الفصل السابع عشر

ذات ليلة من شهر فبراير قال لي عليٌّ وابتسامة مشرقة طفولية تعلو وجهه: «لديَّ أنباء سارة؛ لقد اتصلتْ بي أكرام هذا الصباح وأخبرتني أنها حبلى!»

سررت من أجلها كثيرًا.

– «وأخبرتني أيضًا عن الحلم والدعاء، وهي تعتقد أن الفضل في سعادتها يعود إليك، وأجبرتني على أن أعدها بأن أصطحبك إلى منزلها في الحال.»

لم أتفوه بشيء، فنظر إليَّ عليٌّ وهو يبتسم.

سألني: «وماذا فعلتِ أيضًا دون علمي؟»

– «لم أفعل أي شيء دون علمك.»

– «ولمَ لم تخبريني بذلك؟»

– «كان شأنًا خاصًّا بين امرأتين.»

– «لم تعودي خائفة مني، أليس كذلك؟»

– «وهل يفترض أن أخاف منك؟»

– «كلا، على الإطلاق. قد نختلف في التفكير، لكني نوعًا ما أثق بك أكثر مما أثق بنفسي، وإن عاش هذا الطفل فستكون أكرام مدينة لك إلى الأبد.»

– «لقد استجاب الله لدعوات أكرام، وليس للأمر علاقة بي.»

•••

كانت أكرام تشعر بسعادة غامرة لم أرَها على أحد من قبل.

قالت ونحن نعد العشاء: «عندما اتصل عليٌّ وأخبرني أنك قادمة لزيارتنا، طلبت من مسعود أن يذهب إلى المخبز ويشتري كعك الكريمة من أجلك، فما زلت أذكر أنك تحبينه كثيرًا.» وأخرجت صندوقين كبيرين لونهما أبيض من الثلاجة.

– «يا للهول! لديك ما يكفي لإطعام جيش كامل!»

– «مسعود يشعر بالسعادة، حتى إنه قد يشتري المخبز بأكمله إذا طلبت منه ذلك.»

– «هل أخبرتِه بأمر الدعاء؟»

– «لقد أخبرت الجميع.»

– «ألم يغضب مني؟»

– «ولمَ يغضب منك؟»

– «لا أدري، إنه دعاء مسيحي.»

– «لا يهم، فقد نجح الدعاء، أليس كذلك؟ سوف نرزق بطفل، وهذا كل ما يهم، وقد أخبرني بأن السيدة مريم امرأة عظيمة ورد ذكرها في القرآن ولا حرج في طلب العون منها.»

كانت سعادة أكرام كصفعة على وجهي، ولكنني لم أرغب في أن أشعر بالتعاسة بسبب سعادتها.

– «ماذا هناك يا مارينا؟ هل عليٌّ غاضب منك؟ إن كان كذلك فسوف …»

– «عليٌّ ليس غاضبًا.»

بدأت أرص الحلوى في طبق التقديم، وكانت رائحتها طازجة شهية. لا يحق لأكرام أن تشعر بكل تلك السعادة في الوقت الذي تعاني فيه أمهات أخريات مثل شيدا في «إيفين». هذا ليس عدلًا.

– «لكن يبدو عليك الحزن الشديد يا مارينا، ماذا هناك؟»

– «آسفة، إنني سعيدة للغاية من أجلك، لكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير في صديقة لي تدعى شيدا. كانت حبلى عندما أُلقي القبض عليها هي وزوجها وحكم عليهما بالإعدام. وضعت شيدا ابنها كاوه في السجن، وعما قريب سيصبح الطفل الجميل وحيدًا. خُفف الحكم الصادر ضد شيدا إلى السجن مدى الحياة، لكن زوجها لا يزال محكومًا عليه بالإعدام، وهي ترغب في إرسال طفلها إلى منزل والديها، لكنها لا تستطيع الاستغناء عنه، فهو كل حياتها، أما الطفل المسكين قد تربى في «إيفين» ولم يرَ العالم الخارجي قط.»

– «هذا أمر فظيع، ولمَ دخلَتِ السجن؟»

– «لا أدري تحديدًا، فنحن لا نتحدث في هذا الأمر، وإن كنت أعتقد أنها من مؤيدي «المجاهدين».»

– «لكن المجاهدين إرهابيون أشرار يا مارينا.»

– «شيدا ليست شريرة، بل هي امرأة حزينة، وهي أم، بالإضافة إلى أن الاعتقاد بأن أحدهم شرير لا يعطينا الحق في فعل ما نشاء به أو ارتكاب الشر بدورنا، فالخطأ يظل خطأ مهما كانت الزاوية التي تنظرين إليه منها، وأنا على يقين من أن شيدا لا تستحق حكمًا بالسجن مدى الحياة.»

– «سوف أخاطب عليًّا في هذا الشأن، فربما كان بوسعه أن يفعل شيئًا من أجلها.»

– «حسنًا، لا ضرر من الحديث معه، لكني لا أظن أن بوسعه فعل أي شيء لها، فهو ليس المسئول عن قضيتها، وقد حاول أن يساعد البعض من قبل لكنه لا ينجح دائمًا.»

علا صوت الماء وهو يغلي.

– «هيا يا مارينا، فلنتناول بعض الشاي والحلوى.»

عانقتها وأخبرتها أني أحبها كثيرًا، وأن هناك الكثير من الألم والحزن في «إيفين»، حتى إني نسيت كيف يكون طعم الفرح.

•••

بعد نحو أربعة أشهر دعانا والدا علي إلى منزلهما لتناول العشاء معهما في ذكرى زواجنا، وكنا نزورهما نحو مرتين شهريًّا في السنة الماضية، وظلا يعاملانني بمنتهى الطيبة واللطف. كان حمل أكرام على ما يرام، وكانت على وشك أن تضع مولودها خلال ثلاثة أشهر.

وبعد تناول العشاء سأل السيد موسوي عليًّا: «هل اشتريت هدية لزوجتك في ذكرى زواجكما؟»

قال عليٌّ إنه قرر أن يصطحبني لقضاء بضعة أيام على شاطئ بحر «قزوين».

سألته: «أليس هذا خطرًا؟»

– «لا يعلم أحد أننا ذاهبان سوى والديِّ، وسوف نقيم في منزل عمي الصيفي الذي يقع في منطقة منعزلة، وهو نفسه لا يعلم أننا سنذهب إلى هناك، بل إنه يظن أن والديَّ هما اللذان سيذهبان، ولن يذهب إليهما لأنه مسافر في رحلة عمل. ما رأيك إذن؟ هل ترغبين في الذهاب؟»

هززت رأسي بالموافقة، فأخبرني أننا نستطيع الذهاب في الحال، فقد أعدَّت لي والدته حقيبة السفر.

أخذنا سيارة السيد موسوي، وهي سيارة بيضاء من طراز بيجو، وبدأنا رحلة السفر قبل الساعة العاشرة.

سألته: «كيف توصلت إلى تلك الفكرة؟»

– «لقد ذكرتِ لي مرة أنك تحبين بحر «قزوين»، وأنا أرغب في قضاء بعض الوقت معك وحدك. كلانا بحاجة للبعد عن «إيفين». هذا المنزل الصيفي كان ملكًا لأحد وزراء الشاه قبل الثورة، وقد غادر الرجل وعائلته البلاد مع رحيل الشاه، فصادرت محاكم الثورة الإسلامية منزله — أو ربما يجدر بي أن أقول: قصره — في طهران، ومنزله الصيفي الذي يقع بالقرب من «رامسر» وعرضتهما للبيع، فاشترى عمي المنزل الصيفي بسعر مناسب.»

– «لا بد أنه جميل.»

– «هذا صحيح، وسوف ترينه بنفسك. لماذا تحبين شواطئ «قزوين» إلى هذا الحد؟»

أخبرته أني قضيت أوقاتًا سعيدة هناك طوال أعوام. كان كل شيء في طهران باهتًا فاقد الحياة، بينما كل شيء على شاطئ البحر كان مفعمًا بالحياة والحيوية.

ظل الهواء البارد يداعب وجهي عبر النافذة المفتوحة. في بداية الرحلة لم أكن أستنشق سوى الغبار وعوادم السيارات، لكن عندما سلكتِ السيارة الطريق المتعرج الذي يصعد مع جبال «ألبرز» امتلأ الليل برائحة جداول المياه الصافية وأشجار الحور والقيقب؛ كانت تلك رائحة العالم المفقود، رائحة الحرية والسعادة وكل المعاني الجميلة التي لم تعد موجودة.

– «عندما كنتَ في الجبهة وكنتُ أنا في «٢٤٦»، اكتشفت أن إحدى صديقاتي وتدعى ترانه بهزادي محكوم عليها بالإعدام.»

– «ترانه بهزادي؟ لا يبدو لي الاسم مألوفًا.»

– «لم تكن أنت من يتولى التحقيق معها، فقد أخبرتني بأن المحقق يدعى حسينًا من الفرقة الرابعة، وتخيلت أنك تستطيع مساعدتها، فطلبت من الأخت مريم أن تدعني أتحدث معك، ولكنها أخبرتني بأنك في الجبهة.»

– «مارينا، لا يمكنني أن أتدخل في شئون الإدارات الأخرى، فمع أنني كنت أحد من يتولون التحقيق معك فلم يكن سهلًا أن أخفف الحكم الصادر ضدك.»

– «لكنها ماتت، أعدمت.»

– «أشعر بالأسف من أجلها.»

– «هل تشعر بالأسف حقًّا؟»

– «نعم، أشعر بالأسف لأن الأمور وصلت معها إلى ذلك الحد. للإسلام قوانينه وهي خالفتها فلاقت جزاءها.»

– «وهل كانت جرائمها خطيرة إلى درجة تبرر إعدامها؟»

– «ليس من شأني أن أقرر ذلك، بل إني لا أعرفها أصلًا ولا أعلم ماذا فعلت.»

– «الله وحده هو من يمنح الحياة، وهو من يمكنه سلبها.»

– «مارينا، لديك كل الحق في الشعور بالحزن، فقد كانت صديقتك وكنت ترغبين في مساعدتها، لكن حتى لو كنت موجودًا وقتها ربما استحال عليَّ إنقاذها، فالمحققون يرتكبون بعض الأخطاء، بل إن المحاكم ذاتها تفعل نفس الشيء. لقد تمكنت من مساعدة بعض الناس الذين شعرت أنهم حصلوا على أحكام قاسية، ولكنني لا أنجح طوال الوقت في ذلك. حاولت أن أساعد مينا، أليس كذلك؟ لكنني لم أستطع.»

– «لم تكن ترانه تستحق الموت.»

لم أكن أرى أمامي سوى عيني ترانه العسليتين الواسعتين وابتسامتها الحزينة، بينما ظل علي منتبهًا للطريق.

– «لقد سمعت شائعة مفزعة، وأود أن أتأكد من حقيقتها.»

– «ما هي؟»

– «هل تعتقد أن العذارى يدخلن الجنة بعد الموت؟»

– «مارينا، أفهم إلامَ ترمين.»

– «أرجو أن تجيب عن سؤالي.»

– «كلا، لا أعتقد ذلك. الله وحده هو من يحدد أصحاب الجنة وأصحاب النار، وليس أنا، والفتيات الصغيرات لا يُغتصبن قبل الإعدام. لا تصدقي كل ما تسمعين.»

كان الظلام حالكًا، فلم أستطع رؤية وجهه بوضوح، لكن أنفاسه أصبحت متلاحقة.

«أنتِ نفسك كنت على وشك أن تعدمي، فهل تعرضت للاغتصاب؟»

قلت: «كلا»، وتمنيت لو أضيف: «ليس قبل ليلة الإعدام، ولكن بعدها بستة أشهر»، لكني آثرت الصمت.

– «مارينا، أتفهم حزنك على صديقتك، لكنني أؤكد لك أنها لم تتعرض للاغتصاب.»

غير أني لم أجد السلوى في كلماته.

•••

وصلنا إلى المنزل الصيفي نحو الثانية صباحًا، فخرج عليٌّ من السيارة وفتح بوابة حديدية كبيرة، ثم قاد السيارة عبر طريق مرصوف تظلله غابة من الأشجار. كانت المنطقة المشجرة أكبر كثيرًا من تلك الموجودة في منزلنا، ولكنها مشابهة لها إلى حد يثير الدهشة. تسللت أصوات الحشرات عبر النوافذ المفتوحة، وهبَّت الرياح في دوامات بين أوراق الشجر وأغصانها تنشر موجات من الظلال الفضية على زجاج السيارة الأمامي. لم أسمع صوت البحر إلا عندما أوقفنا السيارة، حيث أخذت الأمواج ترتطم بالصخور وتملأ المكان بإيقاعها المألوف.

بلغت مساحة المبنى الأبيض المكون من طابقين ضعف مساحة منزلنا الصيفي، وكان به تمثال حجري لأسد بحجم كلب كبير على جانبي المدخل. فتح عليٌّ الباب الأمامي ودخلنا، فوجدت غرفة الجلوس قد زوِّدت بمقاعد وموائد للقهوة ذات أسطح زجاجية على الطراز الفرنسي، والأرض مغطاة بالسجاد الإيراني المصنوع من الحرير، ورأيت درجًا عريضًا ذكَّرني بفيلم «ذهب مع الريح» يقود إلى الطابق الأعلى حيث وجدت ست غرف نوم اختار عليٌّ أكبرها وكانت تطل على البحر مباشرة، وفي منتصف الغرفة فراش كبير ومنضدة للتزين ذات أدراج بأحجام مختلفة، ومنضدتان صغيرتان بجوار الفراش. كان كل شيء نظيفًا ولا توجد ذرة غبار واحدة، فخمنت أن عم علي وعائلته كانوا هنا مؤخرًا. أزحت الستائر البيضاء وفتحت إحدى النافذتين، فداعب هواء البحر المالح شعري، وتساءلت عما حل بمالكي البيت الأصليين، فلا بد أنهم كانوا يحبون هذا المكان ويفتقدونه الآن كثيرًا أينما كانوا.

قال عليٌّ وهو يقف خلفي: «لقد أضيف اسمك إلى قائمة إطلاق السراح المشروط.»

– «وماذا يعني ذلك؟»

– «يعني أنك سوف تصبحين حرة رسميًّا في غضون ثلاثة أشهر.»

حرة رسميًّا! يا لها من كلمة غريبة! هل سأنال حريتي حقًّا يومًا ما؟ لم أستطع أن أفهم ما تعنيه كلمة «حرية» لي، فقد سلبني حريتي إلى الأبد، لكنني لم أتفوه بكلمة.

«ألستِ سعيدة لسماع ذلك؟»

– «لست أدري يا علي، فقد أصبحت عاجزة عن التفكير. وحتى لو أصبحت حرة رسميًّا، فلن أتمكن من الذهاب إلى أي مكان.»

– «بل سنذهب إلى منزلنا؛ فالأوضاع تتحسن، وعندما يطلق سراحك سوف يصبح ذهابنا إلى المنزل آمنًا.»

أمسك بكتفي وأدارني لأواجهه ولمس وجنتيَّ.

«لماذا تبكين؟»

– «لا أدري. ربما تكون الذكريات. الأمر ليس بيدي.»

كانت نظرة عينيه غامضة معظم الوقت، لكن تطل منهما أحيانًا نظرة غريبة تشي بالرغبة الشديدة التي تخيفني. أطرقت برأسي، وعندما رفعتها مرة أخرى كان ينظر من النافذة وظهره لي.

سألني وهو يستدير نحوي: «مارينا، أما زلت تكرهينني؟»

– «كلا، كرهتك في البداية، لكن لم أعد كذلك الآن.»

– «وهل هناك أمل أن تحبينني يومًا؟»

– «لا أدري، لكني أعلم أنك ما دمت تعمل في «إيفين» حيث يقتضي عملك إيذاء الآخرين فلن أستطيع أن أحبك، ولا تنسَ أنك أجبرتني على الزواج منك، فأنا أسيرتك.»

– «لكني لا أود أن تفكري في الأمر هكذا.»

– «إنها الحقيقة.»

– «كلا، إنه تصورك عن الحقيقة.»

– «ماذا تعني؟»

– «ألا تفهمين؟ لقد كنتِ على شفا الموت، وأنا أنقذتك منه. هل تعتقدين أنه كان بإمكانك النجاة من ذلك الموقف؟ هل خطر لك أن حامدًا والآخرين سوف يتقبَّلون ذلك؟ أنت ساذجة، صحيح أني أردتك، لكنني لست أنانيًّا إلى هذا الحد. لو كانت هناك طريقة يمكنني بها إطلاق سراحك لفعلتُ ثم أطلقت النار على نفسي. كلانا أسير بصورة أو بأخرى.» طوقني بذراعيه وتابع: «قبل الثورة، كنت سجينًا سياسيًّا مدة ثلاثة أعوام، وأعلم معنى الرغبة في العودة إلى المنزل، لكن دعيني أخبرك بشيء؛ منزلك لم يعد كما تركتِهِ، وحتى لو كان، فأنت لم تعودي كما كنت، ولن تتفهم عائلتك موقفك. سوف تبقين وحيدة طوال حياتك. ربما أضيع وقتي بإخبارك بكل ذلك، لأنك ما زلت صغيرة وبريئة أكثر من اللازم، ولكن لا مكان لك تذهبين إليه، فالمكان الوحيد الذي تبقَّى لك في هذا العالم معي، ومكاني الوحيد معك.»

ذهبنا إلى الفراش، ولكنني لم أستطع النوم، فأخذت أراقب ضوء القمر وهو يفترش الأرض. استغرق عليٌّ في النوم وهو يوليني ظهره، وكان كتفه الأيسر يرتفع وينخفض مع كل نفس. كنت قد أخبرت ترانه أنني لم أتعرض للاغتصاب قبل ليلة الإعدام، وتلك هي الحقيقة، لكن حامدًا وبقية الحرس كانوا يعلمون أنني مسيحية، ومن وجهة نظرهم سواء أكنت عذراء أم لا، فسوف أذهب إلى الجحيم على أي حال. كانت ترانه تعرف ذلك، لكنها سألتني هذا السؤال لأنها بالرغم من تقبُّلها لحكم الإعدام بنفس راضية كانت في أمس الحاجة إلى أن يطمئنها أحد أنها ستموت وكرامتها مصونة. أخبرني عليٌّ بأن الفتيات لا يتعرضن للاغتصاب قبل أن يعدمن رميًا بالرصاص، ولكنه لا يرى أنه اغتصبني؛ من وجهة نظره فقد أجبرني على الزواج منه لصالحي. ربما يكون قد اغتصب فتيات أخريات باسم نكاح المتعة دون أن يُنعم النظر في الأمر. وددت لو أصدق أنه لم يفعل شيئًا كهذا من قبل، وأنني الوحيدة التي أجبرها على مثل هذا النوع من الزواج، لكن لم يكن بإمكاني معرفة الحقيقة.

تسللت من الفراش وتوجهت نحو البحر. كانت الأمواج الصغيرة تهمس للشاطئ الصخري، والنجوم تطفو بين السحب الفضية الرمادية وأضواؤها اللؤلؤية تنعكس على سطح المياه، وبحر «قزوين» يناديني كأنه صديق قديم. ظننت أني مستعدة؛ أني قد أتحمل ألم الخسارة الذي يثقل كاهلي، لكني لم أستطع تحديد الصواب. البحر يناديني، ولدي رغبة في تلبية ندائه. إنها الحاجة المخيفة، والرغبة العارمة في التلاشي. تقدمت خطوات وسط الأمواج، وكانت دافئة كما عهدتها. هنا بإمكاني أن أصبح ذكرى، لكن كل ما أحمله في قلبي سيضيع.

جاءني صوت الملاك: «الحياة غالية، فلا تستسلمي، بل عيشيها ثانية.»

– «كنت بحاجة إليك، وناديتك، ولكنك لم تأتِ، والآن تطلب مني ألا أستسلم؟ ألا أستسلم من أجل ماذا؟»

الحياة غالية، فلا تستسلمي، بل عيشيها ثانية.

«وماذا ستفعل إن نزلت تحت المياه واستنشقتها بدلًا من الهواء؟ هل ستدعني أموت وتلومني على الاستسلام لليأس والحزن؟ أم ستبتسم وتجعلني أشعر بالذنب لما فعلت وما لم أفعل فتعيدني مرة أخرى إلى هذا العذاب؟»

داعبتني الرياح، وهبَّت وسط الغابات وفي وادي «النهر الأبيض»، ثم اندفعت في هدوء عبر سكون الصحراء كي تجد طريقها إلى المحيط.

عدت إلى المنزل مبللة فوجدت عليًّا واقفًا عند البوابة المؤدية إلى الشاطئ يبكي. لماذا لا أقوى على حبه ونسيان الماضي؟ كان عليَّ أن أستسلم كطفل يكتشف كيف يطفو على الماء للمرة الأولى.

قال: «استيقظت ولم أجدك.» ثم حملني من فوق الرمال المبللة إلى الداخل كأني طفلة.

***

عدنا إلى «إيفين» بعد أن قضينا خمسة أيام في المنزل الصيفي ولم نجد شيئًا تغير. مرت أربعة أسابيع، وفي نهاية شهر أغسطس بدأت أشعر بالغثيان الشديد، وبعد أن ظللت أتقيأ بضعة أيام قرر عليٌّ أن يصطحبني إلى الطبيبة المعالجة لوالدته، فطلبتْ مني بضعة فحوصات ثم أخبرتني أنني حبلى في نهاية الشهر الثاني. لم تخطر ببالي مسألة الحمل، فعندما وافقت على الزواج من علي لم أفكر إلا في تداعيات هذا القرار على حياتي وحياة والديَّ وأندريه، لكني لم أفكر قط في الإنجاب. الآن هناك حياة أخرى ستتأثر؛ حياة طفل بريء، طفل يحتاج إليَّ ويعتمد عليَّ، وسواء أأحببت ذلك أم لا فهو يحتاج إلى والده.

كان عليٌّ ينتظرني في السيارة، وطار فرحًا عندما أخبرته بهذا النبأ السعيد.

سألني: «هل أنت سعيدة؟»

أزعجني سؤاله؛ إذ لم أكن سعيدة، وهذا ليس عدلًا، فالطفل الذي في أحشائي لا يعلم شيئًا عن حياتي، ولا يحتاج إلا إلى حبي واهتمامي، ونوعًا ما كنت أنا ملاكه الحارس، فكيف يمكنني أن أتخلى عنه؟

– «سعيدة، لكني أشعر بالصدمة.»

– «فلنذهب إلى منزل والديَّ؛ أريدهما أن يعلما في الحال.»

كنت أدرك أن والديَّ يجب أن يعلما، وأندريه أيضًا. من الذي سيلقي بالحجر الأول؟

فور أن وصلنا إلى منزل والديه اتصل عليٌّ بأكرام. كاد والداه يطيران فرحًا، وسررت لرؤيتهما سعيدين إلى هذا الحد، وطوال المساء ظلت والدته تعطيني نصائح ومعلومات عن مراحل الحمل المختلفة. شعرت أن علاقتي بوالدة علي قد توطدت أكثر من علاقتي بأمي. كنت في أشد الحاجة لأن أحيا حياة طبيعية سعيدة، حتى إنني تمنيت أن أنسى نفسي وأحب عليًّا، لكن هذا كان مستحيلًا، فلا يمكنني أن أسامحه على ما فعله بي وبالآخرين.

قالت والدة علي: «يجب أن تبقي معنا هنا، فأنت بحاجة إلى الراحة والتغذية السليمة.»

رفضت العرض، ولكنها أصرت عليه، فتدخل السيد موسوي بقوله: «دعيها تقيم أينما تشاء. نرحب بها بالطبع، فهذا منزلها كما هو منزل علي، ولكنها ربما تود البقاء مع زوجها، والحمل ليس مرضًا. لا تقلقي، فسوف تكون بخير.»

وصلت أكرام واستقبلتني بالعناق والقبلات. كانت على وشك الوضع خلال شهر، ونظرًا لأنها ضئيلة الحجم فقد بدا بطنها كبيرًا للغاية. ذهبنا إلى غرفتها القديمة كي نتحدث وحدنا.

– «مارينا، لم أشعر بمثل تلك السعادة قط. يا له من أمر رائع! سوف يكبر طفلانا معًا عامًا بعد عام، وسيكونان في عمر واحد تقريبًا.»

أشحت بوجهي بعيدًا عنها.

– «ماذا هناك؟»

– «لا شيء، أشعر بالغثيان طوال الوقت فحسب.»

– «ألست سعيدة بالحمل؟»

لم أكن أرغب في سماع ذلك السؤال ولا في الإجابة عنه، ففؤادي يعتصر ألمًا لأنني لا أشعر بالسعادة. حاولت أن أشعر بالسعادة، ولكنني لم أستطع. لم أكن أرغب في هذا الطفل، وكان شعورًا مؤلمًا.

– «ألا تريدين هذا الطفل؟»

– «نعم، لا أريده، ولا يروق لي هذا الشعور. الله يعلم أنني حاولت.»

– «إنه ليس خطأك، فأنت خائفة. ضعي يدك هنا واشعري بحركة الجنين.»

وضعت يدي على بطنها، فشعرت بالجنين وهو يتحرك.

«سوف ينمو طفلك داخل أحشائك ويتحرك بداخلك هكذا، وهو أروع شعور في العالم. أعطِي نفسك فرصة فحسب، وإنني على ثقة من أنك ستحبينه أكثر مما تخيلت، وسأبقى معك لمساعدتك في كل شيء. مارينا، لا داعي للقلق، فعليٌّ يحبك كثيرًا، وأنت كل شيء له.»

أصبحت أكرام أختًا لي، وسواء أأحببت ذلك أم لا فقد أصبحتُ جزءًا من عائلة علي. شعرت معهم بالحب والاهتمام أكثر مما شعرت به في حياتي السابقة، وجعلني حبهم أشعر بالإثم، لأنني أدركت أنني أحبهم بدوري. لا يفترض بالحب أن يورث المرء شعورًا بالإثم، فهو ليس خطيئة، لكنه أصبح كذلك من وجهة نظري. هل يعني ذلك أنني يومًا ما سأشعر بالحب تجاه علي؟ هل يعني ذلك أنني قد خنت أهلي وأندريه؟

•••

قضيت تلك الليلة أنا وعلي مستيقظَيْن في الظلام في إحدى الزنزانات.

– «مارينا، سأقدم استقالتي من العمل غدًا.»

فوجئت بسماع ذلك، لكني كنت أتوقعه. مع أن عليًّا لم يكن يتحدث معي بشأن عمله إلا نادرًا، فإنني كنت أعيش في «إيفين» وأرى بنفسي كم أصيب بالإحباط، خاصة بعد وفاة مينا. كنت قد وجَّهت له اللوم على ما حلَّ بها، واعتقدتُ أنه كان عليه بذل المزيد من الجهد لإنقاذها، لكني شعرت بعجزه أيضًا. لقد تعرض للهزيمة على يد حامد.

سألته: «لماذا؟»

لم يكن يرغب في الحديث بشأن هذا الأمر، لكني قلت إنه من حقي أن أعرف، فأخبرني أنه دخل في صدام كبير مع النائب العام بطهران أسد الله لاجيفاردي المسئول عن «إيفين». قال: «كنت أنا وأسد الله صديقين منذ عدة أعوام، وهو أيضًا كان سجينًا في «إيفين» في عهد الشاه، لكنه تجاوز المدى. لقد حاولت تغيير بعض الأمور في «إيفين»، لكني لم أستطع، فلم يكن يستمع إليَّ.»

رأيت لاجيفاردي مرتين؛ الأولى عندما أتى في جولة يتفقد فيها مصنع الحياكة الذي أعمل به، والأخرى عندما خرجت من سيارة علي وكان هو يهمُّ بركوب سيارته، فتقدم نحونا وحيَّانا. قدمني عليٌّ له، وقال إنه قد سمع عني وإنه سعيد بمقابلتي، وتمنى لنا السعادة، وأكد لي أنه فخور باعتناقي الإسلام.

قال علي: «وعدتك بحياة كريمة عندما نتزوج، وهذا ما سنحققه بعيدًا عن هذا المكان. سوف أعمل مع والدي، وسنحيا حياة طبيعية. لقد أثبتِّ لي أنك قوية صبورة شجاعة كما عهدتك دائمًا، والآن حان وقت الذهاب إلى المنزل. يلزمني ثلاثة أسابيع فقط كي أرتب أموري.»

فجأة أصبحت مغادرة «إيفين» حقيقة، ولكنني لم أشعر بالسعادة؛ فما دمت زوجة علي فسوف أظل سجينة طوال الوقت.

قلت له: «عليَّ أن أخبر والديَّ.» لم أكن أستطيع إبقاء زواجنا سرًّا إلى الأبد، وخاصة مع وجود الطفل.

سمعنا صوت إطلاق نيران بعيدًا، وأخبرني عليٌّ أنه يفكر كثيرًا في الليلة التي كنت فيها على وشك الإعدام.

– «لو كنتُ وصلت متأخرًا بضع ثوانٍ فحسب لوجدتك ميتة. لم أخبرك بهذا قط، لكني أحيانًا أرى كوابيس عن تلك الليلة، ونفس الكابوس يتكرر دائمًا: أصل إلى هناك متأخرًا، فأجدك ميتة غارقة في دمائك.»

– «هذا ما كان يجب أن يحدث.»

– «كلا، لقد أعانني الله على إنقاذك.»

– «وماذا عن الآخرين؟ كان هناك من يحبهم أيضًا ويريدهم على قيد الحياة مثلما أردتَ أنت أن تبقيني على قيد الحياة.»

– «لقد جلب معظمهم المتاعب لأنفسهم.»

وددت لو أهزه بعنف وقلت: «كلا، أنت مخطئ، فلستَ إلا بشرًا. هل يمكنك القول إنك تعلم كل شيء عنهم؟ إن اتخاذ قرارات بشأن الحياة والموت يحتاج إلى فهم شامل للعالم لا نملكه نحن، والله وحده هو من يمكنه اتخاذ قرارات كهذه، لأنه الوحيد العليم بكل شيء.»

كانت دموعي قد سالت، واضطررت إلى الجلوس كي أتمكن من التقاط أنفاسي.

قال علي: «أنا آسف، لا أدافع عن العنف، ولكننا أحيانًا لا نملك خيارًا آخر، فإن صوَّب أحدهم بندقية إلى رأسك وحصلتِ على فرصة كي تطلقي الرصاص وتدافعي عن نفسك، فهل ستنتهزينها أم تفضلين الموت دون أن تقاومي؟»

– «لن أقتل إنسانًا مثلي.»

– «إذن فسوف ينتصر الشر وتخسرين.»

– «لو كان الفوز يقتضي القتل فأنا أفضل الخسارة. وحتى لو حدث ذلك فسوف يدرك من يشهدون وفاتي أو يسمعون عنها أنني مت لأني رفضت الاستسلام للكراهية والعنف، وربما يعثرون على طريقة سلمية لهزيمة الشر.»

– «مارينا، إنك تعيشين في عالمك المثالي الذي لا تربطه بالواقع أي صلة.»

بقيت مستيقظة في تلك الليلة بعد أن استغرق عليٌّ في النوم. يبدو أنه قد بدأ يدرك أنه لا طائل من العنف، وأن تعذيب المراهقين وإعدامهم لن يؤدي إلى أي خير، ولا يرضي الله بأي حال. ربما يكون هذا هو السبب الذي جعله ينقذني من الموت ويتزوجني، فأنا وسيلته الغريبة اليائسة في التمرد على كل ما يحدث في «إيفين».

•••

في يوم الاثنين السادس والعشرين من سبتمبر، ذهبت أنا وعلي إلى منزل والديه لتناول العشاء، وكان قد مر أسبوعان على استقالته. أخبرني أثناء تناول العشاء أننا سنغادر «إيفين» خلال أسبوع ونعود إلى المنزل الذي اشتراه من أجلنا.

وفي الحادية عشرة مساء ألقينا تحية المساء على الجميع وخرجنا من المنزل. كان الجو باردًا، فلم يخرج معنا والداه لتوديعنا. أصدر الباب المعدني الذي يربط بين ساحة المنزل والشارع صريرًا وعليٌّ يدفعه، وأصدر القفل صوتًا مرتفعًا وهو يغلق خلفنا. توجهنا نحو السيارة على بعد نحو ٢٥ مترًا في مكان أكثر اتساعًا. نبح كلب على بعد، وفجأة ملأ صوت دراجة بخارية المكان. رفعت رأسي فوجدتها قادمة نحونا من أحد الشوارع الجانبية وعليها شبحان. فور أن شاهدتها أدركت في الحال ما سيحدث، وأدرك عليٌّ أيضًا في نفس اللحظة ما سيحدث، فدفعني جانبًا. فقدت توازني وسقطت على الأرض، وسمعت صوت إطلاق رصاص، وللحظة قضيتها بين الحياة والموت لم أرَ سوى الظلام، ثم انتشر ضوء خافت في عيني وشعرت بألم في عظامي، وكان عليٌّ يرقد فوقي. استطعت التحرك بالكاد، والتفتُّ نحوه.

– «علي، هل أنت بخير؟»

تأوه وهو ينظر إليَّ بعينين ملؤهما الصدمة والألم، وشعرت بدفء غريب في جسدي وساقي كأنني متدثرة ببطانية.

هرع والداه نحونا.

صرخت: «الإسعاف! اطلبوا الإسعاف!»

هرعت والدته إلى الداخل وقد سقط الشادور الأبيض الذي ترتديه كاشفًا عن شعرها الأشيب، وانحنى والده بجوارنا.

سألني علي: «هل أنتِ بخير؟»

كان جسدي يؤلمني قليلًا، ودماؤه تغطيني.

– «أنا بخير.»

أمسك بيدي، وقال بصعوبة: «أبي، أعدها إلى أهلها.»

عانقته وتركت رأسه يرتاح على صدري. لو لم يدفعني بعيدًا لأُصبت أنا أيضًا. لقد أنقذ حياتي مرة أخرى.

صرخت: «يا إلهي، لا تدعه يموت!»

فابتسم.

لقد كرهته، وغضبت منه، وحاولت أن أسامحه، وعبثًا حاولت أن أبادله الحب.

حاول جاهدًا التقاط أنفاسه، وأخذ صدره يرتفع وينخفض حتى سكن تمامًا. كان العالم يتحرك من حولنا، لكن عالمنا قد توقف. وددت لو كان بوسعي الوصول إلى الأعماق المظلمة للموت كي أعيده مرة أخرى.

أضواء سيارة الإسعاف البراقة … ألم حاد في بطني … ثم اختفى العالم المحيط بي ولفني الظلام …

•••

وقفت في غابة مورقة حاملة طفلي بين ذراعيَّ، كان صبيًّا جميلًا ذا عينين واسعتين داكنتين ووجنتين متوردتين، مد يده الصغيرة وأمسك شعري وهو يقهقه فضحكت، ورفعت بصري فرأيت ملاك الموت، فجريت نحوه. حيَّاني بابتسامته الدافئة المألوفة، وتسلل إليَّ عطره المحبب. شعرت كأنني رأيته في اليوم السابق؛ كأنه لم يفارقني قط.

قال لي: «هيا بنا نسير قليلًا.» وسلك طريقًا اختفت معالمه وسط الغابة، فاتبعته. كان يومًا صحوًا، وبدا كأن الأمطار قد توقفت للتو، فأوراق الأشجار المحيطة تلمع بقطرات المطر. أحاطت بنا شجيرات من الزهور الوردية في كل مكان، وكان الجو جميلًا دافئًا. كنت قد تخلفت عنه حتى اختفى خلف شجرة، فزدت من سرعتي كي ألحق به، ووجدته جالسًا على صخرة الصلاة فجلست بجواره.

قال لي: «ابنك جميل.»

بدأ الطفل يبكي، ولم أدرِ ماذا أفعل.

قال الملاك: «ربما يكون جائعًا، عليك أن تطعميه.»

أعطيت الطفل ثديي فالتقمه بفمه الدافئ الصغير، كأنني فعلت ذلك آلاف المرات من قبل.

•••

فتحت عيني، فوجدت سائلًا ينزل قطرة قطرة من كيس بلاستيكي شفاف إلى أنبوب. تابعت الأنبوب بعيني فوجدته متصلًا بيدي اليمنى. كانت الغرفة مظلمة فيما عدا مصباحًا ليليًّا خافتًا، وأنا أرقد على فراش أبيض نظيف. رأيت هاتفًا على مائدة صغيرة بجوار الفراش، فحاولت الوصول إليه بيدي اليسرى، فشعرت بألم حاد في بطني، فتراجعت وأخذت نفسًا عميقًا حتى خفَّ الألم. وضعت السماعة على أذني لكنها كانت معطلة، فانهمرت الدموع من عيني.

فُتح الباب وأضيء نور ساطع، ودخلت امرأة متوسطة العمر ترتدي وشاحًا أبيض ومعطفًا أبيض.

سألتها: «أين أنا؟»

– «لا تخافي يا عزيزتي، فأنت في المستشفى. ماذا تذكرين؟»

– «توفي زوجي.»

توفي زوجي! يا إلهي! لماذا يؤلمني هذا الأمر هكذا؟

غادرت المرأة الغرفة فأغمضت عيني. لقد مات؛ رحل، وأصبحت أشعر بالوحدة؛ أشعر بالوحدة القاتلة. إنه نفس الشعور الذي راودني عندما رأيت الجنود يقذفون بجثة أراش في الشاحنة، ولكنني أحببت أراش، ولم أحب عليًّا قط. ماذا دهاني؟

كان شعورًا بالحزن أنكرته، لكنه كان حاضرًا وقويًّا.

نادى أحدهم اسمي ففتحت عيني، ورأيت رجلًا متوسط العمر ذا لحية رمادية ورأس أصلع. أخبرني بأنه الطبيب وسألني هل أشعر بالألم، فقلت لا، ثم أخبرني أنني قد فقدت جنيني، فانهار ما تبقى مني.

وطوال اليومين التاليين ظللت تائهة بين الكوابيس والأحلام والواقع، ولم أعد أفرق بينها. وذات مرة بين الصور الضبابية المشوهة والأصوات الغامضة رأيت السيد موسوي جالسًا في فراشي. لمست كتفه ونظر إليَّ، ثم ملأ ضوء الشمس الغرفة.

قال لي وهو يبكي: «هذا يفوق احتمالنا جميعًا، ولكن علينا أن نستسلم لإرادة الله.»

تمنيت لو استطعت أن أفهم إرادة الله، ولكنني لم أستطع.

واصل السيد موسوي حديثه، لكن صوته أخذ يخفت حتى اختفى تمامًا. حلمت بأنني أنا وأندريه نسير على الشاطئ وأحدنا ممسك بيد الآخر، ومعنا ترانه وسارة وجيتا وأراش. بعد دقيقة كنت أقف على باب منزل والديَّ الصيفي أنظر نحو الطريق، وعليٌّ يسير مبتعدًا عني ملوحًا لي بالوداع، فجريت مذعورة كي ألحق به وأنا أنادي عليه، لكنه اختفى.

استيقظت وأنا أشعر بشيء بارد على جبهتي؛ إنها أكرام تقف بجوار فراشي وتضع يدها الباردة عليَّ، وهي تبكي في صمت والهالات السوداء تظلل عينيها. لم أستطع أن أتذكر أين أنا، فذكَّرتني بأنني في المستشفى، وسألتها هل مات عليٌّ بالفعل، فأكدت لي ذلك. تسللتْ بجواري في الفراش وهي تبكي، وطوقت كتفي بذراعها.

وعندما استرددت وعيي قليلًا أخبرني السيد موسوي بأنه سوف يجري الترتيبات اللازمة لإطلاق سراحي، لكنهم أخبروه بأن عليه إعادتي إلى «إيفين» بعض الوقت، وأخبرني أيضًا بأن عليًّا كتب وصية قبل وفاته ببضعة أيام ترك لي فيها كل ممتلكاته، لكني أخبرت السيد موسوي أنه ليس من حقي أن أرث أيًّا من ممتلكات علي.

سألني: «ألا ترغبين في إخبار عائلتك بأمر زواجك؟»

فلم أجبه.

– «لقد منحتِ ابني السعادة، ومن حقك أن تبدئي حياة جديدة.»

جلس على مقعد بجوار فراشي ممسكًا بمسبحة كهرمانية اللون في يده تعرفت عليها في الحال، فقد كانت تخص عليًّا. سألته عن أحوال فاطمة خانم، فأخبرني أنها رابطة الجأش.

سألته: «وكيف حال أكرام؟»

– «لقد أتت لزيارتك منذ يومين وحاولت أن تتحدث معك، لكنك لم تكوني على ما يرام.»

فتذكرت: «نعم لقد كانت هنا …»

علت وجهه ابتسامة خافتة فخورة وهو يقول: «لقد وضعت طفلها. إنه صبي.»

– «متى حدث ذلك؟»

– «جاءها المخاض بعد أن أخبرناها بوفاة علي.»

كانت أكرام في نفس المستشفى الذي كنت به، فقد نزفت كثيرًا، لكنها الآن بخير؛ والطفل أصيب باليرقان، لكن حالته تتحسن.

قبل أن يعيدني السيد موسوي إلى «إيفين»، اصطحبني لأرى أكرام وطفلها الذي أطلقت عليه اسم علي، وفي طريقنا لغرفة أكرام مررنا بنافذة كبيرة الحجم يرقد خلفها نحو ثلاثين طفلًا بعضهم نائم والبعض الآخر يبكي. أشار السيد موسوي إلى طفل ضئيل الحجم ذي وجه متغضن أحمر اللون يصرخ غاضبًا؛ إنه علي الصغير. طلبتُ أن أحمله، فأحضرتْه لي الممرضة، وتوقف عن البكاء ما إن بدأتُ أهدهده بين ذراعيَّ، وأخذ يمتص معطفي. إنه جائع. لم أتمكن من حبس دموعي، فأخذتُه إلى أكرام التي ألقمته ثديها.

لقد مات طفلي. كنت سأحبه إن بقي على قيد الحياة، لكنني الآن لن أطعمه أبدًا، ولن أغير له الحفاضات، ولن ألعب معه، ولن أشاهده وهو يكبر.

•••

عندما دخلت حجرة مكتب «٢٤٦» ونزعت العصابة وجدت حارسة لم أقابلها من قبل تحدق إليَّ. كانت في منتصف الأربعينيات من العمر، وتعلو وجهها ابتسامة ساخرة.

– «مارينا الشهيرة، أم أقول فاطمة مرادي بخت؟ أخيرًا تقابلنا. تذكري أنني المسئولة هنا الآن، ومن الآن فصاعدًا لن تحظي بأي معاملة مختلفة، بل ستعاملين على قدم المساواة مع الجميع. هل فهمتِ؟»

أومأت: «أين الأخت مريم؟»

– «أعيد توزيع الأخوات التابعات للحرس الثوري في «إيفين». اسمي الأخت زينب، وأنا عضو في «اللجان الإسلامية»، ونحن المسئولات هنا. هل لديك أي أسئلة أخرى؟»

– «كلا.»

– «إذن اذهبي إلى غرفتك.»

كان للحياة سبلها في إثبات خطئي؛ فها هي الأمور قد تسوء أكثر وأكثر، لكنني كنت متعبة، حتى إنني لم أستطع أن أذرف دمعة واحدة. وفي الغرفة «٦» التفَّت جميع الفتيات حولي، وارتفع صوت بهار حتى غطى على صوت الجميع.

– «أيتها الفتيات، اتركن لها مساحة كي تتنفس. مارينا، هل أنت بخير؟»

نظرت في عينيها، ثم تلاشت كل الأصوات.

عندما استعدت وعيي، وجدت نفسي أرقد على الأرض في أحد الأركان وفوقي بطانية، وبهار تجلس بجواري تقرأ القرآن.

– «بهار.»

ابتسمتْ، وقالت: «ظننتك في غيبوبة. أين كنتِ؟»

أخبرتها بأمر اغتيال علي، فصُدمَت.

قالت: «لقد نال جزاءه.»

– «كلا يا بهار، لم يكن يستحق ذلك.»

– «ألم تكرهيه لما فعله بك؟»

لماذا يسألني الجميع هذا السؤال؟

– «لم يكن الشر به خالصًا، بل كان به بعض الخير. كان حزينًا وحيدًا؛ أراد أن يتغير وأن يساعد الناس، لكنه لم يكن يعرف السبيل المناسب لذلك، أو ربما كان يعرف لكنه لم يستطع، لأن أشخاصًا مثل حامد لم يسمحوا له بذلك.»

– «كلامك غير منطقي. لقد اغتصبك مرة بعد مرة.»

– «كنت زوجته.»

– «وهل كنت تريدين الزواج منه؟»

– «كلا.»

– «لقد أجبرك.»

– «نعم.»

– «لا يزال الاغتصاب تحت ستار شرعي اغتصابًا.»

– «بهار، ما من شيء منطقي في العالم. أشعر أن اللوم يقع عليَّ في كل شيء.»

– «لكنك لم تخطئي في أي شيء.»

سألتها عن ابنها إحسان، فقالت إنه نائم. لم تكن تعرف أي شيء عن زوجها.

•••

بعد نحو أسبوعين استُدعيتُ عبر مكبر الصوت، ووجدت السيد موسوي ينتظرني في المكتب. طلبتْ منه الأخت زينب أن يوقِّع تعهدًا بإعادتي قبل العاشرة ليلًا.

قال لي فور أن خرجنا من المكتب: «سوف أصطحبك إلى منزلي لتناول العشاء.»

– «أولئك الأخوات الجديدات لسن ودودات مع الآخرين.»

– «كلا، على الإطلاق.»

بدا السيد موسوي ذاهلًا ونحن نتجه نحو السيارة.

عندما اجتزنا البوابات سألني هل أشعر بتحسن، فقلت نعم. أخبرني أنه هو وعائلته يشعرون بتحسن أيضًا، فقد أمدهم الله بالقوة وشغلهم ابن أكرام، ثم أخذ نفسًا عميقًا وأخبرني أنه حصل على معلومات تؤكد أن اغتيال علي كان ترتيبًا داخليًّا، فلم أصدق ما سمعته.

سألته: «حامد؟»

– «نعم، إنه أحدهم، لكن لا يمكن إثبات ذلك.»

قلت إن عليًّا كان قد أخبرني بأنه يواجه بعض المشاكل مع أسد الله لاجيفاردي، وأكد لي السيد موسوي أنه يعتقد أن لاجيفاردي هو من أمر بتنفيذ عملية الاغتيال.

سألته: «وهل هناك ما يمكنك فعله كي تقدم المسئولين عن تلك العملية للمحاكمة؟»

– «كلا، كما قلت لك لا يمكنني إثبات أي شيء، فلن يتقدم الشهود للإدلاء بشهادتهم أبدًا.»

فقد السيد موسوي ابنه الوحيد، والقتلة — زملاء ابنه — سيفلتون من العقاب، وهو ما آلمه كثيرًا. وجدتها مفارقة محزنة أن يموت عليٌّ بنفس الطريقة التي يُعدم بها الشباب والفتيات في «إيفين»؛ نفس أعضاء فرقة إطلاق النار الذين أنهوا حياة كلٍّ من جيتا وترانه وسيرس هم من جذبوا الزناد الذي أنهى حياته.

قال السيد موسوي: «هناك أمر آخر يجب أن أصارحك به يا مارينا. إنني أحاول إطلاق سراحك، ولكنني لم أتمكن من ذلك حتى الآن.»

– «لماذا؟»

– «لأن المتشددين من أمثال لاجيفاردي الذين يتمتعون بنفوذ قوي في «إيفين» يؤكدون أنه ينبغي ألا يسمح لك بالعودة إلى نمط حياتك القديم، فهم يرون أن تلك الخطوة سوف تعرِّض إيمانك للخطر، ولأنك زوجة شهيد اغتيل على يد «المجاهدين» فعليهم أن يحموك من الكفار ويزوجوك من أحد المسلمين الصالحين في أقرب وقت ممكن.»

لم أصدق ما كنت أسمعه، فقلت: «ولكنني أفضِّل الموت على أن يحدث ذلك.»

فهز رأسه وقال: «لا داعي لذلك يا مارينا، فقد وعدتُ ابني بأن أعيدك إلى منزلك، وسوف أفي بوعدي. سأذهب لمقابلة الإمام، وأنا على يقين من أنني سأتمكن من إقناعه بإطلاق سراحك. سوف ينزعج البعض، ويبذلون كل ما بوسعهم من أجل تعقيد الأمر، وهكذا قد يستغرق الأمر وقتًا أطول مما كنت أتوقع، لكنك ستكونين على ما يرام، وعليك أن تتحلي بالقوة. قد لا أستطيع تقديم قتلة علي للمحاكمة، ولكنني أتعهد بحمايتك لأن عليًّا أراد ذلك.»

سألته: «هل تصطحبني لزيارة قبر علي؟»

فوعدني بذلك.

فجأة سألني: «مارينا، هل شعرتِ نحوه بالحب في أي وقت؟»

فوجئت بهذا السؤال؛ إذ لم أكن أتوقع أن يحدثني بتلك الصراحة.

أجبته: «لقد سألني قبل وفاته بقليل هل أكرهه، فقلت لا. لا يمكنني القول إنني أحببته، ولكنني كنت أهتم لأمره.»

كانت هذه أول مرة أذهب فيها إلى منزل والدَي علي دون أن يكون معي. كل بضع دقائق ينتابني شعور قوي أنه سيدخل الغرفة علينا.

بعد أن تناولنا العشاء أخبرتني والدة علي أنها ترغب في الحديث معي على انفراد، فذهبنا إلى غرفة أكرام القديمة. أغلقتِ الباب خلفنا، وجلستْ على الفراش، وأشارت لي أن أجلس بجوارها، ثم أخبرتني بأن السيد موسوي يبذل كل ما بوسعه كي يعيدني إلى أهلي، وأخبرتها أني على علم بذلك.

– «أعلم أنه أخبرك، لكني أردت أن أخبرك بنفسي. لقد كانت أمنية علي الأخيرة أن تعودي إلى المنزل، وهذا يعني الكثير لنا.»

قالت إنها لم تكن تتوقع أن ينجو عليٌّ عندما ألقى «السافاك» القبض عليه وسجن في «إيفين» قبل الثورة. كانت تعلم أن استشهاد ابنها سيكون فخرًا لها، لكنها شعرت بالذعر؛ إذ لم تكن ترغب في أن تفقد ابنها الوحيد. وعندما ذهب إلى الجبهة تسلل إليها الخوف مرة أخرى، وشعرت بالارتياح عند عودته ظنًّا منها أنه سيصبح آمنًا في طهران.

قالت وهي تبكي: «لكن انظري ماذا حدث، فقد غدر به زملاؤه، أولئك الذين يفترض أن يقدموا له الحماية، أولئك الذين وثق بهم، ولا يوجد ما يمكننا القيام به الآن. لقد نجا في عهد الشاه وأثناء الحرب كي يلاقي حتفه بتلك الطريقة. كل ما يمكننا فعله الآن أن ننفذ أمنيته الأخيرة، وأعدك أننا سنفعل ذلك، وأؤكد لك أيضًا أننا نعلم جيدًا أن أكرام تدين لك بالفضل في إنجابها لهذا الطفل. عليٌّ الصغير هو معجزتنا، وهو أملنا الآن.»

وهنا قرع أحدهم الباب ودخلت أكرام حاملة عليًّا الصغير بين ذراعيها. كان قد كبر قليلًا عما رأيته في المستشفى، وكانت له وجنتان متوردتان وعينان داكنتان واسعتان. إنه طفل جميل. حملته بين ذراعيَّ وتذكرتُ طفلي، وشعرتُ بالامتنان لأنني حملته بين ذراعيَّ، حتى وإن كان حلمًا.

•••

بعد بضعة أيام اصطحبني السيد موسوي إلى مقبرة «بهشت زهرا» التي دفن فيها علي، وتقع جنوبي طهران بجوار الطريق السريع المؤدي إلى مدينة «قم» الشهيرة بالمدارس الدينية الإسلامية. رافقتنا أكرام، وجلست بجواري في المقعد الخلفي للسيارة، وطوال الطريق الذي استغرق ساعتين ظلت إحدانا تمسك يد الأخرى دون أن نتبادل كلمة واحدة. كان الطريق مظلمًا نظيفًا يقسم الصحراء إلى نصفين، وكانت الأمطار قد هطلت في الليلة السابقة، لكن السماء صافية الآن. اتكأت برأسي على ظهر المقعد، وتركت أمواج الظلال والأضواء تغمرني. لقد فقدت أصدقاء وأحباء لي من قبل، لكن عليًّا لم يكن يشبه أيًّا منهم؛ لم يكن يشبه أيًّا ممن عرفتهم من قبل. لم يكن بوسعي تغيير ما فعله بي أو ما حدث بيننا. لكنه توفي بعدما بدأ يتغير ويتخلى عن هويته السابقة. لقد أُزهقت العديد من الأرواح البريئة خلف أسوار «إيفين» ودُفنت في قبور مجهولة، وكان عليٌّ مسئولًا عن الفظائع التي ارتُكبت هناك، ولكن الحقيقة أنه مات مظلومًا، فقد قتله أولئك المتشددون لأنه أصبح مصدر تهديد لهم؛ لأنه حاول أن يغير الأوضاع إلى الأفضل؛ لأنه حاول التحرر من قيودهم.

عندما وصلنا إلى المقبرة لم أستطع أن أجمع شتات أفكاري، فقد أصبح العالم خليطًا من الصور التي لا تربط بعضها ببعض صلة، لكنني استعدت انتباهي عندما أخبرتني أكرام أننا وصلنا إلى الناحية المخصصة للشهداء في المقبرة. كاد النهار ينتصف، وبالرغم من هبوب نسمات رقيقة باردة، كانت الشمس لافحة وأخذت أتصبب عرقًا. تناثرت شجيرات صغيرة هنا وهناك، ولكن على امتداد البصر كانت الأرض مكسوة بشواهد قبور من الرخام والأسمنت وضعت أفقيًّا على القبور. أحاطت بنا النصب التذكارية المصنوعة من القصدير ذات النوافذ الزجاجية، وهي أضرحة للمتوفين. معظم من دفنوا هنا كانوا من ضحايا الحرب، ومعظمهم كانوا في سن صغيرة للغاية عند وفاتهم.

توقف السيد موسوي وأكرام أخيرًا؛ لقد وصلنا إلى قبر علي. انحنى والده على ركبتيه ووضع يده على القبر، ثم أخذت كتفاه ترتجفان، وتساقطت دموعه على السطح الحجري اللامع حتى امتزجت بالكتابة المحفورة عليه:
السيد علي موسوي
جندي الإسلام الشجاع
٢١ أبريل ١٩٥٤ إلى ٢٦ سبتمبر ١٩٨٣

وضعت أكرام يدها على كتف والدها وغطت وجهها بالشادور.

وداخل النصب التذكاري الذي شيد أمام القبر وُضعت ثلاث صور لعلي. كان يبلغ من العمر في الصورة الأولى ثمانية أو تسعة أعوام ويقف مبتسمًا يضع قدمه اليمنى على كرة قدم ويديه على فخذيه. وفي الصورة الثانية كان في نحو السادسة عشرة تعلو وجهه لحية صغيرة وتبدو عليه علامات الجدية، أما في الصورة الثالثة فكان كما عرفته: رجلًا ذا شعر داكن ولحية كثيفة مهذبة وأنف كبير وعينين داكنتين حزينتين. كانت بعض الورود الصناعية الحمراء قد ألصقت بالصور، وعلى كلا جانبي النصب التذكاري وُضع أصيص من أزهار الأقحوان الحمراء. انهمرت دموعي بلا توقف، وجلست على الأرض المفروشة بالحصى بجوار القبر وتلوت «السلام الملائكي» عشرات المرات من أجله؛ من أجل زوجي؛ من أجل رجل مسلم دفن في «ساحة الشهداء». تمنيت لو أعفو عنه، ولكن العفو لا يأتي دفعة واحدة كهدية مغلفة بشريط أحمر؛ إنما يأتي تدريجيًّا. بالإضافة إلى ذلك فلن يمحو العفو عنه آثار الألم الذي سببه لي؛ سوف يلازمني هذا الألم ما حييت، لكن هذا العفو سيساعدني على أن أتسامى على الماضي وأواجه كل ما حدث. كان عليَّ أن أصرفه عن ذهني كي أحرر نفسي من قيده.

وعلى بعد بضعة قبور إلى يميننا أخذت امرأة عجوز ضئيلة الحجم محدودبة الظهر تنظف شاهد قبر رخامي بإسفنجة صفراء اللون يقطر منها الماء والصابون، ثم صبت عليه الماء النظيف من زجاجة وجففته بقطعة قماش بيضاء اللون، وبعد أن أصبح شاهد القبر نظيفًا انتقلت إلى القبر التالي وكررت نفس الشيء. جلس رجل مسن نحيف يرتدي قميصًا أبيض وسروالًا أسود من القماش في الجزء المتسخ بين القبرين وأخذ يردد شيئًا ما وهو يحرك مسبحة في يده ويراقب السيدة.

لن يغسل أحد قبر ترانه أو سيرس أو جيتا أو يبني لهم أضرحة في مقبرة يتمكن فيها أصدقاؤهم وعائلاتهم وحتى الأغراب من زيارتهم والدعاء لهم، لكنني أتذكرهم، ولأنني بقيت على قيد الحياة فعليَّ أن أعثر على طريقة أحيي بها ذكراهم؛ فحياتي تخصهم أكثر مما تخصني.

وقفت وفتحت النافذة الزجاجية لنصب علي التذكاري، وأخرجت مسبحتي من جيبي وتركتها له هناك. نظرت أكرام إلى المسبحة، وسألت: «ما هذا؟»

– «مسبحتي.»

– «كم هي جميلة! لم أرَ مثلها قط.»

– «أدعو بها العذراء.»

وبينما نتوجه إلى السيارة، نظرت إلى شواهد القبور التي نظفتها المرأة بعناية شديدة، فوجدتها قد رحلت هي والرجل المسن. كان أحد القبور يخص رضا أحمدي والآخر لحسن أحمدي، وقد ولدا وتوفيا في نفس اليوم؛ كانا توأمًا قُتلا في الجبهة معًا.

أدركت كم اعتدت على الموت، ووجدته يصيب صغار السن أكثر مما يصيب كبار السن في نطاق مَن أعرفهم.

وبعد أن أعدنا أكرام إلى منزلها أعادني السيد موسوي إلى «إيفين»، وأخبرني أنه سيبذل أقصى ما بوسعه كي يعيدني إلى منزلي في أقرب وقت ممكن.

•••

وفي أواخر أكتوبر أرسلت شيدا ابنها كاوه خلال إحدى الزيارات إلى والديها. كان قد بلغ من العمر عامًا ونصفًا، وصار طفلًا لطيفًا مليئًا بالحيوية أدخل البهجة إلى حياتنا. لم يكن يستطيع نطق اسمي بطريقة صحيحة، فكان يطلق عليَّ الخالة مانا. عندما عادت شيدا من الزيارة بدونه بدت كأن روحها انتُزعت منها، فجلستْ في أحد الأركان وظلت تهتز للأمام وللخلف عدة ساعات حتى استغرقت في النوم.

بعد بضعة أيام أعطيت كل متعلقات ترانه التي طلبت مني توصيلها لوالديها إلى صديقة أوشكت مدة عقوبتها التي تبلغ عامًا ونصفًا على الانتهاء، لأني فقدت الأمل في العودة إلى المنزل.

وفي ليلة عيد الميلاد من عام ١٩٨٣ تساقطت الثلوج، وفي الصباح الباكر أخذت أشاهد الكتل الثلجية الخفيفة عبر النافذة ذات القضبان وهي تتراقص جيئة وذهابًا بفعل الرياح. سرعان ما تجمدت الثياب المعلقة على حبال الغسيل، وعندما جاء وقت الخروج للساحة دخلت معظم الفتيات بعد جمع الملابس المغسولة في الحال، لأن البرد كان قارسًا، ولم تكن الخفاف المطاطية التي نرتديها توفر لنا الحماية من الطقس القارس. تطوعتُ بإحضار ملابس بهار وسارة. كان الجو أشد برودة مما تخيلت، لكنني أحببت ملمس الكتل الثلجية على وجهي. لا يوجد أحد بالخارج؛ خلعت جوربي وخفِّي ووقفت ساكنة، احتوتني ثلوج الشتاء تمامًا، حيث غطتني وملأت الفراغات الصغيرة بين أصابع قدمي. إنه يوم عيد الميلاد؛ يوم ميلاد المسيح؛ يوم للفرحة والاحتفال؛ يوم لترديد الترانيم وإقامة الولائم الضخمة واستقبال الهدايا. كيف يواصل العالم حياته وكأن شيئًا لم يحدث؟ وكأن كل هؤلاء الأشخاص الذين فقدوا حياتهم لم يولدوا قط؟!

وبعد فترة بدأت قدماي تؤلمانني، ثم سرى الخدر فيهما. رأيت نفسي ليلة الإعدام عندما كنت مقيدة إلى عمود في انتظار الموت. لقد أخذني «إيفين» بعيدًا عن منزلي، وانتزعني من هويتي، وأدخلني في عالم خارج نطاق الخوف شعرت فيه بآلام لا يطيقها بشر. عانيت الخسارة والحرمان من قبل، وعرفت الحزن، لكن الحزن هنا صار كيانًا جامحًا لانهائيًّا من الظلام، يُبقي ضحاياه في حالة اختناق دائمة. كيف يُفترض بالمرء أن يعيش حياته بعد أن يخرج من هنا؟

كان عليَّ أن أتوقف عن التفكير، فلن تجلب لي تلك الأفكار سوى اليأس. عليَّ أن أؤمن بأنني سأعود إلى منزلي يومًا ما.

•••

بعد نحو ثلاثة أشهر، في صباح السادس والعشرين من مارس عام ١٩٨٤ استُدعيت عبر مكبر الصوت.

– «مارينا مرادي بخت، توجهي إلى المكتب.»

قد يعني هذا الاستدعاء أي شيء؛ فربما يطلقون سراحي أو يعدمونني رميًا بالرصاص، وربما كان السيد موسوي يرغب في مقابلتي.

قالت بهار: «مارينا، سوف تعودين إلى منزلك؛ أشعر بذلك.»

– «من الصعب التنبؤ بأي شيء هنا.»

قالت شيدا: «مارينا، بهار محقة.»

عانقتني سارة وهي تضحك والدموع تنهمر من عينيها، وقالت لي: «مارينا، اذهبي لأمي وأخبريها أني بخير وسأعود إلى المنزل يومًا ما.»

وصاحت الفتيات وهنَّ يدفعنني عبر الممر: «هيا يا مارينا، انطلقي!»

اجتزت الباب المدعوم بالقضبان، وقبل أن أصعد الدرَج نحو حجرة المكتب التفتُّ خلفي، فرأيت أيادي صديقاتي تمتد عبر القضبان ملوِّحات لي بالوداع، فبادلتهن التحية، وفور أن خطوت إلى حجرة المكتب استدعت الأخت زينب مندوبة الغرفة «٦» عبر مكبر الصوت، وطلبت منها أن تحضر متعلقاتي.

قالت الأخت زينب: «لقد انتصرتِ أخيرًا، لم أتخيل أنهم سيسمحون لك بالعودة إلى المنزل بهذه السرعة.»

– «فقدت أصدقائي، وزوجي، وجنيني، وتظنين أنني انتصرت؟»

فأطرقت برأسها.

سأعود إلى المنزل. أخيرًا سأعود إلى المنزل.

•••

كان والدا علي وأكرام وطفلها بانتظاري في غرفة صغيرة عند البوابة. ابتسم لي السيد موسوي وقال: «لقد وفيتُ بوعدي لك، أليس كذلك؟»

– «بلى، ولكن كيف تمكنتَ من ذلك؟»

– «لقد تحدثت مع الإمام. كان لاجيفاردي قد سبقني وعارض ذلك الرأي، ولكنني أقنعت الإمام في نهاية الأمر بأن إطلاق سراحك هو عين الصواب.»

توقف قليلًا ثم قال: «هل ستذكرينني بالخير؟»

– «بالطبع، وماذا عنكَ؟ كيف ستذكرني؟»

أجاب وهو يمسح دموعه: «ابنة قوية شجاعة.» طلب مني أن أتصل به إذا واجهت أي مشكلة، وأخبرني أنه سيحتفظ بالمال الذي تركه عليٌّ باسمي في البنك مدة عام في حال إذا ما غيرتُ رأيي وقررت أخذه. ومع أنه حاول أن يهوِّن الأمر عليَّ، فقد أوضح لي أنني سأظل ممنوعة من السفر خارج البلاد بضعة أعوام، فهكذا جرت العادة على من يطلق سراحهم من «إيفين».

أخبرتُ السيد موسوي أن عليًّا وعدني بأن يساعد سارة، وطلبت منه أن يطلب من محمد الاعتناء بها، ووعدني بأن يفعل.

قال السيد موسوي: «أود أن أقدم لك نصيحة واحدة، لا تذهبي لزيارة كل أسر أصدقائك المسجونين، بل يمكنك أن تكتفي بزيارة أسرة واحدة أو اثنتين فقط. لن يكف حامد عن مراقبتك، وإن أعطيتِهِ أدنى سبب كي يلقي القبض عليك مرة أخرى فلن يتردد في ذلك، وإن حدث ذلك فلن أتمكن من مساعدتك مرة أخرى. عليكِ أن تمكثي في المنزل ولا تلفتي الأنظار إليك.»

– «سأبقى في المنزل.»

عرض عليَّ السيد موسوي أن يقلَّني إلى «لونا بارك» حيث تنتظرني أسرتي، لكنني شكرته على كرمه، وأخبرته أني أفضل السير، فقد كنت بحاجة إلى الهواء النقي وبعض الوقت كي أستعد نفسيًّا لمقابلة والديَّ.

كانت «لونا بارك» التي تقع على بعد ميل ونصف من «إيفين» مدينة للملاهي، وقد استولت الحكومة على جزء منها كي تستخدمه ساحة لإيقاف الحافلات التي تقل الزائرين إلى السجن، وعند إطلاق سراح أحد السجناء تنتظره أسرته هناك أيضًا.

خرجتُ من السجن. كان أغرب شعور عرفته أن يصبح بإمكاني العودة إلى المنزل. ما زلت لا أجرؤ على الشعور بالسعادة. هبَّت في وجهي عاصفة من الرياح المحملة بقطرات المطر، فأعدت ضبط الشادور الأسود الذي أرتديه بإحكام وخطوت بحذر على الدرَج المؤدي إلى الشارع الضيق الهادئ، ثم توقفت ورفعت بصري وراقبت السحب وهي تتحرك بفعل الرياح العاصفة، وللحظة ظهرت رقعة صغيرة من السماء الزرقاء. كان منظرًا خلابًا، ومع أن لون السماء كان باهتًا، فإنه كان جميلًا مقارنة بدرجات الرمادي المختلفة. تابعت الطريق بعيني، وظهرتْ سيارة بيضاء عند الناصية. هدَّأ السائق — رجل في منتصف العمر — من سرعته وحدق إليَّ، ثم واصل السير. كان جَورباي قد تشبعا بالماء، وتجمَّدت قدماي من شدة البرد.

وقف حارس مسلح فوق أحد أبراج المراقبة يراقب الطريق، فناديته: «من فضلك يا أخي، أين الطريق المؤدي إلى «لونا بارك»؟» فأشار لي إلى الطريق.

انتشرت البرك الموحلة في كل مكان، وظهرت على سطحها أمواج صغيرة جعلت انعكاس كل شيء يرتعش ويهتز ويتلاشى. لا يوجد الكثير من المشاة، ولكن من حين لآخر يمر أحدهم بخطوات سريعة ثابتة. ظهرت مظلة سوداء في الهواء تتحرك بعيدًا عني، وفي ملتقى شارعين وقف رجل كبير نحيف رث الثياب أمام حائط قرميدي متهدم رافعًا يديه المعروقتين بالدعاء.

ماذا أقول لوالديَّ؟ أقول إني في العامين الماضيين تعرضت للتعذيب، وشارفت على الموت، وتزوجت، وترمَّلت، وفقدت جنيني؟ كيف يمكنني أن أصوغ كل ذلك في كلمات؟ وماذا عن أندريه؟ أما زال يحبني بالرغم من الهوة الزمنية التي باعدت بيننا؟

لاحظت فتاة تسير أمامي على مسافة قريبة حاملة حقيبة بلاستيكية مشابهة لتلك التي أحملها ومرتدية خفًّا بلاستيكيًّا أكبر من حجم قدميها بثلاثة قياسات على الأقل. كانت تتوقف كل بضع خطوات وتنظر للخلف نحو الجبل، ويبدو أنها لم تنتبه إليَّ. وعندما وصلتْ إلى الطريق السريع وأصبحت «لونا بارك» على مرمى البصر، ومع أن إشارة المشاة قد تحولت إلى اللون الأخضر، لم تعبر الفتاة الطريق، توقفتُ خلفها ببضع خطوات، ولكنها ظلت واقفة عند نقطة عبور المشاة تشاهد الإشارات وهي تتحول من الأخضر إلى الأحمر والعكس عدة مرات. انطلقت السيارات مسرعة ثم توقفت، ثم عادت للانطلاق مرة أخرى.

سألتها: «لم لا تعبرين الطريق؟» ففزعت، واستدارت نحوي وحدقت إليَّ وسط الأمطار، فابتسمتُ لها.

– «أنا عائدة من «إيفين» إلى المنزل مثلك، ويمكننا عبور الطريق معًا.»

علت وجهها ابتسامة مترددة، وأمسكت إحدانا بيد الأخرى وعبرنا الطريق السريع. كانت يدها أكثر برودة من يدي.

وعندما وصلنا إلى «لونا بارك» أوقفَنا أحد الحرس الثوري وهو يلعن الأمطار الباردة، وسألنا عن اسمينا، ثم أخرج ورقة مبللة من جيبه وتأكد من وجود أسمائنا، ثم سمح لنا بالمرور. نظرنا حولنا؛ فيما عدا بعض الأكشاك الضخمة في الخلف بدا المكان كساحة خالية مخصصة لوقوف السيارات في حماية الحرس الثوري. لم أرَ أي وجه مألوف، لكن رفيقتي هرعت نحو رجل وامرأة قد وصلا للتو وكانا يبكيان. بعد مرور بضع دقائق رأيت والديَّ، فجريت نحوهما وعانقتهما طويلًا، وبينما نتجه نحو السيارة حاولت أمي فتح مظلتها، لكنها لم تتمكن من ذلك.

– «أمي، ماذا تفعلين؟»

– «لقد علِقت تلك المظلة اللعينة.»

– «كدنا نصل إلى السيارة.»

– «لكنك مبللة، وأخشى أن تصابي بالبرد.»

إنها ترغب في حمايتي من المطر؛ فطوال العامين الماضيين لم يكن بوسعها أن تفعل أي شيء لمساعدتي؛ كانت عاجزة، بل ربما كانت أكثر عجزًا مني. وأخيرًا فتحت المظلة، ومع أننا وصلنا إلى السيارة أخيرًا فقد أخذتُها منها.

ركبت السيارة وأنا غارقة في مياه الأمطار، فوجدت أندريه يجلس في مقعد السائق، واستدار نحوي وابتسم. كان وجوده يعني أنه قد وفى بوعده وانتظرني؛ أنه ما زال يحبني. أخيرًا شعرت بالسعادة. أمر غريب أن أحدنا لم يدرك حقيقة مشاعره نحو الآخر قبل أن يُلقى القبض عليَّ؛ لم ندرك ذلك إلا بعد أن فقد أحدنا الآخر.

بدَّد صوت أمي الفراغ وهي تقول: «لماذا لم يسمحوا لنا بالحضور إلى بوابة السجن في هذا الطقس الرديء كي نصطحبك؟ انظري إلى نفسك! سوف تمرضين بلا شك، اخلعي جوربَيْك.»

– «أمي، لا تقلقي، فأنا بخير، وسوف أبدل ملابسي فور أن نعود إلى المنزل.»

– «لقد صنعت لك ملابس جديدة، وكلها معلقة في خزانتك.»

عندما كنت في السجن انتقل والداي إلى منزل صديقة قديمة لهما، وهي امرأة طيبة تدعى زينيا وتعيش بمفردها في منزل من طابق واحد به خمس غرف ويقع في حي راقٍ. كان هذا الاتفاق مرضيًا لكلا الطرفين، فمن ناحية لن تشعر زينيا بالوحدة بعد الآن، ومن ناحية أخرى لن يضطر والداي إلى سداد إيجار مرتفع القيمة في مقابل مساحة صغيرة، فقد ارتفعت أسعار المنازل كثيرًا خلال الأعوام التالية للثورة، ووجد أفراد الطبقة المتوسطة الذين لا يمتلكون منازل خاصة بهم صعوبة في سداد إيجار المنازل.

سألتُ أمي: «كيف كان الانتقال؟»

– «كل شيء سار على ما يرام. اضطررنا فحسب إلى بيع بعض الأشياء، فزينيا لديها الكثير من الأثاث، ولم يكن هناك مكان كافٍ لكل شيء. لم يتركنا أندريه قط، وساعدنا أثناء الانتقال. حمدًا لله أن لديه سيارة كبيرة؛ لا أدري ماذا كنا سنفعل من دونه.

سألتُ أندريه: «أما زالت لديك نفس السيارة؟»

– «نعم.»

فوجئت بذلك، لكنني أدركت عندئذ أنه مع أن الوقت الذي قضيته في «إيفين» قد بدا لي دهرًا من الزمن، فإنه لم يكن يَزِد عن عامين وشهرين واثني عشر يومًا فقط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤