الفصل الرابع عشر

قابلت أندريه أول مرة حضرت فيها قداس الأحد في كنيستي الكاثوليكية الجديدة. في ذلك اليوم وبعد انتهاء الصلاة ذهبت إلى حجرة المكتب الصغيرة كي أتحدث مع القساوسة، وفي أثناء انتظاري دخل أندريه عازف الأرغن. ومع أني كنت أجلس في مؤخرة الكنيسة أثناء القداس، فقد لاحظت أنه شديد الوسامة. والآن أدركت أني أنظر إلى النسخة المحتشمة من تمثال «داود» للفنان مايكل أنجلو. كان وجهه بيضويًّا وأنفه طويلًا، وخصلات من الشعر الذهبي تغطي جبهته العريضة، وعيناه صافيتان كبحر «قزوين» في يوم صحو. كان جميلًا؛ ولما كست حمرة الخجل وجهي أطرقت برأسي على أمل ألا يكون وجهي فاضحًا لأفكاري كما أخشى. عرَّف كل منا نفسه للآخر.

كان المترددون على الكنيسة عددًا صغيرًا من الناس، وهكذا يسترعي أي وافد جديد الكثير من الانتباه والفضول. سألني هل أنا طالبة بالجامعة، فأجبته أني ما زلت بالصف العاشر، فتورَّد وجهه خجلًا. أخبرته عن جذوري الروسية، وأخبرني أنه يدرس الهندسة الكهربائية في جامعة طهران، ولكن منذ أن أغلقت الجامعات من أجل «الثورة الثقافية الإسلامية» بدأ يعمل معلمًا للغة الإنجليزية والطبيعة والرياضيات في مدرسة أرمنية.

وبينما نتحدث إذ شعرتُ بموجة من الابتهاج تجتاحني، كان متزنًا معسول اللسان، وأخبرته أني أستمتع بموسيقاه، فقال إنه مبتدئ. عندما استولت الحكومة بعد قيام الثورة على مدرسة الفتيان التابعة للكنيسة، نُفي العديد من القساوسة الذين كانوا يديرون المدرسة بتهمة التجسس. كان أندريه يذهب لتلك المدرسة منذ اثني عشر عامًا، وكان أحد القساوسة الذين ينتظرون الترحيل يشغل منصب عازف الأرغن التابع للكنيسة منذ فترة طويلة، فأعطى أندريه الذي لم يمارس العزف على أي آلة موسيقية من قبل بضعة دروس، وفور أن رحل تولى أندريه منصبه.

قال أندريه: «يجب أن تنضمي إلى الجوقة، فنحن نبحث عن أعضاء جدد الآن.»

أخبرته أني لا أستطيع الغناء.

– «ولمَ لا تحاولين؟ فالأمر ممتع. تدريبنا القادم في السادسة مساء يوم الأربعاء. ألديك ما تنوين القيام به تلك الليلة؟»

– «كلا.»

– «حسنًا، أراكِ مساء الأربعاء إذن.»

وقف، وصافحني.

ما إن انصرف حتى تمكنت من التقاط أنفاسي.

•••

ظل أرام يرافقني سيرًا على الأقدام إلى المنزل مرة في الأسبوع على الأقل، وكان في الصف الثاني عشر، أي في عامه الأخير بالمدرسة الثانوية.

أخبرني ذات مساء يوم ربيعي دافئ صحو أنهم يعتزمون الرحيل عن إيران خلال بضعة أشهر وينوون الذهاب إلى الولايات المتحدة. كنت أدرك أن هذا اليوم آتٍ لا محالة. نحن أصدقاء منذ أكثر من عامين، ولا أود أن أخسره، لكني أدركت أن الأفضل له أن يرحل ويبدأ حياة جديدة بعيدًا عن الذكريات المؤلمة التي تشاركناها.

أخبرته أنني سعيدة من أجله، فتوقف عن السير ونظر لي بعينين دامعتين، وقال إنه يتمنى لو أمكنني الذهاب معه لأنه يخاف عليَّ، فقد أُلقي القبض على العديد من زملائه في المدرسة وزُج بهم في سجن «إيفين»، وقد سمع أن أحدًا لا يخرج من هناك حيًّا. أخبرته أنه متشكك أكثر مما ينبغي، لكنه أكد لي أن الأمر لا علاقة له بالشك.

ألححت عليه: «أرام، لا داعي للقلق.»

– «كان أراش يردد نفس الكلام … انتظري ثانية؛ خطرت لي فكرة، لكن كلا، لا يمكن … ولكن من ناحية أخرى …»

توقف أرام في منتصف رصيف ضيق أمام متجر للمنتجات الغذائية، حيث الصناديق والسلال الملأى بالخضر والفواكه تسد جزءًا من الرصيف، والرائحة القوية للبقدونس الطازج والشبت والكراث والريحان تملأ هواء تلك الظهيرة الحار.

فجأة سألني والدموع تكاد تسيل من عينيه: «أنت لا تفكرين في الانتحار، أليس كذلك؟»

أخبرته أني لا أملك أدنى نية للانتحار.

كانت هناك امرأة ممتلئة الجسم تحاول أن تتجاوزنا كي تدخل المتجر، ويبدو أنها سئمت من انتظار انتهاء حديثنا، فقالت بلهجة يائسة: «بعد إذنكما.» وكادت تدفعنا بصندوق كبير من البصل. عندما استعاد أرام توازنه نظر إليَّ، فابتعدتُ عن الطريق وطمأنته مرة أخرى أنني سأكون بخير. وعندما واصلنا السير مددت يدي كي أمسك يده، لكنه جذبها بعيدًا، وقال وهو يتلفت حوله وقد احتقن وجهه: «ماذا تفعلين؟ سوف يُقبض علينا!»

قلت وأنا أغالب دموعي: «أنا … أنا آسفة، إنني حمقاء، لم أفكر في ذلك.»

– «آسف يا مارينا، لم أقصد إزعاجك، لكن كيف أسامح نفسي لو تعرضتِ للجلد لأنك أمسكتِ يدي؟»

– «آسفة.»

– «أترين؟ هذا سبب آخر يدفعك لمغادرة البلاد، فإمساك الأيدي ليس جريمة، وإن أخبرت أي شخص يعيش في دولة طبيعية بذلك، فسيعتقد أنها مزحة سخيفة.»

بعد بضع دقائق تذكرت أنني أود سؤاله هل يعرف أي شخص يستطيع الترجمة من الروسية إلى الفارسية، وأوضحت له أن جدتي دونت قصة حياتها وأنها أعطتني إياها قبل وفاتها، وأني بحاجة إلى من يترجمها إلى الفارسية. سألني لمَ لم أعهد إلى والديَّ بتلك المهمة، فأخبرته بأن جدتي ائتمنتني على تلك القصة، وربما لم تكن تود أن تصل إلى أيديهما، وأني أرغب في أن يساعدني في ذلك الأمر شخص لا يعرفني. أخبرني أن إيرينا لديها صديقة غريبة الأطوار قليلًا، ولكنها تعرف لغات عديدة وتتحدث الفارسية والروسية بطلاقة، ووعدني أن يتصل بها.

كدنا نكون في منتصف الطريق إلى المنزل عندما لاحظت أن عاصفة على وشك الهبوب، فقد غطت السحب السماء. كان غريبًا أن يتبدل حال يوم مشمس جميل هكذا خلال بضع دقائق. سمعنا أول قصف للرعد، ثم بدأت الأمطار تهطل. كنا بعيدين عن المنزل، ولا يوجد مكان نحتمي به من المطر. أخذت الأمطار تتساقط ببطء في بادئ الأمر، واستطعت أن أرى كل قطرة من المطر وهي تسقط على الأرض. ربما كان بوسعنا بلوغ المنزل قبل أن تشتد العاصفة، ولكن كلا، فات الأوان. انطلق هزيم الرعد مدويًا وامتزجت قطرات المطر الرائعة معًا، وهبَّت رياح قوية أحنت الأشجار وحوَّلت المطر إلى موجة عاتية من المياه. اضطررنا إلى التوقف، وتلاشت ملامح الشارع المألوف لنا، واختفت الألوان الدافئة. لم نستطع العثور على طريقنا، فوقفنا مرتبكين ندرك أنه لا بد من مواجهة العاصفة. كان لا بد من أن نغلق أعيننا، ونقنع أنفسنا أنها ليست سوى لحظة عابرة.

في اليوم التالي اتصل بي أرام، وأخبرني أنه تحدث مع صديقة لإيرينا تدعى آنا، وأنها وافقت على لقائي. وبعد يومين اصطحبني أرام إلى منزل آنا الذي يقع في شارع هادئ متفرع من طريق «تخت الطاووس». قرعنا الجرس، فنبح كلب من خلف الباب الذي يصل الساحة الأمامية بالشارع، وسمعنا صوت سيدة تقول بالفارسية: «من بالباب؟» عندما أجبنا، فتحت آنا الباب؛ امرأة نحيفة طويلة في السبعينيات من عمرها، شعرها أسود كثيف يصل حتى كتفيها، وعيناها رماديتان واسعتان، ترتدي قميصًا حريريًّا أبيض اللون وسروالًا من الجينز الأزرق. حيَّتنا بالروسية، بينما تبعها كلبها الألماني. كان منزلها الصغير المكون من طابقين مليئًا بالنباتات الاستوائية من كل الأحجام، حتى إننا اضطررنا لدفع الأوراق بعيدًا عن طريقنا كي نتمكن من اتباعها نحو غرفة المعيشة حيث وجدنا ببغاءً زاهي الألوان، وزوجًا من الكناري يغني في قفص، وقطة سوداء أخذت تتمسح في ساقي. كان الجو يعبق برائحة التربة الندية، وكل حائط في الغرفة مغطى بخزانة مملوءة بالكتب.

سألتني آنا وهي تجلس: «أين النص؟» فأعطيتها إياه. أخذت تتصفح الأوراق، ثم تابعت: «سوف أحتاج بضع ساعات لترجمة هذه الأوراق.»

ثم وقفت وأرشدتنا إلى الباب وهي تقول: «كانت إيرينا تحبك كثيرًا يا مارينا. يمكنك العودة مساء غد في الرابعة والنصف.»

في اليوم التالي فتحت لنا آنا الباب فور أن قرعنا الجرس، وأعطتني مذكرات جدتي وترجمتها.

قالت وهي تغلق الباب خلفها: «ها هي يا عزيزتي. لقد كانت جدتك امرأة حزينة ولكنها قوية.»

قال أرام وهو ينفجر ضحكًا: «قلت لك إنها غريبة الأطوار إلى حد ما.»

قرأتُ الترجمة فور عودتي إلى المنزل. كانت تقع في نحو أربعين صفحة، ومكتوبة بخط أنيق، وخالية من الأخطاء اللغوية. لو لم أكن أعلم مسبقًا أن الفارسية ليست لغتها الأولى في الكتابة، لما تخيلت ذلك مطلقًا.

في سن الثامنة عشرة أحبَّت جدتي — زينا موراتوفا — فتى وسيمًا في الثالثة والعشرين من عمره يدعى أندريه، كان شيوعيًّا ذا شعر أشقر وعينين زرقاوين واسعتين. توسلت إليه زينا ألا يخرج في المظاهرات والاحتجاجات ضد القيصر، ولكنه لم ينصت إليها. لقد أراد أن يرى روسيا أعظم مما هي عليه وأن يختفي الفقر. كتبت زينا أن أفكاره كانت جميلة ولكنها مستحيلة، وكان ساذجًا. بدأتِ الذهاب معه في المظاهرات كي تحميه، وأثناء إحدى المظاهرات أمر الجنود المتظاهرين بالرحيل، ولكن أحدًا لم يستمع إليهم، ففتح الجنود النار عليهم.

كتبت زينا:

أخذ الناس يفرُّون، واستدرت فوجدته ممددًا على الأرض ينزف، فضممته بين ذراعيَّ حتى مات. أشفق الجنود عليَّ، وتركوني أحمله إلى أمه، فسحبت جثته عبر شوارع موسكو، وتطوع بعض الشباب كي يساعدوني، وحملوه نيابة عني. سرت خلفهم أشاهد دماءه تتقطر على الأرض. جافاني النوم الهادئ بعد ذلك اليوم، وما زلت أستيقظ لأجد دماءه على فراشي.

قابلت زينا زوجها المستقبلي — جدي عيسى — بعدها ببضعة أشهر. كان شابًّا طيبًا يعمل صائغًا، ولم تدرِ متى أو كيف وقعت في حبه، وسرعان ما عرض عليها الزواج ووافقت، وبالفعل تزوجا وأنجبا طفلة أطلقت عليها اسم تامارا. بعدها بقليل أُجبرا على مغادرة روسيا والمجيء إلى إيران. كان الأمر شاقًّا على زينا لأنها كانت حبلى في طفلها الثاني؛ أبي. عندما وصلوا إيران ذهبوا أولًا إلى مدينة «مشهد» حيث وُلد أبي، ثم انتقلوا إلى مدينة «رشت» حيث كان لعيسى بعض الأقارب. لم تدُم إقامتهم في «رشت»، وانتقلوا إلى طهران التي كانت تختلف تمامًا عن موسكو، وهو ما جعل زينا تشعر بالحنين إلى الوطن. كانت تفتقد أهلها وأصدقاءها، لكنها لم تهتم بذلك كثيرًا لأنها كانت تنعم بالسعادة مع عيسى، ولكن سعادتها لم تدُم طويلًا، فقد غادر عيسى المنزل ذات صباح ولم يعد؛ قتله بعض اللصوص طمعًا في المجوهرات التي كان ينوي بيعها كي يشتري منزلًا.

بعدها أصبحت حياة زينا صعبة، وشعرتْ بالوحدة والحنين للعودة إلى روسيا، لكنها كانت قد فقدت كل شيء، حيث دُمر منزلها ونمط حياتها بفعل ثورة متعطشة للدماء. لم تجد مكانًا تأوي إليه، وراودها شعور بأنها ستظل غريبة إلى الأبد.

أنشأت زينا نُزُلًا، وعملت فيه باجتهاد. مرت الأعوام وكبر أبناؤها، فتزوجت تامارا رجلًا روسيًّا وعادت معه إلى روسيا، ثم قابلت زينا بيتر، وهو مجريٌّ كان يقيم في النزل الذي تمتلكه، فساعدها وظل برفقتها. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية عرض عليها الزواج ووافقت، ولكنهما لم يحظيا بالفرصة قط، فقد انقسمت الدول في الحرب واتخذت المجر جانب هتلر، وأصبح كل المجريين الذين يعيشون في إيران أسرى حرب، وأُرسلوا إلى معتقلات خاصة بالهند، وتوفي بيتر هناك إثر إصابته بمرض معدٍ.

سالت دموعي عندما انتهيت من قراءة الترجمة، وأدركت كم كانت جدتي حزينة بائسة وحيدة. لقد دمرت الثورات حياتي وحياتها، وكلا الثورتين الشيوعية والإسلامية أسفرتا عن نظام دكتاتوري مريع. بدت حياتي كأنها نسخة مشوهة من حياتها. كل ما تمنيت أن يكون مستقبلي أفضل. وعليَّ أن أتذكر أنها كافحت من أجل البقاء، وهو ما سأفعله أيضًا.

•••

وفي مساء الأربعاء التالي ذهبتُ لتدريب الجوقة، فابتسم لي أندريه من موقعه أمام الأرغن، بينما وقفتُ بجوار سيدة ذات صوت ساحر. وبعد انتهاء التدريب تقدم أندريه نحوي، وكان يرتدي سروالًا من الجينز الأزرق وقميصًا عاديًّا، فتمنيت لو أني ارتديت ثيابًا أكثر أناقة؛ فمع أن الحجاب أصبح إلزاميًّا وعدم ارتدائه قد يسفر عن الجلد والسجن، كان باستطاعة النساء ارتداء ما يشأن من ملابس تحت الحجاب؛ فعند ذهابي إلى الكنيسة أو لزيارة الأصدقاء أو الأقارب، كنت أخلع الحجاب لدى وصولي.

قال أندريه: «صوتك جميل.»

أجبت ضاحكة: «كلا، كنت واقفة بجوار السيدة مسعودي، وهذا الصوت الجميل لها.»

سألته عن جذوره، فأخبرني أن والديه مجريان، لكنه هو وشقيقته ولدا في طهران. شقيقته في الحادية والعشرين من عمرها، وانتقلت منذ قريب إلى «بودابست» كي تلتحق بالجامعة، أما هو ففي الثانية والعشرين من عمره.

صدفة غريبة أن يكون مجريًّا، لكن عندما فكرت في الأمر قليلًا أدركت أنه ليس غريبًا إلى ذلك الحد، فالمسيحيون أقلية في إيران، حتى إننا جميعًا نرتبط بعضنا مع بعض بصلة ما.

سألني أندريه: «هل تودين العزف على الأرغن؟»

– «هل هو صعب؟»

– «إطلاقًا! سوف أعلمك.»

– «حسنًا، متى نبدأ؟»

– «ما رأيك أن نبدأ الآن؟»

•••

بالرغم من الأحداث المخيفة التي وقعت في مظاهرة ميدان «فردوسي»، فإنني حضرت العديد من الاحتجاجات الأخرى التي نظمتها جماعات سياسية مختلفة من الشيوعيين إلى المجاهدين. كان هذا أقل ما يمكنني فعله كي أُظهر رفضي للحكومة وسياساتها، ولم أتفوه بكلمة عن ذلك الأمر لوالديَّ أو لأرام أو لأندريه. كادت كل المظاهرات تكون متشابهة، حيث يجتمع الشباب في شارع رئيسي حاملين اللافتات التي تدين الحكومة، ثم يبدأ الحشد في التحرك ويهتفون بالشعارات، وبعد لحظات يملأ الغاز المسيل للدموع المكان فيُدمع العيون ويحرق الحلوق، ثم ينطلق صوت الرصاص إيذانًا بوصول الحرس الثوري، ويفر الجميع هاربين بأقصى سرعة ممكنة، خافضين رءوسهم، مع ضرورة تجنب أي زي عسكري أخضر، والابتعاد عن الرجال الملتحين. من الخطأ محاولة الهرب عبر الشوارع الضيقة، فاحتمال التعرض للاعتقال أو الضرب فيها أكبر بكثير. كلما زاد عرض الشارع زادت فرصة النجاة. اضطررت عدة مرات إلى الاختباء خلف صناديق القمامة كريهة الرائحة أو صناديق الطعام الفاسد كي أهرب من الحرس، وفيما عدا المرة الأولى في ميدان «فردوسي»، لم أرَ أحدًا يصاب بطلق ناري، لكن أحدهم كان يخبرني دائمًا أنه رأى بعض الأشخاص يتساقطون قتلى أو بعض الدماء التي تلطخ الرصيف. وفي كل مرة أعود إلى المنزل سالمة بعد المظاهرة يخفق قلبي من شدة الانفعال. لقد فعلتها مرة أخرى. ربما كنت محصنة ضد الرصاص والهراوات.

ذات ليلة وقبل أسبوعين من بدء الإجازة الصيفية زارتني جيتا، وكانت قد تخرجت من المدرسة الثانوية منذ عام وما زالت تنتظر إعادة فتح الجامعات بعد «الثورة الثقافية الإسلامية»، وأخبرتني أن إحدى صديقاتها وتدعى شهرزاد ترغب في رؤيتي. كانت شهرزاد طالبة جامعية تعرضت للاعتقال السياسي ثلاثة أعوام في زمن الشاه، وقد سمعتْ عن الإضراب الذي أطلقتُ شرارته في المدرسة، وتعرف أيضًا أني قرأت بضعة كتب خاصة بجماعتها، بل إنها قرأت بعض المقالات التي نشرتُها في صحيفة المدرسة. سألتُ جيتا لمَ تود شهرزاد رؤيتي؟ فأخبرتني أنها ترغب في انضمامي إلى الفدائيين، لكني أخبرت جيتا أني لا أريد الانضمام إليهم، فأنا أؤمن بالله وأتردد على الكنيسة بانتظام، وأفكاري تختلف عن أفكارهم.

سألتني جيتا: «هل تؤيدين الحكومة؟»

– «كلا.»

– «إما أن تكوني معهم أو ضدهم.»

– «حتى لو كنت ضد الحكومة فهذا لا يجعل مني شيوعية. إنني أحترمك وأحترم معتقداتك، لكني لا أريد أن أتورط في السياسة.»

– «أعتقد أنك متورطة بالفعل، حتى وإن كنت تظنين غير ذلك. أعطيها فرصة فحسب، فهي لا تريد سوى الحديث إليك بضع دقائق. سوف نلحق بك في طريق العودة من المدرسة غدًا.»

لم أرغب في الجدال مع جيتا، فوافقتُ على مقابلة شهرزاد.

•••

ظهرت شهرزاد وجيتا بجواري فور أن خرجتُ من المدرسة في اليوم التالي، وقدمتْ جيتا إحدانا للأخرى ثم تركتنا في الحال متعللة بالذهاب إلى مكان ما. كانت شهرزاد تختلف عن أي فتاة عرفتها من قبل، فعيناها حزينتان للغاية، وتتلفت حولها في قلق طوال الوقت.

قالت لي ونحن نتوجه نحو منزلي: «سمعت أنك تتمتعين بروح الزعامة، وقليل من الناس من يمتلك تلك الموهبة، فالآخرون يستمعون إليك، وقد قرأت أيضًا مقالاتك في صحيفة المدرسة ووجدتها جيدة. بوسعك أن تصبحي مؤثرة. تلك الحكومة الإسلامية سوف تدمر البلاد، ويمكنك القيام بشيء حيال ذلك.»

– «شهرزاد، إنني أحترم معتقداتك، لكن لا يربطنا شيء مشترك.»

– «أرى عكس ذلك؛ فعدوُّنا واحد، وهو ما يجعلنا أصدقاء.»

أخبرتها أني لا أستطيع النظر إلى الأمر من تلك الزاوية، فكل ما هنالك أني معتادة على أن أتكلم بلا خوف، ولو كان لدينا حكومة شيوعية بدلًا من الحكومة الإسلامية لربما انتقدتها أيضًا.

سألتني هل أرغب في إحداث التغيير، فأجبتها بأن التغيير الذي أنشده يختلف عما تريده هي. توقفت شهرزاد فجأة وحدقت في شاب كان قد مرَّ بجوارنا لتوه، ثم ألقت عليَّ تحية الوداع سريعًا واختفت، ولم أرَها مرة أخرى قط.

•••

أردت شراء ملابس جديدة بدلًا من سراويل الجينز الباهتة والسترات البالية وأحذية الجري، ولكن صادفتني مشكلة؛ فقد ارتفعت معدلات التضخم كثيرًا بعد الثورة، وكنت أعلم أن والديَّ لا يملكان أموالًا لذلك، ولم يكن عمل الفتيات المراهقات مألوفًا، فكان عليَّ أن أتوصل إلى طريقة مبتكرة كي أدبر المال اللازم، وخاصة أن الأحذية الأنيقة باهظة الثمن.

كان والداي وخالتي زينيا وعمي إسماعيل وزوجته يتقابلون مرة كل أسبوعين كي يلعبوا الورق، وكانوا يلعبون مقابل النقود ويأخذون الأمر بجدية شديدة، فراقبتهم مرارًا حتى أتقنت قواعد اللعبة. ذات ليلة مرضت زوجة عمي ولم تتمكن من اللعب، فعرضت عليهم أن أحل محلها في اللعب، وهو ما اعتبرته خالتي زينيا فكرة رائعة وجعلت الجميع يعطونني بعض النقود كي أبدأ اللعب. مع انتهاء الليلة كانت المائة تومان التي بدأت بها قد صارت ألفين، وفي اليوم التالي ذهبت للتسوق، فاشتريت سراويل من القماش وبعض القمصان وثلاثة أحذية عالية الكعاب، وفي اليوم التالي ذهبت إلى الكنيسة وأنا أرتدي الملابس التي اشتريتها بالنقود التي ربحتها من القمار؛ سروالًا من القماش الأسود وقميصًا حريريًّا أبيض وحذاءً أسود مدبب الطرف.

عندما كانت جدتي على قيد الحياة وكان والداي يلعبان الورق مع الأصدقاء والأقارب في منزلنا، كانت دائمًا تهز رأسها وتخبرني أن القمار خطأ، وأنه قد يؤثر بالسلب على الروابط العائلية والصداقات، ولهذا السبب فهو مكروه عند الله ويندرج تحت الآثام. كنت أعرف كل ذلك وشعرت بالذنب، لكني كنت واثقة أن الله مطلع على الموقف، ولمزيد من الحيطة قررت أن أعترف بلعب القمار عندما أذهب للاعتراف في الكنيسة المرة التالية.

أحببت الطريقة التي يقرع بها حذائي الجديد الأنيق الأرض وأنا أسير عبر ممر الكنيسة كي أصل إلى مقصورات الجوقة في المقدمة، وسررت عندما أخبرني أعضاء الجوقة همسًا أني أبدو رائعة. وعندما رآني أندريه أطال النظر إليَّ، ولاحظت أثناء القداس أنه يختلس النظر إليَّ بطرف عينه.

كان أندريه مصرًّا على تعليمي العزف على الأرغن، لكنه كلما حاول أدركت أني لا أملك الموهبة الموسيقية. كان يقضي معظم وقت فراغه بالكنيسة يجري صيانة لمختلف الأشياء بدءًا من الأرغن إلى الأجهزة وقطع الأثاث، وغالبًا كان يطلب مني البقاء معه، وكنت أستمتع بذلك. حكى لي عن حياته وعائلته وأصدقائه؛ فقبل الحرب العالمية الثانية جاء والده الذي كان يعمل نجارًا ويدعى ميهاي إلى إيران عندما كان شابًّا صغيرًا كي يشارك في بناء قصر جديد للشاه، وترك خطيبته جوليانا في «بودابست» على أمل أن يعود بعد الانتهاء من مهمته، ولكن الحرب حالت دون عودته، فعندما اشتد أوار الحرب في أوروبا ووقفت المجر إلى جانب ألمانيا، دخل الحلفاء إيران كي يرسلوا إمدادات إلى روسيا عن طريق الجنوب، وعلى غرار ما حدث لخطيب جدتي المدعو بيتر، أُرسل ميهاي إلى معسكر اعتقال في الهند، ولكن على النقيض من بيتر فقد نجا ميهاي، وبعد انتهاء الحرب عاد إلى إيران بدلًا من المجر التي أصبحت دولة شيوعية. لم يكن مسموحًا للمجريين في ذلك الوقت بمغادرة البلاد، وهكذا لم تتمكن جوليانا من اللحاق به واضطرت إلى البقاء في المجر حتى اندلعت ثورة ١٩٥٦ المضادة للشيوعية التي تسببت في فتح الحدود المجرية وأتاحت لها دخول النمسا لاجئة، ثم تمكنت من اللحاق بحبيبها القديم في إيران بعد ثمانية عشر عامًا من الفراق، فتزوجا على الفور وأنجبا طفلين: أندريه وشقيقته التي تصغره بخمسة عشر شهرًا. توفيت جوليانا عندما كان أندريه في الرابعة وشقيقته لم تتجاوز عامين ونصف، وبعد وفاتها جاءت إحدى شقيقات ميهاي — وهي امرأة عزباء في الستين من عمرها — إلى إيران كي تساعد شقيقها في تربية أطفاله، وبمرور الوقت أثبتت جدارتها في أن تحل محل الأم الراحلة.

ذات يوم ونحن جالسان على منصة الأرغن في الكنيسة الخالية أخبرت أندريه بالمشاكل التي أواجهها في المدرسة، مثل الإضراب والقائمة التي رأتها باهمان خانم في حجرة مكتب المديرة والصحيفة المدرسية وكراهية محمودي خانم لي، فاتسعت عيناه الزرقاوان الواسعتان رعبًا.

هز رأسه كأنما لا يصدق ما قلت: «أنت فعلت كل ذلك؟»

– «نعم، مشكلتي أني لا أستطيع التزام الصمت.»

– «يدهشني أنهم لم يلقوا القبض عليك بعد.»

– «وأنا أيضًا.»

لمس يدي، فتوقف قلبي عن الخفقان لحظة. كانت يده باردة كالثلج.

– «عليك أن تغادري البلاد.»

– «أندريه، كن واقعيًّا، فمع كل تلك المتاعب التي أوقعت نفسي فيها من المحال أن يستخرجوا لي جواز سفر، وعبور الحدود بطريقة غير قانونية ليس خطرًا فحسب، بل إنه يتطلب الكثير من النقود، ولن يستطيع والداي تحمل تلك النفقات.»

– «هل يعلم والداك بكل ذلك؟»

– «يعرفان بعضه.»

– «إذن فأنت تعنين أنك في انتظار إلقاء القبض عليك؟»

– «وهل لدي خيار آخر؟»

– «يمكنك الاختباء.»

– «سوف يعثرون عليَّ، ثم أين يمكنني أن أختبئ؟ وهل من العدل أن أعرض الآخرين للخطر؟»

أدركت أن صوتي قد ارتفع؛ إذ تردد صداه عبر السقف. جلسنا صامتين هنيهة، ثم أحاط أندريه كتفي بذراعه، فاتكأت عليه وأنا أشعر بدفء جسده. عندما أكون معه يتملكني شعور عارم بالانتماء وكأنه وطني؛ كأني وصلت وجهتي بعد رحلة محفوفة بالمخاطر. هأنذا أقع في الحب مرة أخرى، وهو ما أورثني شعورًا بالذنب. لم أكن أرغب في خيانة أراش، لكن للحب سلطانًا على القلوب لا تقوى على معاندته. إنه كالربيع يتسلل إلى سطح الأرض في نهاية الشتاء، وكل يوم ترتفع درجة الحرارة قليلًا، وتنمو البراعم الجديدة فوق أغصان الأشجار، ويطول بقاء الشمس في السماء دقائق عن اليوم السابق، وقبل أن يدرك أحد ذلك، يغمر العالم الدفء والألوان.

•••

في أواخر يونيو من عام ١٩٨١، وبعد يومين من وصولنا أنا وأمي إلى المنزل الصيفي لقضاء الصيف هناك، اتصل بي أرام وسألني هل سمعت أن البرلمان اتهم الرئيس بني صدر بالخيانة بإيعاز من الخميني، وذلك بسبب معارضته لإعدام السجناء السياسيين وكتابته خطابات إلى الخميني يحذره فيها من الدكتاتورية. لم أكن سمعت بذلك، فليس لدينا في المنزل سوى مذياع قديم لا يعمل بكفاءة، وليس بإمكاننا الاستماع إلى إذاعة «بي بي سي»، ولم نكن نهتم بمشاهدة قنوات التلفاز المحلية. وبعد مرور بضعة أيام أخبرني أرام أن بني صدر تمكن من الهرب إلى فرنسا، لكن أُلقي القبض على العديد من أصدقائه، ونفِّذت فيهم عقوبة الإعدام.

وفي الثامن والعشرين من يونيو فتحت أمي التلفاز قبل أن نجلس لتناول العشاء، فوجدنا أنه في وقت سابق من ذلك اليوم انفجرت قنبلة في مقر «الحزب الجمهوري الإسلامي» أثناء انعقاد اجتماع له، مما أدى إلى مصرع أكثر من سبعين من أعضاء الحزب معظمهم من مسئولي الدولة، بما فيهم آية الله محمد بهشتي رأس السلطة القضائية والأمين العام للحزب، وأعلنت الحكومة مسئولية «المجاهدين» عن الحادث.

وفي بداية شهر أغسطس تولى السلطة الرئيس محمد علي رجائي المعروف بأنه أحد قادة «الثورة الثقافية الإسلامية». استمرت فترة رئاسته أسبوعين فقط، ففي الثلاثين من أغسطس انفجرت قنبلة في حجرة مكتب رئيس الوزراء مما أدى إلى مصرع الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس شرطة طهران، وأُعلنت مسئولية «المجاهدين» عن هذا الحادث أيضًا، لكني سمعت شائعات عن أن كلا الانفجارين كان نتيجة للصراعات الداخلية بين الفصائل المتناحرة من داخل الحكومة.

بدا وكأن البلاد دخلت في حالة حداد دائم؛ ففي كل شارع تعلو مكبرات الصوت بالأناشيد والموسيقى الدينية، وتسير مجموعات من الرجال في الشوارع يلطمون صدورهم بأيديهم أو يضربون ظهورهم بالسلاسل الحديدية على الطريقة الشيعية، بينما يتبعهن النساء باكيات منتحبات. أصبت بالصدمة من تلك الأحداث، واستغرقت أكثر في قراءة الكتب التي كانت تمنحني عالمًا أكثر اعتدالًا ورحمة وقابلية للفهم.

وقبل نهاية الصيف قررت ألا أعود إلى المدرسة. ما الفائدة من عودتي؟ لقد عجزت عن التكيف مع القواعد الجديدة، وسأزج بنفسي في المزيد من المشاكل مع محمودي خانم والمعلمات.

فور عودتنا إلى طهران انتظرت اللحظة المناسبة كي أخبر أمي بقراري. كنت على يقين من صعوبة الحصول على موافقتها، فهي شديدة الفخر بحصول شقيقي على شهادة البكالوريوس، ودائمًا تمتدح أصحاب المؤهلات العليا، لكنها لا تستطيع إجباري على الذهاب إلى المدرسة، فأنا أعلم أن موقفي سيزداد سوءًا إن قضيت يومًا آخر هناك.

كنا قد اشترينا بعض قطع الأثاث للغرفة التي كانت فيما مضى استوديو الرقص الخاص بأبي؛ أربعة مقاعد كبيرة مغطاة بنسيج مخملي باللون الأخضر الداكن، ومائدتا قهوة باللون الأسود، ومائدة طعام حولها ثمانية مقاعد، وخزانة جانبية لأدوات الطعام، بينما بقيت صالة الانتظار كما هي، بها مائدة مستديرة في المنتصف حولها أربعة مقاعد جلدية سوداء، ومدفأة كيروسين بين مقعدين لتدفئة الغرفة في الشتاء. تحب أمي الحياكة دائمًا، ومنذ نجاح الثورة أصبحت تقضي معظم وقتها جالسة على المقعد الذي يقع إلى يسار المدفأة تحيك لنا السترات والمفارش وأغطية الأسرَّة. عندما دخلت الغرفة في ذلك اليوم كانت تجلس مسترخية في مقعدها المفضل ترتدي نظارتها، فجلستُ على المقعد المواجه لها، وظللت صامتة بضع دقائق أستجمع فيها شجاعتي كي أبدأ الحديث.

– «أمي!»

أجابت دون أن تنظر إليَّ:

– «ماذا هناك؟»

– «لا يمكنني العودة إلى المدرسة، على الأقل هذا العام.»

تركت السترة التي تحيكها وحدقت إليَّ من خلف نظارتها. ومع أنها كانت في السادسة والخمسين من العمر والتجاعيد بدأت تظهر حول عينيها وعلى جبهتها، فإنها ما زالت جميلة.

– «ماذا تقولين؟»

– «لا يمكنني العودة إلى المدرسة.»

– «هل جننتِ؟»

أخبرتها أننا لا ندرس شيئًا مفيدًا في المدرسة، وأنني إذا مكثت في المنزل فلن أضطر إلى التعامل مع معلمات الحرس الثوري، ووعدتها أني سأذاكر دروس الصف الحادي عشر في المنزل وأذهب إلى المدرسة لأداء الاختبارات فحسب.

– «تعلمين أنني أستطيع القيام بذلك، فلدي من العلم ما يفوق هؤلاء المعلمات الجديدات.»

تنهدت وأطرقت برأسها.

أخذت أبكي وأقول: «أمي، لا تجبريني على العودة إلى المدرسة.»

– «سأفكر في الأمر.»

ركضتُ إلى غرفتي.

وفي صباح اليوم التالي عندما دخلت أمي غرفتي، كانت عيناي قد تورمتا من البكاء طوال الليل، كأن شعوري بالحزن والإحباط قد تفجر. وقفت أمي بجوار باب الشرفة تشاهد الطريق.

قالت: «يمكنك البقاء في المنزل، ولكن لعام واحد فقط.» لقد تمكنتْ من الاتفاق مع والدي على ذلك الأمر.

•••

اتصل بي أرام ذات ليلة في بداية شهر سبتمبر كي يودعني، لأنه سيغادر البلاد في اليوم التالي. شعرت بأنه يبكي، لكني قلت بصوت متماسك: «سوف أفتقدك، اعتنِ بنفسك جيدًا.» لم أكن قد أخبرته بأمر أندريه، وشعرت بأن ذلك هو الوقت المناسب كي يعلم، فأوضحت له أنني تعرفت على فتى في الكنيسة وأنني أحبه كثيرًا.

دُهش وسألني متى بدأ ذلك، فأخبرته أني تعرفت على أندريه في الربيع.

– «ولمَ لم تخبريني من قبل؟ ظننت أننا لا يُخفي أحدنا شيئًا عن الآخر.»

– «لم أكن متأكدة من مشاعري، ولم أرغب في الاقتراب من أي شخص أبدًا.»

تفهَّم أرام الأمر.

كان لزامًا على كل الذكور أداء الخدمة العسكرية بعد الانتهاء من المدرسة الثانوية ما لم يتمكنوا من الالتحاق بالجامعة أو يحصلوا على إعفاء رسمي من الحكومة لأسباب طبية أو لأي سبب آخر، وكان والد أرام قد حصل لابنه على إعفاء من الخدمة العسكرية، لأن شقيقه استشهد وهو الابن الوحيد لوالديه، وهكذا لم يكن يتعين عليه الذهاب إلى الحرب، لأن عائلته ضحت بأحد أبنائها بالفعل. المفارقة هنا أن شقيق أرام المتوفى هو من أنقذ حياته؛ وهكذا أصدرت الحكومة جواز سفر لأرام وسُمح له قانونًا بمغادرة البلاد.

•••

اتصلت بي سارة ذات يوم في نوفمبر من عام ١٩٨١ وأخبرتني أنها تود رؤيتي في الحال. كان صوتها يرتجف، ولكنها رفضت إخباري بالمزيد عبر الهاتف، فركضتُ إلى منزلها ووجدتها تنتظرني أمام الباب. لم يكن والداها وشقيقها بالمنزل، فاصطحبتها إلى غرفتها واستلقت على فراشها. كانت عيناها حمراوين متورمتين من أثر البكاء.

أخبرتني سارة أنه منذ يومين ذهب الحرس الثوري إلى منزل جيتا لإلقاء القبض عليها، ولكنها لم تكن في المنزل فألقوا القبض على أمها وشقيقتيها وأخبروا والدها أنه لو لم تسلم جيتا نفسها في غضون أسبوع فسيعدمون إحدى شقيقتيها، وهكذا ذهبت جيتا إلى «إيفين» وسلمت نفسها كي يطلقوا سراح أمها وشقيقتيها.

– «مارينا … تعرفين كم هي عنيدة. سيقتلونها، فهي لا تُمسك لسانها. وعلى الأرجح سوف يحين دورنا. مؤكد أن سيرس هو التالي، لكنه يقول إن كل من جاهر بانتقاد الحكومة معرض لخطر الاعتقال.»

كان سيرس محقًّا؛ كنت أعرف أنهم سوف يأتون للقبض علينا عاجلًا أم آجلًا، فلديهم أسماؤنا وعناويننا. لم أكن قد أخبرت أحدًا بأمر القائمة لأنني لم أكن أعلم بقية الأسماء بها، ولم أرغب في إثارة ذعر الآخرين أو جلب المشاكل لباهمان خانم.

– «نعم، على الأرجح سيحين دورنا في المرة القادمة. إنها مسألة وقت لا أكثر، وليس بوسعنا فعل أي شيء. لا يمكننا الهرب، فسوف يلحقون الأذى بآبائنا إن فعلنا.»

– «ولكن لا يمكننا الجلوس والانتظار.»

– «ماذا تريدين أن تفعلي؟»

– «يمكنني على الأقل أن أخبر والديَّ.»

– «سوف يصيبهما الذعر، ولن يكون بوسعهما فعل أي شيء ما لم تتمكنوا جميعًا من الاختفاء. إذا أخبرتُ والديَّ فلن يأخذا كلامي على محمل الجد. هدئي من روعك، فلا يمكن أن يكون الأمر بهذا السوء؛ هناك قدر من المبالغة حتمًا. نحن لم نفعل شيئًا، لكن جيتا متورطة مع جماعتها، فلمَ يشغلون أنفسهم بنا؟»

– «أحسبك على حق، علينا ألا نشعر بالذعر، فنحن لم نفعل شيئًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤