الفصل الرابع

استيقظت من نوم عميق على صوت يناديني بينما أشعر بألم حاد في كتفي الأيمن. كانت رؤيتي مشوشة، وكان حامد يقف عند رأسي ويركل كتفي. تذكرت أن عليًّا قد تركني في تلك الزنزانة، لكن لم أكن أعرف كم من الوقت قضيته هنا.

قلت: «نعم، نعم.»

– «هيا انهضي!»

كانت ركبتاي ترتجفان، وقدماي تلتهبان ألمًا.

قال حامد: «ستأتين معي الآن كي تشاهدي إلقاء القبض على أصدقائك الذين حاولتِ حمايتهم. كنا نعرف أسماءهم وعناوينهم منذ البداية، لكننا أردنا معرفة المزيد عنك، وقد أثبتِّ لنا عداءك للثورة. أنتِ خطر على المجتمع الإسلامي.»

عُصبت عيناي مرة أخرى، وقيد حامد معصمي بحبل وسحبني إلى الأمام. زُج بي داخل إحدى السيارات، وبعد بضع دقائق أزيلت العصابة عن عيني. كنا قد غادرنا السجن، ولم أكن أعرف في أي يوم أو في أي وقت من اليوم نحن، لكن بدا لي أننا في الساعات الأولى من الليل؛ إذ السماء ملبدة بالغيوم لكنها لم تكن مظلمة تمامًا. اتجهنا جنوبًا في شارع ضيق متعرج، وكدنا لا نرى أيًّا من السيارات أو المارة. اصطفت الجدران الطينية والقرميدية القديمة على جانبَي الشارع تحيط بالعقارات الكبيرة ما جعل الطريق يبدو وكأنه مجرى نهر جاف. ارتفعت الأشجار الجرداء إلى عنان السماء وأخذت تهتز بفعل الرياح. وسرعان ما دخلنا طريق جوردان السريع وواصلنا السير جنوبًا. كان ذلك الحي حديثًا راقيًا، ورأيت مبنى سكنيًّا شاهقًا على أحد التلال تحيط به منازل ثنائية الطوابق وأخرى أحادية الطابق كبيرة. نظرت إلى السائق؛ كانت له لحية سوداء كثَّة ويرتدي الزي العسكري الأخضر المميز للحرس الثوري. جلس حامد في المقعد الأمامي، وكانا صامتين ينظران أمامهما. وبينما كنا نتوقف عند إحدى إشارات المرور، ابتسمت لي فتاة — ربما في الثالثة أو الرابعة من العمر — تجلس في المقعد الخلفي لسيارة بيضاء توقفت بجوارنا، وكان في المقعدين الأماميين للسيارة رجل وامرأة يتحدثان، تساءلتُ عما يفعله والداي في تلك الساعة؛ أيحاولان مساعدتي؟ أم أنهما فقدا الأمل؟ أعلم أنه ليس باستطاعتهما فعل أي شيء. ماذا عن أندريه؟ هل يفكر في الآن؟

دخلنا وسط المدينة حيث زادت الكثافة المرورية، وبدت الأرصفة والمتاجر مزدحمة بالناس. كانت كل الجدران مغطاة بشعارات مؤيدة للحكومة الإسلامية وأقوال مأخوذة عن الخميني. استرعى أحدها انتباهي: «لو سمح المرء لكافر أن يستمر في إفساد الأرض، فستصبح المعاناة النفسية للكافر أسوأ كثيرًا. أما لو قتل المرء هذا الكافر وحال ذلك دون ارتكابه الخطايا، فسيكون الموت نعمة له.» القتل في عالم الخميني يمكن أن يُعَد عملًا صالحًا أو «نعمة»، وهكذا يمكن أن يصوِّب حامد بندقيته إلى رأسي ويجذب الزناد معتقدًا أنه قد أسدى إليَّ معروفًا، وأنه قد يدخل الجنة لقاء ذلك.

كان المارة يشقون طريقهم بين السيارات كي يعبروا الطريق، وعند أحد التقاطعات نظر شاب إلى داخل السيارة، وعندما رأى الحارس الجالس أمام عجلة القيادة تراجع خطوة للخلف وحدق فيَّ. وكان الثلج قد بدأ يتساقط.

توقفت السيارة عندما وصلنا إلى منزل مينو، وهي إحدى صديقاتي في المدرسة. وتوقفت بجوارنا سيارة مرسيدس سوداء وخرج منها حارسان توجها إلى باب المنزل وقرعا الجرس. فتحت والدة مينو الباب، ودخل الحارسان المنزل. استدار حامد وأعطاني ورقة بها نحو ثلاثين اسمًا أعرفهم جميعًا، فقد كانوا زملائي في المدرسة، وتعرفتُ على توقيع مديرة المدرسة عليها. كانت الورقة التي أحملها في يدي قائمة بالأسماء التي تبحث عنها الشرطة في مدرستي.

قال حامد مبتسمًا: «لن نستطيع إلقاء القبض على الجميع اليوم، لكننا سننتهي من ذلك في غضون ثلاثة أيام أو نحو ذلك.»

خرج الحارسان من المنزل بعد نحو نصف ساعة، ومينو معهما. ترجَّل حامد من السيارة وفتح الباب الخلفي، وطلب منها أن تجلس بجواري. رأيتُ والدتها تبكي وهي تتحدث إلى أحد الحارسين، وأخبر حامد مينو بأنهم ألقوا القبض عليَّ منذ يومين، وطلب مني أن أنصحها بالتعاون معهم إن لم أكن أود رؤيتها تحت وطأة التعذيب.

حدقت مينو فيَّ وقد اتسعت عيناها رعبًا.

قلت لها وأنا أشير إلى قدميَّ: «أخبريهم بما يودون معرفته، فهم …»

قاطعني حامد: «يكفي هذا.»

نظرت مينو إلى قدميَّ، ثم غطت وجهها بيديها، وأخذت تبكي.

سألها حامد: «لم تبكين؟» لكنها لم تُجِبه.

خيِّل إليَّ أننا مكثنا في السيارة ساعات؛ فقد تنقَّلنا من منزل إلى آخر، وأُلقي القبض على أربعة من زملائي في المدرسة في تلك الليلة. أخبرتُ مينو همسًا بأن عليها أن تخبر الحرس ببضعة أسماء أثناء التحقيق، وأخبرتها أيضًا أن لديهم قائمة بالأسماء، وأنهم يعرفون كل شيء، ولكنني لم أكن واثقة من مدى استيعابها لما قلت.

عُصبت أعيننا فور وصولنا إلى بوابة السجن، وعندما توقفت السيارة، فُتح الباب المجاور لي وأمرني حامد بالنزول. سرت خلفه أعرج حتى دخلنا أحد المباني، فطلب مني أن أجلس على الأرض في الرواق. جلست هناك فترة طويلة أسمع بكاء السجناء وصرخاتهم. كان رأسي ينبض ألمًا، وشعرت بالغثيان.

كان النعاس قد غلبني، وانتفضت واقفة عندما سمعت صوت حامد: «مارينا، انهضي!»

تمكنت من استعادة توازني بأن استندت إلى الحائط. طَلب مني أن أتشبث بشادور فتاة تقف أمامي ففعلت، وبدأتْ تسير وأنا أعرج خلفها. كانت قدماي تؤلمانني كأني أسير على زجاج مكسور. سرعان ما خرجنا من المبنى وواصلنا السير والرياح الباردة تعصف بي. بدأت الفتاة التي أمامي تسعل، وملأ الثلج الذي كسا الأرض خُفِّي المطاطي فخدَّر قدميَّ وساعد في تخفيف الألم، لكنني كنت أفقد الشعور بقدمي شيئًا فشيئًا، وكل خطوة تزداد صعوبة عن سابقتها. تعثرت في صخرة، فوقعت أرضًا. وبينما أستند برأسي على الأرض المتجمدة، لعقت الثلج محاوِلة تخفيف جفاف فمي ومرارته. لم أشعر بالبرد أو العطش هكذا من قبل. كان جسدي يرتجف دون إرادتي، وأسناني يصطك بعضها ببعض حتى ملأ صوتها رأسي. رفعتني أيدٍ خشنة عن الأرض، وأجبرتني على الوقوف على قدميَّ.

تُرى إلى أين يأخذونني؟

صاح حامد: «سيري جيدًا، وإلا أطلقت الرصاص عليك هنا!»

جاهدت كي أواصل السير إلى أن طُلب منا التوقف أخيرًا، وأزال أحدهم العصابة عن عيني. وُجِّه ضوء ساطع إلى وجهي فأعماني وخلَّف وراءه ألمًا تفجَّر في رأسي. وبعد بضع ثوانٍ نظرتُ حولي. كانت أضواء الكشافات تشق الليل كأنها نهر أبيض متلألئ، والتلال السوداء تحيط بنا كظلال الأشباح. كنا في بقعة نائية لا تحيط بها أي مبانٍ. كانت سماء الليل مرقَّطة بسحب تجري على بساط من النجوم المتلألئة. طافت بضع من ندف الثلج في الهواء بخفة محاولة أن تطيل وجودها البلوري قبل أن تلقى مصيرها على الأرض. كان معي أربعة سجناء آخرون؛ فتاتان وشابان، وأربعة من الحرس الثوري يصوبون فوهات بنادقهم نحونا، وقد خلت وجوههم من أي تعبير. صاح حامد: «تحركوا نحو الأعمدة!» فتردد صدى صوته بين التلال. وعلى بعد سبعة أمتار ارتفعت من الأرض بضعة أعمدة خشبية في مثل طولي. نحن قاب قوسين أو أدنى من الإعدام، وشعور البرودة الذي ملأ صدري يشلني.

هذه لحظة موتي. لا أحد يستحق الموت بهذه الطريقة.

بدأ أحد الشابين يرتل بالعربية، وبصوت جهوري قوي، آيات من القرآن يرجو فيها مغفرة الله، أما الشاب الآخر فقد أخذ يحدق في الأعمدة. كانت إحدى عينيه متورمة ومغلقة، وقميصه الأبيض ملطخًا بالدماء. كرر حامد كلامه: «تحركوا بجوار الأعمدة الآن!» فأطعنا صامتين. كان الأسى يجثم على صدري مثل حجر ثقيل ويعتصر فؤادي.

أيها الرب يسوع، ساعدني! لا تدع روحي تضيع في الظلمات. «إذا سرتُ في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًّا، لأنكَ أنت معي.»

بدأت إحدى الفتاتين تجري، فصاح أحدهم: «توقفي!» ولكنها واصلت الجري. شقَّ طلق ناري سكون الليل، ووقعت الفتاة على الأرض. أخذتُ خطوة للأمام، ولكن ساقَيَّ خذلتاني. تحركتِ الفتاة على جنبها، وتقوَّس ظهرها ألمًا، وأخذت تئن: «أرجوكم … أرجوكم لا تقتلوني!» كان الثلج الذي يغطي الشادور الذي ترتديه يلمع في الضوء الساطع، ووقف حامد فوقها يصوِّب بندقية إلى رأسها، فغطت الفتاة رأسها بذراعيها.

أخذت الفتاة الواقفة إلى جواري تبكي، وبدت صرخاتها العميقة كأنها تمزق صدرها، ثم جثت على ركبتيها.

صاح حامد: «قيدوا الآخرين إلى الأعمدة!»

رفعني أحد الحراس عن الأرض وقيدني آخر إلى العمود، فانغرس الحبل في لحمي.

كنت منهكة للغاية.

«هل سيؤلمني الموت كما آلمني الجلد؟»

ما زال حامد يصوب بندقيته نحو الفتاة المصابة.

– «أيها الحراس! استعدوا!»

الموت ليس سوى مكان لم أذهب إليه من قبل. سوف يساعدني الملاك كي أجد طريقي. لا بد أن يفعل. هناك ضوء خلف هذا الظلام الرهيب. في مكان ما خلف النجوم، تشرق الشمس.

صوَّبوا بنادقهم نحونا، فأغمضت عيني.

أتمنى أن يعلم أندريه بحبي له. السلام عليك يا مريم، يا ممتلئةً نعمة، الرب معك …

سمعت صوت سيارة تسرع نحونا، ففتحت عيني، وللحظة تخيلت أنهم سيدهسوننا بالسيارات. علا صرير الفرامل، وتوقفت سيارة مرسيدس سوداء أمام الحراس مباشرة. ترجَّل عليٌّ منها، وتوجه نحو حامد وأعطاه ورقة. تبادلا الحديث هنيهة، ثم هز حامد رأسه. أخذ عليٌّ يتقدم نحوي وعيناه مثبتتان عليَّ، أردت أن أجري، أردت أن يطلق حامد الرصاص عليَّ وينهي حياتي. فك عليٌّ قيدي فخذلتني قواي وسقطتُ على الأرض، حملني وسار بي نحو السيارة. شعرت بدقات قلبه، وحاولت بلا جدوى أن أخلِّص نفسي من بين ذراعيه.

– «إلى أين تأخذني؟»

أجابني همسًا: «لا تقلقي؛ لن أؤذيك.»

التقت عيناي بعينَي الفتاة التي كانت مقيدة بجواري.

صرخت الفتاة: «يا إلهي …» وأغمضتْ عينيها.

وضعني عليٌّ في المقعد الأمامي للسيارة وأغلق الباب، فحاولت أن أفتحه لكنه كان موصدًا. وثب إلى مقعد السائق. استجمعت قواي وأخذت ألكزه، ولكنه أعاق حركتي بيد واحدة، وبينما كنا نبتعد سمعت صوت إطلاق الرصاص.

•••

فتحت عيني على ضوء مصباح يسطع فوق رأسي فرأيت سقفًا رماديًّا. حاولت أن أتحرك، ولكنني لم أشعر بجسدي. كان عليٌّ جالسًا في أحد الأركان يحدق إليَّ، وكنت أرقد على الأرض في زنزانة صغيرة.

أغمضت عينيَّ وتمنيت أن يرحل، لكن عندما فتحتهما مرة أخرى بعد مرور دقيقتين وجدته ما زال جالسًا هناك. هز رأسه، وأخبرني أني جلبت المتاعب لنفسي بعنادي. قال إنه ذهب إلى آية الله الخميني الذي كان صديقًا مقربًا لوالده كي يخفف عني الحكم من الإعدام إلى السجن مدى الحياة. وهكذا أصدر آية الله أوامره بألا أُعدم.

لم أُرد أن ينقذني آية الله. لم أُرد أن ينقذني أحد. كنت أريد الموت.

قال عليٌّ دون أن يرفع عينه عني: «سأحضر لكِ طعامًا، فأنت لم تتناولي أي شيء منذ وقت طويل.» لكنه لم يتحرك. شعرت بأن نظراته تخترق جسدي، فلففت الغطاء بإحكام حولي حتى بدأتْ أصابعي تؤلمني. وأخيرًا قام من مكانه، وتوترتْ كل عضلة في جسدي.

سألني: «هل أنت خائفة مني؟»

تمتمتُ: «لا.»

– «لا داعي للخوف.»

كان الشوق في عينيه عميقًا صادقًا، فشعرت بألم في معدتي، وبأن صرخة تتهيأ للخروج من حلقي، لكنه استدار وغادر الزنزانة. كان جسدي يرتجف مع كل دمعة تنحدر من عيني. كنت أكرهه.

•••

عاد عليٌّ حاملًا طبقًا من الحساء وجلس إلى جواري.

– «أرجوكِ لا تبكي.»

لم أستطع حبس دموعي.

– «أتريدينني أن أرحل؟»

أومأت برأسي.

– «سوف أرحل إن وعدتِني بأن تتناولي الحساء كله. هل تعدينني بذلك؟»

أومأت مرة أخرى.

توقف عند الباب، واستدار نحوي، وقال بصوت تبدو عليه آثار التعب: «سوف أطمئن عليكِ فيما بعد.»

ماذا سيحدث لي؟ لماذا أنقذني من فرقة الإعدام؟ لست أدري.

آخر مَن خطر ببالي قبل أن أستغرق في النوم هي سارة، تمنيت أن تكون بخير، وكل ما استطعت فعله هو الدعاء لي ولها ولسيرس وجيتا وكل أصدقائي الذين أُلقي القبض عليهم.

منذ زمن ليس ببعيد كنا جميعًا في المدرسة نلهو ونمرح. الآن أصبحنا سجناء سياسيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤