الفصل الثاني

أُلقي القبض عليَّ في الساعة التاسعة مساء يوم الخامس عشر من يناير ١٩٨٢. كنت وقتها في السادسة عشرة من العمر.

في صباح ذلك اليوم استيقظت قبل الفجر، ولم أستطع أن أخلد إلى النوم ثانية. بدت لي غرفتي أكثر ظلامًا وبرودة من المعتاد، فظللت متدثرة بالغطاء المصنوع من وبر الجمال، وانتظرت شروق الشمس، ولكن بدا لي أن شمس ذلك اليوم لن تشرق أبدًا! وكنت أتمنى في مثل تلك الأيام الباردة لو كان نظام التدفئة في بيتنا أفضل من ذلك، فلم تكن مدفأتا الكيروسين كافيتين، لكن والديَّ كانا دائمًا يؤكدان لي أنني الوحيدة التي تشعر بأن البرودة في منزلنا لا تطاق في الشتاء.

كانت غرفة والديَّ بجوار غرفتي، والمطبخ في الجانب الآخر من الممر الضيق الذي يصل بين جانبي شقتنا المكونة من ثلاث غرف. أخذت أستمع إلى صوت والدي وهو يستعد للذهاب إلى العمل، ومع أنه كان يتحرك بخفة وهدوء، فقد ميَّزتُ وقع أقدامه متجهًا إلى الحمام ثم إلى المطبخ … صوت براد الشاي وهو يغلي … صوت الثلاجة وهي تُفتح وتُغلق … ربما يتناول الخبز مع الزبد والمربى.

وأخيرًا تسلل ضوء خافت من نافذة غرفتي. غادر أبي المنزل متوجهًا للعمل، وأمي لا تزال مستغرقة في النوم، فهي لا تنهض من نومها قبل التاسعة صباحًا. أخذت أتقلب في الفراش أنتظر شروق الشمس بلا جدوى، حاولت أن أخطط لما سأفعله في هذا اليوم، ولكنني لم أستطع، وشعرت أنني أصبحت خارج حسابات الزمن، فنهضت من الفراش. كانت الأرض المغطاة بالمشمَّع أكثر برودة من الجو، والمطبخ أكثر ظلامًا من غرفتي. خيِّل إليَّ أنني لن أشعر بالدفء مرة أخرى على الإطلاق، ربما لن تشرق الشمس مرة أخرى! بعد أن تناولت فنجانًا من الشاي، كان كل ما استطعت أن أفكر فيه هو الذهاب إلى الكنيسة، فارتديت المعطف الصوفي البني الطويل الذي صنعته لي أمي، وغطيت رأسي بشال كبير بني فاتح، وهبطت السلالم الحجرية الرمادية الأربع والعشرين المؤدية إلى الباب الأمامي، وخرجت إلى الشارع المزدحم بوسط المدينة. ما زالت المتاجر مغلقة، والحركة المرورية خفيفة. انطلقت إلى الكنيسة دون أن أنظر حولي؛ إذ لم يكن يوجد ما يستحق المشاهدة. كانت صور آية الله الخميني والشعارات التي تنضح بالكراهية، مثل: «الموت للولايات المتحدة» و«الموت لإسرائيل» و«الموت للشيوعيين وكل أعداء الإسلام» و«الموت لأعداء الثورة»، تغطي كل الحوائط.

مضت خمس دقائق قبل أن أصل إلى الكنيسة، وعندما وضعت يدي على الباب الخشبي الكبير، سقطت كتلة رقيقة من الثلج على أنفي. تبدو طهران دائمًا مكسوة بمسحة جمالية بريئة تحت طبقات الثلج الخادعة، ومع أن النظام الإسلامي حرَّم معظم الأشياء الجميلة، فإنه لم يستطع منع الثلج من التساقط. فرضت الحكومة على النساء ارتداء الحجاب، وأصدرت قرارات بحظر الموسيقى، ومستحضرات التجميل، ورسم صور النساء السافرات، والكتب الغربية، حيث أصبحت كلها رجسًا من عمل الشيطان، ومن ثم أصبحت حرامًا. ولجتُ في الكنيسة وأغلقت الباب خلفي، جلست في أحد الأركان، وأخذت أحدق في صورة «المسيح» على الصليب. كانت الكنيسة خالية، وحاولت أن أصلي، لكن الكلمات تزاحمت في ذهني بلا معنى، ولم أستطع تكوين جملة مفيدة. بعد نحو نصف الساعة اتجهت إلى حجرة مكتب الكنيسة كي ألقي التحية على القساوسة، فوجدت نفسي أقف في مواجهة أندريه عازف الأرغن الوسيم. كنا قد التقينا منذ بضعة أشهر، وكثيرًا ما كنت أراه في الكنيسة. الجميع يعلمون أن كلًّا منا يكنُّ مشاعر الإعجاب للآخر، لكنَّ خجلنا الشديد منعنا من التصريح بذلك؛ ربما لأن أندريه كان يكبرني بسبعة أعوام. سألته ووجهي تعلوه حمرة الخجل عن سر وجوده في هذا الصباح الباكر، فأخبرني أنه أتى لإصلاح مكنسة كهربائية مكسورة.

قال لي: «أين كنتِ؟ لم أرَكِ منذ عدة أيام. اتصلتُ بك في المنزل بضع مرات، لكن والدتك أخبرتني بأنك لست على ما يرام. كنت أفكر في زيارتك اليوم.»

– «لم أكن على ما يرام. ربما أُصبت بنوبة برد أو ما شابه.»

أخبرني أندريه أنني أبدو شاحبة وينبغي أن أستريح في الفراش بضعة أيام أخرى، ووافقته على ذلك. عرض عليَّ أن يقلَّني إلى المنزل، لكنني كنت بحاجة إلى الهواء النقي، فتوجهت إلى المنزل سيرًا. ولولا القلق والإحباط اللذان كانا يعتريانني، لأحببت قضاء بعض الوقت معه، لكن منذ أن أُلقي القبض على أصدقائي بالمدرسة سارة وجيتا وسيرس — شقيق سارة — وزُجَّ بهم في سجن «إيفين»، لم أتمكن من ممارسة حياتي بطريقة طبيعية. كانت سارة صديقتي المقربة منذ أن كنا في الصف الأول، بينما جيتا تربطني بها علاقة صداقة قوية منذ أكثر من ثلاث سنوات. لقد أُلقي القبض على جيتا في منتصف نوفمبر، أما سارة وسيرس فأُلقي القبض عليهما في الثاني من يناير. تذكرتُ جيتا بشعرها البني الحريري الطويل وابتسامة الموناليزا التي ترتسم على وجهها وهي تجلس على مقعد عريض في ملعب كرة السلة، وتساءلت عما حدث لرامين؛ الفتى الذي كانت تحبه. لم تعرف عنه جيتا شيئًا منذ صيف ١٩٧٨ — الصيف الأخير قبل اندلاع الثورة — قبل أن يتغير نظام العالم. إنها الآن في سجن «إيفين» منذ أكثر من شهرين دون أن يُسمح لوالديها برؤيتها، كنت أتصل بهما مرة أسبوعيًّا، ودائمًا كانت أمها تبكي وهي تحدثني. كانت تقف أمام باب منزلهم عدة ساعات كل يوم تحدق في المارة منتظرة عودة جيتا. أما والدا سارة فقد ذهبا إلى السجن عدة مرات وطلبا رؤية طفليهما، لكن طلبهما قوبل بالرفض.

كان «إيفين» سجنًا سياسيًّا منذ زمن الشاه، واسمه يبث الرعب في القلوب، فهو مرادف للعذاب والموت. مبانيه العديدة تمتد على مساحة كبيرة في شمال طهران عند سفح جبال «ألبرز». لم يتحدث أحد عن «إيفين» قط؛ إذ كان محاطًا بجدار من الصمت المخيف.

في الليلة التي أُلقي فيها القبض على سارة وسيرس، كنت مستلقية في فراشي أقرأ ديوانًا شعريًّا بقلم فروغ فرخ زاد عندما انفتح باب غرفتي فجأة وظهرت أمي عند الباب.

قالت: «لقد اتصلتْ للتوِّ والدة سارة.»

شعرت أني أتنفس قطعًا من الجليد.

«ألقى «الحرس الثوري» القبض على سارة وسيرس منذ ساعة تقريبًا، واقتيدا إلى سجن «إيفين».»

فقدتُ الشعور بجسدي.

سألتْ أمي: «ما الذي فعلاه؟»

يا لهما من مسكينين سارة وسيرس! لا بد أنهما شعرا بالرعب، لكنهما سيكونان بخير … لا بد أن يكونا بخير.

– «أخبريني يا مارينا، ماذا فعلا؟»

أغلقت أمي باب الغرفة خلفها، واتكأت عليه.

– «لا شيء. سارة لم تفعل شيئًا، لكن سيرس عضو في جماعة المجاهدين.» بدا صوتي واهنًا بعيدًا. كانت منظمة «مجاهدي خلق» جماعة إسلامية يسارية تقف في وجه الشاه منذ الستينيات من القرن العشرين؛ وبعد نجاح الثورة الإسلامية، عارض أعضاؤها السلطة المطلقة لآية الله الخميني بوصفه المرشد الأعلى لإيران، ووصفوه بالطاغية، وهكذا أعلنت الحكومة الإسلامية أن «مجاهدي خلق» جماعة محظورة.

– «إذن ربما ألقوا القبض على سارة بسبب سيرس.»

– «ربما.»

– «مسكينة والدتهما! كم كانت قلقة عليهما!»

– «ألم يقل الحرس أي شيء؟»

– «أخبروا والديهما ألا يقلقا، وأنهم يرغبون في إلقاء بعض الأسئلة عليهما فحسب.»

– «إذن ربما يطلقون سراحيهما قريبًا.»

– «طبقًا لما تقولين، فإنني على يقين من أنهم سيطلقون سراح سارة قريبًا. أما سيرس … كان عليه أن يكون أكثر وعيًا. لا داعي للقلق.»

غادرت أمي الغرفة، وحاولت أن أفكر، لكنني لم أستطع. شعرت بالإنهاك، فأغمضت عيني، واستغرقت في نوم عميق.

على مدار الاثني عشر يومًا التالية، كنت أقضي معظم وقتي نائمة. حتى القيام بأبسط المهام بدا لي مرهقًا ومستحيلًا. لم أكن أشعر بالجوع أو العطش، ولم أرغب في القراءة أو الذهاب إلى أي مكان أو الحديث مع أي شخص. كل ليلة تخبرني أمي أنه لم تصل أي أنباء عن سارة وسيرس. منذ أن أُلقي القبض عليهما، أدركت أنني سأكون التالية؛ فاسمي كان مدرجًا في قائمة الأسماء والعناوين التي شاهدتْها معلمة الكيمياء باهمان خانم في حجرة مكتب ناظرة المدرسة محمودي خانم التي تنتمي للحرس الثوري. كانت باهمان خانم امرأة طيبة، حذرتني من أن تلك القائمة موجهة لمحاكم الثورة الإسلامية. لكن لا يوجد ما أفعله سوى الانتظار، فليس بوسعي الاختباء. وأين عساي أن أذهب؟ الحرس الثوري مجموعة من قساة القلوب الذين لا يعرفون الرحمة؛ فعندما يذهبون للقبض على أحد الأشخاص ولا يجدونه في منزله، فإنهم يلقون القبض على من يجدونه هناك. لم أستطع المخاطرة بحياة والديَّ كي أنقذ نفسي. خلال الأشهر القليلة الماضية، أُلقي القبض على مئات الأشخاص بتهمة معارضة الحكومة بطريقة أو بأخرى.

•••

في التاسعة مساءً ذهبت كي أستحم، وفور أن فتحت الصنبور وبدأت المياه الساخنة تتدفق، دق جرس الباب، فانقبض قلبي. لم يكن أحد يطرق باب منزلنا في تلك الساعة.

أغلقت الصنبور، وجلست على حافة المغطس، وسمعت والديَّ يفتحان الباب. بعد مرور بضع ثوانٍ نادتني أمي، فخرجت من الحمام لأرى رجلين ملتحيين مسلحين من «الحرس الثوري» يرتديان زيًّا عسكريًّا داكن الخضرة ويقفان في الردهة. صوَّب أحدهما السلاح نحوي. شعرت أنني انفصلت عن جسدي تمامًا وأني أشاهد فيلمًا سينمائيًّا. لم يكن هذا يحدث لي، بل يحدث لأخرى لا أعرفها.

قال الحارس الثاني لزميله: «ابقَ هنا ريثما أفتش البيت.» ثم التفت نحوي متسائلًا: «أين غرفتك؟» كانت رائحة البصل تنبعث من أنفاسه حتى إنني شعرت بالغثيان.

– «في هذه الردهة، الغرفة الأولى إلى اليمين.»

كانت أمي ترتجف، وشحب وجهها تمامًا. وغطت فمها بيدها كأنها تكتم صرخة مدوية. أما أبي فقد ظل يحدق إليَّ كأنني أحتضر من مرض مفاجئ لا شفاء منه وهو عاجز عن فعل أي شيء لإنقاذي. انهمرت الدموع على وجهه. لم أرَهُ يبكي منذ وفاة جدتي.

سرعان ما عاد الحارس الآخر وفي يده مجموعة من كتبي، وكلها روايات أجنبية.

– «هل هذه الكتب تخصك؟»

– «نعم.»

– «سنأخذ بعضها دليلًا.»

– «دليل على أي شيء؟»

– «على أنشطتك المعادية للحكومة الإسلامية.»

– «أنا لا أتفق مع الحكومة، لكنني لم أفعل أي شيء ضدها.»

– «لست هنا لأقرر إن كنت مذنبة أم لا، بل أتيت لإلقاء القبض عليك. هيا ارتدي الشادور.»

– «أنا مسيحية، ولا يوجد عندي شادور.»

فوجئا بسماع ذلك، فقال أحدهما: «حسنًا، ارتدي غطاء رأس وهيَّا بنا.»

تساءلت أمي: «إلى أين تأخذانها؟»

أجابا: «إلى إيفين.»

تبعني أحدهما إلى غرفتي حيث أخذت الشال الكشمير ذا اللون البني الفاتح وغطيت رأسي به. كانت ليلة قارسة البرودة، وفكرت في أن الشال سيساعد في تدفئتي. وبينما نهمُّ بالخروج من الغرفة، وقعت عيناي على مسبحتي القابعة على مكتبي، فأخذتها معي.

قال الحارس: «انتظري! ما هذا؟»

– «مسبحتي التي أصلي بها. هل يمكنني أخذها؟»

– «دعيني أرى.»

أريته المسبحة. تفحَّصها جيدًا ممعنًا النظر في كل حجر من أحجارها الزرقاء الباهتة وصليبها الفضي.

– «يمكنك أخذها، فالصلاة هي ما ستحتاجين بالضبط في «إيفين».»

وضعت المسبحة في جيبي.

اقتادني الحارسان إلى سيارة مرسيدس سوداء واقفة أمام باب منزلنا، وفتحا لي الباب الخلفي فدلفت إلى السيارة. عندما بدأت السيارة في التحرك، نظرت خلفي فلمحت النوافذ المضيئة لمنزلنا تواجه الظلام، وشبحَيْ والديَّ يقفان عند باب المنزل. كنت أدرك أنه من المفترض أن أشعر بالرعب، لكنني لم أكن خائفة. كان يحيط بي فراغ قاسٍ.

قال أحد الحارسين: «أود أن أوجه لك نصيحة؛ من مصلحتك أن تجيبي على كل الأسئلة التي توجَّه لك بصدق، وإلا ستدفعين الثمن. لعلك سمعتِ أن لديهم في «إيفين» أساليبهم الخاصة لحمل المتهمين على الكلام. يمكنك تجنُّب الألم إذا قلتِ الحقيقة.»

انطلقت السيارة مسرعة باتجاه الشمال نحو جبال «ألبرز»، وفي تلك الساعة كانت الطرقات شبه خالية؛ فلم يكن بها أي مشاة، بل القليل من السيارات فحسب. كانت إشارات المرور تُرى على مسافة بعيدة، حيث تتغير من اللون الأحمر إلى الأخضر والعكس. وبعد مرور نحو نصف الساعة رأيت في ضوء القمر الشاحب الأسوار الملتوية لسجن «إيفين» تتخذ خطًّا متعرجًا وسط التلال. كان أحد الحرس يخبر الآخر عن زواج شقيقته الوشيك. كان فَرِحًا للغاية؛ لأن العريس من كبار قيادات الحرس الثوري وينتمي لعائلة عريقة موسرة. فكَّرت في أندريه، فشعرت بألم هائل في أحشائي تسلل بعدها إلى كل أنحاء جسدي؛ شعرت وكأن شيئًا خطيرًا قد حدث له وليس لي.

دلفنا إلى شارع ضيق متعرج، وظهرت أسوار السجن المرتفعة المبنيَّة بالطوب الأحمر على يميننا. وكل بضع خطوات تغمر أضواء الكشافات الليلَ بضوئها الساطع من أبراج المراقبة. اقتربنا من بوابة حديدية كبيرة وتوقفنا أمامها. رأيت في كل مكان رجالًا ملتحين مسلحين، بينما الأسلاك الشائكة التي تغطي أعلى السور تلقي بظلال متشابكة على الرصيف. ترجَّل السائق من السيارة، وأعطاني الحارس الذي كان جالسًا في المقعد الأمامي شريطًا سميكًا من القماش، وطلب مني أن أعصب عينيَّ قائلًا: «أحكِمي العصابة جيدًا، وإلا جلبتِ لنفسك المتاعب.» مرت السيارة عبر البوابة وعيناي معصوبتان، وتابعت سيرها دقيقتين أو ثلاثًا قبل أن تتوقف مرة أخرى. فُتحت أبواب السيارة، وطُلب مني أن أخرج منها، وقيَّد أحدهم معصمي بالحبال وسحبني، فتعثرتُ ووقعت على الأرض.

سمعت صوتًا يقول: «أأنت عمياء؟» وضحك أحدهم.

سرعان ما شعرت بالدفء، فأدركت أننا دخلنا أحد المباني. كان سنا ضوء بسيط يتسلل من العصابة، ورأيت أننا نسير عبر أحد الأروقة. كان الجو مشبعًا برائحة العرق والقيء، وأُمرت بأن أجلس على الأرض وأنتظر. شعرت بآخرين يجلسون إلى جواري، ولكنني لم أتمكن من رؤيتهم. الكل صامت، لكن أصواتًا مبهمة غاضبة كانت تُسمع من خلف الأبواب المغلقة. ومن حين إلى آخر كنت أميز بعض الكلمات، مثل: كاذب – أخبرني – الأسماء – اكتبها … وأحيانًا أسمع أناسًا يصرخون من شدة الألم. بدأ قلبي ينتفض بين أضلعي حتى إنها آلمتني، فوضعت يدي على قلبي وضغطت عليه بقوة. وبعد لحظات جاء صوت صارم يأمر أحد الأشخاص بالجلوس إلى جواري؛ إنها فتاة تبكي.

سألتُها هامسة: «لماذا تبكين؟»

– «أنا خائفة. أريد العودة إلى المنزل.»

– «أعلم ذلك، أنا أيضًا أريد العودة إلى المنزل، لكن لا تبكي، فلن يفيد ذلك شيئًا. أنا واثقة أنهم سيطلقون سراحنا عما قريب.» كنت أعلم أني أكذب.

– «كلا لن يفعلوا! سأموت هنا! سنموت هنا جميعًا!»

قلت: «عليك أن تتحلي بالشجاعة.» وشعرت بالندم على الفور. ربما تعرضت الفتاة للتعذيب، فكيف أطالبها أن تتحلى بالشجاعة؟!

سمعت صوت رجل يقول: «كم أن هذا ممتع! مارينا، تعالي معي. تقدمي عشر خطوات للأمام ثم استديري يمينًا.»

بكت الفتاة بصوت عالٍ، وفعلتُ ما طُلب مني، فأمرني الرجل أن أتقدم أربع خطوات للأمام، وأغلق الباب خلفي، ثم أمرني بالجلوس على أحد المقاعد.

– «أنت شجاعة جدًّا، وهي صفة نادرة الوجود في «إيفين». رأيت العديد من الرجال الأشداء ينهارون هنا. هل أنت أرمنية؟»

– «كلا.»

– «لكنك أخبرت الحرس بأنك مسيحية!»

– «أنا مسيحية.»

– «إذن فأنت آشورية؟»

– «كلا.»

– «لا أفهم. المسيحيون هنا إما أرمن أو آشوريون.»

– «معظم المسيحيين الإيرانيين كذلك، لكن ليس جميعهم. جدتاي هاجرتا من روسيا إلى إيران عقب اندلاع الثورة الروسية.»

كانت جدتاي قد تزوجتا رجلين إيرانيين يعملان في روسيا قبل الثورة البلشفية عام ١٩١٧، لكن بعد الثورة أُجبر زوجاهما على ترك الاتحاد السوفييتي لأنهما لا يحملان الجنسية الروسية، واختارت الزوجتان أن تأتيا إلى إيران معهما.

– «إذن فهما شيوعيتان!»

– «لو كانتا شيوعيتين، فلمَ غادرتا بلدهما؟ لقد غادرا لأنهما كرهتا الشيوعية. كانتا مسيحيتين متدينتين.»

أخبرني الرجل بأن في القرآن الكريم آيات تتحدث عن السيدة مريم والدة المسيح، وأن المسلمين يؤمنون بأن المسيح كان نبيًّا عظيمًا، وأنهم يحترمون السيدة مريم كثيرًا. وعرض عليَّ أن يقرأ لي ذلك الجزء من القرآن، وظللت أستمع إليه وهو يقرأ النص العربي، كان صوته عميقًا رخيمًا.

عندما انتهى من القراءة سألني عن رأيي في الآيات. كنت أرغب في أن يستمر في القراءة، لأنني أدركت أني في أمان ما دام يواصل القراءة، ولكنني كنت أعلم أيضًا أنه لا يمكنني الوثوق به، فهو غالبًا أحد رجال الحرس الثوري الغلاظ الذين يعذبون الأبرياء ويقتلونهم دون أدنى شعور بالندم.

– «إنه بديع للغاية. درستُ القرآن، وقرأتُ تلك الآيات من قبل.»

خرجت الكلمات من فمي مضطربة قليلًا.

– «أحقًّا درستِ القرآن؟ هذا يزيد الأمر تشويقًا! مسيحية شابة شجاعة درست كتابنا! وما زلتِ تعتنقين المسيحية بالرغم من أنك تعلمين عن نبيِّنا وتعاليمه؟»

– «نعم، ما زلت أعتنق المسيحية.»

لطالما أخبرتني أمي أني أتحدث دون أن أفكر. كانت تقول ذلك عندما أجيب صدقًا عن الأسئلة التي توجه لي، وعندما أبذل كل ما بوسعي كي لا يخطئ أحد فهمي.

ضحك قارئ القرآن، وقال: «كم هذا ممتع! أود أن أستكمل تلك المحادثة ولكن في وقت لاحق، أما الآن فالأخ حامد بانتظارك كي يلقي عليك بعض الأسئلة.»

بدا كأنني أثرت اهتمامه بالفعل، فربما أكون المسيحية الوحيدة التي رآها في «إيفين»، وربما توقع مني أن أكون كمعظم الفتيات المسلمات اللواتي ينتمين إلى عائلات محافظة؛ أن أكون هادئة خجولًا مستكينة، لكنني لم أعرف أيًّا من تلك الصفات.

سمعته ينهض من مقعده ويغادر الغرفة. شعرت كأني فقدت الإحساس. ربما يكون هذا المكان خارج حدود الخوف؛ مكان تختنق فيه المشاعر الإنسانية الطبيعية دون أن تحظى حتى بفرصة المقاومة.

انتظرت وأنا أفكر في أنهم لا يملكون سببًا لتعذيبي؛ فالتعذيب غالبًا يُستخدم لانتزاع المعلومات. لم أكن أعلم أي شيء قد يفيدهم، ولم أكن أنتمي لأي جماعة سياسية.

فُتح الباب ثم أُغلق مرة أخرى، فقفزت من مكاني. عاد قارئ القرآن مرة أخرى، وعرَّف نفسه لي على أنه عليٌّ، وأخبرني أن حامدًا مشغول بالتحقيق مع شخص آخر. أوضح لي أيضًا أنه يعمل لحساب الفرقة السادسة التي تتبع «محاكم الثورة الإسلامية» التي تحقق في قضيتي. بدا لي هادئًا وصبورًا، ولكنه أكد عليَّ ضرورة قول الحقيقة. كان غريبًا أن أتحدث مع شخص دون أن أتمكن من رؤيته، ولم تكن لديَّ فكرة عن شكله أو عمره أو شكل الغرفة التي نحن فيها.

أخبرني أنه علم أني عبَّرت عن أفكار مناهضة للثورة في المدرسة، وأني كتبت مقالات ضد الحكومة في صحيفة المدرسة، ولم أنكر ذلك، فلم يكن هذا سرًّا أو جريمة. سألني هل عملت لحساب أي جماعات شيوعية، فأجبت بالنفي. كان يعلم بالإضراب الذي تزعمته في المدرسة، وكان مقتنعًا بأنه يستحيل على أي شخص لا يملك علاقات بأحزاب سياسية محظورة أن ينظم إضرابًا. لكنني أوضحت له أنني لم أنظم أي شيء، وهذه هي الحقيقة، كل ما في الأمر أني طلبت من مدرِّسة التفاضل أن تدرس لنا مادة التفاضل بدلًا من الحديث عن السياسة، فطردتني من الفصل، وعندما خرجت، انضم لي زملائي، وسرعان ما علم معظم الطلاب في المدرسة بما حدث ورفضوا العودة إلى الفصول. لم يصدق عليٌّ أن الأمر قد يكون بهذه البساطة، وأكد لي أن المعلومات التي لديه تشير إلى أنني على صلة قوية بالجماعات الشيوعية.

قلت: «لا أدري من أين تستقي معلوماتك، لكنها خاطئة تمامًا. لقد درستُ الشيوعية مثلما درستُ الإسلام، ولم أتحول إلى الشيوعية تمامًا مثلما لم أتحول إلى الإسلام.»

قال ضاحكًا: «هذا الأمر ممتع حقًّا! إن أعطيتِني قائمة بأسماء الشيوعيين وكل المناهضين للثورة في مدرستك، فسأصدِّق أنك لا تكذبين.»

لماذا يطلب مني قائمة بأسماء زملائي في المدرسة؟ إنه على علم بأمر الإضراب وصحيفة المدرسة، ولا بد أن محمودي خانم تحدثت إليه وأعطته قائمة الأسماء، لكن لا يمكنني المخاطرة بإخباره أي شيء، لأنني لا أعلم شيئًا عن الأسماء الأخرى التي تتضمنها القائمة بخلاف اسمي.

قلت: «لن أعطيك أي أسماء.»

– «كنت أعلم أنك في صفهم.»

– «لست في صف أحد، ولكن إن أخبرتك بأسمائهم فسوف تلقي القبض عليهم، ولا أريد أن يحدث ذلك.»

– «أجل، سوف نلقي القبض عليهم حتى نتأكد من أنهم لا يفعلون شيئًا ضد الحكومة، وإن تأكدنا من ذلك فسوف نطلق سراحهم. أما إن كانوا يتآمرون ضد الحكومة، فعلينا أن نوقفهم، وفي تلك الحالة فلا يلوموا إلا أنفسهم.»

– «لن أعطيك أي أسماء.»

– «وماذا عن شهرزاد؟ هل تنكرين معرفتك بها؟»

ظللت هنيهة لا أدري عمن يتحدث. مَن تكون شهرزاد؟ لكنني سرعان ما تذكرت. كانت صديقة جيتا وعضوًا في جماعة شيوعية تدعى «فدائيي خلق». قبل نحو أسبوعين من بدء الإجازة الصيفية طلبت جيتا مني أن أقابلها؛ أملًا في أن تقنعني بالانضمام إلى الجماعة، وبالفعل قابلتها مرة واحدة وأوضحتُ لها أنني مسيحية ملتزمة، ولست على استعداد للانضمام لأي جماعة شيوعية.

أخبرني عليٌّ أنهم كانوا يراقبون شهرزاد، وأنها علمت بأمر المراقبة واختبأت، وهم يبحثون عنها منذ فترة، ويعتقدون أنها ربما تكون قد قابلتني مرة أخرى، وأخبرني أيضًا بأنه لا بد من وجود سبب وجيه يدعو شهرزاد لمقابلتي غير دعوتي للانضمام للفدائيين، فوقتها أثمن من أن تضيعه هكذا. حاولتُ كثيرًا أن أؤكد له أنني لا علاقة لي بها، لكنه لم يصدقني.

– «لا بد أنك تعرفين مكانها.»

– «لا يمكنني أن أساعدك، لأنني لا أعرف مكانها.»

ظل عليٌّ هادئًا أثناء التحقيق، ولم يرفع صوته قط.

– «مارينا، اسمعيني جيدًا. أرى أنك فتاة شجاعة، وأحترم ذلك كثيرًا، لكن لا بد أن تخبريني بما لديك من معلومات. إذا لم تخبريني، فسوف تثور ثائرة الأخ حامد، وهو رجل يفتقر إلى الصبر. لا أود أن أراك وأنت تتألمين.»

– «آسفة، لكن ليس لدي ما أخبرك به.»

قال: «آسف أنا أيضًا.» ثم اقتادني خارج الغرفة عبر ثلاثة أو أربعة ممرات. سمعت صوت رجل يصرخ. طُلب مني أن أجلس على الأرض. أخبرني عليٌّ أن الرجل الذي يصرخ لا يرغب مثلي في إطلاعهم على أي معلومة، ولكنه سيغيِّر رأيه سريعًا.

ملأت الصرخات الممزوجة بالألم المكان من حولي. كانت صرخات قوية عميقة بائسة تخترق جسدي وتملأ كل خلية فيه. كان الرجل المسكين يمزَّق، وتحول العالم إلى لوح من الرصاص يجثم بثقله على صدري.

كان وقع السوط المدوي يشق الفراغ، فيصرخ الرجل، ثم تأتي لحظة من الصمت، ثم تُعاد الكرَّة مرة أخرى.

وبعد مرور بضع دقائق سأل أحدهم الرجل هل هو على استعداد للكلام، فأجاب بالنفي، فبدأ فاصل آخر من الجلد بالسياط. ومع أن يديَّ كانتا مقيدتين، فقد حاولت أن أغطي أذنيَّ بذراعيَّ كي لا أسمع الصرخات، ولكن الأمر لم يُجْدِ نفعًا، واستمر الأمر ضربة وراء ضربة وصرخة بعد صرخة.

في النهاية صاح الرجل الذي يخضع للتعذيب: «أرجوكم توقفوا، سوف أتحدث.» فتوقف الضرب.

كل ما كان يشغل بالي أني قررت ألا أخبرهم بأي اسم. لست ضعيفة أو عاجزة، وسوف أخوض الحرب للنهاية.

ارتفع صوت الرجل الذي كان يمارس جلسة التعذيب السابقة: «مارينا، كيف حالك؟ أخبرني عليٌّ بكل شيء عنك. لقد أثرتِ إعجابه، حتى إنه لا يرغب في إلحاق الأذى بك، لكن لا مجال للعواطف في العمل. هل سمعتِ ذلك الرجل؟ لم يكن يريد إخباري شيئًا في بداية الأمر، لكنه فعل أخيرًا. لو أنه أخبرني بما أريد معرفته من البداية لأصبح الوضع أفضل كثيرًا. والآن هل أنت مستعدة للكلام؟»

أخذت نفسًا عميقًا وقلت: «كلا.»

– «يا للأسف! انهضي!»

أمسك الرجل بالحبل الذي يقيِّد معصمي وسحبني عدة خطوات، ثم دفعني على الأرض وانتزع العصابة التي تغطي عينيَّ. رأيت رجلًا نحيفًا ضئيل الحجم ذا شعر بني قصير وشارب، يقف أمامي ويمسك بالعصابة في يده. كان في أوائل الأربعينيات من العمر، يرتدي سروالًا بنيًّا وقميصًا أبيض. كانت الغرفة خالية إلا من فراش مكشوف ذي ظهر معدني، وفك هذا الرجل قيد معصمي وقال: «لن تُجدي الحبال، بل نحتاج شيئًا أقوى.» وأخرج زوجًا من الأصفاد من جيبه وقيدني به.

دخل رجل آخر الغرفة، طوله نحو مائة وثمانين سنتيمترًا، ووزنه نحو تسعين كيلوجرامًا، وشعره أسود قصير، ذو لحية سوداء مهذبة، في أواخر العشرينيات من العمر.

سأل: «هل تكلمَتْ يا حامد؟»

– «كلا، إنها عنيدة للغاية، ولكن لا تقلق، فسوف تفعل قريبًا.»

تحدَّث الوافد الجديد معي: «مارينا، تلك هي فرصتك الأخيرة.» تعرَّفتُ على صوته. إنه عليٌّ؛ كان أنفه كبيرًا بعض الشيء، وعيناه البنيَّتان معبِّرتين، وله رموش طويلة وكثيفة. تابع: «سوف تتحدثين في نهاية الأمر على أي حال، من الأفضل أن تقومي بذلك الآن. هل ستخبريننا بالأسماء؟»

– «كلا.»

– «أريد أن أعرف منك مكان شهرزاد.»

– «لا أعرف مكانها.»

قال حامد: «انظر يا علي! إن معصميها صغيران للغاية، وسوف ينزلقان من الأصفاد.» أدخَلَ كلا معصميَّ قسرًا في صفد واحد، واقتادني إلى الفراش. كان الصفد المعدني يحطم عظامي، وأفلتت مني صرخة، لكنني لم أقاوم؛ إذ كنت أعرف أني في موقف بائس تمامًا لن تزيده المقاومة إلا سوءًا. ثبَّت حامد الصفد الخالي في ظهر الفراش المعدني، وبعد أن خلع حذائي ربط قدميَّ في الفراش.

قال حامد ملوِّحًا في وجهي بسلك أسود سُمكه أقل من سنتيمترين ونصف: «سوف أجلد باطن قدميك بهذا السلك.»

«كم ضربة تلزمها للحديث في رأيك يا علي؟»

– «ليس كثيرًا.»

– «في رأيي عشر ضربات ستكفي.»

شق صوت السلك الحاد المخيف الهواء، واستقر فوق باطن قدمي.

ما هذا الألم؟! لم أشعر بشيء كهذا قط، بل لم يكن بوسعي حتى أن أتخيله. انفجر الألم داخلي كصاعقة من البرق.

الضربة الثانية: توقفت أنفاسي في حلقي. كيف يمكن لأي شيء في الوجود أن يؤلم هكذا؟ حاولت أن أفكر في شيء يساعدني على تحمل الألم. لا يمكنني الصراخ، فلا يوجد هواء كافٍ في رئتيَّ.

الضربة الثالثة: صوت السلك يشق الهواء ثم أعقبه ذلك الألم المبرح. ولم يكن بإمكاني أن أفكر إلا في تحية مريم العذراء.

توالت الضربات، وظللت أدعو وأصارع الألم. تمنيت أن أفقد الوعي، ولكن ذلك لم يحدث، بل إن كل ضربة كانت تتركني منتبهة أترقب الضربة التالية.

الضربة العاشرة: توسلت إلى الله كي يخفف عني الألم.

الضربة الحادية عشرة: آلمتني أكثر من كل ما سبقها.

يا إلهي لا تتركني وحدي! لا أستطيع تحمل كل ذلك.

استمر العذاب بلا نهاية.

سوف يتوقفون عن تعذيبي إن أخبرتهم بضعة أسماء … كلا، لن يتوقفوا، فهم يريدون معلومات عن شهرزاد، وأنا لا أعلم عنها شيئًا على أي حال. لا يمكن للضربات أن تستمر إلى الأبد، وسوف أحتملها واحدة تلو الأخرى.

بعد الضربة السادسة عشرة توقفت عن العد.

لم أعد أشعر إلا بالألم.

– «أين شهرزاد؟»

لو كنت أعرف مكانها، لأخبرتهم. كنت سأفعل أي شيء كي أوقف هذا العذاب.

ضربة أخرى.

ذقت ألوانًا أخرى من الألم من قبل؛ إذ كُسرتْ ذراعي ذات مرة. لكن هذا الألم كان أسوأ … أسوأ كثيرًا.

– «أين شهرزاد؟»

– «لا أعرف!»

ألم مبرح …

أصوات …

عندما توقف حامد عن الضرب، كان كل ما استطعت فعله هو أني أدرت رأسي ورأيته يغادر الغرفة. فكَّ عليٌّ الأصفاد وحرر قدميَّ. كانت قدماي تؤلمانني، ولكن العذاب اختفى، وحل محله شعور بالفراغ أخذ ينتشر في عروقي. مرت دقيقة قبل أن أفقد الشعور بجسدي وأشعر بثقلٍ في جفوني. ارتطم شيء بارد بوجهي. إنها المياه. هززت رأسي.

قال علي: «أنت تفقدين الوعي يا مارينا، هيا انهضي!»

جذبني من ذراعي، فاعتدلت في جلستي. كانت قدماي تؤلمانني كثيرًا كأن مائة نحلة لدغتهما. نظرت إليهما فوجدتهما متورمتين ومصطبغتين باللونين الأحمر والأزرق، وتعجبت من أن جلدي لم ينفجر.

سألني علي: «ألديك ما تقولينه لي الآن؟»

– «كلا.»

نظر إليَّ ساخطًا وقال: «الأمر لا يستحق كل هذا العناء. هل تريدين التعرض للضرب مرة أخرى؟ ستسوء قدماك أكثر إن لم تتكلمي.»

– «لا أعرف أي شيء.»

– «لم تعد هذه شجاعة! إنه الغباء بعينه! قد تُعدمين لأنك لم تتعاوني مع الحكومة. لا تفعلي هذا بنفسك.»

صححت كلامه: «لا تفعلوا هذا بي.»

نظر في عيني مباشرة للمرة الأولى، وأخبرني أن لديهم كل أسماء أصدقائي بالمدرسة. أعطتهم محمودي خانم القائمة. أخبرني أنَّ تعاوني معهم لن يغيِّر شيئًا من مصير أصدقائي، ولكنه سوف ينقذني من العذاب، وأخبرني أيضًا بأن أصدقائي سوف يُلقى القبض عليهم سواء أَعترفتُ أم لا، ولكنني إذا ذكرت أسماءهم، فلن أضطر إلى احتمال العذاب أكثر من ذلك.

قال: «أصدقك فيما يتعلق بشهرزاد. لا تحاولي ادعاء البطولة، فربما تفقدين حياتك بسبب ذلك. حامد على يقين أنك عضو في جماعة الفدائيين، لكنني لا أعتقد ذلك، فهم لا يستغيثون بالسيدة مريم تحت وطأة التعذيب.»

لم أكن أدرك أنني دعوت بصوت مرتفع.

طلبت الذهاب إلى دورة المياه، فأخذ بيدي وساعدني على النهوض. شعرت بالدوار. وضع خفًّا مطاطيًّا على الأرض أمام الفراش كي أرتديه. كان الخف أكبر من مقاس قدمي أربع مرات على الأقل، لكنه كان صغيرًا جدًّا بسبب تورُّم قدمي. ساعدني عليٌّ كي أسير عبر الحجرة، ولم يكن من السهل أن أحفظ توازني. وفور أن وصلنا إلى الباب ترك ذراعي وأعطاني العصابة وطلب مني أن أضعها، ففعلت كما طلب مني، ثم وضع حبلًا في يدي وقادني إلى دورة المياه. وعندما دخلت دورة المياه فتحت الصنبور وغسلت وجهي بالماء البارد، ثم شعرت فجأة بغثيان شديد وانقبضت أمعائي فتقيأت. شعرت كأن سكينًا قد شقني نصفين. ملأ صوت صفير عالٍ أذنيَّ، ثم غرقت في الظلام.

عندما فتحت عيني لم أدرك أين أنا، وعندما بدأ ذهني يصفو رويدًا رويدًا أدركت أنني لم أعد في دورة المياه ولكنني أرقد على الفراش الخشبي الذي شهد تعذيبي. كان عليٌّ يجلس على مقعد يراقبني. شعرت بأن رأسي يؤلمني كثيرًا، وعندما تحسسته وجدت كدمة كبيرة على الجانب الأيمن من جبيني. سألته عما حدث، فأخبرني أنني سقطت في دورة المياه مغشيًّا عليَّ فارتطم رأسي بالأرض، وأخبرني أيضًا بأن الطبيب فحصني وأكد أن حالتي ليست خطرة، ثم ساعدني على الجلوس في مقعد متحرك وعصب عيني مرة أخرى ودفعني خارج الغرفة. وعندما نزع العصابة عن عيني وجدت نفسي في غرفة ضيقة بلا نوافذ وبها مرحاض وحوض في أحد جوانبها، بالإضافة إلى بطانيتين عسكريتين رماديتين على الأرض. ساعدني على النوم وغطاني بإحداهما. كانت خشنة يابسة تفوح منها رائحة العفن، لكنني لم أهتم، فقد كدت أتجمد بردًا. سألني هل أشعر بالألم، فأومأت برأسي متعجبة من حسن معاملته لي. تركني ثم عاد بعد بضع دقائق ومعه رجل متوسط العمر يرتدي زيًّا عسكريًّا قدمه لي على أنه الطبيب الشيخ.

حقنني الطبيب في ذراعي، ثم غادر كلاهما الزنزانة. أغلقت عيني، وفكرت في منزلي. تمنيت لو أن بإمكاني التسلل إلى فراش جدتي كما كنت أفعل وأنا طفلة لتخبرني بأنه لا يوجد ما يدعو إلى الخوف، وأن كل ذلك ليس سوى كابوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤