نساء الظل١

إذا استمدَّت (المرأة أو الرجل) قيمتها من منصب زوجها أو أبيها أو جدها، فهل تشعر أن لها قيمة حقًّا؟

كيف يكون للإنسان أو الإنسانة قيمة في الحياة؟ ألا ترتبط قيمة الإنسانة أو الإنسان بما يعمل، وليس بعلاقة النَّسب أو الزواج أو الأسرة البيولوجية؟

لماذا يرفض الناس في بلادنا وفي جميع بلاد العالم فكرةَ توريث الحكم للابن أو للبنت؟

لماذا يُعتبر النظام الجمهوري القائم على الانتخاب أكثر تقدُّمًا من النظام الملكي القائم على التوريث والعلاقات العائلية؟

لو درسنا الماضي القريب أو البعيد أدركنا أن السبب الرئيسي لسقوط أي نظام هو تراجع قيمة الإنسان الأكثر كفاءةً أو إبداعًا أو ذكاءً أمام قيمة العلاقة الشخصية أو العائلية أو الزوجية.

وفي النهاية لا يبقى في التاريخ الإنساني إلا صاحبات وأصحاب الكفاءة والإبداع في أي مجال.

فهل يذكر أحد اسم رئيس الدولة في عصر دوستيوفسكي أو فرجينيا وولف أو مي زيادة؟ هل يذكر أحد اسم رئيس الدولة في عصر سقراط أو جاليليو أو أينشتاين؟

هذا هو الانتخاب التاريخي الطبيعي الذي يتمشى مع المنطق والعدل، إن قيمة الإنسانة أو الإنسان هي قيمة ما يعمل، ومدى إسهامه (أو إسهامها) في تقدم الإنسانية وتغيير المجتمع البشري يكون أكثر عدالةً وحريةً وحُبًّا وفنًّا.

ولهذا أنا أختلف مع فكرة أن زوجة الرئيس أو الحاكم في أي دولة لا بد وأن تكون الزوجة تابعةً لزوجها بحكم القيم الطبقية الأبوية الموروثة.

حيث يُفرَض على الزوجة أن تتفرغ لمصالح الزوج والأطفال والأسرة، بحجة أن هذا هو القانون الطبيعي، حسب علم البيولوجيا التقليدي، والقيم الأخلاقية الواردة في الكتاب المقدَّس، ومفاهيم الطب النفسي الفرويدي النابعة من كل ذلك، والتي أشاعت أن سعادة المرأة الطبيعية في الدنيا والآخرة هي سعادة الجواري والعبيد؛ أي السعادة النابعة من إرضاء الأسياد، هكذا تكمن سعادة المرأة في إرضاء الرجل، سيدها ورئيسها رب العائلة الكبيرة والصغيرة وكل شيء.

هذه هي القيم التي توارثها المجتمع الأمريكي الرأسمالي الحديث وما بعد الحديث، وهي القيم ذاتها التي توارثتها أغلب الأنظمة الحاكمة في عالمنا المعاصر، بما فيها الأنظمة الحاكمة في بلادنا بطبيعة الحال.

لقد تعرَّفتُ على المجتمع الأمريكي من الداخل؛ حيث عايشتُ الحركة النسائية الأمريكية، والتقيتُ بزعيمات هذه الحركة، من كاتبات أو نشيطات سياسيًّا واجتماعيًّا، منذ أربعين عامًا، خلال الستينيات، مع النهضة الفكرية الناقدة للنظام الرأسمالي الذكوري، مع الحركات السياسية التحريرية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، مع صعود القوى الاشتراكية والديمقراطية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي والصين والهند وغيرها، مع سقوط الأنظمة الملكية في مصر وبلاد أخرى عربية وغير عربية.

عام ١٩٦٥ في نيويورك التقيتُ ببعض النساء الأمريكيات اللائي كن جزءًا من الحركة السياسية المعادية للحكومة الأمريكية وحربها في فيتنام، وكن جزءًا من الحركة الاجتماعية والثقافية المعادية لقهر الزنوج والنساء، كانت الواحدة منهن ممشوقة العقل والجسد، إلا أن الحركة النسائية ضُرِبَت، والحركة الاشتراكية ضُرِبَت، واستطاع النظام الرأسمالي الذكوري أن يستعيد قوَّته عن طريق الرِّدة إلى الوراء، إلى القيم الأخلاقية الواردة في الكتاب المقدَّس، إلى قوانين البيولوجيا القديمة منذ العبودية، التي تقول إن بيضة الأنثى ساكنة سلبية لا عمل لها إلا انتظار الذكر، وإن المرأة مجرد وعاء للإنجاب وإمتاع الرجل وخدمته، وعادت مفاهيم الطب النفسي القديم بسطوتها وجبروتها، ومنها تسليط الكهرباء على دماغ المرأة (أو الرجل) التي تتحدى هذه القيم، باعتبارها مريضة نفسيًّا، أو شاذة، أو مجنونة، أو على الأقل مأجورة لحساب الشيطان (أو الأعداء).

(١) الرِّدة العالمية

عام ٢٠٠٥ التقيتُ بإحدى الزعيمات الأمريكيات من هؤلاء النشيطات القديمات، عادت إلى الصلاة في الكنيسة، بجوار الأرض زيرو (حيث سقوط برجي التجارة العالمية في نيويورك)، أصبحت تتمتم بآيات من الكتاب المقدَّس، أقامت مدرسة للفتيات تحت اسم «العودة إلى الروحانيات وقيم العائلة المقدَّسة»، تدعوها السيدة الأولى «لورا بوش» إلى الحفلات، وتشارك معها في أنشطة ما يُسَمَّى المجلس النسائي الأعلى أو شيء من هذا القبيل.

ذكَّرَتني هذه الزعيمة الأمريكية بصديقةٍ لي مصرية منذ الستينيات، كانت ناصرية أكثر من جمال عبد الناصر، وأكثر اشتراكية من الاشتراكيين المصريين الذين قضوا في السجون أكثر من عشر سنين، كانت ممشوقة الجسم سريعة الحركة، إلا أنني قابلتها منذ أيام، رأيتها ثقيلة الجسم والحركة، تلفُّ رأسها بطرحةٍ، في أذنيها حلق ثمين ثقيل الوزن، حول عنقها فصوص من الماس، تتأرجح فوق حذاء أمريكي لامع له بوز طويل مدبَّب، وكعب رفيع عالٍ، كانت في طريقها إلى حفل عشاء مع السيدة الأولى، أو اجتماع في المجلس القومي للمرأة، أو في منظمة مما يسمُّونها اليوم منظمة نسائية غير حكومية.

(٢) اللقب المستورَد

«السيدة الأولى»، جاءنا هذا اللقب إلى مصر مع البضائع المستورَدة الأمريكية والأوروبية، وهو يُعلي من القيم الطبقية الذكورية، يُعطي المرأة الزوجة (زوجة الحاكم أو صاحب السلطة) مكانةً أعلى من المرأة العاملة في المجتمع، المبدعة المنتجة في المجال السياسي أو الثقافي أو غيرهما.

وهو لقبٌ يعود بنا إلى القيم العبودية؛ حيث الأسياد والسيدات من الفعل (ساد، يسود)، يعني له «السيادة» على الآخرين أو الأخريات.

في النظام الملكي، فإن العرش يُورَّث للابن أو البنت، ويصبح لزوجة الملك (الملكة) دور اجتماعي في مجال الأعمال الخيرية، وهي أعمال تساعد على تثبيت النظام الطبقي الذكوري الحاكم وليس تغييره، مثل المعونة الأمريكية تساعد على تثبيت النظام القائم وتقويته في مواجهة أي معارضة حقيقية للتغيير (أو ديمقراطية حقيقية).

في الأنظمة الملكية الرأسمالية (إنجلترا مثلًا) أو الأنظمة الجمهورية الرأسمالية (الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا) انفصلت السلطة المالكة عن السلطة التنفيذية الحاكمة؛ إن المَلِكة في إنجلترا تملك ولا تحكم، أمَّا رئيسة الحكومة (تاتشر أو توني بلير)، فإنَّها تحكم ولا تملك (نظريًّا على الأقل).

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، فإن حكومة بوش تملك السلطة التنفيذية، وتملك بعض المال أيضًا وبعض الشركات، إلا أن السلطة الكبرى في يد أصحاب الأموال والشركات الكبرى عابرة القارات.

في بلادنا، يحظى رئيس الدولة وأصحاب النفوذ بالمال والسلطة في آنٍ واحد، تشكِّل طبقة رجال الأعمال في مصر جزءًا لا يتجزأ من المال والسلطة والصحافة، وتشكِّل طبقة نساء الأعمال في بلادنا جزءًا من المال والسلطة أيضًا، كما هو الحال في البلاد الرأسمالية الحديثة وما بعد الحديثة.

أصبح مسموحًا للمرأة (حتى في الكويت والسعودية؛ حيث تُحرَم المرأة من حقوق كثيرة خاصةٍ وعامةٍ) أن تنشط في مجال الأعمال، ويُسمى «البيزنس». وفي بلاد الخليج قابلت نساء من زوجات المسئولين يتفاخرن بالحرية الجديدة في مجال البيزنس. وفي مصر أيضًا أذكر أن رئيس الدولة (أنور السادات) ردَّ على سؤال لأحد الصحفيين عن نشاط زوجته (السيدة الأولى حينئذٍ)، وقال السادات: إنَّ زوجته لها نشاطها في مجال الأعمال (البيزنس)، وهذا حقها كامرأة حرة مثل غيرها من النساء في السوق الحرة وعصر الانفتاح الاقتصادي.

وقد قرأت في جريدة العربي، العدد ٩٦٩، ٢٤ يوليو ٢٠٠٥، ما نُشِر عن لسان السيدة زوجة السادات، وأنها لم تكن سوى الصدر الحنون الذي يرتاح إليه الرئيس السادات من مشقات العمل الرئاسي، وأنها كانت زوجةً … مجرد زوجة لرئيس فلاح كان يعرف العيب … ويُعلي من قيمة أخلاق القرية.

تقول الجريدة بعد ذلك إن تكوين الزوجة المصرية يجعلها تحرص على أن يظهر زوجها على أنه رجل البيت الذي له الكلمة الأولى والأخيرة، وهو الذي يأمر وينهى، وهذا صحيح بالنسبة لنساء الطبقة الوسطى والعليا في المدينة وفي القرية، إلا أن المرأة التي تعمل وتنتج وتستقل فكريًّا واقتصاديًّا عن أبيها أو زوجها، تصبح لها شخصية قوية، وترفض أن تكون ظل الرجل، عندنا كاتبات وطبيبات وعاملات مستقلات، منتجات في جميع المجالات، يعشن حياة مستقلة، غير تابعات للرجل، بعضٌ منهن نلن شهرة كبيرة في مجال العلم أو الفن أو غيرهما، أم كلثوم مثلًا لم تعِش ظلًّا لزوجها، بل عاش زوجها في الظل، هذا مجرد مَثَل واحد من بلادنا.

وكان من الطبيعي لزوجة الرئيس جمال عبد الناصر أن تعيش في الظل، مثل غيرها من الزوجات، ولم يكن لها عمل بارز في مجال خارج البيت والأسرة؛ ربما لأنها لم تؤهَّل منذ طفولتها للعمل والإنتاج خارج البيت، وهذا هو حال كثير من نساء الطبقة الوسطى والعليا في مصر، نتيجة القيم الطبقية الأبوية الموروثة، التي تمجِّد المرأة الزوجة والأم وتحقر عمل المرأة بأجر خارج بيتها، والأجر هو المشكلة؛ إذ يُباح للمرأة (من الطبقات العليا والوسطى) أن تعمل بدون أجر، في مجال الأعمال الخيرية أو الأنشطة النسائية والاجتماعية «لصالح الوطن!» وهو عمل يشبه إلى حدٍّ كبير حضور الحفلات أو الذهاب إلى المطار لمقابلة زوجات الرؤساء أو قص الشريط في افتتاح بعض المشروعات الاجتماعية أو الثقافية أو الإعلامية.

أليس هذا هو دور السيدة الأولى في بلادنا وفي الولايات المتحدة الأمريكية وفي غيرها من البلاد؟

وقد استنكرت السيدة الأولى في عصر السادات أن تعيش زوجة في الظل كما كانت زوجة جمال عبد الناصر، إلا أن هذه الأدوار التي سعت إليها (من خلال كونها زوجة الرئيس) لم تُكسبها إلا قيمة نابعة من المنصب، تزول تمامًا بعد زوال المنصب، وليست نابعة من عمل الإنسان ذاته أو إبداع الإنسانة ذاتها، ولم تُحدث تغييرًا ما في المجتمع، بل لعبت دورًا في تثبيت النظام الحاكم، وليس تطويره إلى الأكثر عدالة أو حرية أو مساواة أو تحريرًا من قبضة التبعية للقوى الاستعمارية الخارجية.

(٣) التقليد وليس الإبداع

لماذا يذكر التاريخ الإنساني أسماءَ بعض الرجال والنساء وينسى أسماءً أخرى؟

يحفظ التاريخ أسماء الذين لعبوا دورًا، أي دور، من أجل هذا التقدُّم، من أجل العدالة والحرية والمساواة بين البشر، بصرف النظر عن الطبقة أو الجنس أو الجنسية أو الدين أو العقيدة أو غيرها.

فهل لعبت السيدة الأولى في بلادنا دورًا في هذا التقدُّم؟ هل لعبت دورًا أو ساهمت بأي عمل في سبيل التحرير السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي من الهيمنة الطبقية الذكورية؟

ربما يكون العكس هو الصحيح، ربما كان لها دور في تكريس الهيمنة الطبقية الرأسمالية، وتدعيم سيطرة الزوج على زوجته.

يكفي أن تحمل السيدة الأولى اسم زوجها؛ تقليدًا للمرأة الأوروبية أو الأمريكية، وهو تقليد متخلِّف بالنسبة لتقاليدنا المصرية؛ حيث تحتفظ المرأة باسمها بعد الزواج، صحيح أنه اسم الأب فقط، إلا أنه أفضل من أن تغيِّر اسمها وتحمل اسم زوجها؛ لأن الطلاق قد يحدث لسببٍ ما، ويتغيَّر اسم الزوج، لكن اسم الأب دائم لا يتغيَّر في حالة الابن أو الابنة سواء بسواء.

وقد بدأ اسم الأم يحظى بالقيمة ذاتها لاسم الأب في مجتمعات إنسانية متعددة معاصرة، بعد أن ارتفعت قيمة المرأة وأصبحت إنسانة كاملة الحقوق والواجبات، داخل الأسرة، وفي المجتمع الكبير والدولة.

وتعترف السيدة زوجة السادات أنها كانت مسلِمةً محبَّة لدينها، وأن زوجها السادات لم يكن يقبل أي خروج على الدين الإسلامي؛ فهو رجلٌ متدين، هو «الرئيس المؤمن»، ولهذا لم تطالب بتغيير قانون الأحوال الشخصية جوهريًّا، «كل الذي طالبت به أن الزوج حينما يأتي ليتزوج زوجة ثانية لا بد أن يخطر زوجته الأولى، إذا وافقت، وإذا رفضت فهذا حقه، وهذا في الإسلام وليس خارجًا عليه».

أي إن السيدة الأولى كانت تطالب بتغيير القشور وليس الجوهر، وكانت الحركة النسائية المصرية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أكثر شجاعةً وأكثر تقدُّمًا، فكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا من السيدة الأولى عام ١٩٧٩م.

كانت الحركة النسائية المصرية تطالب بإلغاء قانون تعدُّد الزوجات تمامًا، بحيث لا يمكن لأي رجل أن يتزوج امرأة ثانية إلا لسبب قهري (وليس لرغبة جنسية)، وأن يحدث ذلك أمام القاضي، كما أن الطلاق أيضًا يجب أن يكون في المحكمة أمام القاضي، ولا يحق للزوج أن يطلِّق زوجته أو يتزوج عليها بإرادته المنفردة، وهذا هو الإسلام الصحيح؛ لأن الله هو العدل، وتقتضي العدالة ألا يكون الزوج هو المتهم والقاضي في آنٍ واحد. وهناك بلاد عربية وإسلامية متعددة منعت تعدُّد الزوجات والطلاق، ولم يَعُد من حق أي زوج أن يلغي عقد الزواج أو يشرِّد أسرته بسبب نزوة جنسية، كما يحدث في مصر حتى اليوم (راجعوا قوانين الأسرة الجديدة في الجزائر).

(٤) الوصيفات من النساء والرجال؟

وفي النهاية أقول إن من حق أي امرأة في بلادنا أن يكون لها عمل ودور خارج البيت، سواء أكانت زوجة رئيس الدولة أو موظف صغير أو عامل أو فلاح أو غيره، بشرط أن يكون هذا العمل من إنتاجها وجهدها قبل الزواج وبعد الزواج، وليس امتدادًا لدورها كزوجة، وليس نابعًا من سلطة زوجها.

وفي مصر حيث تسود قيم النفاق والتزلف لكل مَن حظيَ بالمال والسلطة، فما بال سلطة رئيس الدولة، فهل يمكن لأحد أن يصدِّق أن جهود السيدة الأولى العظيمة في جميع المجالات المحلية والكونية هو من إبداعها الفذ وعبقريتها الخاصة؟

لماذا إذًا لم نشهد هذه الجهود قبل أن يتولَّى زوجها الحكم؟ ولماذا إذًا تختفي هذه الجهود بعد زوال الحكم عن زوجها؟

ولماذا تبطش السيدة الأولى بالنساء المبدعات البارزات في مجال العلم أو الفن (مثل أم كلثوم أو غيرها)، ولا تبقي من حولها إلا النساء الوصيفات المطيعات المتواريات في الظل يجرين من خلفها مثل الجاريات، وأيضًا رجال يجرون خلفها يشبهون الوصيفات!

١  القاهرة، ٢٦ يوليو ٢٠٠٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤