الفصل الخامس

كانت المدرسة الابتدائية التي أذهب إليها في زمن الشاه ذات أسوار قرميدية حمراء مغطاة بالكروم، وتبعد مسيرة عشر دقائق عن المنزل، فكنت أذهب إليها وأعود منها بمفردي. كان مبنى المدرسة القديم في الأصل قصرًا مكونًا من طابقين، وأخبرني أصدقائي أن مديرة المدرسة مرتضوي خانم التي التحقت بالجامعة في الخارج قد حوَّلت هذا القصر لمدرسة فور عودتها إلى إيران. ومع أن كل الفصول كانت بها نوافذ طويلة، فإن المكان كان مظلمًا بالداخل دائمًا بسبب بعض أشجار القيقب العتيقة التي تنمو في فناء المدرسة، وكان لا بد من إضاءة الأنوار كي نتمكن من رؤية السبورة. بعد انتهاء اليوم الدراسي كل يوم أخرج أنا وسارة من المدرسة ونعبر الشارع معًا، ثم تنعطف هي يسارًا وأنا يمينًا، ثم أستمر في السير جنوبًا في شارع «رازي»، وأمرُّ بالأسوار القرميدية التي تحيط بسفارة الفاتيكان ومطعم «أشنا» الذي تفوح منه رائحة الأرز المميزة واللحم المشوي، ثم أمرُّ بمتجر صغير يبيع الملابس الداخلية يعرض مجموعة من ثياب النوم الحريرية الناعمة. ولمَّا لم تكن أمي معي تأخذ بيدي وتأمرني أن أعتدل في سيري، كنت أحيانًا أتخيل نفسي سحابة بيضاء صغيرة تنجرف وسط السماء الزرقاء، أو راقصة باليه أمام حشد كبير من الناس، أو سفينة تبحر في نهر سحري.

ما دمت لم أتأخر في الوصول إلى المنزل، فلا داعي للعجلة، ولكنني كنت دومًا حريصة على ألا أُغضب أمي؛ إن كان لديها زبائن فعليَّ الابتعاد عن الصالون، وإن لم يكن، فعليَّ التزام الهدوء لأنها كانت تعاني من الصداع غالبًا. كنت خرقاء، وكان عليَّ أن أنتبه كي لا أكسر شيئًا أو أُحدث فوضى عند إعداد شطيرة لنفسي، أو عند صب المياه الغازية أو الشاي المثلج في الكوب. كانت أمي سريعة الغضب، وجميلة أيضًا؛ فكانت لها عينان بنيتان وأنف دقيق وشفتان ممتلئتان وساقان طويلتان، وكانت تحب ارتداء الفساتين ذات فتحات العنق الكبيرة كي تظهر بشرتها البيضاء الناعمة. كل خصلة من خصلات شعرها القصير الداكن كانت في مكانها دائمًا. وعندما أُغضبها، كانت توصد باب الشرفة المتصلة بغرفتي عليَّ وأنا بالخارج. كانت الشرفة محاطة بستائر الخيزران التي تستند إلى عمودين أفقيين وبضعة أعمدة رأسية. ومن الشرفة كنت أشاهد السيارات والمشاة يملئون الشوارع، والباعة يعلنون عن بضاعتهم، والمتسولين يستجدون الناس. كان الشارع المرصوف ذو الحارات الأربع يغص بالزحام المروري في ساعات الذروة، والجو يعبق برائحة العادم. وفي الجانب الآخر من الشارع، كان حسن أغا — البائع الأكتع — يبيع البرقوق الأخضر الحامض في الربيع، والخوخ والمشمش في الصيف، والبنجر الأحمر المطهو في الخريف، وأنواعًا مختلفة من الكعك المحلى في الشتاء. كنت أحب البنجر المطهو على نار هادئة في وعاء واسع مسطح على لهيب موقد متنقل، حيث تغلي عصارته اللزجة وتتصاعد منها الأبخرة لتملأ الهواء برائحة حلوة. وفي الجانب الآخر من التقاطع يجلس رجل ضرير مسنٌّ يرتدي حلة ممزقة متسخة، ويمد يديه الضامرتين للمارة وهو يصيح: «ساعدوني لوجه الله!» من طلوع الشمس حتى غروبها. أمام شقتنا كان يوجد مبنى مكون من خمسة عشر طابقًا، له نوافذ كبيرة من زجاج المرايا تلمع في الشمس وتعكس حركة السحب. وفي الليل تضاء مصابيح النيون الساطعة أعلى المتاجر وتلون الظلام بضوئها.

ذات يوم قررت أن أي عقاب سيكون أفضل من الحبس في الشرفة. نظرت إلى أسفل، ووجدت القفز مستحيلًا. كان بإمكاني أن أصرخ، لكنني لم أرغب في لفت الأنظار كي لا يعرف جميع الجيران أن أمي حبستني داخل الشرفة. نظرت حولي، فوجدت الحقيبة البلاستيكية الصغيرة التي تضع فيها أمي مشابك الغسيل، ونظرت إلى الرصيف المزدحم مرة أخرى. إذا أسقطتُ المشابك على المارة، فلن تؤذيهم، لكن الفضول سيدفعهم إلى اكتشاف ما سقط على رءوسهم من السماء. عندها يمكنني أن أخبرهم بأمر المشابك وأتوسل إليهم أن يدقوا الجرس ويطلبوا من أمي أن تسمح لي بالدخول. كنت أعلم أن أمي ستغضب، لكني لم أهتم، فلم يكن بوسعي تحمل الحبس الانفرادي أكثر من ذلك. كنا في الشتاء، والرياح الباردة بدأت تهب، وسرعان ما اختفت الشمس وراء السحب وأخذت ندف الثلج تتساقط على وجهي. استجمعت شجاعتي وأمسكت مشبكًا، واستندت إلى ستائر الخيزران التي تحيط بالشرفة، وأخذت نفسًا عميقًا، وأسقطته، لكنه لم يسقط على أحد، بل سقط على الرصيف. أعدت الكرَّة، ونجحت. توقفت امرأة في منتصف العمر ذات شعر بني طويل، وتحسست رأسها، ونظرت حولها، ثم انحنت للأمام، والتقطت المشبك، وتفحصته؛ وأخيرًا نظرت لأعلى وحدقت في عيني مباشرة.

سألتني وملامح وجهها توحي بالغضب: «ماذا تفعلين أيتها الفتاة؟»

– «آسفة. لم أقصد إيذاءك، لكن أمي حبستني هنا في الشرفة، وأريد الدخول لأن الجو بارد. هلا قرعت الجرس وطلبت منها أن تسمح لي بالدخول؟»

قالت وهي تبتعد: «بالطبع لا! لا دخل لي بالطريقة التي تعاقبك بها أمك. وعلى ما يبدو أنت تستحقين ذلك.» لكني لم أكن لأستسلم.

في المرة التالية سقط المشبك على رأس سيدة أكبر سنًّا ترتدي شادورًا أسود، فنظرت للأعلى في الحال.

سألتني: «ماذا تفعلين؟» فأخبرتها بقصتي.

قرعت السيدة الجرس، وسرعان ما ظهرت أمي في الشرفة الأخرى التي لم يكن يفصلها عن شرفتي سوى بضعة أمتار، ونظرت للأسفل متسائلة: «من هناك؟»

وبينما كانت السيدة تخبر أمي عما فعلتُ وعن سبب فعلتي هذه، رأيت عينَي أمي تقدحان شررًا، وبعد دقيقة فُتح باب شرفتي، لكني ترددت في الدخول.

قالت أمي وهي تكزُّ على أسنانها: «ادخلي الآن.» فدخلت غرفة نومي.

قالت: «يا لك من طفلة مزعجة!»

ارتجفتُ خوفًا، وتوقعت أن تصفعني، ولكنها بدلًا من ذلك استدارت، وأخذت تبتعد وهي تقول: «إني راحلة. لقد تعبت. أنا أكره هذه الحياة، ولا أرغب في رؤيتك مرة أخرى!»

شعرت بألم في أحشائي. لا يمكنها أن ترحل، أو هل يمكنها ذلك؟ كانت تبدو جادة. ماذا عساي أن أفعل بلا أم؟ جريت خلفها وتشبثت بتنورتها، لكنها لم تتوقف.

توسلت إليها: «أرجوك لا ترحلي. أنا آسفة. أعدك أن أعود إلى الشرفة وأن أبقى هناك دون أن أثير المتاعب. أعدك بذلك.»

لم تلتفت إليَّ، بل ذهبتْ إلى المطبخ، وأمسكت بحقيبة يدها، وتوجهت نحو السُّلَّم. شعرتُ بالذعر، وبدأت أبكي، لكنها لم تتوقف. تشبثت بإحدى ساقيها، ولكنها استمرت في هبوط الدرَج تجرني خلفها. كان الدرَج قاسيًا شديد البرودة. توسلت إليها مرة أخرى أن تبقى، فتوقفت أخيرًا عند الباب.

– «إذا كنتِ تريدينني أن أبقى، فاذهبي إلى غرفتك وامكثي بها ولا تصدري صوتًا.»

حدقتُ إليها.

صرختْ في وجهي: «الآن!» فجريتُ إلى غرفتي.

بقيتُ فترة بعد تلك الواقعة، أجلس بجوار النافذة كلما خرجتْ أمي من المنزل للتسوق أو الذهاب لأي مكان وأنا أرتجف خوفًا، وأتساءل ماذا لو لم تعد أبدًا؟

***

قررت أن أبتعد عن طريق أمي، وكان أفضل سبيل لذلك هو البقاء في غرفتي أطول وقت ممكن. عندما أعود من المدرسة كل يوم، أتسلل على أطراف أصابعي إلى المطبخ كي أرى هل هي هناك أم لا. إذا لم أجدها، أعد لنفسي شطيرة من السجق. وإذا وجدتها، ألقي عليها تحية سريعة ثم أذهب إلى غرفتي وأنتظر حتى تغادر المطبخ. وبعد تناول الطعام أمكث في غرفتي أؤدي واجباتي المدرسية وأقرأ الكتب التي استعرتها من مكتبة المدرسة والتي كان معظمها مترجمًا مثل: «بيتر بان»، و«أليس في بلاد العجائب»، و«عروس البحر الصغيرة»، و«ملكة الثلج»، و«الرجل القصدير»، و«سندريلا»، و«الجمال النائم»، و«هانزل وجريتل»، و«رابونزل». كانت مكتبة مدرستي صغيرة، وسرعان ما قرأت كل الكتب التي تحتوي عليها، ليس مرة واحدة بل ثلاث أو أربع مرات. وكل ليلة كانت أمي تفتح باب غرفتي مرتين لترى ماذا أفعل، وتبتسم عندما تجدني أقرأ. يمكنني القول إن الكتب أنقذتنا نحن الاثنتين.

ذات يوم استجمعت شجاعتي، وسألت أمي هل من الممكن أن تبتاع لي بعض الكتب، فأخبرتني أنها لا تستطيع أن تبتاع أكثر من كتاب واحد في الشهر، لأن أسعار الكتب مرتفعة ولا يمكننا إنفاق كل ما نملك عليها. لكن كتابًا واحدًا في الشهر لم يكن كافيًا. بعد بضعة أيام، كنت أنا وأمي عائدتين إلى المنزل بعد زيارة جدي، فرأيت مكتبة صغيرة تحمل لافتة كُتِب عليها: «كتُب مستعملة». كنت أعلم أن كونها مستعملة يعني أنها رخيصة الثمن، لكني لم أجرؤ أن أطلب من أمي أن تتأكد من ذلك.

بعد أسبوع أخبرتني أمي أن الوقت قد حان لزيارة جدي، فأخبرتها بأنني لست على ما يرام، ووافقتْ على بقائي في المنزل. كان أبي في العمل؛ فعقب وفاة جدتي بوقت قصير أغلق استوديو الرقص وحصل على وظيفة في وزارة الفنون والثقافة مع فرق الرقص الشعبي. أحبَّ أبي وظيفته الجديدة، وكان أحيانًا يجوب أنحاء العالم مع الراقصين والراقصات الذين يمثلون إيران في المسابقات العالمية. فور أن غادرت أمي المنزل، هرعتُ إلى غرفتها، وأخذت مفاتيح المنزل الاحتياطية من درج خزانتها. كنت قد ادخرت كل النقود التي عادة ما أنفقها في شراء اللبن بالشيكولاتة لمدة أسبوع، وتمنيت أن تكفي لشراء كتاب.

أسرعت إلى مكتبة الكتب المستعملة. كانت شمس أواخر الربيع تشرق على الأسفلت الأسود وتكوِّن موجات من الهواء الساخن تهب في وجهي. عندما وصلت إلى المكتبة كانت قطرات العرق تنحدر من جبهتي وتحرق عيني، فمسحت وجهي بقميصي ودفعت الباب الزجاجي للمكتبة وخطوت داخلها. وما إن اعتادت عيناي على الإضاءة الخافتة، لم أصدق ما رأيت. في كل مكان حولي كانت أكوام الكتب مكدسة على الأرفف حتى السقف، تاركة بينها ممرات ضيقة اختفت وسط الظلام. كنت محاطة بآلاف الكتب، والجو مشبع برائحة الورق؛ برائحة القصص والأحلام التي تحيا في كلمات مكتوبة.

ناديت: «أيوجد أحد هنا؟»

لم يجبني أحد.

كررت النداء بصوت أعلى: «أيوجد أحد هنا؟»

ومن أعماق أحد ممرات الكتب أتاني صوت رجل بلكنة أمريكية خالصة: «كيف يمكنني أن أساعدك؟»

تراجعت خطوة للخلف وأنا أقول: «أين أنت؟»

ظهر أمامي في الحال شبح رمادي، فأطلقت شهقة.

ضحك الشبح.

– «آسف يا صغيرتي. لم أقصد إخافتك. ماذا تريدين؟»

كان عليَّ أن أذكِّر نفسي بأن ألتقط أنفاسي.

– «أريد … أريد أن أشتري كتابًا.»

– «أي كتاب؟»

أخرجت كل النقود التي بحوزتي من جيبي وأريتها للعجوز النحيف الواقف أمامي.

– «لدي كل هذه النقود. المهم أن يكون كتابًا ممتعًا.»

ابتسم الرجل، وحرك أصابعه بين خصلات شعره الأشيب.

– «لم لا تذهبين إلى المخبز المجاور وتشترين بعض الكعك المحلى بدلًا من ذلك؟»

– «ولكني أريد كتابًا. ألا تكفي هذه النقود؟»

– «المشكلة يا صغيرتي أن كل الكتب هنا مكتوبة باللغة الإنجليزية. هل تتحدثين الإنجليزية؟»

– «مستواي جيد جدًّا في الإنجليزية، فنحن ندرسها مدة ساعة يوميًّا في المدرسة، وأنا في الصف الثالث الآن.»

قال متنهدًا: «حسنًا، دعيني أرى الكتاب المناسب لك.» ثم اختفى خلف تلال الكتب.

انتظرت وأنا أتساءل كيف سيجد شيئًا وسط تلك الفوضى، لكنه ظهر بأعجوبة من بين الأكوام المظلمة وهو يحمل في يده كتابًا. قال وهو يعطيني إياه: «ها هو كتاب «الأسد والساحرة وخزانة الملابس»، إنه كتاب رائع، وهو العدد الأول في سلسلة من الكتب.»

تفحصت الكتاب. كان ذا غلاف رمادي مائل إلى الزرقة، في منتصفه صورة أسد يقفز في الهواء ويجلس على ظهره فتى وفتاة. بدا الكتاب قديمًا، ولكنه بحالة جيدة.

– «كم ثمنه؟»

– «خمسة تومانات.»

قلت وأنا أكاد أبكي: «لكنني لا أملك سوى أربعة تومانات.»

– «حسنًا، تكفي أربعة.»

شكرته، وأسرعت إلى المنزل والسعادة تملؤني.

•••

بعد ثلاثة أيام، انتهيت من قراءة «الأسد والساحرة وخزانة الملابس» مرتين، وأحببتها كثيرًا. أردت المزيد، لكن لم يكن معي سوى تومانين، ولم أكن متأكدة هل سيكون صاحب المكتبة كريمًا معي مرة أخرى. وخشيت أن أطلب من أمي نقودًا، فقررت أن أبيع حافظة أقلامي لصديقتي سارة. كانت سارة قد سألتني في بداية العام الدراسي عن المكان الذي اشتريتها منه، وأخبرتها أن أمي اشترتها لي من المتجر الكبير الذي يقع في تقاطع شارعَي «شاه» و«بهلوي»، لكن عندما ذهبت والدة سارة لتشتري لها واحدة، وجدتها قد بيعت جميعها، وحزنت سارة كثيرًا. كانت تلك الحافظة علبة بلاستيكية زرقاء ذات قفل مغناطيسي يُصدر صوتًا عند إغلاقه. وفي اليوم التالي قابلتُ سارة في طريقي إلى المدرسة. كانت عيناها بنيتين واسعتين، وشعرها أسود كثيفًا مجعدًا يصل إلى كتفيها، ولديها ساعة فاخرة عليها صورة سندريلا والأمير وهو يضع حذاء زجاجيًّا في قدمها، وسندريلا جالسة على مقعد تضع ساقًا فوق الأخرى، وساقها تتحرك للأمام وللخلف كل ثانية. كانت والدة سارة قد اشترت لها هذه الساعة عندما كانوا يقضون إجازتهم في إنجلترا. سألتُها هل ما زالت ترغب في الحصول على حافظة أقلامي، فقالت نعم. أخبرتها أني على استعداد لأن أبيعها لها، فتساءلت في ريبة عن السبب، فأخبرتها بأمر المكتبة. وافقت سارة أن تعطيني خمسة تومانات، بشرط أن أعطيها ممحاتي المعطرة أيضًا، وقبلت شروطها.

بعد انتهاء اليوم الدراسي استغرق الأمر أقل من خمس دقائق كي نصل جريًا إلى منزل سارة الذي يقع في شارع متعرج ضيق يضم كل منزل من منازله فناءً صغيرًا، وتحيط به جدر قرميدية مرتفعة كي توفر الخصوصية للساكنين. كنت أحب الشارع الذي تقطن فيه، لأنه هادئ بلا سيارات أو متاجر أو باعة أو متسولين. كان الجو مشبعًا برائحة البصل والثوم المحمر الذي يثير الشهية؛ ربما كان أحد الجيران يطهو العشاء. كانت سارة تحمل مفتاحًا للمنزل، فوالداها يعملان ويعودان إلى المنزل في وقت متأخر من اليوم. فتحتِ الباب، وخطونا إلى فناء المنزل. رأيتُ على يميننا حوضًا صغيرًا من الزهور تملؤه زهور الجيرانيوم والبانسيه الحمراء والخضراء والبنفسجية.

تمنيت أن أعيش في منزل كمنزل سارة. كانت والدتها ممتلئة الجسم ذات شعر أسود قصير، تعمل في أحد البنوك، ودائمًا ما ترتدي بذلات أنيقة وأحذية سوداء لامعة عالية الكعبين. كانت تعانقني كلما ذهبتُ لزيارتهم، وتبدي سعادة غامرة بزيارتي لهم. أما والد سارة فكان مهندسًا قوي البنية، دائمًا يطلق النكات المضحكة، ويضحك بصوت مرتفع، ويقرأ أشعارًا قديمة جميلة. وكان شقيق سارة الوحيد — سيرس — في الثانية عشرة من العمر، أي يكبرني أنا وسارة بثلاث سنوات، وعلى النقيض من بقية أفراد أسرته كان شديد الخجل. كان منزل سارة على الدوام يعمُّ بالصخب والضحكات.

أعطيت سارة حافظة الأقلام وأعطتني النقود، ثم اتصلتُ بأمي، وأخبرتها أني ذهبت إلى منزل سارة كي أساعدها في أداء واجباتها المدرسية. لم تمانع أمي، فشكرتُ سارة وانطلقت عدوًا إلى المكتبة، ووجدتها بنفس الحالة من الظلام والأتربة والغموض كما رأيتها أول مرة، ومرة أخرى ظهر الرجل المسن فجأة من وسط الظلام.

قال وعيناه تضيقان: «دعيني أخمن: أنت لم تفهمي حرفًا من الكتاب، وجئتِ الآن لتستردي نقودك، أليس كذلك؟»

– «كلا، بل قرأته مرتين وأحببته كثيرًا. هناك بضع كلمات لم أفهمها، لكني استخدمت معجم أبي. أتيت كي أشتري الجزء الثاني من السلسلة. هل هو موجود؟ لقد بعت حافظة أقلامي وممحاتي المعطرة لصديقتي سارة، ولديَّ ما يكفي من النقود هذه المرة.»

حدَّق العجوز في ولم يتحرك، فانقبض قلبي. ربما لا يكون الكتاب الثاني موجودًا لديه.

– «هل الكتاب موجود لديك؟»

– «نعم، ولكن … لستِ مضطرة لدفع ثمنه. يمكنك استعارته إذا وعدتني بأن تعتني به وتعيديه لي عند الانتهاء من قراءته … مرتين.»

خطر في ذهني ملاكي الحارس. ربما يتظاهر بكونه رجلًا مسنًّا هذه المرة. نظرت في عينَي الرجل، فبدت لي مثل عينَي الملاك تمامًا، تتمتعان بنفس اللون الداكن والعمق والطيبة. نظرت إلى الكتاب فوجدته يحمل عنوان «الأمير كاسبيان».

سألني: «ما اسمك؟»

– «مارينا. وأنت؟»

– «ألبرت.»

حسنًا … ملاك اسمه ألبرت.

ومنذ ذلك اليوم اعتدت على زيارة ألبرت واستعارة الكتب منه مرة على الأقل أسبوعيًّا.

•••

التحقت بالمدرسة الإعدادية في سن الحادية عشرة. وفي ذلك الوقت كانت الحكومة تمول كل المدارس والجامعات في إيران، ولكن بعض المدارس أثبتت أنها أفضل من غيرها، ومنها مدرسة «أنوشروان دادجر»، وهي مدرسة فتيات زرادشتية إعدادية وثانوية. لم يقع اختيار والداي على هذه المدرسة لأنها من أفضل المدارس، ولكن لأنها تقع على مقربة من منزلنا.

يتبع الزرادشتيون تعاليم نبيِّهم «زرادشت» الذي وُلد في بلاد فارس منذ نحو ثلاثة آلاف عام، ودعا الناس إلى الإيمان بالإله الواحد الأحد: «أهورا مازدا». وأثناء دراستي بالمدرسة كانت أغلبية الطلاب إما من الزرادشتيين أو المسلمين، ولكن كان هناك أيضًا بعض البهائيين واليهود وثلاثة أو أربعة من المسيحيين.

الأسقف المرتفعة والنوافذ المتعددة للمدرسة التي شُيدت منذ أربعين عامًا جعلتها تبدو فسيحة، والممرات الطويلة بدت كأنها بلا نهاية، وكان هناك دَرَجان عريضان يوصلان الطابق الأول بالثاني، وعمودان يبلغ ارتفاعهما طابقين يقفان على جانبَي المدخل الرئيسي مكتوب فوقهما بحروف كبيرة: «الأفكار الصالحة والأقوال الصالحة والأعمال الصالحة» وهو شعار الديانة الزرادشتية. كان لدينا أيضًا صالة للألعاب الرياضية بها ملاعب لكرة السلة والكرة الطائرة، وكان فناء المدرسة الممهد محاطًا بأسوار قرميدية مرتفعة.

على مدار ثلاثة أعوام كانت زياراتي لمكتبة ألبرت أهم حدث في حياتي. كان ألبرت قد قرأ مئات الكتب المتراكمة بعضها فوق بعض في مكتبته، وكان يعلم جيدًا مكان كلٍّ منها، ويحب الحديث عنها. كان متزوجًا ولديه ابن، وأخبرني أن ابنه — الذي كان متزوجًا ولديه طفلان — قد انتقل للعيش في الولايات المتحدة منذ عامين. وفي عيد الميلاد الأول بعد لقائنا، أعطاني ألبرت عبوة مغلفة بورق أحمر، وعندما فتحتها وجدت سلسلة «سجلات نارنيا»، بالإضافة إلى حافظة أقلام زرقاء جميلة ممتلئة بأقلام رصاصية ملونة ومماحٍ معطرة برائحة العلكة.

آخر مرة رأيت فيها ألبرت بعد عيد ميلادي الثاني عشر ببضعة أيام. كان يومًا ربيعيًّا جميلًا يمتلئ بتغريدات الطيور والشمس الدافئة. فتحت باب المكتبة الزجاجي مبتسمة وأنا أضم رواية «نساء صغيرات» إلى قلبي.

– «مرحبًا أﻟ…»

طافت ذرات التراب فوق شعاع الشمس الذي تدفق على الأرضية المغطاة بالمشمع، ووجدت المكتبة خالية تمامًا. شعرت كأني أقف على حافة صحراء، وأن رياحًا قوية عنيفة هبَّت للتوِّ في وجهي، فأطلقتُ شهقة وحاولت أن ألتقط أنفاسي. كان ألبرت يجلس على صندوق كبير من الورق المقوى في منتصف هذا الفراغ الرهيب وينظر لي بابتسامة حزينة تعلو وجهه.

سألته: «أين الكتب؟»

أخبرني أنه باع معظمها لمكتبة أخرى، لكنه احتفظ بكل كتبي المفضلة في الصندوق الذي يجلس عليه، ووعدني بإحضارها إلى منزلي فيما بعد. أراد أن يخبرني بذلك سابقًا، لكنه لم يستطع. كان هو وزوجته على وشك الرحيل من إيران ليلحقا بابنهما في الولايات المتحدة. لم يكن ألبرت يرغب في الرحيل، لكن زوجته لم تكن على ما يرام، وأرادت قضاء ما تبقى من أيامها مع ابنها وأحفادها، وهو لم يستطع أن يرفض طلبها، فقد تزوجا منذ واحد وخمسين عامًا، وتلك أمنيتها الأخيرة.

أخرج ألبرت منديلًا أبيض من جيب قميصه ومسح أنفه. شعرت بوهن حلَّ فجأة على ذراعيَّ وساقيَّ، وهنا نهض ألبرت، واقترب مني، ووضع يديه على كتفي.

– «لقد شاهدتُك وأنت تكبرين، وقد منحتني البهجة والسعادة. سوف أفتقدك، فأنا أعتبرك ابنتي.»

طوقتُه بذراعي وعانقته عناقًا حارًّا، وبدا لي الرحيل للولايات المتحدة موجعًا وأبديًّا مثل الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤