الفصل الثامن عشر

في منزل زينيا حصلتُ على غرفة نوم بها نافذة تكاد تكون بعرض الحائط تطل على الساحة الخلفية. كانت الحوائط مطلية باللون الوردي، وهو لوني المفضل، وهناك مقعدان بالقرب من النافذة. تحسست بأصابعي القماش الوثير الذي يغطي المقعدين، وتخيلت نفسي جالسة على أحدهما أقرأ رواية أو ديوان شعر. وجدت منضدة صغيرة للتزين، كانت جزءًا من وحدة أثاث جدارية، وعليها صورتان لي موضوعتان في أطر يدوية الصنع من أصفهان. في إحدى الصورتين، كنت في الثامنة من العمر أتكئ على سيارة أبي طراز أولدزموبل الزرقاء اللامعة أرتدي ثوبًا صيفيًّا وأحدق في آلة التصوير، وابتسامة غامضة متسائلة تعلو وجهي. هل كنت صغيرة هكذا يومًا؟ وفي الصورة الأخرى كنت في الثالثة عشرة أركب دراجتي أمام منزل عمتي الصيفي، وأرتدي قميصًا أزرق اللون وسروالًا أبيض قصيرًا، وأشتاق إلى الذهاب إلى الشاطئ كي أقابل أراش. كان أخي هو من التقط كلتا الصورتين.

وبدلًا من فراشي القديم وجدت أريكة تُفتح فراشًا مغطاة بنسيج من الصوف التويدي في أحد الأركان. لمست كل قطعة أثاث، وبدا كل شيء حقيقيًّا. لماذا إذن أشعر وكأنني أحلم؟ بدا الأمر وكأن حياتي الحقيقية لا تزال في «إيفين»، وأن هذا العالم الآخر الذي انتقلت إليه؛ هذا المكان الذي كنت أدعوه منزلي وأتحرق شوقًا للعودة إليه بدا لي غريبًا غير حقيقي. «إنها الحقيقة، لقد عدت إلى المنزل، انتهى الأمر، انتهى الكابوس، جميل أننا انتقلنا إلى منزل آخر، إنها بداية جديدة، عليَّ أن أنسى الماضي.»

أخرجت ملابسي المطوية من الحقيبة البلاستيكية التي أحضرتها معي من «إيفين»، وخطر في بالي أن ألقي بكل محتوياتها في صندوق القمامة، لكنني أدركت أني لا أستطيع القيام بذلك. كان وشاح الزفاف الأبيض يعلو كومة الملابس، وكنت قد لففته حول خاتم الزواج. أخذت نفسًا عميقًا وفضضت طيات الوشاح الحريري، ورأيت عليًّا بين ذراعيَّ يحاول جاهدًا التقاط أنفاسه. تمنيت لو كان العالم مكانًا بسيطًا كل الناس فيه إما أخيار أو أشرار. أعدت طي الوشاح على الخاتم وخبأته في ركن مظلم من خزانتي، ثم توجهت إلى النافذة. كان المطر قد توقف، وتدفقت أشعة الشمس عبر السحب على شكل شرائط ذهبية. كانت الساحة الخلفية شديدة الخصوصية والانعزال، فهي محاطة بأسوار قرميدية مرتفعة، وأحاطت بالمسبح الخالي الكثير من شجيرات الورد، وهنا سمعت أحدهم يقرع الباب برفق.

قلت وعيناي مثبتتان على الحديقة الهادئة: «تفضل.»

دخل أندريه ووقف خلفي ووضع يديه على كتفيَّ، فشممت رائحة عطره وشعرت بدفء جسده.

– «توقعت أن تعودي حاملة طفلًا بين ذراعيك، ومع ذلك لم أكن لأتوقف عن حبك، ولم يكن شيء ليتغير.»

لم أتحرك من مكاني. لا يمكن أن يكون قد علم بأمر الطفل، لكنه قال ما أود سماعه تحديدًا. أظن أنه سمع أن الفتيات يتعرضن للاغتصاب في السجن. حاولت أن أحبس دموعي.

– «لا أحمل طفلًا في أحشائي.»

– «هل تعرضتِ للتعذيب؟»

– «نعم. أتريد أن تعرف لماذا اعتنقت الإسلام؟»

كنت أود أن أخبره بما حدث، ولكنني لم أدرِ كيف.

– «لا يهمني ذلك الأمر. أعلم أنك كنت مرغمة، أليس كذلك؟»

– «نعم.»

– «أنا أحبك.»

استدرت إليه وقلت: «وأنا أيضًا أحبك.»

كانت تلك أول مرة نتصارح بحبنا، فطوقني بذراعيه وتلاقت شفتانا، ولبضع لحظات شعرت بأن «إيفين» لم يعد سوى ذكرى بعيدة؛ ذكرى لا يمكنها أن تبقيني أسيرة لها.

•••

وفي تلك الليلة جلسنا جميعًا حول مائدة العشاء، وكانت أمي قد أعدت يخنة اللحم بالكرفس، والأرز. في البداية خيَّم الصمت على الغرفة، فلم يكن يقطعه سوى صوت الملاعق وهي تحتك بالأطباق الخزفية، أو صوت أحدنا يسعل.

قطعت زينيا الصمت بصوتها الدافئ العذب وقالت: «حمدًا لله على هطول الأمطار اليوم، فقد ظل الجو جافًّا فترة طويلة، والمروج ذابلة، ولكنها الآن تبدو أفضل كثيرًا.» كانت زينيا امرأة متوسطة الحجم ذات شعر أشقر قصير وعينين داكنتين.

أضاف هوشانج خان، وهو صديق لعائلة زينيا، كان يتناول العشاء معنا: «كلما استمر هطول الأمطار تفتحت الزهور أكثر.»

قبعت سيسي — إحدى القطط الثلاث التي تمتلكها زينيا — تحت المائدة وأخذت تتمسح في ساقي، فربتُّ على رأسها وهي تموء راضية.

تسمَّرت عينا أبي على طبقه معظم الوقت، لكن بين الحين والآخر كان يدور بنظراته حول المائدة ويستقر بها عليَّ هنيهة. حاولت أن أفهم التعبير المرتسم على وجهه، لكنه كان خاليًا من التعبير كالعادة. كان يبدو محطمًا عند زيارتي في السجن، لكنني الآن عدت وعادت الأمور إلى طبيعتها. ربما من الأيسر للجميع أن يتظاهروا بأن شيئًا لم يحدث، وكأنني لم أسجن، لكن هل صمتهم هذا رغبة في حمايتي أم في حماية أنفسهم؟

كانت والدة علي قد صنعت يخنة اللحم بالكرفس والأرز في الليلة التي اغتيل فيها ابنها. كيف يمكنني أن أخبر عائلتي بأمر علي وزواجي منه ووفاته؟ شعرت كأنني ضيفة غريبة لا أحد يهتم لأمرها، وأنها دعيت إلى المنزل من منطلق الشعور بالواجب. عندما تنتهي الزيارة يفترض أن ألقي على الجميع تحية المساء وأعود إلى منزلي، ولكن أي منزل؟ منزل أسرة موسوي؟ أم «إيفين»؟

لم أذُق طعم النوم في تلك الليلة، وظللت أراقب الظلال غير المألوفة على الحائط. لقد أنقذني عليٌّ مرتين في ليلة اغتياله؛ مرة عندما طرحني أرضًا، وأخرى عندما طلب من والده وهو يحتضر أن يعيدني لعائلتي، ولولا دعم السيد موسوي لكنت قضيت بقية حياتي في «إيفين»، أو ربما حدث ما هو أسوأ من ذلك؛ فكما أخبرني السيد موسوي ربما زوجني حامد لأحد أصدقائه، وما كنت لأتمكن من فعل أي شيء حيال ذلك سوى الانتحار.

عندما عاد عليٌّ من الجبهة أخبرني أنني إن لم أتزوجه فسوف يلقي القبض على والديَّ وأندريه. صحيح أني صدقته حينها، أما الآن فتنتابني موجة من الشك. ماذا لو كان ذلك تهديدًا فقط؟ كان بإمكاني عندئذ أن أرفض عرضه دون أن أعرِّض حياة أي شخص للخطر. ماذا لو رفضت؟

الآن وأنا أرقد آمنة في فراشي، من السهل أن أتحلى بالشجاعة.

•••

في اليوم التالي بحثت عن كتبي، ومعظمها هدايا من ألبرت صاحب المكتبة العجوز، في كل مكان بالمنزل، وعن الصندوق الذهبي الذي يضم سيرة جدتي، لكنني لم أعثر على شيء، فذهبت إلى أمي وهي تجلس في غرفة المعيشة تدخن سيجارة.

– «أمي، أين كتبي؟»

هزت رأسها ونظرت لي كأنها سمعت أكثر الأسئلة تفاهة على الإطلاق.

– «أي كتب؟ يبدو أنك لم تتعلمي الدرس بعد، أليس كذلك؟ لقد كانت كتبك خطرة كقنبلة زمنية. هل تدركين مقدار الفزع الذي شعرنا به عندما أُلقي القبض عليك؟ لقد تخلصتُ من كل الكتب التي لم يصادرها الحرس. استغرق الأمر مني أيامًا، لكني تخلصت منها كلها.»

لم تستطع إحراقها، لأنها لم تكن تملك مدفأة أو ساحة بالمنزل، وهكذا أخذت تمزق صفحاتها صفحة صفحة وتغسلها في المغسلة حتى تتحول إلى عجين، ثم تخلط ذلك العجين بالقمامة شيئًا فشيئًا.

تهاويت على أحد المقاعد وأنا أفكر في كتبي الجميلة التي تحولت إلى عجين قبيح الشكل.

لقد غُسلت الكتب؛ غرقت الكلمات المكتوبة، وأُخرسَت إلى الأبد.

كان أكثر ما أفتقده «سجلات نارنيا» التي تحمل توقيع ألبرت.

سألتُ أمي: «كان هناك صندوق ذهبي صغير تحت فراشي، ماذا حل به؟»

– «تقصدين كتابات جدتك؟ فكري قليلًا يا مارينا، لو كان الحرس قد أتوا إلى منزلنا مرة أخرى ووجدوا أوراقًا مكتوبة بالروسية، ماذا كانوا سيفعلون؟ كان الأمر سيستغرق منا أعوامًا كي نثبت أننا لسنا شيوعيين.»

لم أستطع أن ألقي باللوم على أمي، فقد كانت خائفة. كل هذا كان نتاج الثورة الإسلامية.

الحزن أمر غريب! إنه يتخذ أشكالًا وألوانًا متعددة. تساءلت هل تمكَّن أحد من تحديدها كلها وإعطائها أسماءً وهمية.

•••

سرعان ما حلَّ عيد ميلادي التاسع عشر، ودعت أمي بعض الأصدقاء والأقارب للاحتفال بتلك المناسبة. قبل وصول الضيوف تفحصت الملابس المعلقة في خزانتي، فوجدتها كلها كئيبة ذات أكمام طويلة بألوان سوداء وزرقاء داكنة وبنية. لم أبلغ الثمانين من عمري بعد. أردت أن أرتدي ثوبًا زاهيًا بلا أكمام، وأن أنظر في المرآة فأرى الفتاة التي كنت أعرفها من قبل؛ أردت ارتداءه واستئناف حياتي من حيث انقطعتُ عنها.

ذهبت إلى أمي وأخبرتها أن الملابس التي صنعتْها من أجلي أنيقة وتعجبني، لكنني أرغب في ارتداء ثوب أكثر إشراقًا لحفل عيد ميلادي، وطلبتُ منها أن تعطيني أحد أثوابها القديمة التي كانت ترتديها في الحفلات؛ فلديها ثوب وردي مفتوح الكتفين يعجبني كثيرًا. لا بد أنه سيكون فضفاضًا عليَّ، لكن يمكنني ضبط مقاسه، فقد تعلَّمت الحياكة والتفصيل في «إيفين»، ووافقت أمي. وبعد أن قضيت نحو نصف ساعة أمام ماكينة الخياطة، أصبح الثوب مناسبًا لي تمامًا، وانتعلت حذاء بكعب عالٍ. كنت عازمة على استعادة حياتي مرة أخرى.

استقبلني الضيوف بالابتسام والعناق والقبلات، وأخبروني أنني أبدو رائعة. سعدت لرؤيتهم جميعًا، ولكن ظلت تفصل مسافة ملحوظة بيننا؛ بين الفتاة التي رحلت بعيدًا، وبين من عاشوا حياة طبيعية. تكررت فترات الصمت المزعجة في كل محادثة.

كان أحدهم يسأل: «مارينا، تبدين رائعة. كيف حالك؟»

فأجيب: «بخير.»

بعدها يتكلف الابتسام ويحاول إخفاء عدم الارتياح الذي يشعر به والذي يطل من عينيه واضحًا كالشمس.

– «تبدو تلك الفطائر لذيذة، هل أعدَّتها والدتك؟»

لم يكن الذنب ذنبهم، كانوا جميعًا ودودين مهذبين معي، لكن الأمر كان ينتهي عند هذا الحد. انضم إلينا أحد القساوسة ويدعى الأب نيكولا، وكان يعزف الأغاني الشعبية الروسية على الأكورديون، وأخذ والداي يغنيان معه. كان جميلًا أن أُحاط بالوجوه المألوفة الباسمة للأقارب والأصدقاء والألحان التي تعود ذكراها إلى أيام طفولتي، لكن عليًّا كان محقًّا، فالمنزل لم يعد كما تركته، لأنني لم أعد كما كنت. اختفى العالم البريء الآمن الذي عشت فيه طفولتي إلى الأبد.

بعد تناول العشاء جلست أمي الروحية سيران بجواري. كانت امرأة عاقلة حكيمة، وطالما أحببت معرفة وجهة نظرها.

سألتني: «كيف حالك؟»

– «في أحسن حال.»

ضحكت وقالت: «يسعدني أنك لم تفقدي تميزك عن الآخرين.» كانت متأنقة كالعادة في قميصها الأصفر الشاحب وتنورتها البنية الأنيقة. «يجب أن تفخري بنفسك، فمعظم من يخرجون من «إيفين» يوصدون الباب على أنفسهم ولا يخاطبون أحدًا فترة طويلة، لكنك ورثت القوة عن جدتك.»

صدحت موسيقى الفالْس وبدأ الناس يرقصون.

سألتها: «لم لا يسألني أحد عما حدث لي في العامين الماضيين؟»

– «الإجابة بسيطة جدًّا، فنحن نخشى السؤال لأننا نخشى المعرفة. أظنه نوعًا من الدفاع الطبيعي عن النفس. إن لم نتحدث نحن في هذا الشأن وتظاهرت أنت بأنه لم يحدث، فربما يدخل الأمر في طي النسيان تمامًا.»

توقعت أن تؤدي عودتي للمنزل إلى عودة الأمور لطبيعتها، لكن ذلك لم يحدث. كرهت الصمت المحيط بي، ورغبت في أن أشعر بحب من حولي، ولكن كيف يجد الحب طريقه إليَّ وسط كل هذا الصمت؟ إن الصمت والظلام يتشابهان إلى حد بعيد، فالظلام غياب للضوء، والصمت غياب للأصوات. كيف يمكن للمرء أن يجتاز كل هذا التجاهل؟

•••

بعد حفل عيد ميلادي قررت أن أحصل على شهادتي الثانوية؛ عليَّ أن أواصل حياتي، ويمكنني أن أستذكر دروسي في المنزل وأذهب إلى المدرسة لأداء الاختبارات. ومع أن أندريه كان يستكمل دراسته في الهندسة الكهربائية فقد ظل يزورني كل يوم ويساعدني في دراسة التفاضل والفيزياء، ويقص عليَّ أنباء محاضراته وأساتذته وأصدقائه، ويصطحبني أحيانًا لحضور التجمعات وحفلات أعياد الميلاد في منازل أصدقائه، وبطريقة ما اعتبرنا تلك الفترة فترة خطبتنا.

في ذلك الوقت كانت لدى الحرس الثوري نقاط تفتيش في كل مكان بالمدينة، وكانوا يوقفون السيارات في أوقات مختلفة من اليوم، وخاصة أثناء الليل، ويجرون تفتيشًا عشوائيًّا. ولمَّا كان محرمًا على رجل وامرأة لا تربطهما صلة قرابة وثيقة أو خطبة أن ينفردا في السيارة، وكي نتخذ احتياطاتنا لهذا الأمر، ومع أننا لم نتحدث في موضوع الزواج قط، فقد طلب أندريه من القساوسة أن يعطونا ورقة رسمية تثبت أننا مخطوبان، واحتفظ بها في السيارة كي نستخدمها عند الضرورة.

كنت أستذكر دروسي عشر ساعات يوميًّا، سواء في غرفتي أو وأنا أذرع المكان جيئة وذهابًا حول المسبح حاملة الكتاب في يدي. ربما أكون قد شغلت وقتي باستذكار الرياضيات والعلوم كي أتجنب التفكير في الماضي. كان أبي يمكث في العمل طوال اليوم ستة أيام أسبوعيًّا، فما زال يعمل موظفًا لدى العم بارتيف، وأمي تقضي معظم وقتها في طوابير البقالة أو في المطبخ أو في الحياكة، وكنت أتجنب الاحتكاك بها قدر الإمكان.

وذات يوم دافئ ونحن نجلس في الساحة الخلفية، نقل أندريه مقعده بجواري وطوق كتفي بذراعيه. كانت العصافير تطير حولنا، والأزهار الحمراء والوردية والبيضاء تملأ الجو بعبيرها.

سألني: «متى سنتزوج؟»

كان محمد قد حذرني في «إيفين» من الزواج برجل مسيحي، فطبقًا للشريعة الإسلامية لا يسمح للمرأة المسلمة بالزواج من رجل مسيحي، ولكن الرجل المسلم يسمح له بالزواج من مسيحية، أما حقيقة اعتناقي الإسلام مجبرة في ظروف استثنائية فلم تكن تشكل فارقًا للحكومة. إن اعترفت بالارتداد عن الإسلام والعودة إلى المسيحية، فسوف أعاقب بالموت طبقًا لقواعد الإسلام.

قلت له: «أنت تعلم أننا إن تزوجنا واكتشف الأمر، فسوف يحكمون عليَّ وربما عليك أيضًا بالإعدام.»

قلبت الرياح صفحات كتاب الرياضيات الموضوع على المائدة.

– «هل تذكرين أول مرة التقينا فيها؟ يوم أن التقينا في حجرة مكتب الكنيسة؟ كان حبًّا من النظرة الأولى، ومنذ تلك اللحظة أدركت أنك فتاتي. شعرت بأنه عليَّ الاعتناء بك، وعندما ألقوا القبض عليك كنت متأكدًا من عودتك. كلانا ينتمي للآخر، تلك هي حقيقة الأمر.»

لمست شعره الأشقر الناعم ووجهه ثم قبَّلته.

– «خلال كل تلك الأيام التي قضيتها في «إيفين» كنت أرغب في العودة إليك. ومع أنني كنت أعلم أن ذلك قد لا يحدث، فقد ظل الأمل يحدوني.»

أخبرني لأول مرة أنه في التاسع عشر من مارس؛ أي قبل إطلاق سراحي بأسبوع، تلقت عائلتي اتصالًا هاتفيًّا من «إيفين» في الصباح الباكر يبلغونهم فيه بأنهم سوف يطلقون سراحي في ذلك اليوم. ذهب أندريه مع والديَّ إلى السجن في الحال وانتظروا طوال اليوم، ولكنهم أُمروا بالانصراف دون أن يعطيهم أحد أي تفسير. صدمت لسماع ذلك، لمَ لم يخبرني أحد بهذا من قبل؟ هل كان هذا التأخير جولة أخرى من الصراع الذي دار بين لاجيفاردي والسيد موسوي؟ إذا كان الأمر كذلك بالفعل، فقد بذل السيد موسوي جهدًا كبيرًا، وأنا على يقين من أنه لم يكن سيربح ذلك الصراع لولا دعم آية الله الخميني.

قال أندريه: «شعرنا بالقلق الشديد، ولم نعرف سبب تغيير رأيهم، ورفض الحرس الحديث معنا، ثم اتصلوا بنا مرة أخرى في السادس والعشرين من مارس فهرعنا إلى السجن، وعند البوابة طلبوا منا أن نذهب إلى حديقة «لونا بارك» وننتظرك هناك. أوقفت السيارة في ساحة مخصصة لوقوف السيارات بالقرب من الحديقة، وذهب والداك سيرًا إلى هناك بينما بقيت في السيارة. شعرت بالانفعال الشديد، لكنني لم أكن على يقين من أي شيء، فحاولت ألا أعلو بسقف توقعاتي. وبعد أن غادر والداك المكان ببضع دقائق، اقترب مني رجل ملتحٍ يرتدي ثيابًا مدنية وحيَّاني بقوله: «السلام عليكم»، فرددت التحية. تخيلت أنه يرغب في السؤال عن أحد الاتجاهات، لكنه مال عليَّ وقال: «لا تنسَ أنك لا تستطيع الزواج من مارينا.» فسألته عمن يكون وكيف عرفني، لكنه أجاب بأن ذلك لا يهم، وأضاف: «إنني أحذرك، فهي مسلمة وأنت مسيحي، وهكذا لا يمكنكما أن تتزوجا.» ثم استدار وغادر المكان.»

بعد الحديث مع هذا الرجل، شعر أندريه بالصدمة والقلق؛ فمع أنه يدرك أن الحرس يعلمون بأمر علاقتنا منذ أن أتى لرؤيتي في الكنيسة عندما زرتها، فهو لم يدرك أن سلطات السجن تراقبه إلا في تلك اللحظة. بعدها استحال خوفه إلى غضب، فلم يكن زواجه بفتاة معينة شأنًا يخص أحدًا غيره. كان يحبني وهذا كل ما يهم في الأمر.

قال أندريه: «مارينا، إنني أتفهَّم الموقف، وأدرك أن زواجنا ينطوي على خطورة، لكني أريد أن أفعل ذلك. لا يمكننا أن نستسلم، فنحن لا نرتكب خطيئة. كلانا يحب الآخر ويرغب في الزواج منه. إلى متى سندعهم يتحكمون فينا؟ علينا أن نأخذ موقفًا من ذلك الأمر.»

وكان محقًّا في ذلك.

أعتقد أن ذلك الرجل الملتحي كان محمدًا. كنت أدرك جيدًا أن ذلك الزواج قد يكون حكمًا بإعدامي، ولكن المفارقة تكمن في أن عليَّ المخاطرة بحياتي كي أستعيدها مرة أخرى. لقد كنت على وشك الموت في «إيفين» وأنقذني عليٌّ، لكنه لم يُعِد حياتي إليَّ مرة أخرى، بل احتفظ بها لنفسه. كانت حياتي هي الثمن الذي دفعته للبقاء على قيد الحياة، وعليَّ أن أحارب كي أستردها مرة أخرى.

أخبرت والديَّ قراري بالزواج من أندريه، وظنَّا أنني قد فقدت عقلي، بل إن معظم القساوسة أكدوا أننا يجب ألا نتزوج، ولكننا حددنا موعدًا للزواج في الثامن عشر من يوليو عام ١٩٨٥؛ أي بعد نحو ستة عشر شهرًا من إطلاق سراحي من «إيفين». حاول الأصدقاء والأقارب مرارًا أن يثنونا عن عزمنا، وفي محاولة أخيرة طلب والداي من هوشانج خان أن يحدِّثني في ذلك الشأن، فقد كان رجلًا طيبًا حكيمًا، وكانا يدركان أنني أكنُّ له احترامًا كبيرًا. عندما قرع باب غرفتي ذات مساء كنت جالسة على فراشي منهمكة في القراءة، فدخل وأغلق الباب خلفه وجلس على أحد المقاعد متكئًا بمرفقيه على ركبتيه ونظر في عيني مباشرة.

– «لا تفعلي ذلك.»

– «ماذا؟»

– «لا تتزوجي من أندريه. أعلم أن أحدكما يحب الآخر، لكننا نمر بأوقات عصيبة، وقد تدفعين حياتك ثمنًا لذلك. تمهلي قليلًا، فقد تتغير الأمور، ولا يستحق الأمر أن تفقدي حياتك من أجله.»

لكن كلماته أطلقت العنان للغضب الذي أكتمه بداخلي.

– «أنتم لا تملكون الحق في أن تحددوا لي من أتزوجه؛ لا أنت ولا والداي ولا الحكومة بالطبع. سأقوم بما أريد أن أقوم به، سوف أفعل ما أراه صوابًا، وكفى تنازلات!»

لم أكن قد رفعت صوتي هكذا من قبل، ولم أكن قد خاطبت أحدًا أكبر مني بتلك الوقاحة. أدركت أنني أسأت التصرف، فقد امتقع وجه هوشانج خان وغادر الغرفة، بينما انفجرت باكية. لن أدع الحكومة تخطط لي حياتي، لقد ألقوا بي في السجن وعذبوني معنويًّا وبدنيًّا، وأجبرت على اعتناق الإسلام والزواج من رجل لا أعرفه، وشاهدت أصدقائي يلاقون العذاب ويموتون. كل ما يهمني الآن أن أفعل الصواب وأثبت لهم أنه مع أنني أجبرت على اعتناق الإسلام فسوف أتزوج من الرجل الذي أحبه حتى ولو كان ذلك سيعيدني إلى السجن ويعرضني لخطر حقيقي. لن أتنازل تلك المرة، فلم يتمكنوا من تحطيمي، ولن ينجحوا في ذلك أبدًا.

وفي اليوم الذي ذهبت فيه مع أندريه لشراء خاتم الزواج، حاولت أن أخبره بشأن علي، وكنت على يقين من أنه سيتفهم الأمر. ظللنا ندور حول الواجهة الزجاجية لمحل المجوهرات نشاهد المعروضات. كان من حقه أن يعرف، وكنت أريد أن أخبره. لفت انتباهي خاتم ذهبي يبدو كأنه خاتمان متصلان، فطلبت أن أراه. أُعجب كلانا بالخاتم، وعندما عدنا إلى السيارة وجدنا مخالفة على زجاج السيارة الأمامي، وأخبرني أندريه بأن تلك المرة الأولى التي يحرَّر له فيها مخالفة مرورية، واستغرقنا في الضحك.

وفي طريق العودة إلى المنزل، فكرت من أين أبدأ حديثي. كان عليَّ أن أبدأ من البداية؛ منذ اللحظة الأولى التي خطوت فيها إلى «إيفين»، ثم أسترسل في سرد كل لحظة وكل حدث مر بي؛ لكن كلا، لا أستطيع القيام بذلك، لا يمكنني معايشة كل تلك الأحداث مرة أخرى.

•••

في ذلك الصيف ذهب والداي لقضاء بضعة أيام في المنزل الصيفي، ورافقتُهما أنا وأندريه. كان المنزل جميلًا هادئًا كما عهدته، ولكن السعادة التي كنت أستمدها من وجودي هناك لم تعد إلا ذكرى. وفي الصباح الباكر من اليوم الأول جريت إلى «صخرة الصلاة» بينما لا يزال الجميع مستغرقين في النوم. بدا كل شيء كما تركته؛ كانت الأشجار العتيقة تطاول عنان السماء وتتشرب أوراقها أشعة الشمس المشرقة. تبلل حذائي وسروالي بالندى، ورقدت على الصخرة أستشعر ملمسها الخشن الرطب على بشرتي، وتذكرت اليوم الذي صليت فيه أنا وأراش هنا. لقد تغير الكثير منذ ذلك الحين. أخرجت خاتم زواجي الأول من جيبي، وانحنيت بجوار الصخرة وحاولت أن أنتزع أحد أحجارها، ولكنها لم تتزحزح، حاولت جاهدة مرارًا وتكرارًا، ولكن الأحجار كانت متماسكة جدًّا، فآلمتني أصابعي، جريت إلى المنزل، فلم أجد صوتًا سوى غطيط أبي، مشيت على أطراف أصابعي إلى المطبخ وأحضرت سكينًا ثم عدت مسرعة إلى الصخرة، وتمكنت أخيرًا من اقتلاع ثلاثة أحجار، ووضعت الخاتم داخل التجويف المظلم وأعدت الأحجار مكانها، وتخيلت أن الخاتم محاط الآن بآلاف الدعوات.

•••

عندما عدنا إلى طهران أخبرتني أمي بأن أبي قد تبرَّأ مني عندما اعتنقت الإسلام. كانت تغسل الأطباق وهي تتحدث إليَّ ولم تنظر لي مباشرة، لم أفاجأ بذلك، لكني شعرت بالإهانة، توقعت أن أجد الحماية والأمان في منزلي، ولكن الأبواب أوصدت في وجهي، ويبدو أن الهوَّة التي تفصل بيننا قد زادت اتساعًا. جفَّفت أمي يديها وخرجت من المطبخ. حتى لو كنت قد صارحتها بأسراري، لم تكن لتقدر على أن تمنحني ما أحتاجه منها، فهي بحاجة لأن تتفهمني. كانت تلك طريقتها؛ نظرتها إلى العالم وأولوياته تختلف عن نظرتي تمامًا، لم أجرؤ على القول إنني المحقة وهي المخطئة؛ كل ما هنالك أن إحدانا تختلف عن الأخرى. عليَّ أن أتوقف عن توقع أن تفكر مثلي؛ علي أن أتقبَّلها كما هي، لأنني أريدها أن تفعل نفس الشيء معي. لم أفهم لمَ أخبرتني برد الفعل القاسي لأبي تجاه اعتناقي الإسلام، فلم يكن أبي قد تفوَّه لي بكلمة في هذا الشأن، لكني ظننت أنها قررت أني أحتاج إلى معرفة حقيقة مشاعره في تلك المسألة.

•••

ساعدتني أمي في التزين يوم زفافي لأندريه، وصنعت إحدى خالاتي لي ثوب الزفاف. لم أستطع حبس دموعي وأنا أخرجه من خزانتي، ولم أصدق أنني عشت حتى أشهد ذلك اليوم. نظرت من نافذة غرفة نومي إلى الزهور الوردية في الساحة الخلفية، وتلوت صلاة من أجل كل أصدقائي الذين أحببتهم وفقدتهم. كنت أفتقدهم جميعًا.

طويت ثوب الزفاف على مقعد بجوار النافذة، وتذكرت يوم زفافي لعلي وكم كنت خائفة، لكن اليوم كان مختلفًا، فاليوم يومي أنا.

تساءلت هل سيقدَّر لي ولأندريه أن ننجب. كنت أخشى الحمل مرة أخرى، وفكرت كثيرًا في اللحظات التي قضيتها مع طفلي في الحلم بعينيه الباسمتين وضحكاته ويده الصغيرة التي تقبض على شعري، وفمه الصغير الذي يمتص اللبن مني بنهم.

خرج أندريه في الصباح الباكر لشراء بعض الفواكه الطازجة والمشروبات الغازية كي نتناولها في الكنيسة. دعونا الضيوف للبقاء معنا بعد حفل الزفاف لتناول بعض الكعك والمرطبات في قاعة الكنيسة، وكي لا نلفت الأنظار قررنا أن أذهب إلى الكنيسة مبكرًا وأرتدي ثوب الزفاف هناك.

وبينما كان لحن الزفاف يصدح، اقتادني أبي عبر ممر الكنيسة، وشعرت بأن تلك أسعد لحظة في حياتي على الإطلاق. كانت سلال الزهور الضخمة التي تفيض بأزهار الجلاديوس البيضاء قد وضعت على المذبح، وأحاطت بنا الوجوه الباسمة.

التقطنا بعض الصور داخل الكنيسة وفي ساحتها الخلفية، وتناولنا الكعك وتبادلنا الحديث مع الضيوف، وسرعان ما حان وقت الذهاب إلى الشقة التي استأجرها أندريه بعد وفاة والده ورحيل عمته التي ربَّته إلى المجر. كانت الشقة تطل على جبال «ألبرز»، وتقع شمال طهران في مبنى متعدد الطوابق على تلال جوردان، يقع في مواجهة طريق جوردان. وقبل أن أخرج من الكنيسة ارتديت الوشاح والمعطف الإسلامي فوق ثوب الزفاف، ثم توجهنا إلى سيارة أندريه الزرقاء من طراز فيات. كان كلانا يشعر بالسعادة والخوف، والأمل يحدونا في غد أفضل، لأننا قررنا أن نحيا حياتنا كما نشاء.

***

بعد زواجنا مباشرة حصل أندريه على وظيفة في مصنع الكهرباء بطهران، وبعد شهرين استأجرنا شقة مشتركة مع والديَّ كي نتقاسم النفقات. كانت وتيرة الحرب التي دخلت عامها الخامس بين إيران والعراق قد بدأت تتصاعد. منذ أن بدأت الاشتباكات في شهر سبتمبر من عام ١٩٨٠ ظلت الحرب بعيدة عن طهران، فالمسافة التي تفصل بينها وبين العراق مصدر حماية لنا. تغيرت أسماء الشوارع في الأحياء المجاورة إلى أسماء الشهداء الذين لاقوا حتفهم على الجبهة. قبل أن أدخل «إيفين»، كانت عملية تغيير أسماء الشوارع تحدث رويدًا وريدًا ولم تكن ملحوظة، ولكن بعد إطلاق سراحي كان بوسعي أن أرى أنَّ الكثير من أسماء الشوارع أصبحت تخليدًا لذكرى شهداء الحرب.

قبل زواجي من أندريه بقليل بدأت الغارات الجوية على طهران وبعض المدن الكبرى الأخرى، وذات يوم، وقع الانفجار الأول في الصباح الباكر دون أي إنذار، فقد انفجر صاروخ في أحد الأحياء السكنية المجاورة التي تبعد عن منزل زينيا بأقل من ميلين، فأحدث ارتجاجًا هائلًا أيقظني من النوم، ومع أنني لم أكن أعلم وقتها مصدر هذا الصوت، فقد أدركت أن شيئًا رهيبًا قد حدث، ومنذ ذلك الحين ظلت صافرات إنذار الغارات الجوية تنطلق بضع مرات في اليوم وفي منتصف الليل، ومع أنه لم يكن هناك مخابئ للحماية من الغارات، ولم تهتم الحكومة ببنائها قط، فقد حاول الناس اللجوء إلى أماكن آمنة بعيدًا عن النوافذ، فمع كل هجوم بالصواريخ يتسبب الزجاج المحطم في إصابة وقتل الكثيرين.

أصبح الموت جزءًا من حياتي اليومية، ورحل من استطاعوا مغادرة المدينة إلى مدن وقرى صغيرة، لكن معظم الناس لم يكن لديهم مكان آخر يلجئون إليه. وعلى غرار النهر الذي يشق طريقه دائمًا إلى الأراضي المنخفضة حتى لو اضطر إلى شق الوديان، فقد عادت الحياة لطبيعتها بأقصر السبل في محاولة عنيدة لتحدي الخوف. عاد الآباء إلى أعمالهم وأرسلوا أطفالهم إلى المدارس، ولكنهم أصبحوا يطيلون فترة عناقهم قليلًا ويودعونهم بمزيد من الحرارة. دُمرت بعض المدارس بفعل الغارات الجوية، وقُتل المئات من الأطفال وهم يجلسون خلف طاولاتهم أو يلعبون في فناء المدرسة، وعلى الجبهة بدأ صدام حسين يستخدم الأسلحة الكيميائية مثل غاز الأعصاب وغاز الخردل، مما أدى إلى مصرع الآلاف من الأشخاص.

وعندما كنت أنا وأندريه نسير في المدينة كي نذهب إلى الكنيسة أو لزيارة أحد الأصدقاء، كنا نرى فجوة ضخمة في المكان الذي كان يحتله أحد المنازل في اليوم السابق، وأحيانًا كنا نرى درَجًا رفض أن يتهدم بين الأطلال يؤدي في مشهد غريب إلى الفراغ، أو حائطًا مغطى بورق الجدران المزين بالأزهار يلقي بظلاله على رماد الأرواح المفقودة.

•••

ذات صباح أحد أيام الأربعاء، بعد إطلاق سراحي من «إيفين» بنحو عامين، دقَّ جرس الهاتف عندما كنت أستعد للذهاب للتسوق وأحمل حافظة نقودي في يدي.

أجابني صوت غير مألوف: «هل يمكنني أن أتحدث إلى مارينا؟»

– «أنا مارينا.»

– «مارينا، أنا أتصل من إيفين.»

توقف العالم من حولي؛ وضعت حافظة نقودي على الأرض واستندت إلى الحائط.

– «عليك أن تحضري إلى «إيفين» يوم السبت كي تجيبي على بعض الأسئلة؛ احضري أمام البوابة الأمامية الرئيسية في التاسعة صباحًا، ولا تتأخري.»

– «أي أسئلة؟»

– «سوف تعلمين. لا تنسي الموعد، التاسعة صباحًا يوم السبت.»

لم أتمكن من الحركة، بل إنني لم أتمكن من وضع سماعة الهاتف مكانها، يبدو أن حياتي بعد «إيفين» كانت حلمًا، والآن حان الوقت كي أستيقظ من الحلم وأعود إلى الواقع، لكنهم على الأقل لم يطلبوا حضور أندريه. وأخيرًا وضعت السماعة وذهبت إلى غرفة النوم. لم يكن أحد بالمنزل، وقضيت بعض الوقت قبل أن أتمالك نفسي. حاولت أن أفكر فيما حدث، وأن أقنع نفسي بأن كل شيء على ما يرام، وبأنهم يراقبونني فحسب، ولكنني لم أتمكن من ذلك، شعرت بالإرهاق، فرقدت على الفراش واستغرقت في النوم، واستيقظت على صوت أمي وهي تناديني وتهز كتفي.

– «لماذا تنامين بالوشاح والمعطف؟»

للحظة لم أتذكر ما حدث، ثم أخبرتها بالسبب.

بدا وكأنها لم تفهم ما قلت جيدًا، فتساءلت: «ماذا قلتِ؟»

أعدت كلامي على مسامعها، فامتقع وجهها.

لم أستطع القيام بشيء سوى النوم، لم أستطع التفكير في «إيفين»، فلن يفيد التفكير شيئًا. عندما كنت أستيقظ ليلًا كي أذهب إلى دورة المياه أو أشرب، كنت أحيانًا أجد أندريه جالسًا بجواري وعيناه تحدقان في الفراغ ووجهه شاحب ممتقع وجسده ساكن تمامًا. كان يدرك أن لا شيء بيده، وأن عليه أن يدعني أذهب. حل السكون التام على المنزل، وبدا الصمت كأنه وحش مفترس قد ابتلعنا.

صباح يوم السبت ودَّعت أندريه وداعًا خاطفًا دون أن تلتقي أعيننا، ورفضت أن أعانقه، لأنني أعلم أنني لن أتركه إن عانقته. كنا قد اتخذنا قرارًا، وعلينا أن نتحمل تبعاته، فبالرغم من كل شيء كنت أدرك منذ البداية أن الأمور سوف تتطور إلى هذا الحد. أقلَّني أبي إلى بوابة «إيفين» الرئيسية، إذ رأيت أن وجود أندريه معي يمثل خطرًا كبيرًا. ظل أبي هادئًا، وطلبت منه أن يرحل في الحال، وراقبت سيارته وهي تختفي في أحد الشوارع الجانبية. تساءلت هل سيعذبونني، ولكن لمَ يعذبونني؟ من وجهة نظرهم كنت امرأة مسلمة ارتدَّت إلى المسيحية وتزوَّجتْ رجلًا مسيحيًّا، وهكذا فإنني أستحق الموت. لم يكونوا بحاجة لانتزاع أي معلومات مني، بل كان الأمر يتعلق بعقوبة الإعدام. قلت لنفسي: «سوف أموت وكرامتي مصونة.» وما إن خطر في بالي ذلك حتى أدركت أنني على حق ما دمت أفعل الصواب وأتبع ما يمليه عليَّ إيماني، كنت على يقين أيضًا بأنه مهما كان ما حدث لترانه فلا ريب أنها ماتت مرفوعة الرأس أيضًا.

أعدتُ إحكام الشادور وتقدمت نحو أحد الحرس الذين يقفون أمام البوابة وأخبرته بأمر المكالمة الهاتفية، فسألني عن اسمي، ودلف إلى المبنى، ثم عاد بعد بضع دقائق وطلب مني أن أتبعه. أغلق الباب المعدني الثقيل خلفي، ثم دخلنا غرفة صغيرة، فرفع سماعة الهاتف وطلب رقمًا، وقال: «إنها هنا.»

قد يكون هذا يومي الأخير في تلك الحياة، ربما كان حامد في الطريق كي يستقبلني، لكنني قطعت عهدًا على نفسي بأن أحافظ على رباطة جأشي. وأخيرًا فُتح الباب ودخل محمد، فتنهدت ارتياحًا.

– «مارينا، أهلًا بك. كيف حالك؟»

– «بخير، وكيف حالك أنت؟»

– «حمدًا لله بخير. اتبعيني.»

فاتبعته، ولم يطلب مني أن أضع العصابة على عيني. كانت الأزهار تملأ المكان، وبدت في غير موضعها في «إيفين». قادني إلى أحد المباني، ودخلنا غرفة بها مكتب وخمسة أو ستة مقاعد، ووجدت صورة للخميني تحتل الحائط.

– «اجلسي وأخبريني عن أحوالك منذ أن خرجت من هنا. ماذا كنت تفعلين؟»

– «لا شيء، كنت أدرس معظم الوقت وحصلت على شهادتي الثانوية.»

– «حسنًا، وماذا أيضًا؟»

– «لا شيء.»

فابتسم وهز رأسه وقال: «لقد وقعتِ في المشاكل مرة أخرى، وأعتقد أنك تعلمين عمَّ أتحدث، ولكنك سعيدة الحظ لأن لديك بعض الأصدقاء هنا. كان حامد ينوي شرًّا بك، ولكننا تمكننا من إيقافه.»

– «ماذا تعني؟»

– «لقد علم بأمر زواجك الثاني وحاول أن يستصدر حكمًا بإعدامك من محكمة الثورة الإسلامية، لكنك كنت تعلمين أن هذا قد يحدث، أليس كذلك؟»

– «بلى.»

– «ومع ذلك أقدمت على تلك الخطوة؟»

– «نعم.»

– «أتسمين هذا شجاعة أم حماقة؟»

– «لا هذا ولا ذاك. الأمر أني فعلت ما رأيته صوابًا.»

– «حسنًا، لقد حالفك الحظ تلك المرة، فالمتشددون مثل حامد يفقدون بعض نفوذهم في «إيفين» منذ فترة، وأعتقد أن اغتيال علي جعل البعض يدركون أن هؤلاء المتشددين قد تجاوزوا الحدود. كان عليٌّ قد طلب مني أن أحميك من الأخطار إن أصابه مكروه، ومع أنني أعارض ما فعلتِهِ فإنني أحترم رغبته، ولكنني لن أكرر ذلك مرة أخرى. لقد استدعيتك هنا كي أنبهك إلى ضرورة التفكير قليلًا قبل أن تتصرفي في المرة القادمة.»

– «أقدِّر لك ذلك.»

– «آل موسوي يسألون عنكِ منذ فترة، وقد أخبرتهم بأنك ستكونين هنا اليوم فأتوا لرؤيتك.»

فُتح الباب ودخلوا جميعًا، وسررت لرؤيتهم كثيرًا. كان عليٌّ الصغير قد كبر وأصبح طفلًا رائعًا يتعلم المشي، وأخذ ينظر لي بارتياب، وعانقتني أكرام ثم جلسنا جميعًا.

قال السيد موسوي: «إنني سعيد لرؤيتك بخير يا مارينا، هل أحوالك على ما يرام؟»

– «نعم، أشكرك.»

– «إذن فقد تزوجتِ مرة أخرى. هل أنت سعيدة؟»

– «نعم سيدي.»

– «أنت عنيدة جدًّا. كنت ستورطين نفسك في مشاكل عديدة لو لم نكن نراقبك.»

– «أعلم ذلك يا سيدي، وأشكرك شكرًا جزيلًا.»

– «ما زلتُ أحتفظ بنقودك، ويمكنك أخذها إن أردت.»

– «أشكرك، ولكنني لست بحاجة إليها.»

قالت أكرام لطفلها: «إنها خالتك مارينا يا علي، أعطها قبلة.» فتقدم نحوي ببطء.

– «تعالَ يا علي، ها قد كبرت!»

فاقترب مني وقبَّل وجنتي، ثم عاد مسرعًا إلى والدته.

بكت السيدة موسوي، فعانقتها. لولا وفاة علي لاختلفت حياتي تمامًا. عندها كانوا سيظلون عائلتي كما كانوا طوال خمسة عشر شهرًا. لم أكن أرغب في إيذاء علي بأي طريقة، وشعرت بالذنب لأنني لم أحبه ولم أكرهه، ولكن الأمر انتهى ولا يوجد ما يمكنني القيام به الآن، فقد ظلت مشاعري تجاهه مزيجًا من الغضب والإحباط والخوف والشك.

خرجت من «إيفين» وأوقفت سيارة أجرة. ما زلت على قيد الحياة. يبدو وكأن الموت يحاول أن يدفعني بعيدًا عنه، أن يحميني، ولم أستطع أن أفهم السبب. كان العالم يدور بي. لماذا بقيت على قيد الحياة في الوقت الذي لقي فيه الكثيرون حتفهم؟ لم يطلق سراح سارة بعد، وكان يجب أن أسأل السيد موسوي عنها، ولكنني لم أستطع التفكير بوضوح، وتساءلت هل سأتمكن من تقديم يد العون لها.

وعندما عدت إلى المنزل وفتحت الباب المؤدي إلى الساحة وجدت نفسي بين ذراعي أندريه، فعانقني عناقًا حارًّا وهو يرتجف.

– «حمدًا لله! حمدًا لله! هل أنتِ بخير؟ لا أصدق أنهم سمحوا لك بالخروج! ماذا حدث؟»

فأخبرته بأنهم يجرون تفتيشًا روتينيًّا مع كل سجناء «إيفين» السابقين.

– «وهل سألوك عما إذا كنت قد تزوجت؟»

كذبت عليه وقلت: «كلا، إما أنهم لا يعلمون أو أنهم قد علموا ولا يهتمون.»

– «وهل يعني هذا أننا لن نتعرض لمضايقتهم مرة أخرى؟»

– «لا أدري، ولكننا سنكون على ما يرام فترة على الأقل. لكن لا تنسَ أنه لا يمكن التنبؤ بما قد يفعلون غدًا.»

كنت على يقين من أنه لو حصل المتشددون أمثال حامد على مزيد من السلطة والدعم في «إيفين»، لتغير موقفي تغيرًا جذريًّا.

•••

كنت مرعوبة من الحرب؛ ليس بسبب الهجوم الذي نتعرض له بالصواريخ فحسب، ولكن أيضًا لأن أندريه سوف يذهب لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية خلال بضعة أشهر. سمعنا عن برنامج حكومي خاص يتيح للحاصلين على درجة الماجستير العمل بالتدريس في الجامعة في مناطق نائية مدة ثلاث سنوات بدلًا من أداء الخدمة العسكرية. كان هذا أملنا الوحيد كي يبقى أندريه بعيدًا عن الجبهة. كان قد حصل للتو على شهادة الماجستير، فقدم طلبًا للالتحاق بالبرنامج وحصل على الموافقة.

كان علينا الانتقال إلى «زاهدان» — وهي مدينة تقع في جنوبي شرقي إيران بالقرب من الحدود الباكستانية والأفغانية — كي يعمل أندريه محاضرًا في جامعة «سيستان وبلوشستان»، كان عليه أن يسافر إلى «زاهدان» قبل نحو شهر من بدء العمل كي يعدَّ الأوراق المطلوبة ويجري الترتيبات اللازمة، وذهبنا معًا لأنني لم أذهب إلى هذا الجزء من البلاد قط، وكان لديَّ فضول لرؤية منزلي الجديد.

استغرقتِ الرحلة من طهران إلى «زاهدان» نحو ساعة ونصف. وبينما كانت الطائرة تهبط في المطار نظرتُ من النافذة الصغيرة، بدا لي كأن الأرض دُفنت تحت كفن من الرمال، لاحظت وجود بقعة صغيرة خضراء على بعدٍ وشاهدتها تكبر وسط هدوء الصحراء الشاسعة، ظهرت المباني القرميدية والطينية من بين الرمال تطاول ظلال الأشجار القليلة المتناثرة.

هبطت الطائرة، وركبنا سيارة أجرة كي نشاهد المدينة. كانت أشعة الشمس — التي لم يقلل من تأثيرها تلوث الهواء أو الرطوبة — حارقة إلى حدٍّ لا يمكن احتماله، أما الطريق الذي يربط المطار بالمدينة فكان رائعًا على نحو غير متوقع، حيث يشق استواء الأرض كأنه ندبة قديمة. وفي وسط مدينة «زاهدان» وجدنا متاجر صغيرة على جانبي الشوارع الضيقة، وامتلأت الأرصفة برجال ونساء يرتدون الزي التقليدي من سراويل فضفاضة وقمصان طويلة للرجال وفساتين مطرزة يدويًّا تصل حتى الكاحل، وأوشحة كبيرة للنساء. لم أكن قد رأيت جِمالًا عن قرب من قبل، لكنني رأيت جملًا هناك يقف في الطريق يلوك شيئًا ويراقب حركة المرور بعينيه الكبيرتين اللتين يطل منهما الملل وكأنه قد رأى كل شيء من قبل. وفي الأحياء الحديثة الأكثر رقيًّا بنيت المنازل بالقرميد عالي الجودة، لكن كلما ارتحلنا شمالًا وجدنا المباني أصغر مساحة ومعظمها مبني بالطوب اللبن، وعلى الحدود الشمالية للمدينة توجد تلال صخرية شاهقة يبدو كأن بها ثقوبًا كفتحات الكهوف، وأخبرنا السائق بأن الناس حفروا تلك الكهوف كي يقيموا فيها. شاهدت مجموعة من الأطفال الحفاة يركضون خلف كرة بلاستيكية ممزقة تحت أشعة الشمس الحارقة وهم يضحكون، وسألنا السائق عن سبب زيارتنا، فأوضح له أندريه أنه أتى للتدريس في الجامعة.

فقال السائق: «لقد بنى الشاه الجامعة هنا، وأفادتنا تلك الجامعة كثيرًا، فهي تستقدم المتعلمين إلى هنا من طهران والمدن الكبرى الأخرى كي يشرفوا على تعليم أطفالنا والأطفال الآخرين القادمين من أماكن بعيدة.»

***

في مارس من عام ١٩٨٧، حزمنا حقائبنا أنا وأندريه وبدأنا رحلة الألف ميل إلى «زاهدان». بعد ساعتين بدت سيارتنا الصفراء الصغيرة طراز رينو وكأنها وحيدة في العالم. كانت الرياح الساخنة تلفح وجهي عبر النوافذ المفتوحة، وتطاير بحر من الرمال على الطريق محدثًا موجات ذهبية، وبعيدًا باتجاه الأفق اختفت الأرض تحت موجات من السراب الفضي المتراقص. لم يتغير المنظر أو ينعطف الطريق عدة ساعات، وعندما نتوقف كي نستريح أكتشف مدى هدوء الصحراء بدون طنين السيارة المتواصل. على شاطئ البحر يُسمع دائمًا خرير المياه حتى وإن كان الجو هادئًا، وفي الغابة يُسمع حفيف أوراق الشجر حتى وإن قررت كل الحيوانات أن تلتزم الصمت، لكن هنا كان الصمت مطبقًا. وعند المغيب اختفت الشمس عند حافة الأرض، وحل الليل رويدًا رويدًا في صمت ملطِّفًا من حدة الرياح الساخنة. شعرت كأن بإمكاني لمس النجوم اللامعة التي تملأ سماء الليل بأجسامها الدقيقة النابضة. لم يكن هناك أي انعكاس أو صدى للصوت، بل أرض بعيدة منسية، حتى إنها بدت خارج حدود الزمن.

كانت جامعة «سيستان وبلوشستان» قد أنشأت منطقة سكنية للمحاضرين بها على أرضها. لم تكن المنازل فاخرة، ولكنها مريحة ونظيفة وفي حالة جيدة. توفرت لدينا كل ضروريات الحياة، لكن مياه الصنبور كانت مليئة بالمعادن ولم تكن صالحة للشرب، فكان علينا أن نذهب إلى مصنع تنقية المياه الذي يبعد مسيرة عشر دقائق بالسيارة مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع كي نملأ بعض الآنية الكبيرة بمياه الشرب.

انشغل أندريه كثيرًا في عمله، فكان وقته موزعًا بين التدريس وإعداد الدروس وتصحيح أوراق الاختبارات عندما يكون في المنزل، وساعدني الوحدة والصمت اللذان تتمتع بهما الصحراء على أن أدع الماضي جانبًا، فقد انهمكت طوال اليوم في أعمال روتينية مثل التنظيف والطهو، وعندما كنت أنتهي من أداء تلك الأعمال أبدؤها من جديد. نادرًا ما كنت أستمع إلى المذياع، ولم أكن أشاهد التلفاز أو أقرأ الكتب. لم تعد هناك كتب لأقرأها، وخلافًا لما توقعت فإنني لم أفتقدها. كنت مرهقة فحسب، كأنني عدَّاءة في ماراثون ظلت تجري ساعات طويلة حتى تمكنت أخيرًا من الزحف إلى خط النهاية ثم انهارت. لم يكن عقلي يؤدي سوى المهام الضرورية، فكان يذكِّرني بالمهام البسيطة؛ دائمًا كانت الملابس مغسولة والأرضيات نظيفة والطعام معدًّا على المائدة في الوقت المحدد.

كان لأندريه زملاء عمل رائعون في الجامعة، وكنا نلتقي بهم وبأسرهم أحيانًا، وكانوا ودودين للغاية معنا. لم يكونوا يعلمون أي شيء عن ماضيَّ، وكنت أتبادل الحديث معهم عن أحدث وصفات الطعام وأحدث الأفكار لتزيين المنزل.

لم تكن الحرب قد وصلت إلى «زاهدان» التي كانت بعيدة تمامًا عن الحدود الإيرانية العراقية، لكن الهجوم بالصواريخ على طهران وسبع مدن أخرى ظل مستمرًّا. كنت أتصل بأمي يوميًّا كي أتأكد من أنها بخير، وعلى الرغم من روعة النوم الهادئ ليلًا دون أن تقطعه أصوات الانفجار التي تهدد حياتك، فقد شعرت كأني خائنة. ألححت على والديَّ أن يحضرا للإقامة معنا في «زاهدان» فترة، لكن أبي رفض متعللًا بأن عليه الذهاب إلى العمل، فطلبت منه أن يدع أمي تأتي على الأقل، لكنه أكد لي أنه لا داعي للقلق، فطهران مدينة كبيرة تتضاءل فيها كثيرًا احتمالات الإصابة بأحد الصواريخ. وذات صباح اتصلت بي أمي.

– «أمي، هل أنت بخير؟»

– «أنا بخير، ولكنني انتقلت للإقامة مع ماري بضعة أيام، فالمكان أكثر أمانًا هنا.»

كانت ماري تقيم في مبنى متعدد الطوابق لا يبعد عن شقة والديَّ بطهران، ولم يبدُ لي هذا الكلام منطقيًّا.

– «عم تتحدثين يا أمي؟ المكان هنا في «زاهدان» أكثر أمانًا. طهران ليست آمنة أينما ذهبت بها.»

– «صدقيني، المكان هنا أفضل.»

– «أمي، أخبريني بما يحدث الآن، وإلا فسوف أستقل أول طائرة وآتي بنفسي.»

– «ضُرب شارعنا صباح أمس.»

كان والداي يقيمان في ساحة صغيرة، ولو أن صاروخًا ضرب الشارع وأمي في المنزل، فلست أفهم كيف لم يصبها أذى.

– «أين هوى الصاروخ تحديدًا؟»

– «على أول منزل عند الناصية.»

هذا يعني أنه سقط على بعد أربعة منازل. كيف لم يصبها أذى؟

«لقد اختفى المنزل تمامًا، والآن لا يوجد مكانه سوى فجوة مظلمة كبيرة كأن المنزل لم يوجد قط. لم أكن أعرف تلك العائلة. كل ما أعرفه أنهم هادئون وفي مثل عمرنا تقريبًا. كان الرجل في العمل وقتها، وقُتلت زوجته وحفيده واثنان من المارة في سيارتهما، وأصيب بعض الجيران أيضًا، ولكنها ليست إصابات خطيرة، فلم يكن هناك الكثيرون في المنازل المجاورة، بل كان معظمهم إما في العمل أو ذهبوا للتسوق.»

حاولت أن أتخيل المشهد الذي وصفته أمي، لكنني لم أستطع.

تابعت أمي: «عاد الرجل إلى المنزل، فوجد أسرته قد رحلت، ولا يوجد سوى فجوة. انطلقت صافرة الإنذار قبل سقوط الصاروخ بدقيقتين. كنت في المطبخ أتبادل الحديث مع خالتك نيجار عبر الهاتف، فقالت لي: «إنها صافرة الإنذار، أغلقي السماعة وابحثي عن مكان آمن.» فدسست نفسي بين الثلاجة والخزانة، وحدث الانفجار. كان صوته مدويًّا، حتى إنني تخيلت أني قد انفجرت. بعدها هدأ كل شيء حتى ظننت أني قد أصبت بالصمم، فخرجت لأجد الزجاج متناثرًا في كل مكان وقد تحول بعضه إلى غبار مفتت، ورشقت القطع الكبرى في الحوائط كالسهام. ظل المنزل في مكانه، ولكنه تحول إلى خراب. لقد وجدت أجزاءً من باب خزانتك في الساحة الأمامية.»

•••

وضعت الحرب أوزارها أخيرًا في أغسطس من عام ١٩٨٨ عندما كنت حبلى في الشهر الرابع، فقد التزمت الحكومة الإيرانية بقرار مجلس الأمن، وأعلن وقف إطلاق النار بين إيران والعراق. لم ينتصر أحد في تلك الحرب، بل أزهقت فيها أرواح أكثر من مليون شخص.

ومن منتصف الثمانينيات إلى أواخرها، جمعت منظمة «مجاهدي خلق» نحو سبعة آلاف من أعضائها في العراق للانضمام إلى الجيش العراقي من أجل إضعاف الحكومة الإيرانية. لم أستطع أن أفهم كيف يمكن للمجاهدين أن يؤيدوا رجلًا مثل صدام الذي سفك دماء الكثير من الإيرانيين. وعقب وقف إطلاق النار هاجم مجاهدو العراق إمارة كرمانشاه غربي إيران، معتقدين أن بإمكانهم حشد التأييد اللازم لإسقاط النظام الإسلامي، لكن الحرس الثوري تمكن من تحقيق انتصار سهل عليهم، فقُتل الكثيرون منهم وانسحب الباقون إلى العراق، وبعدها أعدم المئات من سجناء «إيفين» بتهمة التعاطف مع المجاهدين.

•••

شعرت بالغثيان الشديد في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، وظللت أتقيأ كثيرًا، لكنني شعرت بالتحسن مع بداية الشهر الرابع. أخذ الجنين ينمو، وسرعان ما بدأت أشعر بحركته داخلي، وبكيت فرحًا بتلك التجربة، لأنني أدركت أنني أحببته أكثر مما تخيلت. كنت أتمنى أن أنجب لأندريه طفلًا موفور الصحة.

عرضت عليَّ أمي أن تأتي لتقيم معي بضعة أيام بعد الولادة. كان فراش الطفل جاهزًا وملابسه الصغيرة مطوية بعناية في الخزانة.

ذهبت إلى المستشفى كي أجري فحصًا بالموجات فوق الصوتية في نهاية الشهر الثامن من الحمل. كانت «زاهدان» مدينة صغيرة، وتصادف وجود طبيب أمراض النساء الذي كنت أتردد عليه بالمستشفى وقتها. اكتشفنا أن رأس الجنين كبيرة للغاية، وأكد الطبيب أن الجنين مصاب بموه الرأس، وهي حالة خطيرة تتجمع فيها المياه في جمجمة الجنين، أما طبيب الأشعة الذي أجرى الفحص بالموجات فوق الصوتية فأكد أن الحجم الكبير للرأس ليس كافيًا لتشخيص الإصابة بموه الرأس، وأن هناك أعراضًا أخرى لا بد من توافرها. رقدت على الفراش أستمع إلى الطبيبين وهما يتجادلان بشأن جنيني.

قال طبيب أمراض النساء: «علينا أن نحدث ثقبًا في الرأس، ثم نُخرج الطفل، فالأمر لا يستدعي إجراء عملية قيصرية.»

كنت قد نلت كفايتي أنا وأندريه. كنت خائفة وغاضبة، ولم أكن على استعداد لأن أدع طفلي يموت مرة أخرى. أردت الذهاب إلى طهران لأستشير طبيبًا آخر، لكنني كنت قد بلغت مرحلة متقدمة في الحمل ولن يسمح لي بركوب الطائرة، في حين كانت العودة إلى طهران بالسيارة خطرًا كبيرًا، فماذا لو قرر الطفل أن يخرج للحياة فجأة ونحن في الصحراء؟

كان لأحد زملاء أندريه صديق في مكتب الخطوط الجوية، فتمكن مستغلًّا نفوذه من أن يحصل لنا على تذكرتين للطائرة، وسرعان ما كنا في طريقنا إلى طهران حيث اصطحبتني إحدى بنات عمي إلى طبيب النساء.

ذهبت من المطار إلى المستشفى مباشرة، فطلب مني الطبيب إجراء فحص آخر بالموجات فوق الصوتية، ثم أخبرني بأن الجنين بخير، وكل ما في الأمر أن رأسه كبير قليلًا، ولكنه لا ينصح بالولادة الطبيعية، وهكذا حددنا موعدًا لإجراء الولادة القيصرية في الحادي والثلاثين من ديسمبر ١٩٨٨، ولكنني لم أكن أشعر بالارتياح التام. ماذا لو كانوا قد أخطئوا في التشخيص؟ كنت بحاجة ماسة لأن أحمل هذا الطفل بين ذراعي في هذا العالم؛ بحاجة لأن أطعمه وأسمعه يبكي؛ بحاجة لأن تشعر تلك الروح الجديدة بالأمان داخلي وأن تولد وأن تحيا.

ولد ابننا مايكل في الحادي والثلاثين من ديسمبر ١٩٨٨. عندما فتحت عيني بعد الإفاقة كنت أشعر بالألم الشديد والغثيان، وكان فمي جافًّا مريرًا. أخبرني أندريه بأن الطفل بخير، وعندما حملته بين ذراعي تذكرت شيدا وحزنها العميق عندما اضطرت لإرسال ابنها إلى والديها. الآن أستطيع أن أدرك شعورها الرهيب.

•••

توفي آية الله الخميني في الثالث من يونيو عام ١٩٨٩؛ كان مريضًا بالسرطان، وقد خضع لعملية جراحية لتوِّه، فأدرك الناس أن موته أصبح وشيكًا. كنت جالسة على فراشي في «زاهدان» أطعم مايكل الذي بلغ من العمر خمسة أشهر عندما سمعت تلك الأنباء في المذياع، وكان المذيع يبكي. مر في ذهني شريط ذكريات العامين اللذين قضيتهما في «إيفين» بسرعة البرق، كان من المفترض أن تقضي الثورة على سجن «إيفين»، لكنها لم تفعل، بل زادت من وطأة الرعب الصامت الذي يمارسه ومن دمويته. كان الخميني مسئولًا عن الفظائع التي ارتُكبت خلف تلك الأسوار، كان مسئولًا عن وفاة جيتا وترانه وسيرس وليلى ومينا وغيرهم الآلاف، مع ذلك لم يسعدني خبر وفاته، بل أشفقت عليه، فما الفائدة من إصدار حكم على شخص ميت؟ كنت على يقين من أن الشر بداخله لم يكن خالصًا، مثل علي، فقد سمعت أنه كان يستمتع بالشعر بل ينظمه، لقد غيَّر العالم، لكن أحدًا لن يدرك عمق ذلك التأثير إلى أن يتسنى للتاريخ الحكم على أفعاله ونتائجها بعد فترة مناسبة. دعوت لأراوح من فقدوا حياتهم بعد الثورة أن ترقد في سلام ولعائلاتهم أن تجد الشجاعة والقوة اللازمتين لاستمرار الحياة، وأن تجعل من إيران بلدًا أفضل.

استغرق طفلي الوسيم مايكل في النوم لا يدرك أن رجلًا يدعى الخميني قد غير حياة والديه، تساءلت كيف ستؤثر وفاة الخميني فينا وفي إيران، فقد ظن كثيرون أن الحكومة الإسلامية ستنهار دعائمها بعد وفاته، وأن الصراع على السلطة بين الطوائف المختلفة في الحكومة سوف يؤدي إلى سقوط الجمهورية الإسلامية.

كان الحر قائظًا يوم جنازة الخميني، وتدفق نحو تسعة ملايين شخص متشحين بالسواد في شوارع طهران يقصدون الطريق السريع الذي يؤدي إلى مقبرة «بهشت زهرا». شاهدنا التغطية في التلفاز، لم أشاهد حشدًا كبيرًا هكذا من قبل، أخذوا يبكون ويصرخون ويضربون صدورهم بأيديهم كعادة الشيعة في بكاء شهدائهم. كل ما خطر في بالي وقتها تلك الأرواح البريئة الشابة التي أزهقت في الثورة وخلف أسوار «إيفين»، لكن أولئك النائحين لم يَبدُ عليهم التأثر بذلك الأمر، فقد كان الخميني إمامهم وقائدهم وبطلهم والرجل الذي واجه الغرب بطريقته المميزة في التحدي والصمود. حاولت أن أفهم لمَ يحبونه هكذا، هل وصلت كراهيتهم للغرب إلى هذا الحد حتى إنهم لا يمانعون في تعريض أبنائهم الأبرياء للسجن والقتل؟ ربما لم يكن لارتباطهم به علاقة بالحب، لكنه الإعجاب الممزوج بالرهبة نحو رجل من عائلة فقيرة تمكنوا من خلاله من الوصول إلى السلطة والقوة لمواجهة العالم الذي طالما أرهبهم.

أحاطت الحشود بالشاحنة التي تحمل النعش الخشبي الذي يحتوي جسد الخميني، أراد الجميع الإمساك بجزء من الكفن كي يلقوا نظرة أخيرة عليه، بدت الشاحنة كأنها تغرق وسط الحشود المتشحة بالسواد، وجاهدت قوات الأمن كي تبعد الجموع الحزينة عن طريق رشهم بخراطيم المياه، ولكن من دون فائدة. وتحت ستار من الضباب والغبار والحرارة غطى هدير طائرة مروحية على الصرخات والنحيب وهي تقترب من الشاحنة وتهبط أمامها، وأُخرج منها نعش الخميني كي يُنقل إلى الطائرة، ولكن الحشود تشبثت بالنعش حتى انكسر، وامتدت الأيدي تمزق أجزاء من الكفن الأبيض حتى ظهرت ساق الخميني بارزة، وأخيرًا نُقلت جثته إلى الطائرة التي اضطرت إلى أن تتمايل إلى أعلى وإلى أسفل كي تتخلص من الحشود التي تشبثت بها وتدلت من جانبيها.

وبعد بضع ساعات أجريت محاولة أخرى أكثر تنظيمًا لدفن جثة الخميني، وكانت محاولة ناجحة، فقد اقتربت بضع طائرات مروحية عسكرية من الموقع، وخرج من أحدها تابوت معدني، ووضعت فيه جثة الخميني المغطاة بالكفن، فالتقاليد الشيعية تحتم دفن الموتى في الأرض مباشرة بلا شيء سوى الكفن، وأخيرًا دفن الخميني بين آلاف الشهداء.

•••

مرت الشهور، ولم يتأثر النظام الإسلامي بعد وفاة الخميني، فقد حل محله آية الله علي خامنئي بوصفه المرشد الأعلى للبلاد، وكان قد شغل منصب الرئيس لفترتين رئاسيتين، وهكذا استمر عصر الرعب. قلت أعداد المعتقلين، ليس بسبب زيادة مساحة الحرية، ولكن لأن الجميع أصبحوا يعلمون ضريبة معارضة النظام، أما من كانوا يجرءون على رفع صوتهم فكانوا غالبًا يخرسون في الحال. مرت أحوال المرأة بمراحل من الصعود والهبوط، فكل بضعة أشهر كان الحرس الثوري يحكمون قبضتهم ولا يتهاونون إطلاقًا في ارتداء الحجاب غير الشرعي أو وضع مساحيق التجميل، ثم تأتي بضعة أسابيع يمكن للمرأة فيها أن تخرج وهي تضع أحمر الشفاه أو تظهر بضع خصلات من شعرها.

***

ومع أنني أنا وأندريه كنا على يقين من أننا لن نجد الأمان في إيران، فلم نتمكن من مغادرتها؛ فعندما أطلق سراحي من «إيفين» أُخبرت بأنه لن يسمح لي بمغادرة البلاد مدة ثلاثة أعوام، ولم يرفع الحظر تلقائيًّا بعد انقضاء الأعوام الثلاثة، بل كان عليَّ أن أقدم طلبًا للحصول على جواز سفر، ثم يعطيني مكتب الجوازات خطابًا أحمله إلى «إيفين» كي أحصل على تصريح بمغادرة البلاد، ولم يكن مسموحًا لأندريه بمغادرة البلاد حتى يتم أعوامه الثلاثة في «زاهدان»، بينما كان موقفي أكثر تعقيدًا، ولكنني لن أتيقن من ذلك حتى أحاول.

تقدمت بطلب للحصول على جواز سفر، ورُفض الطلب كما توقعت، فأخذت الخطاب من مكتب الجوازات كي أقدمه إلى «إيفين»، حيث أُخبرت بأنني لن يسمح لي بمغادرة البلاد ما لم أدفع نصف مليون تومان، أي ما يوازي ٣٥٠٠ دولار أمريكي وديعة لضمان عودتي، فإن عدت خلال عام سوف أستعيد نقودي، وإن لم أعُد فسوف تذهب تلك النقود إلى خزانة الحكومة. وفي ذلك الوقت لم يكن مرتب أندريه يتجاوز سبعة آلاف تومان في الشهر؛ أي ما يوازي ستين دولارًا أمريكيًّا، ومن ثم لم نكن نملك المال اللازم.

طلبت من أبي أن يقرضنا المال، فقد ظللنا ندفع نصف إيجار المنزل لوالديَّ حتى بعد أن انتقلنا إلى «زاهدان» على سبيل المساعدة، وكان والدي قد باع المنزل الصيفي، ويملك ضعف المبلغ الذي أحتاجه في البنك.

– «أبي، أرجو أن تقرضنا النقود التي نحتاجها، فأنا لم أطلب منك أي نقود من قبل، وعندما نتمكن من العثور على دولة حرة تقبل استضافتنا ونجد عملًا بها فسوف نرد الدين تدريجيًّا.»

– «هل تظنين أن الحياة سهلة بالخارج؟ الحياة صعبة! فكيف تضمنين تحقيق النجاح؟»

– «أضمنه لأننا مجتهدان، ولأن الله عظيم، وسوف يساعدنا.»

فضحك والدي وقال: «سوف أقص عليك قصة بسيطة: ذات مرة انطلق صيادان في قارب صغير، وكان الجو جميلًا والبحر هادئًا عندما غادرا الشاطئ، ولكن عندما أوغلا في البحر ساءت حالة الجو وسرعان ما هاجمتهما عاصفة، فسأل أحدهما الآخر وقاربهما تتقاذفه الأمواج: «ماذا نفعل الآن؟» أجاب الثاني: «علينا أن ندعو الله كي ينقذنا لأنه عظيم قادر على أن ينجينا من تلك الأزمة.» فأجاب الأول: «قد يكون الله عظيمًا يا صديقي، ولكن القارب صغير بالتأكيد.» وغرق كلاهما في البحر.»

لم أصدق ما سمعته من والدي، مع أنه لم يكن يعلم تفاصيل ما حدث لي في السجن، فقد كان يعلم أني كنت سجينة سياسية، وأن لا مستقبل لي في إيران، كان عليَّ أن أحيا خائفة، وبسبب ملفي السياسي لم يكن مسموحًا لي بالالتحاق بالجامعة، كنت بحاجة إلى المساعدة، وهو قادر على مساعدتي، ولكنه رفض تقديمها لي.

– «أنت تهتم بالمال أكثر مما تهتم بي! لقد أخبرتك أنني سأسدد لك هذا الدين، ولم أكن لأطلب منك هذا الطلب ما لم أكن في أمسِّ الحاجة.»

– «كلا.»

كان عليَّ أن أواجه حقيقة أبي المُرَّة، فهو لن يقدِّم أي تضحيات من أجلي، ولم أكن أعرف السبب الذي يجعله كذلك. طالما شعرت بمسافة تفصل بيننا، لكنني تجاهلتها لاعتقادي أنه لا يستطيع التعبير عن مشاعره فحسب، فلا أذكر أنه أبدى عاطفة تجاه أحد، ولا حتى أمي أو أخي، ظللت أراقب بطرف عيني آباء يحبون بناتهم ويعبرون عن مشاعرهم لهن علانية؛ آباء يقدمون تضحيات هائلة لأبنائهم، ونبذتُ فكرة أن والدي يختلف عنهم، بل ظللت أتظاهر بأنه طيب كريم محب.

خطر في بالي السيد موسوي، وكنت على يقين من أنني لو اتصلت به هاتفيًّا فسوف يعطيني النقود التي تركها لي علي، ولكنني لم أكن أرغب في فعل ذلك، فأنا أريد طي صفحة الماضي. تمنيت لو كانت عائلتي تعاملني مثل عائلة علي، ولكنني كنت على يقين من أن تلك الأمنية لن تتحقق.

كان والد أندريه قد عمل في مصنع للأثاث في السنوات الأخيرة من حياته، وبمساعدة صاحب المصنع تمكن هو وبعض العمال الآخرين من استثمار أموالهم في قطعة أرض لبناء مبنى سكني، وعندما توفي والد أندريه لم يكن المشروع قد بدأ بعد، ولكن أندريه استثمر المزيد من الأموال به. وذات يوم تلقينا مكالمة هاتفية من سيدة كانت تعمل في المصنع وأخبرتنا أن العمل في المبنى قد بدأ، وعندما أخبرناها أننا نستعد لمغادرة البلاد وأننا نمر بضائقة مالية، عرضت أن تشتري نصيبنا وتدفع لنا ما يزيد عن المبلغ الذي استثمرناه بنصف مليون تومان، وكان هذا كل ما نحتاجه.

حصل أندريه على جواز سفره فور انتهاء أعوامنا الثلاثة في «زاهدان»، وذهبت إلى «إيفين» فأودعت المبلغ وحصلت على جواز سفري. كنا قد سمعنا عن وكالة للاجئين في مدريد، وقررنا الذهاب إلى إسبانيا، فاشترينا تذاكر الطائرة وبعنا ممتلكاتنا القليلة واشترينا بها دولارات أمريكية. لم يكن هناك ضمان حقيقي لسفرنا، فقد سبق أن منع الحرس الثوري كثيرًا من حاملي جوازات السفر السليمة من مغادرة البلاد بعد وصولهم إلى المطار. لن نشعر بالحرية قبل أن تعبر الطائرة الحدود الإيرانية.

تحدد موعد الرحلة صباح الجمعة السادس والعشرين من أكتوبر عام ١٩٩٠، واتفقنا مع والديَّ أن يصطحبانا إلى مطار طهران في منتصف الليل. بكى مايكل الذي كان قد قارب الثانية من عمره وتذمر وأنا ألبسه ثيابه، لكنه استغرق في النوم فور أن تحركت السيارة. كانت المدينة مهجورة، وراقبت الشوارع المألوفة وهي تطوى بسرعة، بدءًا من شوارع «داووديه» السكنية الضيقة حيث أقمنا بعد العودة من «زاهدان»، إلى الشوارع الكبرى الرئيسية التي تصطف على جانبيها المتاجر. لديَّ ذكريات في كل شارع وكل ركن، فقد ساهمت حياتي في إيران في تشكيلي، هأنذا أرحل تاركة خلفي أجزاء من قلبي وروحي؛ لقد مات أحبائي في تلك البلاد، وعليَّ أن أغادرها، فلا مستقبل لنا هنا، لا شيء سوى الماضي، كنت أود لو رأى أطفالي منزلي الذي نشأت به، والطريق الذي كنت أسلكه في الذهاب إلى المدرسة، والحديقة التي كنت ألعب بها، والكنيسة التي أمدتني بالإيمان والطمأنينة، وددت لو أريتهم بحر «قزوين» الأزرق، والجسر الذي يصل بين جانبَي الميناء، وحقول الأرز التي تقع على سفوح الجبال الشاهقة، وددت لو رأوا الصحراء وتعرفوا على ما تبثه في النفس من حكمة وعزلة، ولكنني أدركت أنهم على الأرجح لن يروا أيًّا من ذلك، فلم نكن ننوي العودة.

ما إن اجتزنا ميدان «أزادي» بنصبه التذكاري الأبيض الشاهق — أحد معالم طهران، بُني في عهد الشاه وأصبح بوابة للمدينة — أدركت أنه الوداع الأخير، فألقيت نظرة أخيرة على قمم جبال «ألبرز» المغطاة بالثلوج التي ظهرت بالكاد تحت سماء الليل.

وفي المطار أوقفنا السيارة وسرنا نحو البوابة صامتين. كنا قد ذهبنا مبكرين عدة ساعات بسبب الإجراءات الأمنية الطويلة، فالحرس الثوري يفتحون الأمتعة ويفتشونها تفتيشًا دقيقًا، وكان ممنوعًا حمل الآثار أو الكثير من المجوهرات أو مبالغ كبيرة من المال خارج البلاد، لكن كل شيء مر بسلام، ولوَّحت أودِّع والديَّ، ونحن جميعًا نبكي.

أقلعت طائرتنا التابعة للخطوط السويسرية في الصباح الباكر، وبعد فترة وجيزة كنا قد عبرنا الحدود، ونزعتْ معظم النساء حجابهن ووضعن مساحيق التجميل. ظللت أستمع إلى هدير المحركات الرتيب، وأغلقت عيني وتساءلت هل بالجنة مكان توضع فيه «المفقودات»، فقد نسيت إحضار الكثير من الأشياء، منها صندوق مجوهرات فضي كانت جدتي تستخدمه لتخزين السكر وتحتفظ به على مائدة المطبخ، وكان هدية من زوجها، كنت على يقين من أنها في كل مرة تضيف فيها السكر إلى الشاي تتذكر الأوقات التي قضياها معًا، وهناك أيضًا ناي أراش والعقد الذي لم تسنح له الفرصة لإعطائي إياه، وخاتم زفافي الأول. ربما لم أفقد تلك الأشياء، ويومًا ما سأعثر عليها جميعًا تحت «صخرة الصلاة» بأحجارها المغطاة بالطحالب في غابة غريبة تسكنها الملائكة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤