الفصل الخامس عشر

بعد أن عرض عليٌّ الزواج بي أعادني مجددًا إلى «٢٤٦». أحاطت بي صديقاتي فور أن دخلت الغرفة، وأردن معرفة ما حدث، فأخبرتهن بأن عليًّا عاد وأراد معرفة أخباري فحسب. أدركت من النظرة التي علت وجوههن أنهن لم يصدقنني. كنَّ يشعرن بالقلق عليَّ، لكن لا تستطيع إحداهن مساعدتي.

لم أرغب في إخبار رفيقات الغرفة بأمر عرض الزواج، فقد شعرت بالإثم والخجل؛ لقد عرَّضت أندريه ووالديَّ للخطر، ولم يكن لديَّ شك في جدية تهديدات علي، وهكذا عليَّ أن أوافق على ما يطلبه مني.

تذكَّرت اللحظة التي قبَّلت فيها أراش، كان أروع شعور في العالم لأني أحببت أراش. هل سيقبِّلني علي؟ مسحت فمي بكمي، وتصبب العرق البارد من جسمي.

كانت ترانه قد قالت لي: «يمكنهم أن يقتلوني إذا أرادوا، لكني لا أريد أن أتعرض للاغتصاب.»

مع أنني لم أكن أعرف معنى الاغتصاب تحديدًا، فقد أقنعت نفسي أن هذا ليس اغتصابًا، فعليٌّ يرغب في أن يتزوجني. حسنًا، لا بأس في ذلك … كلا … لمَ أفكر في هذا الأمر من الأساس؟ لا خيار لي سوى الموافقة.

يفترض بالزواج أن يكون أبديًّا، فهل يمكنني الحياة مع علي إلى الأبد؟ ربما يقصد زواجًا مؤقتًا، فقد سمعت عن نكاح عند الشيعة، وهو زواج مؤقت قد تتراوح مدته ما بين دقائق معدودة إلى أعوام، وأعلم أيضًا أن المرأة في الزواج المؤقت ليس لها أي حق، ولكن ذلك الأمر ما كان ليشكِّل أي فارق لي، فأنا سجينة وليس لي أي حق على أي حال. ربما يرغب في الزواج مني فترة وجيزة ثم يتركني. إن كان الأمر كذلك فلا داعي لأن أخبر أحدًا؛ عليَّ أن أبقي هذا الزواج سرًّا لأطول فترة ممكنة.

مرت الساعات، ولم أستطع تناول الطعام أو التفكير أو الحديث مع أي شخص، بل إنني لم أستطع البكاء. كل ما استطعت فعله هو أن أذرع الممر جيئة وذهابًا أثناء النهار حتى يغشى عليَّ من الإرهاق ليلًا.

وأخيرًا في اليوم الثالث ذهبت كي أتحدث مع الأخت مريم. كانت تعلم بأمر عرض الزواج الذي تقدم به علي، وهكذا لم أقلق بشأن إفشاء سري. أخبرتها أني لا أرغب في الزواج من علي، ولكنها أجابتني بأن كل الزيجات في عائلتها كانت تقليدية، وبأن كل الفتيات لا يرغبن في الزواج من الرجل الذي يختاره لهن آباؤهن، وأن والدتها كانت تكره الرجل الذي اختاره لها والداها، ولكن انتهى بها الحال لأن تصبح في غاية السعادة معه، فقلت لها إنني لا أدري كيف تولد السعادة في مثل تلك الظروف، وأوضحت لها أن الفتيات في عائلتي يخترن أزواجهن بأنفسهن، لكنها قالت إنني لم أعد أعيش مع عائلتي، وعليَّ أن أتذكر دائمًا أن عليًّا قد أنقذ حياتي. كنت من وجهة نظرها صعبة المراس إلى حد كبير.

***

انتهت الأيام الثلاثة التي منحها لي عليٌّ للتفكير، وفي اليوم الرابع استُدعيت عبر مكبر الصوت، وكان عليٌّ ينتظرني في المكتب.

– «لستِ بحاجة إلى العصابة، فسوف نتحدث في سيارتي.»

خرجنا من حجرة المكتب ودخلنا ممرًّا بلا نوافذ تملؤه المصابيح الفلورية. لم أكن حتى تلك اللحظة قد رأيت «إيفين» من الداخل فيما عدا «٢٤٦» وغرفة الاستجواب. كان كابوسًّا مخيفًا من الأصوات الغاضبة والجَلد بالسياط والصراخ وإطلاق النيران وأصوات الخفاف المطاطية وهي تحتك بالأرض المغطاة بالمشمع والأرض الصخرية، غير أن الممر الذي سرنا فيه كان عاديًّا شبيهًا بأي مبنى حكومي أو مدرسة. نزلت الدرَج خلف علي. مر بنا اثنان من الحرس الثوري في طريقهما إلى أعلى وانحنيا قليلًا أمام علي قائلين: «السلام عليكم» متجاهلين إياي تمامًا، فانحنى عليٌّ بدوره لهما وحياهما. وفور أن وصلنا إلى نهاية الدرج فتح عليٌّ بابًا حديديًّا رمادي اللون وخرجنا. بدا كل شيء طبيعيًّا، حتى إني شعرت بالصدمة، فقد ذكَّرني «إيفين» بحرم «جامعة طهران» الواقعة في شارع «انقلاب». الفرق بينهما أن «إيفين» يضم كثيرًا من الأماكن المفتوحة، وأن الجامعة محاطة بسور حديدي يتيح الرؤية من خلاله، أما «إيفين» فمحاط بأسوار قرميدية شاهقة الارتفاع وأبراج مراقبة وحرس مسلحين، ومجموعات من أشجار القيقب العتيقة هنا وهناك، وجبال «ألبرز» تطل علينا من كل جانب.

قادني عليٌّ عبر طريق ضيق مرصوف، ودرنا حول مبنى رمادي اللون حتى وصلنا إلى سيارة مرسيدس سوداء تقف في ظل بعض الأشجار، ففتح الباب الأمامي ودخلتُ. بدت السيارة جديدة، وتحدر العَرَق على جبيني. جلس علي في مقعد السائق ووضع يديه على عجلة القيادة، فلاحظت أن أصابع يديه طويلة نحيلة وأظافره نظيفة مقلمة. كانت يداه أشبه بيدَي عازف بيانو، لكنه كان محققًا.

سألني وهو يحدق بمسبحة كهرمانية اللون تتدلى من مرآة الرؤية الخلفية: «إلى أي قرار توصلتِ؟»

في تلك اللحظة حلق عصفور فوق إحدى الأشجار واختفى في السماء الزرقاء الفسيحة الخالية من السحب.

سألته: «هل سيكون هذا زواجًا مؤقتًا؟»

نظر إليَّ في دهشة.

– «شعوري نحوك ليس انجذابًا جسديًّا عابرًا. أريدك إلى الأبد.»

– «عليٌّ، أرجوك …»

– «هل توافقين أم ترفضين؟ ولا تنسي العواقب؛ أنا جادٌّ للغاية بشأن ما قلتُ.»

قلت وأنا أشعر أني أُدفن حية: «… سأتزوجك.»

ابتسم، وقال: «أنت فتاة عاقلة. كنت أعلم أنك ستتخذين القرار الصائب، وأعدك ألا تندمي على هذا القرار. سوف أعتني بك جيدًا. والآن عليَّ عمل الترتيبات اللازمة وإخبار والديَّ. سوف يستغرق الأمر بعض الوقت.»

تساءلت عن رأي والديه في زواجه من سجينة مسيحية، وماذا عن عائلتي؟ كيف سيكون رد فعلهم؟

قلت: «علي، لا أريد أن تعلم أسرتي بأمر هذا الزواج الآن. لم أكن يومًا قريبة من والديَّ، وأعلم أنهما لن يتفهما الموقف، وسوف يزيدان الوضع سوءًا.»

لم أستطع مغالبة الدموع أكثر من ذلك.

– «مارينا، أرجوك لا تبكِي. لستِ مضطرة لإخبار أحد حتى تكوني مستعدة لذلك، ولا يهم كم يستغرق هذا الأمر من وقت. أدرك أن الأمر صعب عليك، وسوف أبذل كل ما بوسعي كي أجعله يسيرًا.»

ما دام أصدقائي وعائلتي لن يعرفوا بأمر هذا الزواج، فهناك فرصة لنجاة الفتاة التي كانوا يعرفونها قبل دخولي «إيفين»؛ يمكنها أن تبقى وتحلم وتأمل وتحب مع أنها مضطرة للاختباء داخل تلك الفتاة الجديدة: زوجة المحقق. لم أكن متأكدة كم ستصمد الفتاة الأولى أمام هذا الوضع، لكني قررت أن أحميها؛ فهي ذاتي الحقيقية التي يحبها والداي وأندريه وينتظرون عودتها.

أعادني علي إلى «٢٤٦»، وطلبت من الأخت مريم أن تنقلني إلى إحدى الغرف بالطابق السفلي؛ إذ لم أرغب في تفسير أي شيء لرفيقاتي. كان الطابقان العلوي والسفلي منفصلين تمامًا بحيث لا تستطيع السجينات التعامل معًا، وأنا أرغب في البقاء وحيدة حيث لا يعرفني أحد، فوافقتْ وطلبت من مندوبة الغرفة «٧» أن تُحضر متعلقاتي إلى المكتب، وهكذا انتقلتُ إلى الغرفة «٦» في الطابق الأول، وكانت على غرار غرفتي القديمة في الطابق الثاني تضم نحو خمسين فتاة.

وسرعان ما بدأت صحتي تتدهور، فأخذت أتقيأ كلما تناولت طعامًا، وهاجمتني نوبات الصداع المبرحة الآلام، وقضيت معظم وقتي أنام في أحد جوانب الغرفة وأنا أغطي وجهي ببطانية ولا أستطيع الحديث. كانت أفكاري تتداخل وتتجه دائمًا نحو ترانه، كم أفتقدها! منذ أن اقتادوها للموت وأنا أتجنب التفكير فيها تمامًا، لأني لم أكن أرغب في تخيل تفاصيل الساعات الأخيرة من حياتها. لماذا ندير ظهورنا للواقع حين يصبح أشد قسوة من أن نحتمله؟ كان عليَّ أن أخبر الأخت مريم أني أود الموت مع ترانه. كان لا بد من محاولة إيقاف إعدامها. أعلم أني لم أكن لأفلح في ذلك، لكن كان حريًّا بي أن أحاول. ألا تساوي حياة إنسان بريء خوض الحرب من أجلها، حتى ولو كان مآل تلك الحرب الفشل؟ كنت مسئولة عن موتها لأني قبلت الاستسلام لمصيرها، لكن لماذا التزمت الصمت؟ هل كنت أخشى الموت؟ لا أعتقد ذلك. ربما يكون الأمل؛ كنت آمل في العودة إلى المنزل ذات يوم، فوالداي وأندريه ينتظرونني. كيف أختار الموت إذا كان دوري لم يحِن بعد؟ اختلط الصواب بالخطأ، ولم أدرِ أي طريق أسلك.

•••

وقفتُ وسط بقعة مظلمة؛ ساحة مفتوحة تحيط بها تلال سوداء، ووقفتْ ترانه بجواري ترتدي سترتها الحمراء التي تجلب لها الحظ وتحدق أمامها. لمستُ يدها، فنظرتْ إليَّ بعينيها العسليتين. ظهر عليٌّ من وسط الظلام، وسار نحونا ثم صوب بندقية إلى رأسي. شُلَّت حركتي، بينما قبضت ترانه بيدها الصغيرة على معصمه، وقالت: «كلا!» فصوب البندقية إلى رأسها وجذب الزناد. غطت دماء ترانه جسدي فصرختُ.

استيقظت على صرخة محبوسة في حلقي، وعجزت عن التقاط أنفاسي. ظهر وجه أحدهم فوقي مبهمًا غير واضح المعالم، وامتلأت الغرفة بأصوات مرتفعة غير مفهومة، لكن عندما ينعدم الهواء، يكون أهم شيء هو العثور عليه. حاولت أن أمد يدي وأمسك بأي شيء ينقذني من الاختناق؛ حاولت أن أقول إنني لا أستطيع التنفس. رأيت وجه الأخت مريم؛ كانت تقول شيئًا، لكن كلماتها بدت وكأنها تأتي من مسافة بعيدة. تلاشت معالم الغرفة وكأن أحدهم أطفأ النور.

فتحت عيني فوجدت عليًّا يتحدث مع الطبيب الشيخ الذي كان يرتدي الزي العسكري الكاكي. يمكنني التقاط أنفاسي الآن. كنت في غرفة محاطة بالستائر البيضاء أنام على فراش نظيف مريح وأرتدي وشاحًا أبيض وجسدي مغطى بملاءة بيضاء سميكة، وسائل شفاف ينساب من كيس بلاستيكي معلق في خطاف معدني إلى أنبوب شفاف متصل بيدي.

أول من لاحظ أنني أفقت هو الطبيب الشيخ.

قال: «مرحبًا مارينا، كيف حالك؟»

لم أتذكر شيئًا مما حدث، ولم أدرِ أين أنا، فأخبرني الطبيب أني أصبت بالجفاف الشديد ونُقلت إلى مستشفى السجن، ثم اختفى عبر فرجة صغيرة في الستارة. نظرت إلى عليٍّ، فابتسم.

– «سأذهب إلى المنزل كي أحضر لك بعض الطعام الذي تطهوه أمي، فطعامها يشفي كل الأسقام. والآن خذي قسطًا من الراحة، وسوف أوقظك عندما أعود. هل تريدين أي شيء آخر؟ هل أحضر لك أي شيء من الخارج؟»

– «كلا.»

– «لماذا لم تخبري أحدًا أنك مريضة للغاية هكذا؟»

– «الواقع أني لا أعرف ماذا حدث.»

– «أخبرتْ رفيقاتك الأخت مريم أنك تعانين من القيء منذ عدة أيام.»

امتلأت عيناي بالدموع، وقلت: «لطالما عانيت من مشاكل في المعدة، لا جديد في ذلك، ولكن تلك المرة كان الأمر أسوأ قليلًا من المعتاد، لكنني لم أكترث. ظننت أن هذه المرة ستمر بسلام كسابقاتها. الكوابيس ونوبات الصداع … لقد حاولت …» وبدأ صدري يضيق.

انحنى عليٌّ بالقرب مني، واستند بيديه على حافة الفراش وقال: «لا تقلقي، كل شيء على ما يرام، أنت مريضة، وهذا كل ما في الأمر. والآن يمكنك أن تستريحي وستكونين أفضل حالًا. خذي نفسًا عميقًا؛ عميقًا جدًّا.»

فعلت كما طلب مني.

– «سوف يعطيك الطبيب دواء منومًا، فأنت بحاجة إلى الراحة. لن تعاني صداعًا أو كوابيس بعد الآن.»

•••

استيقظت على صوت علي. كان يناديني وهو يحمل وعاء من حساء الدجاج الذي تفوح منه رائحة الليمون. كنت دائمًا أضيف الليمون لحساء الدجاج في منزلي. أخبرني علي أن الطبيب يؤكد أن الهواء النقي وتغيير المكان مفيد لصحتي، وعرض عليَّ أن يصطحبني في نزهة بالسيارة، فسألته هل يعني خارج أسوار «إيفين»، فأجاب بالإيجاب، وطلب مني أن أنتهي من تناول الحساء كي نذهب.

فور أن انتهيت من تناول طعامي ساعدني كي أجلس في الكرسي المتحرك، وجذب الستارة البيضاء التي تحيط بنا، فاكتشفت أننا في غرفة كبيرة بها العديد من الستائر البيضاء التي تقسمها إلى أجزاء. اثنتان من تلك الستائر كانتا مفتوحتين وخلفهما فراشان، أحدهما خالٍ والآخر ترقد عليه فتاة في مثل عمري تقريبًا ترتدي غطاء رأس أزرق داكنًا، وتغطي جسدها بملاءة بيضاء سميكة، ولم تكن بالغرفة نوافذ. دفعني علي بالكرسي المتحرك عبر الباب، واجتزنا ممرًّا ضيقًا، ومرة أخرى لم يضع على عيني العصابة، وفتح بابًا فبهرتني حدة ضوء الشمس في العالم الخارجي، وأخذ يدفع الكرسي نزولًا على منصة منحدرة.

بدت السماء كبحر مقلوب؛ موجات من السحب مكسوة بالزبد تطفو فوق الأفق. مررنا ببعض الفتيات معصوبات الأعين يرتدين الشادور الأزرق الداكن ويتبعن رجلًا من الحرس الثوري في طابور واحد، وكل منهن تتشبث بشادور الفتاة التي تسبقها، والحارس الذي يقودهن يمسك حبلًا في يده ربط طرفه بالقيد الذي يكبل يد أُولاهن ساحبًا إياها والأخريات يتبعنها. منذ بضعة أيام كنت مثلهن، ولكنني الآن أتمتع بحماية علي، وأوضاعي تغيرت. شعرت بالخجل، فقد خنتهن، لقد خنت الجميع.

على يميننا كانت أشجار القيقب العملاقة تحجب الرؤية، وعلى اليسار مبنى من القرميد مكون من طابقين تقبع خلفه سيارة علي، وفور أن وصلنا إلى السيارة أدركت أنني لا أرغب في أن ينفرد بي علي أبدًا، وتسلل إليَّ دبيب الخوف.

قال لي وهو يأخذ بذراعي الأيسر ويحاول مساعدتي على الوقوف: «دعيني أساعدك.» فدفعت ذراعه.

– «مارينا، لا تخافي مني. لم ولن أؤذيك.»

كان محقًّا؛ فهو لم يؤذني قط.

– «ثقي بي. حتى عندما نتزوج، سوف أحترم مشاعرك، فلست وحشًا.»

لم يكن لدي خيار سوى الوثوق به. كانت عضلاتي واهنة، وشعرت بالدوار عندما وقفت، لكني تمكنت من ركوب السيارة دون أن أفقد توازني. وعند باب الخروج أشار علي للحرس، ففتحوا البوابات، وخرجنا من «إيفين». صُدمت من سهولة الطريقة التي أخرجني بها؛ ربما يشغل منصبًا مرموقًا أكثر مما ظننت.

كان الشارع خاليًا مقفرًا، ولكن بعدما تحركنا بعيدًا عن السجن بدأت الحياة تدب فيه تدريجيًّا، فظهر الناس والبيوت والمتاجر، وفي قطعة أرض فضاء كانت مجموعة من الأطفال يركضون خلف كرة بلاستيكية ووجوههم مغطاة بطبقة رقيقة من الغبار، والنساء تحمل مشترياتهن من البقالة عائدات إلى المنزل، والرجال ينتشرون هنا وهناك يتحدث بعضهم مع بعض. بدت لي كل تلك الأمور البسيطة التي يقوم بها الناس كأنها معجزات.

سألني علي بعد نصف ساعة: «ما هذا الهدوء الشديد؟ فيمَ تفكرين؟»

– «في الحياة التي تبدو طبيعية للغاية هنا.»

– «مع أن الأمر سيستغرق بعض الوقت، أعدك أننا سنحيا في نهاية الأمر حياة طبيعية. سوف أعمل كي أعولك، وسوف تباشرين شئون المنزل وتذهبين للتسوق وتزورين الأصدقاء والأقارب، وسوف تصبحين سعيدة.»

كيف يمكنه أن يتحدث عن عمله بهذه البساطة؟ إنه ليس معلمًا أو طبيبًا أو حرفيًّا.

– «أصدقائي إما متوفون أو في السجن، ولست متأكدة هل سترغب عائلتي في رؤيتي مرة أخرى.»

– «سوف تكوِّنين صداقات جديدة. ولمَ تظنين أن عائلتك سترفض زواجنا إلى هذه الدرجة؟»

– «لسبب واحد، وهو طبيعة عملك.»

– «مارينا، ثقي بي، هناك أمل. سوف يرون الاهتمام الذي سأغدقه عليك. لقد تخطيتُ العديد من المصاعب كي أبقيك على قيد الحياة، والعديد من الأشخاص يعارضون زواجنا، ولا يزال هناك المزيد من العقبات التي يجب عليَّ تخطيها، لكنني سأتعامل مع كل تلك المشاكل، وسوف ترى عائلتك الحياة الكريمة التي سأوفرها لك وعندها سيغيرون رأيهم. سنواجه عائلتك معًا عندما تصبحين مستعدة لذلك.»

لماذا اختارني أنا؟ لقد كنت تجسيدًا لكل ما يعارضه؛ فأنا مسيحية ومناهضة للثورة وسجينة. كان عليه أن يصارع من قبل كي ينقذني من الموت، والآن عليه أن يصارع مجددًا كي يتزوجني. لماذا يفعل هذا؟

•••

ظللنا فترة نخرج في نزهة بالسيارة كل ليلة. عندما أكون معه في السيارة أحاول أن أتظاهر بأني إنسانة طبيعية. حاولت أن أمنع نفسي من التفكير في الماضي أو المستقبل، وحاولت التركيز في طنين المحرك والمقاعد الجلدية الوثيرة والشوارع التي تمتلئ بمظاهر الحياة التي تبدو خالية من الهموم. ومع أن المدينة ظلت كما تركتها، فقد بدت لي كل المعالم وكل الروائح وكل الأصوات غريبة. ارتفع صوت علي مغطيًا على كل شيء وهو يخبرني عن عائلته؛ هو ابن وحيد وله شقيقة واحدة متزوجة وتبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا. والدته حملت مرتين بعد أن وضعت شقيقته، لكنها أجهضت في كلا المرتين. طبقًا للشريعة الإسلامية يحق للرجل الزواج بأكثر من امرأة، لكن والد علي، السيد حسين موسوي، ظل مخلصًا لزوجته الوحيدة وطفليه؛ فالسيد موسوي رجل متدين، ساعد آية الله الخميني لأعوام عديدة، وهو فخور بعلي لكونه جنديًّا شجاعًا في الجهاد ضد الشاه، وهو أيضًا رجل أعمال ناجح كوَّن ثروة كبيرة، لكنه لم ينقطع عن مساعدة المحتاجين. منذ أعوام ووالدا علي يلحان عليه كي يتزوج، لكنه في الثامنة والعشرين ولم يتخذ تلك الخطوة بعد.

قال علي أثناء إحدى جولاتنا الليلية بالسيارة: «لقد أخبرت والديَّ عنك.»

سألته: «وماذا قالا؟»

أجابني ضاحكًا: «لقد أصيبا بالذعر.»

ربما كان هناك أمل في ألا أتزوجه بالرغم من كل ذلك.

تابع: «ولكنني أخبرتهما أنك شريكة حياتي المناسبة، وأنني أريدك أكثر من أي شيء في العالم. لطالما كنت ابنًا بارًّا مطيعًا لهما، لكني صاحب القرار هذه المرة، ولا يمكنني القبول بأقل من ذلك. إنني في الثامنة والعشرين من العمر، وقد مررت بالعديد من التجارب في حياتي واتخذت قراري. أريدك زوجتي وشريكة حياتي وأمًّا لأبنائي.»

– «علي، نحن ننتمي لعالمين مختلفين، ولن يحبني والداك أبدًا، بل سينتقدانني لاختلافي عنهما.»

أخبرني أن والديه يتمتعان بالطيبة والكرم، وأنه لا يشك في أنهما سيحبانني.

أغمضت عيني وحاولت ألا أفكر في شيء.

بعد بضع دقائق أخبرني أن هناك أمرًا آخر يود مناقشته معي، وأنه يعلم أنني لن أرحب بذلك الأمر، ولكنه أصر على أنه إجراء شكلي فقط. «أخبرني والدي أنك إذا أسلمتِ فلن يعارض زواجنا، بل إنه سيشجعه، وسوف يفخر والداي بأن تصبحي ابنتهما ويقدمان لك الدعم والحماية. مارينا، هذا ما أتمناه، أريدك أن تنتمي لي، وأريد لعائلتي أن تحبك. منذ اللحظة التي رأيتك فيها أدركت أننا يجب أن نظل معًا.»

فقدت عائلتي، والرجل الذي أحبه، وحريتي، وبيتي، وآمالي، وأحلامي، والآن عليَّ أن أتخلى عن إيماني.

لم يُبدِ عليٌّ اهتمامًا هل سأظل مسيحية في داخلي. رجوته أن يدعني وشأني، لكنه أكد لي أن ذلك مستحيل.

سألته: «وماذا لو رفضتُ؟»

قال: «لا تصعِّبي الأمر على نفسك، فهذا لمصلحتك. مؤكد أنك لا ترغبين في تعريض من تحبين للمعاناة من أجل كبريائك. ما زلتِ في السابعة عشرة، وما زال هناك العديد من الأمور التي لا تفهمينها جيدًا في العالم، وأعدك أنك ستعرفين معي معنى للسعادة لم تعرفيه من قبل.»

كيف يمكنني أن أجعله يفهم أني لن أصبح سعيدة معه أبدًا؟

أوقف عليٌّ السيارة في شارع هادئ. كنت أعرف تلك المنطقة، فهي قريبة من منزل عمتي زينيا. سألته هل يدرك أنني سأضطر إلى نسيان أهلي وأصدقائي وكنيستي وأنهم سيكرهونني إلى الأبد، فأخبرني بأنهم إذا كرهوني لأنني اعتنقت الإسلام فذلك يعني أنهم لم يحبوني قط.

خرج عليٌّ من السيارة وفتح الباب، فسألته: «ماذا تفعل؟»

– «تعالي، لقد اشتريت لنا منزلًا.»

صعدنا بضع درجات قادتنا إلى الباب الأمامي لمنزل قرميدي كبير من طابق واحد. فتح الباب ودخل، بينما ترددت في الدخول.

قال: «ماذا تنتظرين؟ ألا ترغبين في رؤيته؟»

تبعته إلى الداخل؛ بالمنزل غرفة استقبال، وغرفة معيشة وطعام، وأكبر مطبخ رأيت على الإطلاق، وأربع غرف نوم، وثلاثة حمامات. كانت الحوائط مدهونة حديثًا بألوان محايدة، لكن لا يوجد أثاث. في غرفة النوم الكبرى وقفتُ أمام الباب المنزلق الذي يؤدي إلى الفناء الخلفي، كان العشب أخضر كثيفًا، وأزهار الجيرانيوم والبنفسج والأقحوان تنمو في مجموعات من الأزهار الحمراء والبيضاء والبنفسجية والصفراء، وفراشة بيضاء تطير من زهرة إلى أخرى وتجاهد كي تحتفظ باتزانها في وسط الرياح الشديدة، وحائط قرميدي مرتفع يفصل الفناء عن الشارع. كيف يمكن لكل هذا الجمال أن يوجد في هذا العالم القاسي؟

فتح عليٌّ الباب المنزلق، وقال: «هيا بنا نخرج، فالأزهار بحاجة إلى المياه.»

عندما خرجنا إلى الفناء شَمَّرَ عن ساعديه وفتح الصنبور وأمسك الخرطوم. كانت الرياح تحمل الرذاذ البارد فيلامس وجهي. روى عليٌّ النباتات وهو يحرص على ألا يبعثر التربة. ظهرت قطرات كبيرة من المياه على أوراق النباتات فحبست أشعة الشمس الذهبية في جسمها اللؤلؤي. وأخذ يقتلع الأزهار الذابلة وهو يدندن لحنًا ويبتسم. يبدو طبيعيًّا كأي رجل آخر. هل قتل أحدًا في «إيفين» — وليس في الحرب — من قبل؟ هل سبق له أن جذب الزناد وأنهى حياة أحدهم؟

سألني: «هل يعجبك المنزل؟»

– «جميل.»

– «زرعت تلك الأزهار من أجلك.»

– «علي، أنا أقضي عقوبة السجن مدى الحياة، فكيف يُسمح لي أن أعيش هنا؟»

– «أقنعت المسئولين في «إيفين» بأن تبقي معي هنا كأنك قيد الإقامة الجبرية ووافقوا. مارينا، هذا منزلنا أنا وأنت.»

منزلنا! لم أعد حتى أعرف من أنا. هذا المنزل ليس إلا امتدادًا لسجن «إيفين».

قلت: «إذن سأكون سجينة هنا.»

– «علينا أن نقوم بذلك بالطريقة الصحيحة، فأنت تعلمين جيدًا أن هناك بعض المعارضين لزواجنا مثل حامد وأنهم يراقبوننا، فلا يجب أن نرتكب أي أخطاء. لقد حُكم عليك بالإعدام في محكمة إسلامية و…»

– «لكني لم أحاكَم قط!»

أخبرني عليٌّ ليلة الإعدام أني محكوم عليَّ بالسجن مدى الحياة، لكني افترضت أن حامدًا، وربما آخرون غيره، قرروا إعدامي فحسب؛ فالمحاكمة في اعتقادي هي ما قرأت عنه في الكتب وشاهدت في الأفلام: قاعة كبيرة بها قاضٍ ومحلفون ومحامٍ للدفاع ووكيل للنيابة.

أخبرني عليٌّ أني حوكمت غيابيًّا، ثم حصلت على عفو الإمام، وخُفض الحكم الصادر ضدي إلى السجن مدى الحياة. أخبرني أيضًا أنه لن يكون من اللائق أن يذهب للإمام مرة أخرى، ولكن يحق له طلب إعادة المحاكمة، وهو يعتقد أنه إذا أعيدت محاكمتي بعد اعتناق الإسلام والزواج به فلن يزيد الحكم الصادر ضدي عن عامين أو ثلاثة.

سألته لمَ يكرهني حامد إلى هذا الحد، فأوضح لي أن حامدًا وكثيرين غيره لا يهتمون لأمر مَن يختلف عنهم.

تنهدت. لم يكن بوسعي فهم هذا المجتمع الإسلامي الغريب.

تابع علي: «سيكون كل شيء على ما يرام. لم أشترِ أي أثاث بعد، لأني اعتقدت أنك قد ترغبين في تجهيز البيت بنفسك. يمكننا البدء بالتسوق لشراء ما تحتاجينه للمنزل غدًا، وغالبًا سوف يصبح جاهزًا في موعده. أعلم أنك ما زلت قلقة بشأن رد فعل عائلتك، ولكن ثقي بي؛ عندما يرون الحياة التي سأوفرها لك سوف يسعدون.»

ربما كان محقًّا؛ فنحن لم نكن أغنياء، ومنزل كهذا هو من أحلامنا بعيدة المنال. لم يؤمن أبي بالله قط، ودائمًا يسخر من معتقداتي الدينية، لكن المال مهمٌّ له، والأشياء الثمينة القيمة تبهره دائمًا. ربما يحب عليًّا يومًا ما، فأبي يحب السيارات الفارهة، وعلي يملك سيارة مرسيدس من أحدث طراز، أما أمي فلا تملك أي شيء ثمين، بل إنها تقيم في منزل بالإيجار منذ زواجها، وهكذا ستحب هذا المنزل. هل أملك أي فرصة في الشعور بالسعادة مع علي؟ هذا الأمر يعتمد عليه، ويعتمد عليَّ أيضًا. إنه يحبني بطريقته، ومع أن تلك الطريقة تختلف عن طريقتي تمامًا، فبوسعي أن أرى الحب يطل من عينيه كلما نظر إليَّ.

•••

قال علي ونحن ننطلق عائدين إلى «إيفين»: «أعتقد أنك يجب ألا تعودي إلى «٢٤٦»؛ زنزانات «٢٠٩» ستكون أفضل في الوقت الحالي، فسوف أستطيع التردد عليك أكثر وإحضار الطعام لك من المنزل. ما رأيك؟»

أومأت.

وفي طريقنا للعودة توقفنا عند مطعم صغير، حيث أحضر عليٌّ لكل منا شطيرة من البيض وزجاجة من المياه الغازية. كنت أحب البيض، ولم أتناوله منذ عدة أشهر. تناولنا الطعام في السيارة. كان الخبز طازجًا ومدهونًا بالزبد، وبه شرائح من الطماطم بين شرائح البيض المسلوق. عندما انتهيت من شطيرتي لم يكن عليٌّ قد أنهى نصف شطيرته بعد، وعرض عليَّ أن أتناول شطيرة ثانية، فوافقت، ثم اشترى لكل منا شطيرة أخرى.

عندما وصلنا «إيفين» أوقف عليٌّ السيارة أمام أحد المباني ودخلناه. امتد أمامنا ممر طويل خافت الإضاءة به العديد من الأبواب المعدنية على الجانبين. تقدم أحد الحرس نحونا.

– «السلام عليكم أخ علي، كيف حالك؟»

– «بخير أخ رضا، الحمد لله. كيف حالك أنت؟»

– «بخير، الحمد لله.»

– «هل الزنزانة التي طلبتها جاهزة؟»

– «نعم، تفضل من هنا.»

تبعناه نحو باب يحمل الرقم «٢٧» حيث أدخل مفتاحًا في القفل وأداره، فأصدر الباب صريرًا مرتفعًا تردد صداه في الممر. دخل عليٌّ الزنزانة وتفحصها، ثم خرج وطلب مني أن أدخل ففعلت. كانت مساحة الزنزانة تبلغ نحو ثلاثة أمتار في مترين، وبها مرحاض وحوض صغير كلاهما من الصلب المقاوم للصدأ، والأرض مغطاة بسجادة مهترئة بنية اللون، والنافذة الوحيدة التي يبلغ كلٌّ من طولها وعرضها ثلاثين سنتيمترًا مدعومة بقضبان حديدية وبعيدة عن متناول يدي. وقف عليٌّ عند الباب.

– «ستكونين على ما يرام هنا، وسوف أحضر لك الإفطار في الصباح، والآن يمكنك الخلود إلى النوم.»

راقبت الباب وهو يُغلَق، وسمعت صوت المفتاح وهو يدور مغلقًا القفل، وبدا صوت إغلاقه كأنه يقول «خائنة».

انطلقت الموسيقى العسكرية عبر مكبرات الصوت؛ يبدو أن هناك انتصارًا آخر. لو أن كل تلك «الانتصارات» حقيقية لكانت إيران قد غزت العالم بأكمله الآن.

نزعت غطاء رأسي، وذهبت إلى الحوض، وغسلت وجهي فشعرت بتحسن، وكررت ذلك نحو ثلاثين مرة حتى شعرت بالخدر في وجهي. كان صوت المياه الجارية وبرودتها يشعرانني بالراحة؛ فالمياه تصلني بالعالم بصورة ما، غير أن تلك الصلة — وإن كنت أشعر بها على بشرتي — بدت كذكرى بعيدة. الارتياح الذي أشعر به عندما تلامس المياه جسدي لم يكن ينتمي إلى الحاضر وإنما إلى الماضي؛ ارتياح بطعم الحنين والحزن.

شعرت بالإرهاق، ووجدت بطانيتين عسكريتين مطويتين في أحد الأركان، فبسطتهما على الأرض ورقدت. كانت حوائط الزنزانة مطلية باللون البني الفاتح، ولكن بعض الطلاء كان متساقطًا كاشفًا عن الجص تحته، وبقية الطلاء مغطى ببصمات الأصابع وعلامات غريبة زلقة بأشكال وأحجام مختلفة، وبعض البقع باللون الأحمر الداكن التي اشتبهت أنها دماء، بالإضافة إلى بعض الكلمات والأرقام المحفورة في الحوائط ومعظمها غير مقروء. تتبعت النقوش بأصابعي كأنها كتبت بطريقة برايل. قرأت أحدها: «شيرين هاشمي، الخامس من يناير ١٩٨٢. هل يسمعني أحد؟»

يوم الخامس من يناير كنت في منزلي بينما تلك الفتاة هنا. تُرى أين هي الآن؟ ربما لقيت حتفها. كم كان قدر ما لاقت من عذاب عندما كتبت هذه الكلمات: «هل يسمعني أحد؟»

– «كلا شيرين، لا أحد يسمعنا، فنحن هنا وحدنا.»

قرأت أسماء أخرى: مهتاب، وباهرام، وكتايون، وبيروز، بالإضافة إلى المزيد من التواريخ: ٢ ديسمبر ١٩٨١، ٢٨ ديسمبر ١٩٨١، ١٢ فبراير ١٩٨٢، وغيرها. تمكنت أيضًا من قراءة جملة تقول: «أحبك يا فيروز جان.» ترك السجناء السابقون بصماتهم على الجدران المحيطة بي. تتبعت خطًّا وهميًّا — كطريق على الخريطة — يصل بين الكلمات والتواريخ والعبارات التي تحيط بي كشواهد القبور. الموت حاضر هنا يلقي بظلاله على كل كلمة ليخلص إلى عبارة واحدة: «هل يسمعني أحد؟»

أنا خائنة، وأستحق هذه المعاناة، وهذا الألم، وهذه الزنزانة. في اللحظة التي دخلت فيها «إيفين» حُكم عليَّ بخيانة نفسي. حتى الموت أدار ظهره لي. سوف يكرهونني؛ والداي، وأندريه، والقساوسة، وأصدقائي. وماذا عنك يا الله؟ هل تكرهني أيضًا؟ كلا، لا أعتقد ذلك، وإن كنت لا أستبعده. ما هذا العبث؟ من أكون حتى أقرر كيف تفكر؟ لكنك من وضعني هنا، أليس كذلك؟ كان من الممكن أن تتركني أموت، لكنني بقيت على قيد الحياة. هذا إذن قرارك وليس قراري. ماذا كنت تتوقع مني؟ أرجوك، أتوسل إليك، قل شيئًا …

لكن الله لم يقل شيئًا.

***

كما وعدني، أحضر عليٌّ إفطارًا في الصباح مكونًا من خبز البربري ومربى الكرز الحامض المعدَّة في المنزل. كان الشاي موضوعًا في كوب بلاستيكي وتفوح منه رائحة زكية ليست كرائحة الكافور. قضيت النهار أفكر فيما يفعله أندريه ووالداي الآن. أكاد أجزم أن أمي تجلس الآن في مقعدها المفضل تحيك الملابس أو تحتسي الشاي، وأن أبي في العمل، أما أندريه … حسنًا لا أدري ماذا يفعل. كنا في أواخر فصل الربيع والدراسة انتهت، فلم يكن يعمل بالتدريس في ذلك الوقت بالتأكيد. هل أصبحتُ ذكرى لديهم؟ أم ما زلت أتمتع بحضور حي، يدعون لي ويسامحونني؟

هل يسمعني أحد؟

•••

تلك الليلة اصطحبني عليٌّ في السادسة مساء، وأخبرني أننا ذاهبان لمقابلة والديه. لم يكن المنزل بعيدًا عن «إيفين»، وعندما وصلنا أوقف السيارة في الشارع الهادئ. كانت الحوائط القرميدية العتيقة ترتفع على جانبي الطريق، وخلفها تقبع أشجار القيقب والصفصاف والحور العتيقة الشاهقة، ولكنها تتضاءل كالأعشاب أمام ضخامة جبال «ألبرز» في الخلفية. كان حلقي جافًّا ويداي باردتين مبللتين بالعرق، ومع أن عليًّا طمأنني لطيبة والديه الشديدة، فلم تكن لديَّ فكرة عما قد أتوقعه. تبعته إلى باب معدني أخضر اللون، وانتظرت حتى قرع الجرس، ففتحت لنا الباب امرأة ضئيلة الحجم ترتدي شادورًا أبيض اللون، خمنتُ أنها فاطمة خانم والدة علي مع أنني توقعتها أكبر من ذلك.

قال علي وهو يقبِّل جبينها: «السلام عليكم يا أمي. أعرِّفك بمارينا.»

ابتسمت وقالت: «السلام عليكم عزيزتي. أهلًا بكِ.» كانت عيناها البنيتان الصغيرتان تدققان في وجهي بفضول، ووجهها يشي بالطيبة.

دخلنا عبر الباب إلى الفناء الأمامي، فرأيت ممرًّا ضيقًا مفروشًا بحصى رمادية ينحرف إلى اليمين ثم يختفي بين أشجار الجوز والقيقب العتيقة، وسرعان ما ظهر المنزل الكبير والكروم يغطي جدرانه. أحاطت الأُصُص الفخار المزروعة بأزهار الجيرانيوم والأقحوان بالدرَج العريض الذي يؤدي إلى الشرفة الواسعة.

داخل المنزل رأيت السجاجيد الفارسية الجميلة الثمينة تغطي الأرض، وكانت شقيقة علي — أكرام — هناك مع زوجها مسعود. كان وجهها مستديرًا وعيناها بنيتين واسعتين ووجنتاها متوردتين. ترددتُ بين معانقتها أو مصافحتها أو عدم فعل شيء على الإطلاق؛ بعض المسلمين المتعصبين يعتبرون المسيحيين غير طاهرين، ولذا قررت ألا ألمسها كي لا تشعر بالضيق. عانق عليٌّ والده وقبَّله على وجنتيه. كان أطول من علي بنحو خمسة سنتيمترات، ونحيلًا ذا لحية رمادية مهذبة. حيَّتني الأسرة أحسن تحية، لكني استشعرت عدم ارتياحهم، فهم لا يرون في فتاة مسيحية وسجينة سياسية عروسًا مناسبة لابنهم، ولم أكن ألومهم على محاولة معرفة ما جذب ابنهم في تلك الفتاة الغريبة شاحبة الوجه.

انتقلنا إلى غرفة المعيشة التي كانت فسيحة ومزخرفة على نحو جذاب، وعلى كل موائد القهوة وُضعت بعض الفواكه والحلوى في أطباق كبيرة من الفضة والكريستال. جلست على أريكة بجوار أكرام، وقدمت لنا والدة علي بعض الشاي المعطر، ولاحظت أنها تراقبني معظم الوقت، وشعرت بنظرة شفقة في عينيها. أخذت أحتسي الشاي الذي صُبَّ في أكواب زجاجية أنيقة مذهبة الحواف، وبدأت أشعر بالارتياح قليلًا. بدا الأمر وكأني ذهبت إلى منزل أحد معارفي في زيارة عادية. قدمتْ لي أكرام بعض كعك الأرز فتناولت واحدة، ثم شرع السيد موسوي يتحدث عن آخر أنباء عمله مع علي. كان يملك متجرًا في سوق طهران، ويعتمد على استيراد البضائع وتصديرها مثل السجاد الإيراني والفستق. وسرعان ما قُدم العشاء المكون من الأرز طويل الحبة بالزعفران والدجاج المشوي ويخنة اللحم بالأعشاب والسلطة، ومع أن رائحة الطعام كانت شهية، لم أشعر بالجوع. ربما يتناول والداي العشاء أيضًا.

وبعد أن فرغنا من تناول الطعام قال السيد موسوي: «إنه موقف صعب يا مارينا، وعليَّ أن أخبرك برأيي، فأنت بحاجة إلى إدراك حقيقة موقفك لا سيما وأنك ما زلت صغيرة.»

كان السيد موسوي بوصفه مسلمًا متدينًا يتبع عادة غض البصر عن النساء من غير المحارم، فلم ينظر في عيني مباشرة.

اندفع عليٌّ معترضًا: «أبي، لقد ناقشنا هذا الأمر آلاف المرات من قبل.»

– «هذا صحيح، لكني لا أذكر أن مارينا كانت معنا في أي مرة من تلك المرات، فأرجو أن تصبر قليلًا ودعني أتحدث مع من ستكون زوجة لابني.»

– «حسنًا يا أبي.»

– «ابنتي العزيزة، لا بد أن تعرفي أني أتفهم الصعوبات التي تواجهينها. سأسألك بضعة أسئلة وأريدك أن تصدقيني القول في الإجابة عنها. هل توافقين؟»

– «نعم سيدي.»

– «هل أحسن ابني معاملتك؟»

أجبت وأنا أنظر نحو علي: «نعم يا سيدي.» فابتسم لي.

– «هل ترغبين في الزواج منه؟»

– «لا أرغب في الزواج منه، لكنه يرغب في الزواج مني، وقد تحمل متاعب عديدة كي ينقذ حياتي، وأنا أتفهم وضعي الحالي، وقد وعدني أن يعتني بي جيدًا.»

تمنيت ألا أكون قد أخطأت في شيء.

قال السيد موسوي إنني فتاة ذكية، وأبدو أكثر نضجًا مما يقتضيه عمري، وأخبرني بأنني كنت عدوة لله وللحكومة الإسلامية وكنت أستحق الموت، ولكن عليًّا تدخل لإنقاذ حياتي، لأنه آمن أنني قد أتعلم من أخطائي وأتغير. تمنى السيد موسوي أيضًا أن أدرك أن مارينا التي كنت أعرفها قبل دخول «إيفين» قد ماتت، وأني سأبدأ حياة جديدة على دين الإسلام، وأن اعتناقي الدين الإسلامي سوف يمحو ذنوبي وآثامي، وأخبرني أيضًا بأنه يحمِّل ابنه مسئولية وعوده لي، فقد حاول أن يثنيه عن عزمه على الزواج مني، لكن عليًّا رفض الاستماع له. لطالما كان عليٌّ ابنًا بارًّا ولم يفعل أي شيء ضد رغبة والده قط، لكنه لم يُصر من قبل على شيء كهذا، وهو ما جعل السيد موسوي يوافق على هذا الزواج شريطة أن أعتنق الإسلام. كان يدرك أن عائلتي قد تنبذني إن تخليت عن ديني، فوعدني أن يعاملني كابنته، وأن يحميني شخصيًّا، ويعمل جاهدًا على تحقيق ما فيه الخير لي ما احترمت ديني الجديد واتبعت السلوك الإسلامي الحسن وكنت زوجة مخلصة لابنه.

بعد أن أنهينا الحديث تساءل السيد موسوي: «هل اتفقنا جميعًا على هذا الأمر؟»

أجاب الجميع: «نعم.»

فوجئت بالجهود التي يبذلها والد علي لحل هذا الموقف الصعب، ومع أن منظورَيْنا للأمور يختلفان تمامًا، فقد وجدت أني أحترم السيد موسوي. واضح أنه يحب عليًّا ويهتم بسعادته. لو كان أخي هو الذي يرغب في الزواج من فتاة لا يوافق عليها والداي، ما كان والدي ليدعو إلى انعقاد اجتماع عائلي، لكنه على الأغلب كان سيخبر أخي بأنه إن تزوج تلك الفتاة فلن يرغب في رؤيته مرة أخرى.

قال السيد موسوي: «هكذا يا مارينا، أرحِّب بك فردًا في عائلتنا. لقد أصبحتِ ابنتي الآن، ونظرًا للظروف الاستثنائية فسوف نقيم حفل زفاف محدودًا هنا في منزلنا. لا تقلقي يا عزيزتي، فلستِ مضطرة إلى إخبار عائلتك الآن، فنحن عائلتك الجديدة وسوف نقدم لك كل ما تحتاجين. وأنتَ يا بني، لطالما كنت ابنًا بارًّا ونتمنى لك السعادة في هذا الزواج. مبارك عليك يا ولدي.»

وهنا نهض عليٌّ وقبَّل والده وشكره، بينما عانقتني والدته وهي تبكي.

•••

سألني عليٌّ أثناء عودتنا إلى «إيفين»: «ما رأيك في أسرتي؟ هل أحببتهم؟»

– «إنهم يحبونك كثيرًا. أسرتي مختلفة.»

– «ماذا تقصدين بكلمة «مختلفة»؟»

أخبرته أني أحب والديَّ وأفتقدهما، لكنهما طالما كانا بعيدين عني، فلم نتناقش جديًّا بشأن أي موضوع قط، فقال إنه يأسف لسماع ذلك، وإن والده جادٌّ للغاية فيما يتعلق بانضمامي إلى أسرتهم، ثم قال: «في غضون أسبوع سنقيم مراسم إشهارك للإسلام في إيفين، وسنقيم حفل زفافنا يوم الجمعة بعدها بأسبوعين.»

كانت الأحداث تتوالي سريعًا بطريقة لا يمكنني ملاحقتها، لكنه أكد لي أن لا داعي للقلق، وأن كل ما عليَّ أن أفكر فيه هو تجهيز أثاث المنزل. كان ينوي اصطحابي للتسوق في اليوم التالي، لكنني لم أفهم كيف يمكن أن أذهب للتسوق.

كنت قد توقعت أن تعاملني أسرته معاملة قاسية دونية، لكنهم كانوا ودودين للغاية، بل كانوا تجسيدًا لكل ما أفتقده في أسرتي. كان من الصعب عليَّ أن أتخيل عليًّا ابنًا، لكني الآن أدرك أنه قد أحبَّ ونال حبًّا في المقابل.

قال: «بالمناسبة، كل من يعتنق الإسلام عليه أن يتلقى دروسًا في الدين الإسلامي والقرآن، وأن يختار اسمًا إسلاميًّا، وأنتِ قد درستِ الإسلام بالفعل منذ إلقاء القبض عليك، وهكذا لا ينقصك سوى الاسم. أريدك أن تعرفي أني أرى اسمك جميلًا وأحبه ولن أناديك بأي اسم آخر، لكن عليك أن تختاري اسمًا من أجل الأوراق الرسمية فحسب.

وصل الحال بي إلى أني سأحمل اسمًا جديدًا. بدا الأمر وكأنه يمزقني قطعة قطعة؛ كأنه يشرِّحني وأنا على قيد الحياة. يمكنه أن يسميني ما يشاء.

قلت له: «يمكنك أن تختار لي اسمًا.»

– «كلا، أود أن تفعلي ذلك بنفسك.»

أول اسم خطر ببالي هو فاطمة، فقلته بصوت مسموع.

– «اسم أمي! كم سيسعدها ذلك!»

سوف أولِّي ظهري للمسيح، لا مفر من ذلك. خطر في بالي يهوذا، فقد خان المسيح أيضًا. هل أسير في نفس الطريق؟ لم يدرك يهوذا الخطأ الفادح الذي ارتكبه إلا في نهاية الأمر، فأنهى حياته بيده. لقد فقد الإيمان والأمل واستسلم للظلام. ألم يكن ذلك خطأه الأكبر؟ ربما لو واجه الحقيقة، ربما لو سأل الله العفو والمغفرة، لأُنقذت روحه. عندما قُبض على المسيح أنكر القديس بطرس معرفته به ثلاث مرات، لكن القديس بطرس آمن بعفو المسيح وسأله إياه. الله محبة، والمسيح خبير بمعنى العذاب، ولذا لن أوضح له أي شيء، فهو يعلم كل شيء.

عليَّ أن أودِّع أندريه؛ أودِّعه فقط دون أن أقول شيئًا. عليَّ أيضًا أن أخبر والديَّ، لكن يمكنني البدء بإخبارهما بأمر اعتناقي الإسلام وأرى كيف سيكون رد فعلهما. أرغب أيضًا في رؤية الكنيسة مرة أخيرة، وعندها ربما يمكنني الانتقال لحياتي الجديدة.

وفي اليوم التالي أحضر لي عليٌّ بعضًا من خبز البربري والجبن للإفطار، وسألني بعد الانتهاء من تناول الطعام: «هل أنت مستعدة للتسوق؟»

– «نعم، ولكن أود أن أطلب منك شيئًا قبل أن نذهب.»

– «ما هو؟»

– «أتود حقًّا مساعدتي كي أحبك؟»

بدا مندهشًا، وقال: «نعم.»

– «إذن اصطحبني إلى الكنيسة مرة أخيرة كي أودِّعها.»

– «حسنًا سوف أصطحبك إلى هناك، وماذا أيضًا؟»

أخبرته أن هناك أمرًا آخر لن يعجبه، وأوضحت له أني أدرك أننا عقدنا اتفاقًا وأني سألتزم بوعودي، وسأبذل كل ما بوسعي كي أكون زوجة مخلصة له، لكني بحاجة لأن أودِّع أندريه. إن لم أفعل، فلن يتركني شبح الماضي أبدًا.

استشعرت من نظرة عينيه أنه لم يكن غاضبًا.

– «حسنًا، عليَّ أن أقبل حقيقة أن قلبك لن يتغير بين عشية وضحاها. سوف أدعك ترينه مرة واحدة، ولكن أريدك أن تعلمي أنني أفعل ذلك مرغمًا لكي أسعدك فحسب.»

– «أشكرك.»

– «سأجري الترتيبات اللازمة، وسوف يسمح له بزيارتك في موعد الزيارة، ربما ليس في المرة القادمة ولكن في المرة التي تليها.»

شكرته وأخبرته أني أنوي إخبار والديَّ عن اعتناقي الإسلام في الزيارة القادمة.

– «وهل ستخبرينهما بأمر الزواج أيضًا؟»

– «كلا، ليس الآن. سأمهد للأمر أولًا.»

– «كما تشائين.»

***

أشهرت إسلامي بعد ذلك بأسبوع. أقيمت المراسم بعد صلاة الجمعة التي تقام في الخلاء في منطقة هادئة محاطة بالأشجار في «إيفين». كانت السجاجيد تغطي الأرض العشبية، وجلس الموظفون والحرس في صفوف الرجال يتقدمون النساء، لكن أغلب الحاضرين كانوا من الرجال. جلس الجميع في مواجهة منصة خشبية حيث يفترض أن يلقي آية الله جيلاني، إمام الجمعة في ذلك اليوم، الخطبة ويؤمهم للصلاة. تبعت عليًّا إلى آخر صفين حيث تجلس النساء، كان الجميع جلوسًا ما عدا امرأة طويلة القامة كانت واقفة تتلفت حولها. نظرت لها فوجدتها الأخت مريم. ابتسمت وأمسكت يدي، ودعتني للجلوس بجوارها، وسرعان ما وصل آية الله جيلاني وبدأ يلقي الخطبة، حيث تحدث إلى الجمع عن شرور الولايات المتحدة، وأثنى على الجهود التي يبذلها الحرس الثوري وموظفو محاكم الثورة الإسلامية من أجل حماية الإسلام، وبعد الصلاة نادى اسمي وطلب مني الذهاب إلى المنصة، فضغطت الأخت مريم على يدي. نهضت من مكاني وأنا أشعر بالدوار، وأخذ الجميع يحدق إليَّ. سرت بخطوات مرتجفة وتقدمت نحو آية الله، وطلب مني أن أنطق جملة بسيطة: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»، وصاح الحاضرون «الله أكبر» ثلاث مرات، معبرين عن استحسانهم. وهكذا لم أعد مسيحية.

ظلت العصافير تزقزق على فروع الأشجار المحيطة، ونسيم الجبل يداعب أوراق الشجر لتهتز أشعة الشمس في طريقها إلى الأرض، وظلت السماء زرقاء كما هي. كنت أنتظر غضب الله؛ تمنيت أن تضربني صاعقة من البرق وأنا واقفة في مكاني. كان عليٌّ جالسًا في الصف الأول ونظرة الحب في عينيه تضربني أسوأ من أي صاعقة برق وتثقل قلبي بالشعور بالذنب. قال المسيح: «أحبوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم»، فهل كان يتوقع مني أن أحب عليًّا؟ كيف يمكنه أن يتوقع شيئًا كهذا؟

نهض عليٌّ وأعطاني شادورًا أسود مطويًّا.

– «لقد بكت أمي فرحًا ودعت لك وهي تحيك هذا الثوب. كلنا فخورون بك.»

تمنيت لو شاركتهم نفس الشعور.

•••

في الزيارة التالية أخبرت والديَّ بأمر اعتناقي الإسلام. لم أتوقع منهما أن يسألاني عن السبب، وبالفعل لم يفعلا؛ فلم يكن أحد يجرؤ أن يسأل عما يحدث في «إيفين». كل ما فعلاه أنهما حدقا إليَّ وانفجرا بالبكاء. أعتقد أنهما كانا يدركان أن السجين في «إيفين» ليس ابنًا أو بنتًا، ولا زوجًا أو زوجة، ولا أمًّا أو أبًا، بل هو سجين فحسب.

أوفى عليٌّ بوعده واصطحبني إلى الكنيسة بعدها ببضعة أيام، وأتى معنا صديقه محمد، لأنه — كما أخبرني علي — لم يذهب إلى كنيسة قط، ولديه فضول كي يرى واحدة من الداخل. أوقف عليٌّ السيارة أمام المبنى، ووجدتها لم تتغير على الإطلاق، لكني شعرت بأني غريبة تمامًا عن المكان. خطوت خارج السيارة وسرت نحو الباب الرئيسي فوجدته مغلقًا، فذهبت إلى الباب الجانبي وقرعت الجرس.

سمعت صوت القس الأب مارتيني عبر نظام الاتصال الداخلي يتساءل: «من بالباب؟»

انقبض قلبي وأنا أقول: «مارينا.»

اقتربتْ خطوات متسارعة من الباب، وفُتح. وقف الأب مارتيني هنيهة بلا حراك من أثر الصدمة والذهول.

وأخيرًا قال: «مارينا، إنني سعيد جدًّا لرؤيتك. تفضلي …»

تبعته عبر الساحة إلى حجرة المكتب الصغيرة، وسار عليٌّ ومحمد خلفنا.

سأل الأب مارتيني عليًّا: «هل يمكنني الاتصال بوالدتها وصديقها أندريه كي يحضرا لرؤيتها؟»

تبادلت أنا وعليٌّ النظر، وكاد قلبي يتوقف.

أجاب علي: «نعم يمكنك ذلك.» وطلب من محمد أن يخرج معه.

عاد محمد بعد لحظة، ولكنني لم أرَ عليًّا، ربما كان ينتظر في السيارة، وأغلب الظن أنه لا يريد رؤية أندريه. سألني الأب مارتيني عن أحوالي، وأخبرته أنني بخير. ظل ينقل بصره بيني وبين محمد، وأدركت كم أصبح وجودي مخيفًا في هذا المكان. لم أفكر من قبل في الخوف الذي يفرضه وجودي، ومع أني أعلم أني لم أعرِّض القساوسة للخطر، فهم لا يعلمون ذلك. توقعت أن أشعر بالسعادة والأمان هنا، ولكن بوسعي الآن أن أدرك أن السعادة والأمان قد ماتا في اليوم الذي أُلقي القبض عليَّ فيه.

وصلت أمي ومعها أندريه خلال بضع دقائق. كم كنت أتمنى أن أخبرهما بالحقيقة كاملة، لكني أدركت أني قد لا أتمكن من ذلك على الإطلاق. هل يمكنني أن أصوغ كل هذا الألم في كلمات؟ لقد أتيت كي أقول وداعًا، وهو الشيء الوحيد الذي ينبغي عليَّ فعله. عليَّ أن أمنحهما وأمنح نفسي فرصة للمداواة والنسيان، وعليَّ أن أغلق الأبواب المؤدية إلى الماضي.

كانت أمي ترتدي وشاحًا أزرق كبيرًا يغطي رأسها، ومعطفًا أسود على الطراز الإسلامي، وسروالًا أسود. عانقتني طويلًا. كنت أشعر بأضلعها تحت أصابعي؛ لقد فقدتِ الكثير من الوزن، وكالعادة كانت تفوح منها رائحة السيجار.

همست في أذني: «هل أنت بخير؟»

ظلت يداها تتحسسان ظهري وذراعي محاولة أن تتأكد من سلامة أعضائي، وأخيرًا ابتعدت عنها، وظلت عيناها تتفحصني من رأسي إلى أخمص قدمي، ولكن بسبب الشادور الأسود الذي أرتديه لم تستطع رؤية الكثير، فلم يظهر مني سوى وجهي.

أجبتها مبتسمة: «أنا بخير يا أمي.»

تكلفت الابتسامة وسألتني: «كيف حصلتِ على هذا الشادور؟»

أخبرتها أن صديقة أعطتني إياه.

وهنا ملأ صوت محمد الغرفة: «تعرفون أن مارينا اعتنقت الإسلام، أليس كذلك؟»

ردت أمي والأب مارتيني في صوت واحد: «نعم.»

فتحت أمي حقيبتها، وأخرجت منديلًا ورقيًّا جففت به دموعها.

سألني أندريه وهو ينظر إليَّ ثم إلى محمد: «أأنت واثقة أنك بخير؟»

– «أنا بخير.»

كان لديَّ الكثير مما أود قوله، لكني لم أستطع التفكير.

لمح أندريه الصراع في عيني، فسألني: «ماذا هناك؟»

تاهت الكلمات بداخلي، فقد تسبَّبت الشهور الأخيرة من حياتي في خلق دائرة من الألم والارتباك حولي جعلتني أسيرة، ليس داخل جدران «إيفين» فحسب، بل داخل نفسي أيضًا. فتحت فمي كي أتكلم، لكني لم أقل شيئًا.

سألني: «متى ستعودين إلى المنزل؟»

همست: «لن أعود أبدًا.»

قال بابتسامة ملؤها اليقين: «سوف أنتظرك.»

أحسست بالحب في عينيه على الرغم من كل شيء. لم أكن بحاجة إلى قول كلمة أخرى؛ أعلم أني لو توسلت إليه أن ينساني فلن يفعل. عندما ينتظرك أحدهم، يعني ذلك أن هناك أملًا. كان أندريه حياتي قبل أن أدخل «إيفين»، وعليَّ أن أتشبث به كي أبقى على قيد الحياة. انهمرت الدموع من عيني، فاستدرت وخرجت من المكان. ركبت السيارة أنا ومحمد، وقادها عليٌّ لكنه توقف بعد بضع دقائق.

سألته: «لماذا توقفت؟»

– «لم أرَكِ شاحبة هكذا من قبل.»

– «أنا بخير، وأشكرك على إحضاري إلى هنا. لم تكن مضطرًّا لإحضارهما كي يرياني. أنا ممتنة لك، وأعلم أن هذا الأمر لم يكن سهلًا عليك.»

– «أنسيتِ أني أحبك؟»

– «لا أعرف كيف أشكرك.»

– «بل تعرفين.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤