الفصل الحادي عشر

في مطلع عام ١٩٨٠ أصبح أبو الحسن بني صدر أول رئيس منتخب للجمهورية في إيران. وقد شارك قبل نجاح الثورة في تحركات مناهضة للشاه عدة سنوات وسُجن مرتين، ثم تمكن من الفرار إلى فرنسا والانضمام لآية الله الخميني. كانت الآمال تراودنا في أن يقود ذلك الرجل إيران نحو الديمقراطية، لكن أثناء العام الدراسي ١٩٧٩ / ١٩٨٠ شعرت كأني أغرق في الظلام، فكل شيء أخذ يتغير للأسوأ تدريجيًّا، وحلت الفتيات المتعصبات قليلات الخبرة محل معظم معلماتنا واحدة تلو الأخرى، وأصبح ارتداء الحجاب إجباريًّا، وأصبح حتميًّا على النساء إما ارتداء أثواب طويلة داكنة اللون وتغطية رءوسهن بأوشحة كبيرة أو ارتداء الشادور، وحُظرت الجماعات السياسية التي تعارض الحكومة الإسلامية أو حتى تنتقدها، وأُعلن أن ارتداء ربطات العنق واستخدام العطور ومساحيق التجميل وطلاء الأظافر «رجس من عمل الشيطان»، ومن ثمَّ تعرِّض صاحبها للعقاب الشديد. وقبل دخول الفصول كل يوم يُجبر الطلبة على الانتظام في صفوف والهتاف بشعارات مفعمة بالكراهية؛ مثل «الموت لأمريكا» و«الموت لإسرائيل».

كل صباح تقف محمودي خانم مديرة المدرسة ونائبتها كرخة خانم في مدخل المدرسة حاملتين دلوًا من الماء وقطعة قماش، حيث تتفحصان وجوه كل الفتيات أثناء دخولهن المدرسة، فإن وجدتا فتاة تضع مساحيق التجميل فركتا وجهها حتى يؤلمها. وذات صباح أثناء التفتيش جذبت محمودي خانم إحدى صديقاتي وتدعى نسيم، واتهمتها بأنها نمصت حاجبيها لأنهما متساويان أكثر من اللازم، فبكت نسيم وأكدت أنها لم تمس حاجبيها قط، ولكن المديرة اتهمتها بالفجور. كانت نسيم جميلة بطبعها، ودافعت عنها الكثيرات منا وشهدن أن تلك هي طبيعتها، لكنها لم تتلقَّ اعتذارًا قط على ما حدث.

ويومًا بعد يوم أخذ الغضب والإحباط يتزايدان بداخلي. كنت أعاني أثناء معظم الدروس، وخاصة درس التفاضل؛ فمعلمة التفاضل الجديدة فتاة من الحرس الثوري لم تكن مؤهلة لتدريس المادة، بل كانت تقضي معظم الوقت في الدعاية للحكومة الإسلامية والحديث عن الإسلام والمجتمع الإسلامي المثالي الذي يقاوم التأثيرات الغربية والفساد الأخلاقي. وذات يوم بينما كانت تسترسل في الحديث عن الأمور العظيمة التي فعلها الخميني من أجل البلاد، رفعتُ يدي.

سألتني: «ماذا هناك؟»

– «لا أقصد الإساءة، آنسة، ولكن هل يمكننا من فضلك العودة إلى موضوعنا الرئيسي؟»

رفعت حاجبها وقالت بنبرة تحدٍّ: «إن لم يعجبك ما أقول، يمكنك مغادرة الفصل.»

نظر الجميع نحوي، فجمعت كتبي وغادرت الفصل، وبينما كنت أسير في الممر سمعت صوت وقع خطوات كثيرة من خلفي. استدرت فوجدت معظم زميلاتي في الفصل قد تبعنني، وأصبحنا نحو ثلاثين فتاة في الممر.

وبحلول استراحة الغداء عمت الفوضى المدرسة، وذكر الجميع أني أشعلت شرارة الإضراب. أُلغيت معظم الدروس المسائية لأن نحو ٩٠٪ من الطالبات ظللن في الفناء ورفضن العودة إلى الفصول، فخرجت محمودي خانم حاملة مكبر صوت وطلبت منا العودة إلى الفصول، لكن لم يستجب أحد، فأخبرتنا أنها ستتصل بأولياء أمورنا، لكننا لم نتحرك، وعندما هددتنا بالطرد، أخبرناها أنها تستطيع أن تفعل ما تشاء. وأخيرًا اختارتني الطالبات ومعي اثنتان أخريان كي نتحدث مع المديرة نيابة عنهن، فأخبرناها أننا لن نعود إلى الفصول ما لم تعدنا المعلمات بالالتزام بمناهج التدريس وتنحية السياسة جانبًا.

عندما عدت إلى المنزل في ذلك اليوم نادتني أمي، وهو ما كان غريبًا، فنادرًا ما كانت تتحدث معي قبل وقت الطعام. كانت في المطبخ تفرم بعض البقدونس.

وقفت عند الباب وأجبتها: «نعم يا أمي.»

– «لقد اتصلت مديرة مدرستك اليوم.»

لم تكن تنظر إليَّ، بل ظلت تنظر إلى لوح التقطيع. تحركت السكين بمهارة ودقة، وغطى البقدونس المفروم يدها كاسيًا إياها باللون الأخضر.

سألتني وهي ترمقني بنظرة سريعة حادة كالسكين: «ماذا تظنين أنك فاعلة؟»

فأخبرتها بما حدث.

– «من الأفضل لك أن تعالجي تلك المشكلة، فلا أريدها أن تتصل بي مرة أخرى. تعايشي معهم فحسب، فتلك الحكومة لن تدوم طويلًا، والآن اذهبي لأداء واجباتك المدرسية.»

ذهبت إلى غرفتي وأغلقت الباب خلفي. لا أصدق أني أفلت من غضبها بتلك السهولة. ربما كانت أمي تكره الحكومة الجديدة مثلما أكرهها، ولذلك لم تُبدِ رد فعل عنيفًا كما توقعت.

استمر الإضراب يومين، وظللنا نذهب إلى المدرسة دون أن ندخل الفصول، بل كنا نقضي الساعات نجوب الفناء سيرًا أو نجلس في مجموعات صغيرة، وتدور معظم مناقشاتنا عمَّا شهدناه في الشهور الأخيرة. لم نكن نصدق أن الحياة تغيرت تغيرًا جذريًّا هكذا، فمنذ عام واحد فقط لم نكن نتخيل أن ملابسنا ستعرِّض حياتنا للخطر، أو أننا سنُضرِب عند الدراسة كي نتعلم التفاضل. وفي ثالث أيام الإضراب استدعت محمودي خانم المندوبات عن الطالبات إلى مكتبها.

كان وجهها محتقنًا من الغضب، وأخبرتنا أنها توجِّه لنا إنذارًا أخيرًا، وأننا إن لم نعد إلى الفصول فلن يصبح لديها خيار سوى الاتصال بالحرس الثوري واستدعائهم إلى المدرسة كي يتولوا الأمر، وأنها على يقين من أننا نعلم أن الحرس لن يصبروا علينا، وأن ذلك الأمر خطير وقد يعرض البعض للأذى، وحذرتنا من أننا نعادي الحكومة الإسلامية، وأن عقوبة ذلك هي الإعدام، وأعطتنا مهلة مدتها ساعة كي نعود إلى الفصول.

لقد قالت ما لديها؛ الحرس الثوري سيئو السمعة، وخلال الأشهر الماضية ألقوا القبض على مئات الأشخاص الذين انقطعت أخبار العديد منهم، والذين تنوعت جرائمهم ما بين مناهضة الثورة أو مناهضة الإسلام أو مناهضة الخميني.

وهكذا انتهى الإضراب.

لم يكن الحرس الثوري الوحيدين الذين يثيرون القلاقل، فهناك أيضًا «حزب الله»، وهم مجموعات من المدنيين المتعصبين مسلحين بالسكاكين والهراوات يهاجمون أي نوع من الاحتجاجات الشعبية. كانوا ينتشرون في كل مكان ويمكن حشدهم في غضون دقائق. كانوا أكثر عنفًا مع النساء اللاتي لا يرتدين الحجاب كما ينبغي، وقد تعرضت العديد من النساء للاعتداء والضرب لأنهن يضعن أحمر شفاه، أو لأن بضع خصلات من شعرهن تظهر من تحت غطاء الرأس.

بعد نحو شهر أو اثنين من الإضراب طلبت مني معلمة الكيمياء باهمان خانم الانتظار بعد انتهاء الدرس، وأخبرتني أنها رأت قائمة تضم بعض الأسماء، ومن بينها اسمي، على مكتب محمودي خانم. كانت باهمان خانم إحدى المعلمات القلائل اللاتي كن يدرِّسن لنا من قبل قيام الثورة واستمررن في المدرسة، وتعرفني جيدًا. وبينما كانت تتحدث ظلت عيناها تراقبان الباب كي تتأكد أن أحدًا لن يدخل فجأة. كانت تحدثني همسًا، واضطررت أن أنحني كي أسمعها جيدًا.

كنت أتوقع حدوث شيء كهذا. أدركت أني سأواجه المشاكل بعد كل ما قلت وفعلت، فبُغضي للقواعد الإسلامية الجديدة لم يكن سرًّا، ووقتها لم يكن بوسع أحد الحديث بحرية دون أن ينال عقابه. وبالرغم من علمي بكل ذلك، فقد بدت الأخطار التي تتهددني بعيدة مبهمة. كنت أظن أن الأمور السيئة تحدث للآخرين فحسب.

شكرت باهمان خانم على إخباري بأمر القائمة، فأخبرتني بضرورة مغادرتي البلاد، وسألتني هل لي أي قريب في الخارج، فأوضحت لها أن أسرتي ليست ثرية ولا يمكنهم إرسالي إلى أي مكان، فقاطعتني وهي ترفع صوتها والدموع تلمع في عينيها.

– «مارينا، أظن أنك لا تفهمينني جيدًا. إنها مسألة حياة أو موت، ولو كنت مكان والدتك لحاولتُ إبعادك عن هنا حتى وإن اقتضى الأمر أن أموت جوعًا.»

كنت أحبها ولم أكن أرغب في إثارة قلقها، فأخبرتها أني سأتحدث مع والديَّ في هذا الشأن، لكنني لم أكن أنوي ذلك. ماذا أقول لهم؟ أأخبرهم أنه سيُلقى القبض عليَّ قريبًا؟

كان شقيقي وزوجته قد غادرا البلاد عقب قيام الثورة، وهاجرا إلى كندا بعد أن أدركا أن لا مستقبل أمامها في ظل الجمهورية الإسلامية، وبعد رحيلهما بفترة وجيزة منعت الحكومة الإيرانية مواطنيها من الهجرة إلى الدول الأخرى. أحببت اسم «كندا»، فهي تبدو بلادًا بعيدة قارسة البرودة ولكنها هادئة، وشقيقي وزوجته محظوظان لوجودهما هناك، فبإمكانهما أن يحييا حياة طبيعية، وألا يقلقا إلا بشأن الأمور العادية. فكر والداي في إرسالي إلى شقيقي كي أقيم معه، ولكن هذا الأمر لم يفلح، فكان عليَّ أن أبقى وأحتمل المخاطرة.

وفي ذلك المساء وأنا في المنزل ظللت أراقب الطريق من شرفتي. لم يجلب النظام الجديد شيئًا سوى الدمار والعنف، وتحولت المدرسة التي كانت فيما مضى أفضل شيء في حياتي إلى قطعة من الجحيم. كنت قد سمعت أن الحكومة تخطط لإغلاق كل الجامعات وإعادة هيكلتها فيما أطلقت عليه اسم «الثورة الثقافية الإسلامية»، كل هذا وقد مات أراش ولم يبقَ لي شيء.

•••

كان معظم صيف عام ١٩٨٠ هادئًا، وسررت لأني سأبتعد عن المدرسة فترة وسأذهب إلى المنزل الصيفي. وفي شهر يوليو، كان أرام ووالداه يقضيان أسبوعين في المنزل الصيفي الذي تمتلكه عمته. كنت وحيدة أتطلع إلى مجيئهم، لكن عندما جاءوا وجدت نفسي أفكر في أراش وأفتقده أكثر من ذي قبل. كنت أنا وأرام نقضي معظم وقتنا بالمنزل نلعب الورق أو نمارس لعبته المفضلة «ماسترمايند»، وأحيانًا نتنزه سيرًا على الشاطئ، لكن لم يكن بوسعنا السباحة معًا، لأن الفتيات أصبحن ممنوعات من ارتداء ملابس السباحة علنًا. كان معظم أصدقائنا الذين تملك عائلاتهم منازل صيفية في المنطقة — بما فيهم نيدا — قد غادروا البلاد. قابلنا بعض الأصدقاء القدامى، لكننا كنا جميعًا نخشى الحرس الثوري وأعضاء الجماعات الإسلامية الذين ينتشرون في كل مكان ويكرهون مرأى الفتية والفتيات معًا، فطبقًا للقوانين الجديدة التي تحكم البلاد كان هذا الأمر غير أخلاقي.

•••

بدأت الحرب بين إيران والعراق في سبتمبر من عام ١٩٨٠، وكنت قد عدت إلى المدينة. ذهبت في ذلك اليوم إلى منزل إحدى صديقاتي، وكنا نجلس في المطبخ نتناول الشاي وكعك الأرز بينما تريني حذاءها الرياضي الجديد الذي كان أبيض اللون بأشرطة حمراء على الجانبين. فجأة قطع حديثنا صوت دوي هائل تكرر مرتين، ويبدو كالانفجار. كنا في المنزل وحدنا.

ثم توالت المزيد من الانفجارات.

نظرنا من النافذة، ولكننا لم نتمكن من رؤية أي شيء. كانت صديقتي تقطن الطابق الأخير من بناية ذات خمسة طوابق تقع بالقرب من ميدان «جاله»، فقررنا الخروج سريعًا إلى السطح، وفي الممر اصطدمنا ببعض الجيران الذين كانوا في طريقهم إلى هناك أيضًا، وما إن بلغنا السطح حتى تمكنَّا من رؤية المدينة جيدًا. كان اليوم صحوًا مشمسًا، وطبقة رقيقة من الضباب تغلف طهران، ثم سمعنا صوت الطائرات.

وهنا صرخ أحدهم: «انظروا هناك!»

على بعد بضعة أميال جنوبًا كانت طائرتان نفاثتان مقاتلتان تحلقان باتجاه الشرق، وفي الأفق غربًا تتصاعد أعمدة من الدخان في السماء. أحضر أحد الجيران مذياعًا وفتحه، وسرعان ما أعلن مذيع منفعل أن طائرات ميج العراقية قد قصفت مطار طهران، وأن فرقًا عسكرية من الجيش العراقي عبرت الحدود ودخلت إيران؛ لقد دخلت إيران الحرب.

قرأت عن الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الأهلية الأمريكية، وعن القنابل التي دمرت المدن ولم تخلف سوى الحطام والجثث، لكن تلك الحروب كانت في الكتب، حتى وإن كانت تلك القصص حقيقية فقد مر على حدوثها سنوات عديدة، أما الآن فقد اختلف العالم، ولن يُسمح لأحد بتدمير المدن وقتل الآلاف من الأشخاص.

لوَّح صاحب المذياع بقبضته في الهواء وقال: «سوف نلقنهم درسًا، سوف نستولي على بغداد ونرجم صدَّام بالحجارة. هؤلاء الأوغاد!»

أومأ الجميع.

عندما عدت إلى المنزل وجدت أمي تلصق أشرطة لاصقة على شكل علامة X كبيرة على النوافذ كي تحمي الزجاج من الانكسار في حالة حدوث قصف، وأوضحت لي أن الإذاعة تحث الناس على اتخاذ احتياطاتهم، وأنهم وعدوا ألا تستغرق تلك الحرب أكثر من بضعة أيام أو أسابيع بحد أقصى، وأن جيشنا سوف يهزم العراقيين في لمح البصر. اشترت أمي أيضًا قطعًا من الورق المقوى الأسود كي تغطي النوافذ ليلًا بحيث لا ترى طائرات الميج أضواء منزلنا وتتخذنا هدفًا. لكنني لم أشعر بالقلق الشديد، فلم يبدُ الأمر خطيرًا إلى تلك الدرجة.

مرت الأيام، وإنذارات الغارات الجوية تنطلق مرتين يوميًّا، غير أنه نادرًا ما كنا نسمع صوت انفجارات. كانت محطات الإذاعة والتلفاز تبث الموسيقى العسكرية طوال اليوم وتعلن أن قواتنا الجوية قد هاجمت بغداد وبعض المدن العراقية الأخرى، وأننا تمكنَّا من صد هجمات العراقيين، وبدأت حملة تشجيع لكل الرجال — صغارًا وكبارًا بل ومراهقين أيضًا — على الانضمام للجيش والاستشهاد، فقد أعلنت الحكومة أن نيل الشهادة هو السبيل الأكيد للفوز بالجنة. كانت حربًا للخير ضد الشر. أُبيدت مدينة «خُرَمشهر» التي تقع بالقرب من الحدود الإيرانية العراقية عن آخرها ثم اجتاحها العراقيون.

سرعان ما أُغلقت كل الحدود، ولم يعد مسموحًا لأي شخص بمغادرة البلاد دون تصريح خاص، ولكن هناك من كانوا يدفعون أموالًا طائلة للمهرِّبين كل يوم كي يغادروا إيران من أجل تجنب الخدمة العسكرية أو الهرب من الاعتقال على يد الحرس الثوري، وكانوا يخاطرون بحياتهم كي يعبروا الحدود إلى باكستان أو تركيا.

وفي أواخر الخريف سمعت من أصدقائي في المدرسة عن مظاهرة احتجاجية فقررت الانضمام إليها. ومع أنني أعلم خطورة ذلك الأمر فقد بدا لي أنه عين الصواب. كانت المظاهرة ستبدأ في الرابعة عصرًا في ميدان «فردوسي» الذي يبعد مسيرة عشر دقائق عن المدرسة.

يوم المظاهرة وبعد انتهاء اليوم الدراسي خرجت أنا وجيتا وسارة من المدرسة فرأينا المئات من الأشخاص معظمهم من الفتية والفتيات صغار السن يملئون الشوارع. انضممنا إلى الحشد الذي ينطلق نحو ميدان «فردوسي». كان الجميع متنبهين ينظرون حولهم ويعرفون أن الحرس الثوري أو حزب الله أو كليهما معًا سيهاجموننا في نهاية الأمر، وتسارعت نبضات قلبي. تحول الشارع إلى نهر ثائر يتدفق بالحياة، ولاحظت أن أصحاب المتاجر يغلقون متاجرهم ويرحلون. وفي ميدان «فردوسي» حملت فتاة مكبر صوت في يدها، وتحدثت إلى الحشد عن الهجمات العنيفة التي يشنها حزب الله على النساء متسائلة: «إلى متى سنسمح للمجرمين والقتلة بالاختباء تحت ستار الدين من أجل الهجوم على أمهاتنا وأخواتنا وصديقاتنا والإفلات بجرائمهم؟» وقفت بجوارنا عجوز تحمل في يدها لافتة من الورق المقوى أبيض اللون وقد ربطت الشادور الأبيض الذي ترتديه حول خصرها تاركة شعرها الأشيب الخفيف مكشوفًا، واللافتة تحمل في منتصفها صورة فتاة على وجهها ابتسامة عريضة كُتب تحتها: «أُعدمَتْ في إيفين».

وفجأة امتلأ الشارع بضجة صاخبة كدوي الرعد، وأخذ الناس يفرون.

صرخ أحدهم: «فوق أسطح المنازل!»

نظرت للأعلى فرأيت الحرس الثوري في كل مكان. سقط شاب كان يقف بجوارنا على الأرض متأوهًا واضعًا يديه على بطنه، بينما تدفق خط أحمر رفيع من بين أصابعه فسال على الرصيف. حدقت إليه ولم أستطع التحرك. كان الناس يصرخون ويركضون في اتجاهات مختلفة والدخان يملأ الجو، وشعرت بآلام حارقة في عيني. انعزلت عن صديقاتي، ولم يكن بوسعي ترك الرجل المصاب هكذا، فانحنيت بجواره، ونظرت في عينيه، ورأيت سكون الموت. لقد مات أراش مثله وحيدًا غريبًا. لا بد أن هناك من يحب هذا الرجل وينتظر عودته.

عندها سمعت صوتًا مألوفًا: «مارينا!»

أمسكتْ جيتا بيدي وجذبتني معها. كان الهواء مشبعًا بالغاز المسيل للدموع، ورجال ملتحون يرتدون ثيابًا مدنية يلوِّحون بهراوات خشبية في الهواء يهاجمون بها الحشود الفارَّة، والناس يصرخون، ونحن نجري وسط هذا المشهد الجنوني.

عندما عدت إلى المنزل دخلت الحمام وأوصدت الباب خلفي، وتمنيت لو قُتلت أثناء إطلاق النار. لم أكن أرغب في الحياة، وما جدوى كل هذا العذاب؟ ذهبت إلى غرفة والديَّ وفتحت درج الأدوية الذي كان يحفل بأشكال وأحجام مختلفة من الزجاجات والعلب، من أدوية السعال إلى مضادات الحموضة والأسبرين وأنواع مختلفة من مسكنات الآلام. تفحصتها كلها فوجدت زجاجة شبه ممتلئة من الحبوب المنومة، أسرعت بها مرة أخرى إلى الحمام. الموت في زجاجة. كل ما أحتاج إليه هو رفع الغطاء وابتلاع الحبوب، وسوف يأتي الملاك، وسوف أخبره أني شاهدت الكثيرين يموتون. ملأت كأسًا بالماء وفتحت غطاء الزجاجة، لكن في أعماقي كنت أعلم أني أرتكب خطأً. ماذا لو قرر كل من يؤمن بالخير الانتحار من كثرة ما يلاقي في هذا العالم من معاناة؟ أغمضت عيني ورأيت عينَي الملاك. تمنيت أن تفخر بي جدتي وأراش وإيرينا، وأن أفعل شيئًا في حياتي؛ شيئًا صالحًا ذا قيمة. لقد رأيت حياة شاب تُسكَب داخل دائرة من الدماء على الرصيف. لا يمكنني الاختباء؛ الموت ليس مكانًا للاختباء. أغلقت الزجاجة وأعدتها إلى خزانة الأدوية. ربما يوجد ما أستطيع القيام به. هرعت إلى المتجر، وأحضرت لافتة من الورق الأبيض المقوى، وكتبت عن هجوم الحرس الثوري على المظاهرة السلمية.

وفي اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة مبكرًا عن العادة فوجدت الممرات خالية، وثبتُّ اللافتة بشريط لاصق على أحد الجدران، ووقفت أمامها أتظاهر بقراءتها. بعد نحو نصف ساعة تجمعت الطالبات، وسرعان ما تجمع حشد كبير يحاول قراءة القصة، ولم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى ظهرت محمودي خانم التي اقتحمت الممر بخطوات سريعة غاضبة ووجهها أحمر من شدة الغضب.

صاحت: «تنحوا جانبًا!»

أطعنا الأمر. قرأتْ بضعة أسطر ثم سألت عمن كتب هذا، وعندما لم يجبها أحد مزقت اللافتة وهي تصيح: «إنها أكاذيب!»

اعترضتُ: «ليست أكاذيب، لقد كنت هناك.»

– «إذن أنت التي كتبتِها.»

أخبرتها كيف أطلق الحرس الثوري النار على الأبرياء.

قالت وهي تشير بإصبعها نحوي: «أي أبرياء؟ وحدهم أعداء الثورة وأعداء الله والإسلام هم من يشتركون في تلك المظاهرات، وأنت أصبحت في مشكلة كبيرة.» ثم استدارت وغادرت المكان، فثارت ثائرتي. كيف تجرؤ على نعتي بالكذب!

بعد بضعة أيام اشتركت أنا ومجموعة من صديقاتي في إصدار صحيفة مدرسية صغيرة، وكل أسبوع نكتب بضع مقالات قصيرة عن القضايا السياسية اليومية التي تهمنا وننسخها بخط يدنا ونوزعها في المدرسة.

أغلقت الحكومة بعض الصحف المستقلة متهمة العاملين بها بالعداء للثورة الإسلامية، وشعرتُ كأن البلاد بأكملها تغرق تدريجيًّا، فالتنفس يصبح أكثر صعوبة كل يوم عن سابقه، ولكننا ظللنا متفائلين ومؤمنين بأنهم لا يستطيعون إغراق الجميع.

منذ بدء الحرب مع العراق والنظام الإسلامي يحمِّلها مسئولية كل المشاكل، فقد تضاعفت الأسعار وقننت حصص اللحوم ومنتجات الألبان وأغذية الأطفال وزيت الطعام. كانت أمي غالبًا تذهب إلى المتجر في الخامسة صباحًا كي تنتظر دورها في الحصول على حصتنا من الغذاء وتعود في الظهيرة. كل السلع كانت موجودة في السوق السوداء، لكن بأسعار باهظة لا تقوى عليها الأسر محدودة الدخل ومن ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، بينما كانت الحصص التي توزَّع ضئيلة للغاية.

وفي طهران بدت الحرب بعيدة عنا، فلم نعد نسمع صوت صافرات الإنذار إلا نادرًا. حتى وإن سمعناها فلم يكن يتبعها شيء. أما المدن القريبة من الحدود الإيرانية العراقية فقد دفعت الثمن غاليًا، وكانت الخسائر تتصاعد، وكل يوم تعرض الصحف صور العشرات من جثث الشباب الذين قتلوا في الجبهة، وبذلت الحكومة قصارى جهدها كي تستغل عواطف الناس لحثهم على الأخذ بالثأر، وفي المساجد أخذ الملالي يصيحون عبر مكبرات الصوت معلنين أن الحرب لا تحمي إيران فحسب، بل إنها تحمي الإسلام أيضًا، فلم يكن صدَّام مسلمًا بحق ولكنه من أتباع الشيطان.

شيئًا فشيئًا أصبحت كل الأشياء التي أحبها في قائمة المحظورات، حيث أُعلن أن الروايات الغربية التي كانت ملاذي وسلوتي «رجس من عمل الشيطان»، وأصبح العثور عليها عسيرًا، ثم أخبرتني محمودي خانم في أوائل ربيع عام ١٩٨١ أني أحتاج إلى الحصول على درجات إضافية في مادة التربية الدينية. كانت الأقليات الدينية معفاة من حضور دروس الدين الإسلامي أو الزرادشتي، ولكن الآن عليَّ إما أن أَحْضُر دروسًا في الدين الإسلامي أو أن أُحْضِر شهادة من الكنيسة أقدمها للمدرسة. ومع أنني حضرت دروسًا في الدين الإسلامي في المدرسة طواعية من قبل فقد أصبحت أرفض ذلك الآن. لقد حصلت على ما يكفي من التعليم الإسلامي، وبدا الحصول على شهادة من الكنيسة فكرة مناسبة وعملية، ولكنها لم تكن كذلك في حالتي؛ إذ لم يكن هناك قساوسة بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية بطهران منذ وقت طويل. اتصلت أمي بإحدى صديقاتها اللاتي يذهبن للكنيسة بانتظام، فأرشدتني إلى كنيسة كاثوليكية. ومع أن تلك الكنيسة على بعد شارعين من منزلنا، فلم ألاحظ وجودها من قبل، لأنه من دون النوافذ الزجاجية الملونة التي تطل على الطريق، بدت الكنيسة كئيبة كالمكاتب الحكومية والسفارات الأجنبية المحيطة بها. وهناك عرض عليَّ القساوسة المساعدة في دراستي وتقييم جهودي.

أخذت أذهب إلى الكنيسة مرة أسبوعيًّا لحضور دروس العقيدة؛ كان عليَّ قرع الجرس أمام الباب المعدني الذي يصل بين الساحة الخلفية للكنيسة والشارع وأنتظر حتى يُسمح لي بالدخول، ثم أغلق الباب خلفي وأسير عبر ممر ضيق يقع بين الكنيسة والحوائط القرميدية التي تحيط بالساحة. كانت الأرض مغطاة بالأسفلت، وحجرة مكتب الكنيسة ومحل إقامة القساوسة يقعان في مبنى منفصل مجاور للكنيسة. كان القسيس يستقبلني بحفاوة شديدة، ثم نشرع في قراءة الإنجيل ومناقشته، وبعد انتهاء الدرس أفتح الباب الخشبي الثقيل الذي يصل بين الساحة ومبنى الكنيسة، والذي كان دائمًا يصدر صريرًا يتردد صداه بين الجدران الشاهقة. كنت أحب الجلوس على أحد مقاعد الكنيسة والنظر إلى صورة العذراء بثوبها الوردي الطويل وغطاء رأسها الأزرق وابتسامتها الهادئة التي تعلو وجهها، بينما الشموع تتلألأ أمامها. لقد عرفتِ العذراء معنى الخسارة، وذاقت طعم الألم. هنا كنت أشعر أني في بيتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤