حوار مع مارينا نعمت

 أخبرينا عن عملية الكتابة. هل كانت عملية تلقائية، بمعنى أنك جلستِ وبدأتِ تكتبين؟ أم أنك فكرتِ في التسلسل الزمني للأحداث أولًا؟ وهل استعنت بأي أدوات (مثل الصحف أو الصور أو الخطابات) تساعدك في تذكر الأحداث، أم أنك اعتمدت على ذاكرتك فحسب؟

لم أخطط لأي شيء؛ كنت أشبه ببركان خامل انفجر بعد سنوات طويلة. كتبت أولًا أجزاء متفرقة من ذكرياتي، ثم شعرت بالحاجة إلى تنظيمها فبدأت أكتب وفق الترتيب الزمني للأحداث. كان عليَّ أن أسترجع خطواتي، ولم يكن لديَّ ما أعتمد عليه سوى ذاكرتي، ولكنني أدركت أن بوسعي الاعتماد عليها، فالأحداث المؤلمة المؤثرة لا تمحى من الذاكرة أبدًا.

 في أولى صفحات الكتاب تتحدثين عن سيدة إيرانية أخرى تدعى باريسا مرت بتجربة مماثلة في إيران وقررت ألا تتحدث عنها. هل شعرت بالندم على قرارك بسرد قصتك؟ وكيف أثر سردها على علاقتك بزوجك وأبنائك؟

لم أندم على هذا القرار قط، بل شعرت كأني في غيبوبة حتى بدأتُ الكتابة؛ كأني أسير نائمة منذ عدة سنوات. منذ إطلاق سراحي من السجن وحتى بدأتُ كتابة قصتي، بدا لي العالم بعيدًا غامضًا، كنت قد أصبحت مجرد قوقعة تضم شخصيتي الأصلية، وفور أن بدأت الحديث والكتابة عن ذلك الأمر، ومع أنه كان شديد الصعوبة والإيلام، شعرت أخيرًا بأنني حية. ولا شك أن كل ذلك قد أثر على علاقتي بزوجي؛ فليس لديَّ الآن ما أخفيه، ولم أعد أشعر بالذنب لإخفائي الحقيقة. لقد انزاح من فوق كاهلي ثقل الصمت. بعد أن قرأ أندريه المخطوطة، نظر إليَّ كأنه يراني للمرة الأولى، ولكنه تفهَّم سبب صمتي وأهمية سرد قصتي. أبنائي أيضًا شعروا بالتغيير الذي حدث، وأعتقد أنهم يشعرون بالسعادة لعودتي إلى نفسي الحقيقية.

 في الجزء الأكبر من المذكرات تلعبين دور الراوية في مرحلة المراهقة. كيف استعدتِ التواصل مع ذاتك في مرحلة المراهقة، وخاصة أثناء الصراع مع تلك الذكريات المؤلمة؟ وإلى أي مدى تعتقدين أن ذكرياتك وشعورك بالتجارب التي مررتِ بها قد تغيرا بعد أن أصبحت امرأة ناضجة؟ وماذا كانت أكثر الذكريات صعوبة لك في معايشتها؟

كنت أحمل ذاتي المراهقة داخلي طوال الوقت كما قلت سابقًا، كأني في غيبوبة، وكان النوم ملاذي دائمًا، وأعتقد أنني توصلت إلى أن جانبًا مني قرر ألا يستيقظ أبدًا، ولكن جسدي ظل يعمل كالمعتاد، ويتظاهر كالجميع بأن كل شيء على ما يرام. أعتقد أنني نضجت نوعًا ما في سن الثالثة عشرة عندما اندلعت الثورة وفقدتُ أراش، فالصدمة والحزن يرهفان حدة الذاكرة إلى حد مزعج، لكن ردود أفعال من يعانون متلازمة اضطراب ما بعد الصدمة تختلف، فبعضهم لا يستطيع النسيان ويصاب بالكوابيس والاكتئاب، والبعض الآخر يغلق صندوق ذكرياته ويظن أنه قد نسي الماضي، لكن الحقيقة أن تلك الذكريات لا تُمحى، ولا بد للمرء أن يواجهها كي ينجو منها. عندما واتتني الجرأة لفعل ذلك استحوذتْ عليَّ ذاتي المراهقة وفعلتْ ما كانت تتوق إلى فعله، ومع أن نظرتي للعالم قد أصبحت أكثر نضجًا، فإنني لم أتغير كثيرًا عما كنت عليه وأنا في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة؛ الفرق الوحيد أني أصبحت أكثر فهمًا لنفسي وثقة بها.

 أثناء مراسم اعتناقك الإسلام قلت: «كنت أنتظر غضب الله؛ تمنيت أن تضربني صاعقة من البرق وأنا واقفة في مكاني.» هل أثر اعتناقك للإسلام قسرًا على إيمانك بالمسيحية؟ وهل فوجئتِ برد فعلك القوي تجاه اعتناقك الإسلام، وخاصة بشأن خوفك من العقاب الإلهي؟ وما الدين الذي تعتنقينه حاليًّا؟

كنت في السابعة عشرة عندما أُجبرت على اعتناق الإسلام، وكان إيماني جزءًا مهمًّا من شخصيتي دائمًا، فكنت أقرأ طوال حياتي قصصًا خيالية يؤيد فيها الأبطال الخير والصواب ويرفضون الاستسلام، واعتقدتُ أنني خنت الله عندما تحولت عن ديني، مما جعلني أدرك أنني لست بطلة، فشعرت بالخزي، ورغبت في أن يصيبني عقاب الله وغضبه لأنني شعرت بأنني أستحقه. أنا كاثوليكية، وهو المذهب الوحيد الذي كنت وما زلت أعتنقه فعليًّا، ولكني أفضل القول إني مسيحية، فأنا أؤمن بالحب والتسامح. أكنُّ احترامًا جمًّا للإسلام أيضًا، والعديد من أصدقائي الرائعين مسلمون. في العصور الوسطى ارتُكبت فظائع كثيرة باسم المسيح والمسيحية، لكن هذا لا يجعل من المسيحية دين عنف، وأعتقد أن نفس الشيء ينطبق على الإسلام.

 خلال مذكراتك شعرتِ بالذنب لأنك أُنقذتِ من الإعدام. هل تمكنتِ من التغلب على هذا الشعور؟ وعند زيارتك لقبر علي، تذكرتِ كلًّا من ترانه وسيرس وجيتا، وقلتِ إن «حياتي تخصهم أكثر مما تخصني». أما زال يراودك نفس الشعور؟

لا أعتقد أن ناجيًا من الموت يمكنه أن يتغلب على الشعور بالذنب، لكنني واجهته. أشعر بالذنب لأني عشت في الوقت الذي مات فيه كثيرون. هل كنت أستحق الحياة أكثر منهم؟ كلا. هل كانوا يستحقون الموت؟ كلا. ظللت أعوامًا عديدة أحاول الهروب من هذا الشعور بالذنب، حتى أدركت ذات يوم أن عليَّ أن أستدير وأن أواجهه بعيون مفتوحة. نعم، حياتي تخصهم، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي تجعل لحياتي معنى، فقد عشت كي أتأكد من أن أحدًا لن ينساهم.

 في أواخر الكتاب تقولين عن علي: «ظلت مشاعري تجاهه مزيجًا من الغضب والإحباط والخوف والشك.» هل تغيرت مشاعرك تجاه علي خلال الأعوام التالية؟ وبمَ تريدين أن تخبري القارئ عن علي وعلاقتك به؟

حتى الأشخاص «الطبيعيون» يصيبهم الارتباك أحيانًا بشأن علاقاتهم، وما زال يلتبس عليَّ الأمر بشأن مشاعري تجاه عليٍّ، فقد أنقذني من الموت وأحبني بطريقته الخاصة وهددني وتزوجني واغتصبني واعتنى بي وانتزعني من كل ما أحبه ومنحني عائلة مساندة لي لم أحظَ بها قط، ثم أنقذني مرة أخرى وهو يحتضر. وأثناء الكتابة حاولت جاهدة أن أجعل القارئ يشعر بما مررت به، لا عن طريق الاستنتاجات وإصدار الأحكام، ولكن عن طريق رواية الأحداث ورسم خريطة المشاعر الإنسانية المعقدة التي غالبًا ما تقدم لنا المزيد من الأسئلة لا الإجابات.

 لماذا تعتقدين أنك أحببت عائلة عليٍّ بالرغم من شعورك بالذنب والارتباك؟ وهل أمدَّتك مشاعرك تجاههم بأمل في المستقبل أم دفعتك إلى مزيد من اليأس؟

أحببتهم لأنهم منحوني الحب والدعم في عالم بارد مظلم. كنت فتاة صغيرة متلهفة على الحب والاستقرار، لكن حبي لهم لم يمدني بأي أمل في المستقبل؛ على الأقل ليس المستقبل الذي كنت أتمناه لنفسي. في بداية الأمر كنت كمن يغرق في الرمال المتحركة، فقد قاومت الشعور بحبهم، لكن ما إن أحببتهم حتى اكتشفت أن هناك متنفسًا، وهو ما أربكني إلى حد تعجز الكلمات عن وصفه.

 عندما أعطتك جدتك قصة حياتها، قالت: «أريدك أن تحتفظي بها وأن تتذكريني.» كيف أثَّرت كتابة جدتك على كتابتك الشخصية؟ وهل تعتقدين أنك كنت ستشعرين بالحاجة إلى كتابة قصتك لو لم تعطِكِ قصتها؟

لقد شعرت بتأثير جدتي عليَّ كثيرًا، فمنذ أن ترجمتُ قصتها شعرت بأنني أحيا حياتها مرة أخرى بطريقة ما، لكني أعتقد أنني حصلت على فرصة لتحسين الأوضاع، وأعتقد أنني كنت سأكتب قصتي حتى لو لم تكن قد أعطتني قصتها، فطالما كان الأدب جزءًا مهمًّا من حياتي.

 عندما أُطلق سراحك من «إيفين»، هل شعرتِ بأي قلق يراودك بشأن حقيقة مشاعرك تجاه أندريه خارج أسوار السجن؟ وماذا كان الجزء الأصعب في بداية علاقتك به؟

طالما كان حبنا بريئًا، ولم يكن مخططًا له أو مقصودًا بأي شكل. حالتنا مختلفة، ومنذ أن التقينا أدركنا أن أحدنا ينتمي إلى الآخر. أثناء وجودي في «إيفين» كان حبي لأندريه طاقة النور الوحيدة التي تمدني بالأمل وسط الظلام الدامس. كان هو الشيء الوحيد الذي أملكه وأثق به، لكن مع كل هذا، ومع أنني لم أجرؤ على الاعتراف لنفسي بذلك صراحة، فقد أدركت وأنا عائدة إلى المنزل بعد خروجي من «إيفين» أن هناك احتمالًا ألا يرغب في بعد الآن. كان وجوده في الكنيسة عندما اصطحبني عليٌّ للزيارة هو ما منحني الأمل، فقد اختار أندريه أن يذهب إلى هناك لأنه أراد ذلك، لا لأنه اضطر إلى ذلك، وهو تصرف شجاع منه. أصعب ما واجهناه في استئناف علاقتنا بعد خروجي من السجن أنني لم أستطع إخباره بحقيقة ما حدث لي في «إيفين»، فكانت هناك أسرار بيننا، وهناك جزء مني لا يعلم عنه شيئًا على الإطلاق، لكن بدا لي أن أحدًا لا يريد معرفة أي شيء عن الماضي، فتظاهرت بألا مشكلة في الاحتفاظ به لنفسي.

 عندما هاجر ألبرت صاحب المكتبة إلى الولايات المتحدة، قلت إنك شعرت بأن الفراق «موجع أبديٌّ مثل الموت». هل راودك نفس الشعور عند مغادرتك إيران؟ وهل ما زلت على اتصال بوالديك أو أصدقائك بعد أن غادرت البلاد؟ وهل فكرت في العودة إلى إيران مستقبلًا؟

بالفعل، شعرت بأن مغادرة إيران وداع أبدي، وراودني شعور بأنني لن أتمكن من العودة أبدًا، ليس لأنني لن أرغب في ذلك، ولكن لأنه لن يُسمح لي بذلك على الأقل دون أن أتعرض للسجن. ظللت على اتصال بوالديَّ، ولكنني توقفت عن الاتصال بأصدقائي، لأنني لم أرغب في جلب المتاعب لأحد. ما زلت أزور إيران كل ليلة تقريبًا في أحلامي، فأذهب إلى منزل أسرتي الصيفي الذي يطل على بحر «قزوين» كما كنت أفعل في الأيام الخوالي، وألتقي بأصدقائي الذين ماتوا منذ أعوام طويلة والذين فقدت أخبارهم منذ زمن بعيد. توفيت أمي في مارس من عام ٢٠٠٠، وغالبًا ما تزورني أيضًا في الأحلام، حيث أتجول حول المنزل وأجلس على «صخرة الصلاة» وأشاهد غروب الشمس وأنا واقفة على الشاطئ.

 في الفصل العاشر، تسألين: «هل يعرف العالم عنا أي شيء؟ هل يحاول أحد إنقاذنا؟ في أعماقي كنت أعلم أن الإجابة على كلا السؤالين هي «لا».» هل ما زلت تعتقدين أن المجتمع الدولي ينقصه الإلمام بقصتك وقصص مشابهة؟ وبمَ تشعرين حيال ذلك؟ وماذا تأملين من نشر قصتك؟ وماذا يمكن لقرائك أن يفعلوا لزيادة الوعي؟

بعد أن قضيت خمسة عشر عامًا في كندا، يضايقني أن الناس لا يعرفون سوى القليل عن حياة الآخرين في دول أخرى. يتصدر الشرق الأوسط دائمًا عناوين الأخبار، ولكن ما لا يدركه الناس أن الضحايا الذين يشاهدونهم على شاشات التلفاز بشر مثلهم لهم أحباء ينتظرونهم، فهم إما أزواج أو زوجات أو أمهات أو آباء أو أشقاء أو شقيقات أو أبناء، والتجربة الإنسانية هي الأهم، وما لم يعترف الجميع بتلك التجربة التي غالبًا ما تكون صادمة في معظم أنحاء الشرق الأوسط ويتعاملون معها معاملة إنسانية رحيمة، فسوف تتحول إلى شعور بالغضب والكراهية والعنف وتقضي على العالم تدريجيًّا بمرور الوقت. قصتي هي قصة جيل الثورة الإسلامية، أو بالأحرى الجزء غير المروي منها. إنها قصة المراهقين الذين رغبوا في أن يجعلوا إيران مكانًا أفضل ولكنهم سقطوا بعدها في شراك حريق هائل خرج عن السيطرة وجلب لهم السجن والتعذيب والموت بدلًا من الحرية والديمقراطية، بينما ظل العالم يشاهد الأحداث في صمت. أولًا، أود أن تصبح قصتي تخليدًا لذكرى قتلى الثورة الإسلامية، قبل قيامها وخلاله وبعد أن قامت، وقبل كل ذلك تشجيعًا لكل الناجين من «إيفين» على الخروج عن صمتهم والحديث عما جرى لهم. لا أمثل السجناء السياسيين في إيران بأي حال من الأحوال، بل إنني واحدة منهم فقط، فأمر السجناء السياسيين في إيران معقد للغاية، وهو بحاجة للتناول والدراسة من زوايا عديدة بقدر الإمكان بحيث نتمكن في نهاية الأمر من الحصول على صورة واضحة لما حدث. وأود أيضًا أن يعرف العالم أن «إيفين» ما زال موجودًا، وأن الناس ما زالوا يعانون ويموتون خلف أسواره، وعلى المجتمع الدولي أن يطالب الحكومة الإيرانية بالاعتراف بسوء معاملة السجناء السياسيين في إيران والتوقف عن ذلك على الفور، وربما يتحول «إيفين» ذات يوم إلى متحف يصطحب الناس أطفالهم إليه كي يخبروهم عن فترة حالكة في تاريخ إيران؛ عندما كان تعذيب المراهقين والشباب والفتيات وإعدامهم من أعمال الخير التي تهدف إلى إرضاء الله. وأطلب من قرائي ألا يمنعهم الخوف من الحديث صراحة عما يرونه خطأ، فالخوف أفظع السجون على الإطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤