلمة تقولها.

قالت ببطء أكثر كي أستطيع متابعة حركة شفاهها: «الجميع يصلُّون من أجلك.»

انحنيت قليلًا وقلت: «شكرًا لكم.»

سألتني: «متى سيسمحون لك بالعودة إلى المنزل؟» لكني تظاهرت بعدم الفهم، فلم يكن بوسعي أن أخبر والديَّ بأنني أقضي حكمًا بالسجن مدى الحياة، فربما يقضي عليهما هذا الخبر. كانا مذعورين منكسرين، لكن على الأقل لديهما أمل في عودتي إلى المنزل ذات يوم. لم أدرِ بمَ أخبرهما، وكنت أرغب في أن أعانق أمي ولا أتركها أبدًا.

وبعد أن حدقت فيهما دقيقة، قلت أخيرًا: «سارة بخير.»

– «ماذا؟»

فكتبت بأصابعي على الزجاج «سارة»، وتابعت أمي حركة أصابعي بأصابعها.

سألتْ: «سارة؟»

– «نعم.»

– «هل هي بخير؟»

– «نعم.»

وهنا صاح أحد الحرس: «انتهى الوقت!»

فقالت أمي: «تشجعي يا مارينا!»

دائمًا يكون السجن هادئًا للغاية بعد أيام الزيارة. كانت كل واحدة تجلس في مكانها وحيدة، نحاول ألا نفكر في حياتنا قبل «إيفين»، لكن الأمر كان مستحيلًا، فالذكريات هي كل ما نملك. لقد فقدنا أهلنا وحياتنا وما كنا عليه في السابق. لم يكن لدينا مستقبل؛ لا شيء سوى الماضي.

في اليوم التالي للزيارة تسلمنا لفافات صغيرة تحتوي على بعض الملابس أرسلتها لنا عائلاتنا. فتحت لفافتي فوجدت بها قمصانًا وسراويل وملابس داخلية جديدة وسترة صوفية. كل الملابس كانت تفوح برائحة المنزل؛ رائحة الأمل. كانت ترانه تتحسس سترة من الصوف الأحمر أخبرتني أنها سترتها المفضلة، وأنها ستجلب لها الحظ، فقد حاكتها أمها منذ سنوات عندما تعلمت الحياكة. أرادت ترانه وكل شقيقاتها الحصول عليها، وعندما قررت الأم إعطاءها لترانه شعرت شقيقاتها بالحزن، فأوضحت لهن الأم أن عليها إعطاءها لإحداهن، وأن العدل يقضي بإعطائها للشقيقة الصغرى، ووعدت كلًّا من شقيقاتها الثلاث بأن تحيك لها سترة شبيهة تمامًا، لكنها لم تفِ بوعدها. كانت ترانه تؤمن بأن ارتداء تلك السترة يجلب لها الحظ كلما ارتدتها، وتساءلت هل ما زالت تحتفظ بسحرها.

– «ترانه، سوف نعود إلى المنزل ذات يوم.»

– «أعلم ذلك.»

– «سنفعل كل الأشياء التي نحبها.»

– «سنذهب في نزهات طويلة سيرًا على الأقدام، أليس كذلك؟»

– «نعم، وسوف نذهب إلى منزلنا الصيفي.»

– «سوف نذهب للتسوق.»

– «سوف نطهو ونخبز ونتناول كل ما نحب!»

وضحكنا معًا.

جافاني النوم في تلك الليلة. فكرت كيف استطاع عليٌّ تخفيف عقوبتي؛ ربما بإمكانه تكرار الأمر مع ترانه، وربما يستطيع مساعدة سارة أيضًا، لكنه أخبرني أنه راحل، والحقيقة أني لم أكن أرغب في رؤيته مرة أخرى. كنت أخشاه، وبصورة ما كان من الأيسر لي أن أتعامل مع حامد، لأنني مع حامد أعرف ماذا أتوقع. أما مع عليٍّ، فالأمر مختلف. صحيح أنه لم يؤذني قط، غير أني كنت أشعر بخوف شديد عندما يقترب مني. تذكرت ليلة الإعدام، وحاولت ألا أفكر فيها. كان عقلي يرفض استدعاء تلك الصور المخيفة، لكني كنت أعرف أنها موجودة في ذاكرتي لم تعبث بها يد الزمان. ما زلت أذكر النظرة التي رأيتها في عينَي عليٍّ عندما أخذني إلى الزنزانة؛ نظرة لهفة جعلتني أشعر وكأني محتجزة في قاع محيط متجمد. مع كل هذا لا بد أن أتحدث معه من أجل ترانه.

ذهبت إلى حجرة المكتب في الصباح وقرعت الباب. كانت الأخت مريم تجلس خلف مكتبها تقرأ. نظرت إليَّ بعينين متسائلتين.

سألتها: «هل يمكنني مقابلة الأخ علي؟»

حدقت في وتساءلت: «لماذا تريدين رؤيته؟»

أوضحت لها كيف أنه أنقذ حياتي وأني أود أن أطلب منه الآن إنقاذ حياة صديقة لي.»

– «ومن هي؟»

ترددتُ.

«ترانه؟»

– «نعم.»

– «الأخ علي ليس هنا. إنه في الجبهة يحارب العراقيين.»

كانت إيران قد اشتبكت في حرب مع العراق منذ سبتمبر من عام ١٩٨٠.

– «ومتى يعود؟»

– «الله أعلم! لكنه حتى لو كان هنا، فلن يستطيع عمل شيء. أنت محظوظة للغاية، فعندما تصدر محكمة إسلامية حكمًا بالإعدام على أي شخص، فالأمر الوحيد الذي قد ينقذ ذلك الشخص هو عفو الإمام، لكن الإمام غالبًا لا يتدخل في مثل تلك الأمور، فهو يثق في المحاكم وفي قراراتها. الوحيد الذي يمكنه مساعدتها هو المحقق الذي يتولى التحقيق في قضيتها.

– «وهل هناك ما يمكننا فعله من أجلها؟»

– «لندعُ لها.»

•••

حاولت ألا أفكر في السعادة وفيما كانت عليه الأمور قبل الثورة وما تلاها من بشائع، وكأن استدعاء الذكريات السعيدة سيجعلها تبهت كصور قديمة تناولتها الأيدي عدة مرات. لكن أحيانًا في منتصف الليل أشم عبير أشجار الليمون البرية، وأسمع حفيف أوراقها السميكة يحركها نسيم البحر المالح، وأشعر أيضًا بالأمواج الدافئة لبحر «قزوين» وهي تداعب قدمي، والرمال المبللة اللزجة تغطي أصابعي. وفي أحلامي كنت أرقد في فراشي في المنزل الصيفي أراقب البدر وهو يطلع، ثم أخطو على الأرض دون أن تصدر صريرًا، وأتجول في المكان ولكنني لا أجد أحدًا، وأحاول أن أنادي أراش، لكن يأبى الصوت أن يغادر حلقي.

كنت أفكر في أندريه طوال الوقت. قبل إلقاء القبض عليَّ كان حبي له ناشئًا هشًّا، وكنت أخشى الاستسلام لمشاعر الحب تجاهه خشية فقدانه هو الآخر، فضلًا عن أني لم أكن أرغب في خيانة أراش. الآن وبعد أن واجهت الموت أدركت أني أحب أندريه، ولا أتمنى شيئًا من الدنيا سوى أن أكون معه. ولكن هل يحبني هو؟ أعتقد ذلك. إنه أملي، وعليَّ أن أحيا من أجله، فهو الشخص الذي أرغب في العودة إليه.

وذات ليلة في منتصف شهر مارس، جاء شيدا المخاض ونُقلت إلى مستشفى السجن. وفي اليوم التالي عادت ومعها طفل جميل موفور الصحة أطلقت عليه اسم كاوه؛ تيمنًا باسم زوجها. اجتمعنا حولها هي والطفل، وشعرنا بالفخر لأن معنا أمًّا في الغرفة، ومنذ تلك اللحظة ونحن نطلق عليها «الأم شيدا». سرعان ما أصبح الطفل مدللًا، فقد كان محاطًا بالعديد من الخالات المتحمسات للاعتناء به. خفَّت نظرة القلق التي تعلو وجهها، وإن كانت لم تغادرها تمامًا. لقد منح هذا الطفل الأمل ليس لأمه فحسب، بل لكل من حوله.

وعندما أتم كاوه أسبوعين أو ثلاثة من عمره، نُقلت نحو سبعين سجينة من «٢٤٦» إلى «قزِل حصار»، وهو سجن يقع بمدينة «كَرَج» التي تبعد خمسة عشر ميلًا عن طهران. ذكرت معظم الفتيات أن ظروف المعيشة في «قزل حصار» أفضل قليلًا منها في «إيفين»، ولذا كانت السجينات المقرر نقلهن سعيدات للغاية، بينما كنت سعيدة لأن صديقاتي المقربات لم يرحلن. بعدها أصبحت الغرفة أقل ازدحامًا، لكن الوضع لم يدُم كثيرًا، فكل يوم تنضم إلينا بضع فتيات، وسرعان ما ضاقت أماكن النوم أكثر من ذي قبل.

كانت الموسيقى العسكرية تنطلق مرة في الأسبوع عبر مكبرات الصوت، يصاحبها إعلان بأن الجيش قد انتصر في إحدى المعارك الكبرى، وأن قواتنا على وشك إنهاء الحرب مع العراق وتحقيق النصر فيها، لكن أحدًا منا لم يكن يهتم بالحرب، ليس لأنها لم تكن تمس طهران مباشرة فحسب، بل لأن «إيفين» بدا كأنه كوكب آخر؛ عالَم غريب تحكمه قوانين مبهمة يمكن بموجبها تعذيب أي شخص أو الحكم عليه بالموت دون سبب.

•••

ذات مساء ونحن نتناول عشاءنا من الخبز والتمر دخلت سارة الغرفة، ودون أن تنزع الشادور أو تقول شيئًا أو تنظر لأي منا، ذهبت إلى ركن من الغرفة وجلست فيه، فذهبتُ إليها ووضعتُ يدي على كتفها.

– «سارة!»

لكنها لم ترفع بصرها.

– «سارة، أين كنتِ؟ كنا قلقات عليك.»

قالت بصوت هادئ: «مات سيرس.»

حاولت أن أجد كلمات مناسبة كي أقولها، لكنني لم أجد ما يمكن قوله.

همست لي: «معي قلمان.»

– «ماذا؟»

– «لقد سرقتهما، ولا أحد يعلم بذلك.»

أخرجت قلمًا أسود من جيبها ورفعت كمها الأيسر، وأخذت تكتب على معصمها: «سيرس مات. ذهبنا إلى «قزوين» ذات صيف ولعبنا الكرة على الشاطئ. كانت هناك ألوان متعددة، ورذاذ الأمواج يتناثر …» لاحظت وجود المزيد من الكتابة على ذراعها. كانت الكلمات صغيرة لكنها مقروءة. لقد دونت ذكرياتها عن سيرس، وعائلتها، وحياتها.

سألتني: «هل لديك أي ورق؟»

– «سوف أحضر لك الورق، ولكن أين كنت؟»

– «قريبًا لن أجد مكانًا أكتب فيه، أرجوك أن تحضري لي بعض الورق.»

أحضرت لها ورقة، لكنها لم تكن كافية، فبدأت تكتب على الحوائط. كانت تكتب نفس الأشياء مرارًا وتكرارًا عن المدرسة الابتدائية والثانوية التي ذهبنا إليها، والألعاب التي كنا نلعبها، والإجازات الصيفية، ومعلمينا المفضلين، ومنزلها، والحي الذي كنا نقطنه، ووالديها، وكل ما كان سيرس يحب فعله.

عندما حصلنا على الماء الدافئ أخيرًا ذات ليلة رفضت سارة الاستحمام.

– «سارة، لا بد أن تستحمي؛ فسواء أستحممت أم لا سوف تتلاشى الكلمات. وإذا استحممت يمكنك كتابتها مرة أخرى، أما إذا لم تستحمي فسوف تصبح رائحتك كريهة.»

– «الحبر ينفد من أقلامي.»

– «سأحضر لك أقلامًا جديدة إذا استحممت.»

– «أتعدينني بذلك؟»

لم أشأ أن أعدها ما لم أكن متأكدة من قدرتي على الوفاء بالوعد، فذهبت إلى المكتب وشرحت الأمر للأخت مريم، وأخبرتها أن سارة لا تكتب أي شيء له علاقة بالسياسة، بل تدون ذكريات عائلتها فحسب.

أعطتني الأخت مريم قلمين، فهرعت إلى سارة وكأني عثرت على أعظم كنز في العالم.

عندما خلعت سارة ثيابها في غرفة الاغتسال، لم أصدق ما رأيت؛ فساقاها وذراعاها وبطنها مغطاة تمامًا بكلمات مكتوبة بخط صغير.

– «لم أتمكن من الكتابة على ظهري، ولن أستحم إلا إذا وعدتني أن تكتبي لي على ظهري.»

– «أعدك بذلك.»

غسلت سارة الكلمات عن جسدها؛ تلك الكلمات التي كانت كتابًا حيًّا يتنفس ويشعر ويؤلم ويخلد الذكرى.

•••

وبعد نحو ثلاثة أشهر من وصولي إلى «٢٤٦»، نودي اسمي عبر مكبر الصوت، فتوجَّهتْ أنظار الجميع نحوي بقلق بالغ، بينما وضعت الشال على رأسي بيدٍ مرتجفة.

قالت ترانه وعيناها تشعان أملًا: «أنا واثقة أن هناك أخبارًا جيدة.»

أخذت نفسًا عميقًا وفتحت الباب المؤدي إلى البهو. كانت الأخت مريم تنتظرني في المكتب، واستشعرت قلقها.

سألتها: «إلى أين سأذهب؟»

– «أرسل الأخ حامد في طلبك.»

– «هل تعرفين السبب؟»

– «كلا، ولكن لا تقلقي، لا بد أنه يرغب في الاطمئنان عليك فحسب.»

وضعت العصابة على عيني، واتبعت إحدى الأخوات نحو المبنى الآخر، ثم انتظرت في الرواق حتى ناداني حامد، فاتبعته إلى إحدى الغرف. أغلق الباب خلفنا، وطلب مني أن أخلع العصابة. لم يتغير قط، فعيناه كانتا أشبه بكهفين باردين مظلمين. رأيت في الحجرة فراشًا للتعذيب في أحد الأركان، ومكتبًا ومقعدين، وسوطًا أسود غليظًا يتدلى من ظهر الفراش، فتسارعت أنفاسي.

قال لي مبتسمًا: «مارينا، كم جميل أن أقابلك. اجلسي وأخبريني كيف حالك.»

كانت كلماته كلدغات النحل.

قلت وأنا أبتسم: «أنا بخير.»

– «لقد هربتِ مني في تلك الليلة، أتذكرين؟ هل تساءلتِ عما حدث لمن كانوا معك؟»

تسارعت دقات قلبي حتى شعرت بأن رأسي سينفجر.

– «لم أهرب. عليٌّ هو الذي أخذني معه، وأعلم جيدًا ماذا حلَّ بالآخرين. لقد قتلتَهم.»

كانت هناك بقع دماء على فراش التعذيب لم أستطع أن أبعد عيني عنها.

– «مع أنكِ لا تروقين لي، أعترف بأنك تثيرين اهتمامي. هل تمنيتِ من قبل لو أُعدمتِ معهم في تلك الليلة؟»

– «نعم.»

لم تفارقه الابتسامة.

– «تعرفين أنك تقضين حكمًا بالسجن مدى الحياة، أليس كذلك؟»

– «نعم.»

إن بدأ في جَلدي الآن، فلن يتوقف حتى يقتلني.

– «ألا يزعجك هذا؟ أعني أنك لم تقضِ وقتًا ممتعًا منذ بضعة أشهر، أليس كذلك؟ ماذا لو استمر الوضع هكذا إلى الأبد؟»

– «سوف يساعدني الله في تجاوز تلك المحنة.»

وقف، وسار في الغرفة دقيقة، ثم تقدم نحوي وصفعني على خدي الأيمن بظهر يده صفعة شعرت معها بأن عنقي قد انكسر، وظلت أذني اليمنى تصفر.

– «عليٌّ ليس هنا ليحميك بعد الآن.»

غطيت وجهي بيديَّ.

«لا تتلفظي باسم الله بعد ذلك، فأنت دنسة لا تستحقين ذلك. عليَّ أن أغسل يدي لأنني لمستك. بدأت أعتقد أن الحكم بالسجن مدى الحياة أفضل لك، فسوف تعانين طويلًا بلا أمل.»

وهنا قُرع الباب، ففتحه حامد وخرج. لم أستطع التفكير بوضوح. ماذا يريد حامد مني؟

ثم دخل الغرفة رجل لم أقابله من قبل، وقال: «أهلًا مارينا. أنا محمد، وقد أتيت لأعيدك إلى «٢٤٦».»

نظرت إليه مشدوهة، ولم أصدق أن حامدًا قد أطلق سراحي بتلك البساطة.

سألني محمد: «هل أنت بخير؟»

– «بخير.»

– «إذن ضعي العصابة، وهيا بنا.»

تركني في حجرة مكتب مبنى «٢٤٦» حيث طلبت مني الأخت مريم أن أخلع العصابة فور أن وصلت، وكانت الأخت معصومة جالسة خلف مكتبها تقرأ.

سألتني الأخت مريم: «لماذا وجهك أحمر هكذا؟»

رفعت الأخت معصومة بصرها، وأخبرتُهما بما حدث.

قالت الأخت مريم: «حمدًا لله أني تمكنت من العثور على الأخ محمد، فهو والأخ علي صديقان مقربان، عملا معًا في نفس المبنى. اتصلتُ به وأخبرته أن حامدًا استدعاك، فوعدني بأن يعثر عليك ويعيدك مرة أخرى.»

وهمست الأخت معصومة: «إنك محظوظة يا مارينا، فالأخ حامد لا يحتاج سببًا ليمعن في إيذاء الآخرين إن أراد.»

استدارت نحوي الأخت مريم وقالت: «كما ترين، فالأخت معصومة ليست على علاقة طيبة بالأخ حامد، لكنها تعلمت أن تلتزم الصمت. ومع أنها كانت واحدة من «أتباع الإمام» الذين احتجزوا الرهائن في السفارة الأمريكية وتعرف الإمام معرفة شخصية، فإن لديها مشاكل مع حامد. الوحيدان اللذان يمكنهما التصدي له هنا هما الأخ علي والأخ محمد.»

قالت الأخت معصومة: «لا تقلقي يا مارينا، فالآن وبعد أن علم حامد أن الأخ محمد يحميك فلن يجرؤ على التعرض لك مرة أخرى.»

فرِحتْ جميع السجينات في الغرفة «٧» بعودتي، وأردنَ معرفة سبب استدعائي، لكن فور أن رأين الآثار الحمراء المتورمة على خدي أدركن أن لديَّ أخبارًا سيئة. لم يكن لديَّ أمل في الحصول على إطلاق سراح مشروط، ولكنني لم أكن على استعداد لليأس، فهذا ما يريده حامد. إنه يحاول أن يسحق معنوياتي، وكاد أن ينجح في ذلك.

فكرت فيما قالته لي الأخت مريم عن الأخت معصومة. من الصعب أن أتخيل أنها كانت إحدى محتجزي الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران، فما زلت أذكر أخبار احتجاز الرهائن التي شاهدتها في التلفاز عندما وقعتْ. حينها شعرت بالقلق على الرهائن، فلديهم عائلات في بلادهم وأشخاص يحبونهم ويحتاجونهم وينتظرون عودتهم، لكن احتجازهم استمر ٤٤٤ يومًا، وأطلق سراحهم في العشرين من يناير عام ١٩٨١. الآن وضعي أسوأ منهم بكثير؛ فقد كانوا مواطنين أمريكيين، ما يعني أنهم ذوو شأن، وعلى الأقل فقد حاولت حكومتهم إنقاذهم، وعرف العالم بأسره بأمر الحادث المروع الذي وقع لهم. هل يعرف العالم عنا أي شيء؟ هل يحاول أحد إنقاذنا؟ في أعماقي كنت أعلم أن الإجابة عن كلا السؤالين هي «لا».

•••

كنت أفكر بالكنيسة دائمًا. كنت أشم رائحة الشموع تشتعل أمام صورة العذراء، وأضواؤها تتراقص على أمل استجابة الدعاء. هل نسيَتْني؟ أذكر أن المسيح قال إنه بأقل قدر من الإيمان يمكننا إلقاء جبل في البحر، لكني لم أكن أرغب في نقل جبل من مكانه، بل أرغب في العودة إلى المنزل فحسب.

في يوم عيد ميلادي استيقظت مبكرًا للغاية، قبل موعد صلاة الفجر. لقد بلغت السابعة عشرة. عندما كنت في العاشرة أو الحادية عشرة تمنيت أن أصبح في مثل هذا العمر. اعتقدت وقتها أن ذوات السابعة عشرة يمكنهم فعل أي شيء، لكنني الآن سجينة سياسية محكوم عليها بالسجن مدى الحياة. لمست ترانه كتفي، فاستدرت إليها؛ إذ كانت تنام بجواري.

همست لي: «عيد ميلاد سعيد.»

– «أشكرك، ولكن كيف عرفتِ أني مستيقظة؟»

– «من صوت أنفاسك. بعد أن تنامي بجوار أحد كل تلك المدة يمكنك أن تعرفي متى يكون نائمًا بالفعل ومتى يتظاهر بالنوم.»

سألتني هل تحتفل عائلتي بأعياد الميلاد، فأخبرتها أن والديَّ كانا يُحضران لي كعكة وهدية صغيرة، لكنها أخبرتني أن أعياد الميلاد تحظى بأهمية بالغة لدى عائلتها، فقد كانوا يقيمون حفلات كبرى ويغدقون الهدايا بعضهم على بعض. كانت تتنافس هي وشقيقاتها في حياكة الثياب بعضهن لبعض، وفي كل عام تزداد الثياب أناقة.

قالت لي: «مارينا، إنني أفتقدهم.»

فطوقتها بذراعي، وقلت لها: «سوف تعودين إلى المنزل، وسوف يعود كل شيء كما كان.»

وبعد الغداء أحاطت بي ترانه وسارة وبعض صديقاتنا الأخريات، وأعطتني سارة قطعة مطوية من القماش. فتحتها فوجدت غطاء وسادة مطرزًا، شهقتُ لرؤيته إذ كان جميلًا. تبرعتْ كل واحدة من صديقاتي بقطعة صغيرة من ملابسهن أو أغطية رءوسهن لصنعه. تعرفتُ على كل مربع فيه. كان من عادتنا في السجن أن نصنع حقائب صغيرة مخيطة تُعلق في خطاف تحت الرف بالغرفة كي نخزن فيها متعلقاتنا الشخصية الصغيرة، وكنت أنا أول من تحصل على غطاء وسادة.

وبعد العشاء أعددنا كعكة عيد الميلاد من الخبز والتمر، وتظاهرت بإطفاء شموع وهمية.

قالت ترانه: «نسيتِ الأمنية!»

– «سأتمناها الآن: أتمنى أن تحتفل كل منا بعيد ميلادها القادم في منزلها.»

صفق الجميع وهللن.

بعد يومين أو ثلاثة أُعلن في مكبر الصوت أن على كل سجينات الطابق الثاني من مبنى «٢٤٦» ارتداء الحجاب والتجمع في الساحة. ومع أننا كنا نستطيع الخروج في أوقات محددة من اليوم، فإن ذلك لم يكن إجباريًّا قط، وهو ما جعل الجميع يشعرن بالقلق. عندما وصلنا إلى الساحة أُمرنا بالوقوف بعيدًا عن منطقة محددة في المنتصف. خرج أربعة من الحرس الثوري من المبنى يرافقون فتاتين، إحداهما كانت رفيقتنا في الغرفة في التاسعة عشرة من عمرها، أما الأخرى فمن الغرفة رقم «٥»، وكلاهما ترتدي الشادور. طُلب منهما الاستلقاء على الأرض في منتصف الساحة، وقيَّد أحد الحرس أيديهما وأقدامهما بالحبال، ثم أُعلن أنهما مارستا الشذوذ، ولذلك ستعاقبان طبقًا للشريعة الإسلامية. شعر الجميع بالذعر، وشاهدنا اثنين من الحرس يجلدان ظهر الفتاتين. لم تستطع الكثيرات منا رؤية هذا المشهد، فغطَّين وجوههن بأيديهن وأخذن يدعين، لكني لم أغمض عيني، بل ظللت أشاهد السياط وهي ترتفع وتشق الهواء بصوتها الحاد الثاقب، ثم تأتي لحظة من الصمت يتوقف فيها قلب المرء وترفض الرئتان التنفس. لم تكن الفتاتان تصرخان، غير أني وددت لو صرختا. كان جسداهما الضئيلان يهتزان مع كل ضربة سوط. تذكرت الألم الرهيب الذي شعرت به عندما تعرضت للجلد بالسياط. وبعد ثلاثين ضربة سوط، حُلَّ وثاقهما واقتيدتا بعيدًا بعد أن تمكنتا من الوقوف، وتُركنا نحن لنفكر فيما حدث لرفيقتينا. من المفترض أن تزيدنا المعاناة قوة، لكن علينا أن ندفع الثمن أولًا.

ذات يوم جاء دوري كي أساعد شيدا في غسل ملابسها، ولم يكن غسل الحفاضات القماشية بالماء البارد مهمة يسيرة. غسلنا الحفاضات في الصباح وتركناها معلقة لتجف في الساحة، ومع أنه كان على الجميع الانتظار حتى اليوم التالي كي يجمعن الغسيل الجاف، كانت شيدا الوحيدة المسموح لها بالخروج في المساء. تقدمتني ببضع خطوات، وكان الجو ربيعيًّا والطيور تغرد من بعيد، والشمس غربت لتوها، واصطبغت السماء باللون الوردي. كانت حبال الغسيل الخمسة في نهاية الساحة، وكل منها مربوط في قضبان نوافذ الطابق الأول، وتمتد من جهة إلى أخرى في الساحة، وكانت مغطاة بملابس متعددة الألوان. اختفت شيدا خلف صفوف الملابس، واتبعتها محاولة شق طريقي بذراعيَّ بين السراويل والتنانير والقمصان والشادورات، وفجأة سمعتها تصرخ.

– «مارينا! أسرعي، أحضري مقصًّا! أسرعي! الآن!»

لمحتُ شيدا تحمل شخصًا يتدلى من بين قضبان إحدى النوافذ، فجريت إلى حجرة المكتب وقرعت الباب بقوة، ففتحت الأخت مريم.

– «مقص! الآن! في الساحة!»

تناولت مقصًّا من مكتبها، وهرعنا إلى المكان الذي تركت فيه شيدا، فوجدناها ما زالت تحمل الفتاة التي اتضح أنها سارة. لقد شنقت نفسها بحبل قصير مصنوع من أغطية الرأس. كان الحبل معقودًا فوق القضيب الأفقي العلوي لإحدى نوافذ الطابق الأول. ولو كانت سارة — القصيرة ضئيلة الجسم — أطول قليلًا، لما استطاعت فعل ذلك. كان جسدها يرتجف، فقطعت الأخت مريم الحبل. كانت تتنفس، لكن وجهها تحول إلى اللون الأزرق. بقينا معها وذهبت الأخت مريم كي تحضر الممرضة. كانت فاقدة الوعي، فأخذنا نتحدث إليها ونلمس وجهها، ولكنها لم تُبدِ أي رد فعل.

وهكذا أُخذت سارة بعيدًا مرة أخرى.

•••

كنت أفقد بعض الأمل مع كل لحظة تمر. كنا في فصل الربيع، والنسيم العليل ينشر عبير الأزهار، والحياة مستمرة خارج أسوار «إيفين». هل لم أعد سوى ذكرى لأندريه؟ ربما نسيني. وضعوا لنا هواتف في منطقة الزيارة، وسألت والديَّ عنه، فأخبرتني أمي بأنه يزورهما دائمًا ويفكر في طوال الوقت، ولكن ربما يقولان ذلك كي لا أشعر بالحزن.

بدا كل يوم كسابقه، مما جعل الوحدة والإحباط اللذين نشعر بهما أشق من أن يُحتملا؛ فكل يوم يبدأ بصلاة الفجر قبل شروق الشمس، والإفطار يبدأ في الثامنة صباحًا، ثم نشاهد البرامج الدينية التعليمية في التلفاز، ويُسمح لنا بقراءة الكتب التي تتحدث كلها عن الإسلام، أو السير جيئة وذهابًا عبر الممرات الضيقة. لم نكن نتحدث في السياسة أو أنشطتنا السياسية قبل «إيفين» إلا لمامًا، فقد كانت بعض الفتيات يقمن بدور المخبرات مع أن عددهن لم يكن كبيرًا؛ واحدة أو اثنتان فحسب في كل غرفة، وهكذا لم نكن نخاطر بقول أي شيء لا نرغب في أن يعرفه من يتولون التحقيق معنا.

ولمدة ساعة يوميًّا يُسمح لنا بالخروج في الساحة الصغيرة المحيطة بالمبنى. كان يتعين علينا ارتداء الحجاب عند الخروج، لأن الحرس من الرجال منتشرون فوق الأسطح طوال الوقت يراقبوننا، ولكن لم يكن علينا ارتداء الشادور في الساحة، بل مسموح لنا بارتداء العباءات وأغطية الرأس. وأثناء وجودنا بالخارج لا يُسمح لنا إلا بالسير في دوائر أو الجلوس بجوار الحوائط ومشاهدة السماء فوقنا. كانت تلك الرقعة الزرقاء الصغيرة هي الجزء الوحيد الذي يمكننا رؤيته من العالم الخارجي، وكانت تذكرنا بالمكان الآخر الذي عشنا فيه ذات يوم حيث بيوتنا والأماكن التي كنا ننتمي إليها. كنت غالبًا أجلس مع ترانه بجوار الحائط متكئتين على سطحه الخشن نراقب السحب وهي تختفي عن ناظرينا وتذهب إلى أرض أخرى، كنا نتخيل أننا نجلس فوق سحابة نستطيع توجيهها في أي اتجاه، وتخبر إحدانا الأخرى عن الأماكن المألوفة التي يمكن رؤيتها من هناك؛ شوارع الأحياء التي كنا نسكن فيها، ومدارسنا، ومنازلنا حيث تنظر أمي وأمها من النوافذ تتساءل كل واحدة عن مصير ابنتها التي أُخذت بعيدًا عنها.

ذات يوم وبينما يغمرنا دفء شمس الربيع وتراودنا أحلام اليقظة عن البيت، سألتني ترانه: «كيف تورطتِ وانتهى بك الأمر هنا؟» لم نتحدث قط عن الأحداث التي أدت إلى إلقاء القبض علينا. كانت الساحة مليئة بالفتيات اللواتي يسير معظمهن بسرعة كأنهن يقصدن وجهة معينة، والمعاطف السوداء والزرقاء والبنية والرمادية يحتك بعضها ببعض، والخفاف البلاستيكية تتحرك بسرعة على الأرض المرصوفة. أدركت أن المشهد الذي أراه وأنا جالسة هناك مشابه للمشهد الذي يراه أحد المتسولين الجالسين في شارع مزدحم، ولكن المشهد الذي أراه أكثر محدودية وتواضعًا عما يراه المتسول. في تلك اللحظة لم يكن عالمي إلا مبنى مربعًا بلا سقف، به مستويان من النوافذ المدعومة بالقضبان الحديدية التي تطل على غرف مظلمة؛ عالم من الفتيات يسرن في دوائر. كان أشبه بقصة خيال علمي غريبة للغاية. قلت وأنا أضحك: «كوكب السجينات.»

سألتْ ترانه: «ماذا؟»

– «يبدو لي الأمر وكأننا متسولات نجلس على الرصيف في كوكب آخر.»

ابتسمت ترانه، وقالت: «المتسول مَلِك إذا ما قورن بنا.»

– «بدأت مشاكلي في اليوم الذي انسحبتُ فيه من درس التفاضل …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤